المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سنة خمسين وأربعمائة - اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء - جـ ٢

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌الحكم بأمر الله أبو علي منصورابن العزيز بالله أبي المنصور نزار ابن المعز لدين الله أبي تميم معد

- ‌سنة سبع وثمانين وثلثمائة

- ‌ودخلت سنة ثمان وثمانين وثلثمائة

- ‌سنة تسعين وثلثمائة

- ‌سنة إحدى وتسعين وثلثمائة

- ‌سنة اثنتين وتسعين وثلثمائة

- ‌سنة ثلاث وتسعين

- ‌سنة أربع وتسعين وثلثمائة

- ‌سنة خمس وتسعين وثلثمائة

- ‌سنة ست وتسعين وثلثمائة

- ‌سنة سبع وتسعين وثلثمائة

- ‌سنة ثمان وتسعين وثلثمائة

- ‌سنة تسع وتسعين وثلثمائة

- ‌سنة أربعمائة

- ‌سنة احدى وأربعمائة

- ‌سنة اثنتين وأربعمائة

- ‌سنة ثلاث وأربعمائة

- ‌سنة أربع وأربعمائة

- ‌سنة خمس وأربعمائة

- ‌سنة ست وأربعمائة

- ‌سنة ثمان وأربعمائة

- ‌سنة تسع وأربعمائة

- ‌سنة عشر وأربعمائة

- ‌سنة إحدى عشرة وأربعمائة

- ‌الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن عليابن الحاكم بأمر الله أبي علي منصور

- ‌سنة اثني عشرة وأربعمائة

- ‌سنة ثلاث عشرة وأربعمائة

- ‌سنة أربع عشرة وأربعمائة

- ‌سنة خمس عشرة وأربعمائة

- ‌سنة ست عشرة وأربعمائة

- ‌سنة سبع عشرة وأربعمائة

- ‌سنة ثمان عشرة وأربعمائة

- ‌سنة عشرين وأربعمائة

- ‌سنة إحدى وعشرين وأربعمائة

- ‌سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة

- ‌سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة

- ‌سنة أربع وعشرين وأربعمائة

- ‌سنة خمس وعشرين وأربعمائة

- ‌سنة ست وعشرين وأربعمائة

- ‌سنة سبع وعشرين وأربعمائة

- ‌المستنصر بالله أبو تميم معد بن الظاهرلإعزاز دين الله أبي الحسن علي بن الحاكم بأمر الله أبي علي منصور

- ‌سنة ثمان وعشرين وأربعمائة

- ‌سنة تسع وعشرين وأربعمائة

- ‌سنة ثلاثين وأربعمائةسنة إحدى وثلاثين وأربعمائة

- ‌سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة

- ‌سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة

- ‌سنة أربع وثلاثين وأربعمائة

- ‌سنة خمس وثلاثين وأربعمائة

- ‌سنة ست وثلاثين وأربعمائة

- ‌سنة سبع وثلاثين وأربعمائة

- ‌سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة

- ‌سنة تسع وثلاثين وأربعمائة

- ‌سنة أربعين وأربعمائة

- ‌سنة إحدى وأربعين وأربعمائة

- ‌سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة

- ‌سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة

- ‌سنة أربع وأربعين وأربعمائة

- ‌سنة خمس وأربعين وأربعمائةسنة ست وأربعين وأربعمائة

- ‌سنة سبع وأربعين وأربعمائة

- ‌سنة ثمان وأربعين وأربعمائة

- ‌سنة تسع وأربعين وأربعمائة

- ‌سنة خمسين وأربعمائة

- ‌سنة إحدى وخمسين وأربعمائة

- ‌سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة

- ‌سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة

- ‌سنة أربع وخمسين وأربعمائة

- ‌سنة خمس وخمسين وأربعمائة

- ‌سنة ست وخمسين وأربعمائة

- ‌سنة سبع وخمسين وأربعمائة

- ‌سنة ثمان وخمسين وأربعمائة

- ‌سنة تسع وخمسين وأربعمائة

- ‌سنة ستين وأربعمائة

- ‌سنة إحدى وستين وأربعمائة

- ‌سنة اثنتين وستين وأربعمائة

- ‌سنة ثلاث وستين وأربعمائة

- ‌سنة أربع وستين وأربعمائة

- ‌سنة خمس وستين وأربعمائة

- ‌سنة ست وستين وأربعمائة

- ‌سنة سبع وستين وأربعمائة

- ‌سنة ثمان وستين وأربعمائة

- ‌سنة تسع وستين وأربعمائة

- ‌سنة سبعين وأربعمائة

- ‌سنة واحد وسبعين وأربعمائةسنة اثنتين وسبعين وأربعمائة

- ‌سنة ثلاث وسبعين وأربعمائةسنة أربع وسبعين وأربعمائة

- ‌سنة خمس وسبعين وأربعمائةسنة ست وسبعين وأربعمائة

- ‌سنة سبع وسبعين وأربعمائة

- ‌سنة ثمان وسبعين وأربعمائة

- ‌سنة تسع وسبعين وأربعمائة

- ‌سنة ثمانين وأربعمائة

- ‌سنة إحدى وثمانين وأربعمائةسنة اثنتين وثمانين وأربعمائة

- ‌سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة

- ‌سنة أربع وثمانين وأربعمائةسنة خمس وثمانين وأربعمائة

- ‌سنة ست وثمانين وأربعمائة

- ‌سنة سبع وثمانين وأربعمائة

الفصل: ‌سنة خمسين وأربعمائة

‌سنة خمسين وأربعمائة

في أول المحرم قبض المستنصر على وزيره الناصر للدين، غياث المسلمين، أبي محمد اليازوري، وكان قد جمع له ما لم يجتمع لغيره من تقليد الوزارة وقضاء القضاء وداعي الدعاة. وكان للقبض عليه أسباب، منها أن طغرلبك لما ملك بغداد كان بها لليازوري عيون كثيرة يطالعونه بدفين الأمور وجليلها، فوصلت كتبهم بوصوله، وأنهم سمعوه يذكر إزماعه على التوجه نحو الشام ليملكه. فقل لذلك ورأى أن الحيلة أبلغ من الاستعداد له، فكتب إليه يهنئه بوصوله إلى العراق، ويبذل له من الخدمة ما يوفى على أمله، وأن مصر وأعمالها بحكمه، وأنه وإن كان مستخدماً لدولة ويدعو إليها فإنه يعلم كثرة الاختلاف، فمن تجاوزها في نسبها، واتفاق الكلمة ووقوع الإجماع على الرضا بالخليفة الصحيح النسب، الصريح الحسب، الهاشمي العباسي، وأنه لا يمتنع عن الإقرار له بذلك. وأعطاه صفقة يده على مبايعته، وتسليم الدولة له. وأنه قد اتصل به إزماع حضرته على التوجه إلى الشام، وأنه أشفق من تسليمها إليه فتطأها عساكره مع كثرتها وتجمعها فيخربها ويعفى آثارها، ولا يقع بملكها انتفاع، ولا يرجى لها ارتفاع؛ فإن رأى أعفاها من وطء العساكر لها، ووصول ركابها إليها، على وجه الفرجة والنظر إلى دمشق وحصنها، فلها عالي رأيها.

فلما وقف طغرلبك على كتابه قال هذا كتاب رجل عاقل، ويجب أن يعتمد ما أشار به بالإذن للعسكر في عودتهم إلى بلادهم؛ فمضى كل منهم لوجهه. ثم أمر فضرب فساطيطه في الجانب الغربي من بغداد؛ فكتب بذلك عيون اليازوري إليه، فقلق، ثم كتب إليه: لا تغرنك الأماني والخدع بأن أسلم إليك أعمال الدولة، وأخون أمانتي لمن غذاني فضله وغمرني إحسانه، وتتعين علي طاعته وموالاته. فإن كنت تسلم إلي ما في يدك لصاحبك من العراق وأعماله سلمت إليك ما في يدي لصاحبي، بل الواجب أن تكون كلمة الإسلام مجموعة

ص: 236

لابن بنت النبي الذي هو أولى بمكانه من غيره. وإن رغبت في المهادنة والموادعة انتظمت الحال بين الدولتين، وأمن الناس بينهما. فإن أبيت إلا الخلاف، ونزع الهوى بك إلى الظنون الفاسدة، والأطماع الكاذبة فليس لك عندي إلا السيف. فإن شئت فأقم، وإن شئت فسر.

فغاظ ذلك طغرلبك وقال: خدعني هذا الفلاح وسخر مني. وكتب إلى إبراهيم بن ينال، أخي طغرلبك لأمه، برد العسكر مسرعا، فلم يتأت له اجتماعهم. وكان اليازوري قد بث عيونه وجواشيه في عسكر طغرلبك واستفسد أعيانهم بكثرة الأماني والمواعيد، مثل خاتون زوج طغرلبك، والكندري وزيره، وابراهيم ينال أخيه وصاحب جيشه؛ فمالوا إليه وقعدوا عن صاحبهم. وحمل خاتون على قتله، فامتنعت من ذلك وواعدته أنها تتحيز بغلمانها، وهم نحو اثني عشر ألفا، عنه؛ فاعتزلت بهم. وكان ذلك ظفر البساسيري بعسكر طغرلبك، وظفر كثير منهم، ورجوع طغرلبك من بغداد طالباً لجمع عسكره الذي تفرق عنه. وهو أنه سار في هذه السنة ملك البساسيري وقريش الموصل بعد حصار شديد نحو أربعة أشهر حتى هدم قلعتها. فخرج طغرلبك يريدهما، فسارا عن الموصل، وهو يتبعهما، إلى نصيبين؛ ففارقه إبراهيم ينال وقصد همذان، ولحقه الأتراك الذين كانوا ببغداد. ففت ذلك في عضد طغرلبك وترك ما هو فيه، ورجع ليضم إليه من تفرق عنه، وترك بغداد. فقوى أبو الحارث البساسيري، وكثف جمعه، وقصد أعمال العراق، ففتح بلداً بلداً، وتملك الأعمال والرساتيق طوعاً وكرهاً، والدولة المصرية تمده بما يستعين به على ذلك؛ وهو لا ينفذ في أمر من الأمور إلا بما يقرره اليازوري. فكثرت حساده على ما يتوالى من سعادته في كل يوم، وما يتجدد له من رئاسة يقتضيها حسن آثاره في الدولة، وتأثيراته في جميع الأطراف والممالك بلطف السياسة ومحكم

ص: 237

التدبير الذي يبلغ به غاية آماله، بحيث لا يبلغ غيره بعضها إلا بإنفاق الجمل العظيمة، وتفريغ بيوت الأموال؛ ثم لا يكاد يظفر ببلوغ أمل في جهة من الجهات إلا دوخها وثبتت آثاره فيها الدهر الطويل. وصار أعداؤه يتعجبون مما يتأتى له من السعادة وتعينه عليه الأقدار. واستطالوا مدته، فابتغوا له الغوائل، ونصبوا له الحبائل، وركبوا عليه المناصب حتى كان هلاكه بأقل الناس وأحقرهم، وأدناهم منزلة، وأضعفهم قدرة، وهم من أطراف الخدام. فأقاموا رجلين، أحدهما خادم يعرف بمفرج المغربي كان في حاشيته، والآخر خازن يتولى خزانة الفرش يعرف بتنا؟. وحكوا أنه نقل الأموال إلى الشام في التوابيت وفي شمع سبكه وأعده إلى القدس وإلى الخليل، وأنه قد عول على الهرب إلى بغداد؛ واستظهروا بكتابه الذي ذكر إلى طغرلبك؛ مع ما في طبيعة الملك من الحسد والملل، والأنفة من الاستبداد عليهم ومحبة الانفراد بالمجد.

وكان من أسباب الخذلان أن المستنصر التمس من صفي الملك، ولد اليازوري، عمل دعوة يدعوه إليها، فدافعه عن ذلك استعظاماً لحضوره عنده؛ فأقام مدة حتى بعثه والده الوزير على تكلف عملها له؛ فتهمم لذلك، واصطنع ما يجب إعداده، وتقرر الحال على يوم يحضر فيه. فلما كان قبل ذلك بيوم حضر صفي الملك عند الوزير وأعلمه بإنجاز ما يحتاج إليه، فصار معه إلى الدار واستصحب خواصه، فرأى ما يقصر عنه الوصف. وفرش مجلسين بديباج بياض كله، وفيه جامات كبار وحمر منقوش، كل مجلس بثلاث مراتب وبساط ملء المجلس؛ وسراديق وحجلين للصدر والباب كله جديد كما حمل من الأعدال؛ فقدر ذلك بخمسة آلاف دينار. فأقبل كل من حضر يبالغ في صفته ويدعو، وشخص منهم ساكت. فلحظ الوزير وأمسك حتى فرغ من تطواف المجالس وعرض كل ما أعده، وعدل إلى بيت الطهارة وقد أعد في دهليزه من الفرش والآلات والطيب، وداخله من الفواكه والمشمومات كل مستحسن. ودعا الوزير الرجل الذي سكت عند مبالغة من حضر في الوصف، وقال: يا عمدة الملك، مالي لم أسمعك تؤمن على ما قال الجماعة؟ فقال له بد ما سأله الإعفاء عنه وتركه من القول، فأبى إلا أن يقول: سيدنا فيما أعده من هذا الجمال بين أحد رأيين، إما أن يأمر بإزالته ونصب غيره مما قد

ص: 238

استعمل، وإما يحمل إلى الخليفة إذا انقضى جلوسه عليه. فقال: وما هو هذا؟ أليس هو مما أنعم به وصار إلي من فضله؛ وما قدره حتى تمتد عينه إليه أو تتطلع له نفسه! واما إزالته ونصب غيره فما كنت أكسر في نفس هذا الصب شهوةً، فإني متى أمرت بإزالته حزن لذلك. وافترقا. فلما كان الغد جاء المستنصر وأقام يومه ذلك في الدار، وأحضر إليه الطعام مما حوله من الطرف؛ ثم عاد آخر النهار. وحضر عند الوزير أصدقاؤه، فانفرد بذلك الرجل، وقال: يا عمدة الدولة، والله ما أخطأ حزرك فيما قلته بالأمس؛ منذ دخل الخليفة إلى الدار إلى أن خرج لم يطرف طرفةً عن تأمل الفرش، فإذا وجهت طرفي نحوه أطرق وتشاغل. فقال له: يا سيدنا أما إذ فات الأمر الأول فلا يفوت الثاني. فقال: والله لا فعلت ولا غممت صفي الملك.

واتفق أنه خرج يوما وعليه ثوب بديع، فلما عاد قال لصديقه: يا عمدة الدولة، لحظتك اليوم تنظر الثوب الذي كان علي فعجبت من ذلك، فلما مثلت بحضرة مولانا أقبل يتأمل الثوب ولم يزل يزحف من الدست حتى مد يده إلى الثوب وتلمسه، فزال عجبي منك إذ كان الخليفة يتأمله؛ والملوك إذا أنعموا على أحد استحال التظاهر بإحسانهم حسداً ومللاً.

وكان راتب مائدته في كل يوم كوائد الملوك في الأعياد والولائم. وكان لا يبتاع لمطبخه من الطير ما هو معرق ولا مصدر؛ وكان سعر المعرق ستة بدينار والمصدر أربعة بدينار، والمسمن ثلاثة بدينار، والفائق اثنان بدينار؛ وكان يعمل لداره ومن فيها المسمن، وأما مائدته فلا يقدم عليها إلا الفائق.

ص: 239

فلما كان في سنة سبع وأربعين وقصر النيل نزع السعر وغلا حتى بلغ التليس ثمانية دنانير وصار الخبز طرفة. وكان المستنصر يحضر دار اليازوري كل يوم ثلاثاء على عادته، فتقدم إليه المائدة، فإذا هي على ما يعهد لم يخل منها بشيء حتى الدجاج الفائق؛ فقال لصاحب مطبخه: ويلك، يكون راتب مائدة الوزير الدجاج الفائق ومائدتي دون ذلك! فقال: يا مولانا ما ذنبي إذا قصر بك أصحاب دواوينك ولم يطلقوا لمائدتك ما ألتمسه منهم، والوزير فلا تتجاسر وكلاؤه أن يقصروا في شيء مما جرت العادة به في راتب مائدته وغيرها، مع تقدمه إليهم في كل يوم بالزيادة فيها وفي راتب داره.

فلما تظافر عداه عليه لم يشعر إلا في ساعة القبض، فكتب إلى أبي الفرج البابلي وكان قد قدمه وأحسن إليه ورفعه على جميع أصحاب الدواوين، واستخلصه دونهم، كما يأتي إن شاء الله عند ذكر وفاته بعد البسملة: عرفنا يا أبا الفرج أطال الله بقاءك وأدام عزك تغير الرأي فينا، وسوء النية والطوية؛ فإن يكن هذا الأمر صائراً إليك فاحفظ الصحبة، وارع واجب الحرمة؛ وإن يكن صائراً إلى غيرك فابتغ لنفسك نفقا في الأرض. على أنا نشير عليك: إن دعيت إليه فأبى عنه فإنه أصلح لك وأعود علينا. والسلام.

ودعى البابلي للأمر، ووزر، لأنه لم يكن في الدولة من يتقدمه لما وطأة اليازوري وأمله من تقديمه وتمييزه. وكان اعتزاله يغطي على عيوبه، فلما ولي الوزارة بان للناس من رقاعته وحدته وكثرة شره ما افتضح به؛ وتجرد لمقابلة إحسان اليازوري بكل قبيح وذكره بما لا يستحق من الغض. وكانت الرقعة التي كتبها إليه من أعظم ذنوبه عنده فكان يقول؛ يخاطبني وهو على شفير القبر بنون العظمة! ولا يذكره إلا بالسفاهة واللغو، فسقط قدره من أعين الكافة وحذره كل أحد. ثم لم يقنعه كون اليازري في

ص: 240

الاعتقال بمصر حتى نفاه إلى تنيس، في صفر، ومعه نساؤه وأولاده وحاشيته، فاعتقلوا بها.

ثم شرع البابلي في التدبير على قتله. قال الشريف فخر الدولة ومجدها، نقيب نقباء الطالبيين: قال لي مولانا يعني المستنصر يا فخر الدولة؛ ما رأيت أوقع من البابلي؛ وذلك أن اليازوري لم ينته إلى ما صار إليه من عظيم المنزلة إلا بعد أن تقدم له من المآثر والآثار في الدولة وما فتح على يديه ما هو معلوم مشهور، وكان يرتقي بذلك درجة بعد درجة إلى أن انتهى إلى ما انتهى إليه؛ والبابلي فمن أول يوم استخدمناه استدعى المنزلة التي لم يصر ذلك إليها إلا بعد عدة سنين، فأجبته إليها، وقلت ترى تساعده الأقدار بأن يكون مثل ما كان ذلك الرجل. ومنها أنه كان إذا حضر بين يدي يكثر التثريب على اليازوري ويذكره بالقبيح ظناً منه تطلعنا إلى عوده إلى الأمر، وليثبت في نفوسنا سوء الرأي فيه. ولم نعلم أن غرضه قتله إلى أن كان اليوم الذي سقت عليه الأتراك ووطئوا دراعته، فإنه لما دخل إلي قال: يا أمير المؤمنين، إنه لا ينفذ لك أمر ولا يتم لي نظر وهذا الكليب في قيد الحياة. فقلت: ومن هو ذلك الكليب؟ فقال: علي ابن عبد الرحمن اليازوري. فقلت: أيها الوزير، اعلم أني لم أصرف الوزير عن خدمتنا ولنا في إعادته رغبة، فطب نفساً ودع ذكره، فأنت آمن مما تخافه من جهته. فقال: والله إن هذا لعجب من حسن مقامك يا أمير المؤمنين عنه مع قبيح فعله، وما هم به من قتلك، حتى إن السقية أقامت تدور في قصرك أسبوعاً كاملاً. فقلت: أيها الوزير، أقامت السقية تدور علي في قصري أسبوعا كاملا؟ فقال: نعم. فأطرقت متعجباً، وبقيت،

ص: 241

متفكراً في ذلك، أصرف الظن بين تصديقه وتكذيبه، ثم أقول، لو لم يطلع على ذلك لم يذكره. فأمسكت، فظن بإمساكي أنني راض بما يفعله معه؛ وخرج فاستدعى طاهراً كاتب السر وسيره لقتله. ونمى الخبر إلى مولاتنا الوالدة، فأنكرت ذلك ودخلت إلي، فقالت: أنت يا مولانا أمرت البابلي بقتل اليازوري! فقلت: لا. فقالت: قد سير طاهر ابن غلام لقتله. فاستدعيت سعيد السعداء وأنفذته إليه، وقلت له: قل له لم يأمرك بقتله، فأنفذ من يعيد طاهراً ويمنعه من النفوذ. فألفاه صاحب الرسالة في الحمام، فاعتذر إليه، فقال: لا بد من الدخول؛ ودخل وأدى الرسالة إليه؛ فقال: أخرج وأسير من يعيده. وطول في الحمام ثم خرج، فإلى أن كتب الكتاب وسير به النجاب سبقه ذلك إلى تنيس، فلم يصل حتى نفذ الحكم فيه.

ولما وصل طاهر إلى تنيس أوصل كتاب البابلي إلى جمال الدين صبح يذكر فيه: إنا قد سيرنا طاهراً فيما أنت تقف عليه من جهته، فتثبت منه، وتحضر معه لإنجازه وتحذر من تأخيره من اليوم إلى الغد. فقال: وما الذي وصلت فيه؟ فأخرج تذكرة بخط البابلي فيها: إذا وصلت يا طاهر أعزك الله إلى تنيس وقد سغبت ولهثت من العطش، فلا تبل ريقك بقطرة دون أن يحضر علي بن حسن بن عبد الرحمن اليازوري إلى دار الخدمة، وتمضى حكم السيف فيه؛ فد كتبنا إلى الأمير جمال الدولة بمعونتك على ما يستدعيه ذلك؛ فقدمه ولا تؤخره إن شاء أحد. فقال له: أنت خليفة صاحب الستر ومرسل من جهة السلطان، والأمر الذي وصلت فيه ممتثل، فأمض الحكم فيه. وأنفذ من يحضر اليازوري من معتقله، والصقالبة والسعدية خدام الستر وقوف، والسياف قائم. فقال له طاهر: يا حسن، يقول لك مولانا أين أموالي؟ فلم يجبه ولم يرفع طرفه إليه. فقال له: إياك أخاطب يا حسن بن علي بن عبد الرحمن، يقول لك أمير المؤمنين أين

ص: 242

أموالي؟ فلم تجبه. فرفع طرفه ونظر إليه وإلى الجماعة وفيهم حيدرة السياف، وقال لطاهر: يا كلب تجيء وهذا معك، وأشار بيده إلى السياف، وتسألني بعد ذلك؛ ولكن قل له يا مولانا قبض علي وأنا آمن على نفسي، فإن يكن عندي مال، فقد وجدته في داري، وكنت داعيك وثقتك المؤيد في الدين. في القمطرة الفلانية ما يشهد بذكر مالك أين هو. فأشار طاهر إلى أولئك، فأخذوه، وضربت عنقه في ليلة الثاني والعشرين من صفر؛ وحملت رأسه مع طاهر إلى القاهرة، وطرحت جثته على مزبلة ثلاثة أيام. ثم ورد الأمر بتكفينه، فكفن بعد أن غسل، وحنط بحنوط كثير، وحمل ليلاً ودفن وقد وضع رأسه مع جثته.

وكان له من المآثر المرضية، والخلال الحميدة، والأفعال الجميلة، والخلائق الرضية ما يتجمل الملوك بذكره. منها أنه كنت له مائدة يحضرها كل قاض فقيه وأديب جليل القدر، فإذا قدمت فكأنها الرياض من حسنها وسعة نفسه. وكان الملازمون لمائدته نحو العشرين نسمة، فيكون عليها كأحدهم. وقال عميد الدولة: أقمت معه خمس عشرة سنة قبل وزارته ملازماً له في المبيت والصباح، فكنت أراعيه في حالاته كلها ليلاً ونهاراً، فلا أرى يتغير علي منها شيء ولا يتبين لي منه غضب من رضا؛ فأقبلت أدقق التأمل له في حالتي غضبه ورضاه شهورا حتى تبين لي، فكان إذ رضى توردت وجنتاه بحمرة، وإذا غضب اصفرت محاجر عينيه، فعرفت أبي بذلك؛ فقال: يا بني هذا غاية في سكون النفس وصحة الطباع واعتدال المزاج.

وكانت طبائعه الأربعة على السواء، فإذا أخل عمل طبيعة منها عهده أخذ بإصلاحها حتى يعود إلى ما يعهده من استقامتها. وكان لا يعطل شرب الدواء يوماً واحداً فيشرب السكنجيين والورد أسبوعا ثم يريح نفسه ثلاثة أيام؛ ثم يشرب النقوع المغلى في

ص: 243

الشتاء والمنجم منه في الصيف أسبوعا لكل منهما؛ ويشرب ماء البذور أسبوعا؛ ويشرب ماء الجين ثمانية أيام؛ ويشرب ماء البقل أسبوعا ثم يشرب الراوند المنقوع كذلك؛ ويريح نفسه بين كل دوائين ثلاثة أيام، لا يخل بذلك في صيف ولا في شتاء.

وكان ندي الوجه كثير الحياء لا يكاد يرفع طرفاً إلا لضرورة؛ ولم يسمع منه قط في سؤال لفظة لا. بل كان إذا سئل فما يرى إجابة سؤاله إليه يقول نعم، بانخفاض من طرفه وخفوت من صوته، فإذا سئل فما يرى الإجابة إليه يطرف ولا يرفع طرفه؛ وعرف هذا منه فلا يراجع فيه إلا بعد مدة. وكان كل من يحضر مائدته يستدعى منه الحضور بين يديه لئلا يستمروا عنده؛ وكان فيهم من يشرب السكر، فإذا حضروا عرفوا مجالسهم وما قرره لهم، فكان من لا يشرب النبيذ يجلس عن يمينهن ومن يستعمله يجلس عن يساره؛ وبين يدي كل منهم الفواكه الرطبة واليابسة والحلاوة، وستارة الغناء مضروبة؛ فيجلسون وهو مشغول يوقع، وهم يتحدثون همساً وإشارةً وإيماءً، إلى أن ينقضي أربه من التواقيع فيستند وينشطهم بالحديث ويقول: قد تجدد اليوم كذا وكذا، فما عندكم فيه. فيقول كل أحد ما يراه وهو يسمع لهم، حتى يستكمل الجماعة الذين عن يمينه ثم يعطف على شماله فيقول: من هناك قولوا، فيقولون وهو يسمع ولا يرد على أحد شيئا فلا يصوب المصوب ولا يخطىء المخطىء، ويبيت يضرب الآراء بعضها ببعض حتى يمحض له الصواب، ويصبح يرمي فلا يخطىء. فكانت أفعاله هكذا طول مدته، لا يستبد قط برأيه ولا يأنف من المشورة، بل يقول: المستبد برأيه واقف على مداحض الزلل، وفي الاستشارة كل عقول الرجال. وبهذا تم له ما كان يدبره حتى ترك فيما رامه من الطرز الآثار الباقي ذكرها.

وجاء ارتفاع الدولة في أيامه ألفي ألف دينار، يقف منها ويسكن، وينصرف للرجال وللقصور وللعمائر وغيرها، ويبقى بعد ذلك مائتا ألف دينار حاصلة، يحملها كل سنة

ص: 244

إلى بيت المال. فحظى بذلك عند سلطانه، وتمكن منه، وارتفع قدره حتى سأل أن يكتب على سكة نقش عليها: ضربت في دولة آل الهدى من آل طه وياسين، مستنصر بالله جل اسمه، وعبده الناصر للدين سنة كذا، وطبعت عليها الدنانير مدة شهر ثم أمر المستنصر بمنعها، ونهى أن تسطر في السير.

وكانت أيام نظره حوامل لتوالي الفتوحات وعمارة الأعمال. وكان شريف الأخلاق، عالي الهمة كريم الطباع، وطىء الأكناف، مستحكم الحلم، واسع الصدر، ندي الوجه، يستقل الكثير، ويستصغر كل كبير. وكان إذا أعطى أهنأ، وإذا أنعم على إنسان أسبغ، وإذا اصطنع أحداً رفعه إلى ما تقصر الآمال والأماني عنه؛ مع عظيم الصدقة، وجزيل البر الذي عم به أهل البيوتات مما جعله لهم من المشاهرات على مقاديرهم. وكذلك الأشراف والفقراء وأهل الستر بالقرافة، فكان يجري عليهم البر والكساء على يد بعض اليهود، ويعرف بابن عصفورة، وكيل السيدة أم المستنصر، فكانوا يظنون أنه من إنعامها؛ فلما زالت أيامه انقطع عنهم ما كان يصل إليهم من البر، فخاطبوا ابن عصفورة وقالوا: قد جفينا من مولانا ومولاتنا، فلو أدركتهما بنا فقال لهم: ما ترون ما كان يجيئكم حتى يتولى الله ناصر الدين أخي. فقالوا: نحن التمسنا من مولانا المستنصر ومولاتنا السيدة الوالدة ولم نلتمس من ناصر الدين. فقال: ما كان يجيئكم ذاك إلا من الوزير. فعجبوا من ذاك وأكثروا من الترحم عليه.

ومما يذكر عنه أنه كتب: العالي بالله إدريس بن المعتلى بالله يحيى بن الناصر لدين الله علي بن حمود من خالقه إلى مصر مكاتبة يقول فيها: من أمير

ص: 245

المؤمنين العالي بالله إلى أمير المؤمنين المستنصر بالله. فعيب عليه بمصر قلة تصوره ومعرفته بأنه لا يجوز أن يكون أمير المؤمنين في زمان واحد اثنان. ثم ألجأت الضرورة إلى مكاتبته بنحو مما كتب، وكان اليازوري إذ ذاك وزيرا، فقال أنا أخلص هذه القضية وأعلقها بمعنى دقيق لا يبين للمكاتب، وكان صاحب حيل؛ يكتب إليه: من أمير المؤمنين المستنصر بالله معد إلى العالي بالله أمير المؤمنين خالقه؛ وهذا من طريف التخلصات التي تميز بها.

وحكى عظيم الدولة متولى السر، قال: كنت في جملة الموكلين على الناصر ثم على البابلي بعده، فكنت أرى من رئاسة الوزير الأول يعني اليازوري على شبيبته ورجاحته وسكون حاشيته، ومن طيش البابلي وخفته ونقصه ما أعجب منه؛ وهو أني لما كنت موكلا باليازوري كنت أراه ملازماً لعتبة باب المجلس في القاعة لا يتغير مكانه منها. وكان البابلي يراسله بما يمضى ويوصينا إذا مضينا إليه بالإزعاج عند فتح الباب وإكثار قلقلته لنزعجه ونروعه بذلك؛ فوالله ما كان يكترث ولا ينزعج. وإذا دخل متولى الستر يكون جلوسه منه في الاعتقال كجلوسه منه في حال نظره، ويخاطب بما يرضى فيجيب بسكون وهدوء وكأنه في الدست جالس. فدخل إليه في أكثر من ثلاثين صقلبيا وبلغهما أوصاه البابلي، فأجابه، ثم نهض وقال: يا سيدي صرفتني من الستر بغير ذنب ثم أعدتني إليه بغير مسألة، فما كان سبب ذلك؟ فرفع طرفه إليه كأنه يخاطبه من دست الوزارة وقال له: كان صرفك في الأول برأيي واختياري ثم أعدتك لما عرفت من ميل مولانا إلى استخدامك. فخرج متولي الستر وهو يعجب من سكون حاله وقلة احتفاله في الجواب، مع حاجته إليه في مثل ذلك الوقت الذي يقدر فيه على الإحسان إليه وعلى الإساءة؛ وكان يظن أنه يعتذر إليه، فلم يكن منه غير ما تقدم ذكره.

ص: 246

وكان أكثر وقته صائماً وهو يتلو القرآن ولا يسأل عن طعام ولا شراب. وكان في حال وزارته كثير الصمت مواصل الإطراق، ساكن النفس هادئ الطباع، فكان يظن أن ذلك من تيه وصلف وإعجاب وقلة احتفال بالناس؛ فلما صار في الاعتقال بعد القبض عليه كان حاله على ما كان مما ذكر. ومن عجيب ما وقع أن خطير الملك محمد بن الوزير اليازوري كان ينوب عن أبيه في قضاء القضاة، فلما سار إلى الشام بالعساكر الكثيرة معه كان في حال من البذخ والتجمل في حال لا يمكن شرحها؛ فلما نكب أبوه آل حاله إلى أن يرى في مسجد بمدينة فوة يخيط للناس بالأجرة، وقد نزل به من الفقر والبلاء شدائد وهو يبالغ في مطالبة شخص بأجرة ما خاطه له، والرجل يماطله. فلما ألح في المطالبة قال له: يا سيدنا اجعل هذا القدر اليسير من جملة ما ذهب منك في السفرة الشامية. فقال: دع ذكر ما مضى. فسأله رجل عن ذلك فلم يجبه، فسأل عبده، فقال الذي ذهب منه في تلك السفرة على نفقات سماطه مقدار ستة عشر ألف دينار. فسبحان من لا يزول ملكه.

وفيها ولي الوزارة بع اليازوري أبو الفرج عبد الله بن محمد البابلي، وكان أولا من جملة أصحاب الدواوين فقبض عليه الوزير أبو البركات ابن الجرجرائي، وصادره على عشرة آلاف دينار أخذ خطه بها؛ فباع موجوده بستة آلاف دينار وبقي عليه أربعة آلاف دينار، فانطرح على اليازوري وسأله الشفاعة له، وكان يومئذ ينظر لأم الخليفة؛ فسأل الخليفة له في ذلك، فوقع بمسامحته منها بألفي دينار، فلما صرف الوزير أبو البركات وتولى اليازوري الوزارة وقع بمسامحة البابلي بالألفين الباقية، واستخدمه في التوقيع، ورد إليه ديوان تنيس ودمياط، وديوان الخاص وغيره من الدواوين، حتى كان في يده ستة

ص: 247

دواوين. وكان رسم لأصحاب الدواوين أن يحضروا كل يوم بين يدي الوزير، فرفع منزلة البابلي عن ذلك وميزه عن أصحاب الدواوين، فكان لا يحضر عنده إلا في كل ثلاثة من الجمعة؛ فإذا حضر حجب كل أحد من الرؤساء، فلا يدخل إلى الوزير أحد ما دام عنده. فمهما قرره مع الوزير لا ينتقض. وإذا عرض له في باقي الجمعة أمر كتب رقعةً إلى الوزير فيجيبه في تضاعيف سطوره، فعل الأكفاء بالأكفاء. وبلغ جاريه على ما بيده من الدواوين والتوقيع في كل سنة عشرة آلاف دينار. وكتب مرة إلى الوزير اليازوري رقعة يذكر فيها أنه ليس له دار يسكنها، وأن بجوار داره حماماً سلطانيا من جملة المقبوض عن تركة أمير الأمراء رفق، بذل فيها خمسمائة دينار؛ وسأل التوقيع بمبايعته منه على أن يقتطع ثمنه من جاريه، مائة دينار في الشهر؛ فوقع له بذلك، ثم تقدم إلى متولي بيت المال بأن يكتب له منه رصدا بخمسمائة دينار، ووهبها له. فكتب رقعة ثانية أنه لما شرع في بناء الدار احتاج إلى ما يكمل به عمارتها، وأن في المقبوض من أمير الأمراء أيضاً من الأخشاب والرخام ما يسأل الإنعام عليه منه بما يعمرها به؛ فوقع بتسليم جميع ذلك إليه. فعمر الدار، وخدمه فيها جميع من في الدولة؛ فجاءت تضاهي القصور.

واتفق أنه مرض في بعض السنين مرضةً أشفى فيها على التلف، فكتب إلى الوزير اليازوري رقعةً يذكر فيها ما انتهت حاله إليه، وأنه على آخر رمق؛ وأن عليه من الدين ثلاثة آلاف دينار، ويخاف إن حدث به حادث الموت أن يعنت الغرماء ولديه؛ ويسأل تمام الاصطناع بالمنع منهما، وأن يقرر حالهما في القيام للعرفاء بما تصل قدرتهما إليه وينجم الباقي عليهما. فلما وقف الوزير عليها استرجع وتغمم له، وقال: ما ظننا إلا أنا قد أغنينا أبا الفرج، وأن حاله لم تصل إلى هذا الحد! ثم رفع رأسه إلى أبي العلاء عبد الغني بن الضيف، وكان يحمل دواة الوزير، ولقبه بالصادق المأمون، وقال:

ص: 248

أسرع إلى أبي العباس الشاشي، وكان يتولى ديوانه؛ فلما حضر قال: ما في حاصلك من إقطاعنا؟ فقال: ثلاثة آلاف دينار وكسر، فأحضرها، وقال لأبي العلاء: خذ هذه الثلاثة آلاف دينار وامض بها إلى البابلي وخصه بسلامنا، وقل له: قد سوأتنا بما ذكرته من مرضك وما انتهت إليه حالك، والله تعالى يهب عافيتك ولا يغمنا بك. فأما ما سألت من مراعاتك في ولديك والمنع منهما، فلو لم تسأل في ذلك حفظناك فيهما وراعيناهما لك. وأما ما ذكرته من دينك فقد أنفذنا إليك ما تقضيه به. فلما أخذ المال وخرج من القبة قال ارجع يا عبد الغني، فعاد إليه فأخذ درجاً ووقع إلى ديوان الخاص بثلاثة آلاف دينار، وكان له فيه إقطاع، وقال امض إلى الجهبذ بهذا التوقيع فإن كان في حاصله هذا القدر، وإلا قل له يقترض من بيت المال إلى أن يستخرج شيئاً فيحمله إليه به عوضاً عنها؛ واحمل الجميع إلى البابلي. فلم يحتمل أبو العلاء الصبر عن الكلام وقال: يا سيدنا، ما يقنعك تحمل إليه ثلاثة آلاف دينار حتى تضيف إليها مثلها فتصير ستة! فقال: يا وحش إذا قضى دينه بهذه الثلاثة الآلاف ما يحتاج أن يستدين بعدها، فينفق من هذه الأخرى ولا يستدين. فقال له: والله يا سيدنا إنك لأكرم نفساً من البرامكة، لأن أولئك كانوا يجودون من سعة وأنت تجود من ضيق، ولا نسبة بين ما تنظر فيه وما كانوا ينظرون فيه. وخرج فأوصلها إليه. فلما قبض على اليازوري كان أعدى العالم له، وكفر نعمته وإحسانه، وتجرد له حتى قتله.

وحكى فخر الدولة قال: استدعاني مولانا المستنصر وقال لي يا فخر الدولة، هل

ص: 249

يكون في اختيار الإنسان إلى من تطمح إليه الأبصار أو تتطلع إليه النفوس أوفى من شخص البابلي، مع شيبته وظاهر سمته وهيبته؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين. فقال: والله لقد ظننت أن الدولة تتضاعف قدرتها بنظره، وينضاف إليها مثلها بحسن تدبيره وأن من وراء هذا الشخص ما وفى عليه؛ فإذا ثيابه لا تسع رقاعته وغمته، والحية قد نشفت قرعته. وذلك أن اليازوري أقام في خدمتنا عشر سنين عددنا عليه ثمانية عشر ذنبا، وأقام البابلي اثنين وسبعين يوماً نقمنا عليه تسعة عشر ذنباً، مع ظاهر كذبه وقلة احتشامه عندي؛ وذلك أنه ذكر لي من حال السقية ما كثر تعجبي منه وأنا بين تصديق الحكاية وتكذيبها، واحتشمت أن أرد عليه فيتحقق تكذيبي له. وكان من إقدامه على قتل اليازوري ما كان، وساء لنا ذلك إذ لم نكن نريد قتله. فلما كان بعد ذلك بأيام يسيرة أمرته بشيء فعارضني وضرب الأمثال بما يصدني عن ذلك الأمر؛ فقلت له أيها الوزير، اعلم أن اليازوري لم تطل مدته معنا وتثبت قدمه إلا أنا كنا إذا أمرناه بشيء انتهى إليه ولم يتجاوزه. فقال لي مجيبا: يا مولانا وكأن اليازوري كان ينقط نقطة إلا ما أمثله له وأوقفه عليه! يريد أنه كان يدبر اليازوري ويعلمه ويفهمه؛ فلم يتأمل ما عليه فيه، ولا ذكر ما كان قاله من حال السقية؛ وأذكرني قوله هذا حال السقية، فقلت له وقد اغتظت منه: يخرس الله الوزير، فإذاً كانت السقية برأيه! فلما سمع ذلك مني دهش وقال: أعوذ بالله يا مولانا ولكنني كنت أبصره صواب الرأي، وأشير عيه بما فيه حميد العاقبة. فعند ذلك تحققت من كذبه على الرجل ما كنت شاكاً فيه. ووجه كذبه فيما حكاه من ذلك أن الرئيس الجليل القدر إذا أراد أن يهم بمثل هذا الأمر في سائسه أو من يجري مجراه لم يكد يعلم ولده بما يريده منه، فكيف إذا عزم على فعل ذلك مع مثلى، هل يسوغ أن يطلع أحداً عليه؟ ومع هذا فما الذي يدعوه أن يخرج بذلك إلى غيره، وربما نم عليه وتقرب إلي بإطلاعي عليه؛ وإلا تولى بنفسه مع إكثاري كان من زيارته وسكوني إليه، وأني لم أتهمه بذلك فط فآخذ حذري منه، وكان بهذا الحكم يتمكن من بلوغ غرضه مني بحيث

ص: 250

لا يعلم به أحد. فتحقق لي كذبه فيما حكاه؛ وهذا أقوى الأسباب في صرفه، لأن من ليس له عقل يميز به ما يخرج من فمه، لا سيما في مثل هذا الأمر الخطر الكبير، لم يجز أن يوثق به في تدبير مزبلة، والخوف من جنايته على الدولة برقاعته ونقص عقله أكثر من الطمع في الانتفاع بنظره.

وكان صرف البابلي على الوزارة في شهر ربيع الأول وله في الوزارة اثنان وسبعون يوماً؛ فلما صرف قبض عليه واعتقل. وكان النهار لا يكاد يرتفع ويتأخر ما يحمل إليه من الطعام إلا ويتسغيث ويقول: ما يتم حبس وجوع. وكان يبدو منه في محبسه من القول ما يعرب به عن مستحكم الرقاعة والجهل، فكان الموكلون به يتعجبون من فرق ما بينه وبين اليازوري، فإن ذاك كان ساكن الطباع كثير الصمت شريف النفس مع حداثة سنه، وهذا شيخ يظهر منه من الخفة والطيش والجهل مع الشيخوخة ما يضحك منه.

فيها تولى الوزارة بعد البابلي أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين بن المغربي. وفيها تولى قضاء القضاة عوضاً عن اليازوري أبو علي أحمد بن عبد الحكم بن سعيد، إلى ذي القعدة، وصرف بأبي القاسم عبد الحاكم بن وهب بن عبد الرحمن المليجي. وتولى المؤيد في الدين أبو نصر هبة الله بن موسى داعي الدعاة.

ص: 251

فيها قصد الأمير أبو الحارث أرسلان البساسيري الموصل ومعه قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي أمير الغرب فملكها. وخرج إليه السلطان ركن الدين أبو طالب طغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق، ففارقها؛ واتجه طغرلبك إلى نصيبين فخالف عليه أخوه لأمه إبراهيم بن ينال وسار إلى همذان، فرجع في إثره؛ وتلاحقت الأتراك، فاستدعى الخليفة القائم دبيس من مزيد، فوصل إليه وقد أرجف بمسير البساسيري إلى بغداد فعظم الخوف منه، فرجع دبيس إلى بلاده. فلما كان يوم الأحد الثامن من ذي القعدة من هذه السنة وصل البساسيري إلى بغداد ومعه قريش بن بدران، وخطب في جامع المنصور للمستنصر بالله الفاطمي وقطع الخطبة لبني العباس، وعقد الجسر وعبر عسكره. فلما كانت الجمعة الثانية خطب بجامع الرصافة للمستنصر. وكانت بينه وبين أهل بغداد حروب آلت إلى هزيمة رئيس الرؤساء وزير القائم والعسكر، وقتل جماعة من الأعيان. ووقع النهب في البلد، ودخل أصحاب البساسيري إلى البلد، ووصلوا إلى باب النوبي الشريف؛ فركب القائم بسواده وعلى كتفه البردة، وبيده السيف وعلى رأسه اللواء، وحوله جماعة بني العباس والخدم بالسيوف المسللة، فرأى الأمر شديداً، فعاد وأبعد المنظرة،

ص: 252

ونادى رئيس الرؤساء: يا علم الدين قريش، أمير المؤمنين يستدنيك. فدنا منه؛ فقال رئيس الرؤساء له: قد آتاك الله منزلة لم ينلها أمثالك؛ وطلب منه الأمان للخليفة القائم، فأمنه. ونزل إليه الخليفة والوزير رئيس الرؤساء، وصاروا معه. فبعث إليه البساسيري: تخالف ما استقر بيننا! فقال قريش: لا. وكانا قد تعاهدا على المشاركة في جميع ما يحصل لهما؛ فاستقر الأمر على أن البساسيري يتسلم الوزير رئيس الرؤساء وأن قريش ابن بدران يتسلم الخليفة القائم فيكون عنده. فبعث حينئذ قريش بالوزير إلى البساسيري؛ فلما مثل بين يديه قال له: العفو عند المقدرة. فقال البساسيري: أنت صاحب الطيلسان ما عفوت عن داري وحرمى وأطفالي، فكيف أعفو وأنا صاحب سيف.

ثم إن قريش بن بدران سار في خدمة الخليفة، وهو راكب بالصفة التي تقدم ذكرها إلى معسكره، فأنزله في خيمة وهيأ له ما يقوم به، ووقع النهب في دار الخلافة مدة أيام، وأخذ منها ما لا يحصى كثرة، وبعث منها إلى مصر منديل القائم الذي عممه بيده، قد جعل في قالب رخام لكيلا ينحل، مع ردائه، والشباك الذي كان يتوكأ عليه؛ فعمل في دار الوزارة بالقاهرة. وأما العمامة والرداء فبعثهما السلطان صلاح الدين يوسف، لما استولى على القصر، إلى الخليفة المستضيء ببغداد مع الكتاب الذي كتبه على نفسه القائم وأشهد على نفسه العدول فيه أنه لا حق لبني العباس في الخلافة مع وجود فاطمة الزهراء. وحمل أيضاً إلى القاهرة الذخائر والكتب والقضيب والبردة. وسلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارس بن المجلى، وكان رجلاً متديناً، فحمله في هودج إلى مدينة عانة وأنزله بها؛ وفر أصحاب الخليفة القائم إلى طغرلبك فصاروا في جملته

ص: 253

فلما كان يوم عيد النحر ركب البساسيري إلى المصلى وعلى رأسه ألوية المستنصر، وقد استمال الناس بكثرة الإحسان وإجراء الأرزاق، وكسر منبر المسجد الجامع ببغداد وقال: هذا منبر نحس أعلن عله بغض آل محمد عليهم السلام؛ وأنشأ منبرا آخر وخطب عليه باسم المستنصر. ثم أخرج الوزير رئيس الرؤساء أبا القاسم علي بن المسلمة وهو مقيد وعليه جبة صوف وطرطور أحمر من لبد وفي عنقه مخنقة، فشهره ثم أعاده إلى المعسكر وقد نصبت له خشبة، فألبس جلد ثور طري، وجعل في فكيه كلابين من حديد وعلقه بهما؛ فبقي يضطرب إلى آخر النهار حتى مات، وعمره نحو من ثلاث وخمسين سنة، وكان حسن التلاوة للقرآن جيد المعرفة بالأدب.

ولما ورد الخبر بذلك إلى المستنصر سر سرورا كثيرا، وزينت القاهرة ومصر وجاءت نسب الطبالة، فغنت بالطبل في القصر بين يدي المستنصر:

يا بني العباس ردّوا

ملك الأمر معدّ

ملككم ملكٌ معار

والعوارى تستردّ

فقال لها المستنصر: تمنى، فلك حكمك؛ فسألت الأرض المجاورة للمقس، فأقطعها إياها، فعرفت بها وقيل لها إلى اليوم أرض الطبالة. وأمر المستنصر في أن يحمل إلى مهارش

ص: 254

عشرة آلاف دينار ليسير إليه الخليفة القائم على حال جميلة؛ وعزم على أنه إذا وصل تلقاه أحسن لقاء وبالغ في إكرامه. ويقال إنه بنى القصر الغربي لينزله فيه، ويحمل إليه ما ينسيه به ما كان فيه من إقامة الرواتب السنية، وأن يقرر له في كل يوم مائة دينار؛ وأنه إذا ركب المستنصر في أوقات ركوبه قدمه بين يديه يحجبه. فإذا أقام على ذلك مدة، وبات وانتشر في الأقطار خبر ذلك خلع عليه وعقد له ألوية الولاية للعراق، وكتب عهده بتقليده إياه، وسيره إليه، وأعاده إلى مملكته وخلافته من قبله. فمنعه حادث القدر قبل إدراك ذلك. وكان من جملة أسباب فوات هذا أن البساسيري لما بعث الكتب إلى المستنصر يعرفه بإقامة الخطبة له ببغداد كان الوزير حينئذ أبو الفرج محمد بن المغربي، وهو ممن فر من البساسيري وصار إلى القاهرة، فحذر المستنصر من البساسيري وخوفه عاقبته؛ فتركت أجوبته مدة، ثم عادت الأجوبة بخلاف ما أمله البساسيري؛ ثم قدم طغرلبك فانتصر عليه.

وفيها بنيت القبة التي بصحن جامع دمشق، شرقي الجامع على باب مشهد علي، وكتب عليها اسم المستنصر.

وفيها ولى المستنصر ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان دمشق في شهر رجب

ص: 255