الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة أربع وأربعين وأربعمائة
فيها كتبت بغداد محاضر تتضمن القدح في نسب الخلفاء المصريين ونفيهم من الالتحاق بعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه؛ وجمع سائر أعيان الفقهاء ببغداد وأشرافها وقضاتها، وعزوا نسبهم في الديصانية من المجوس. وسيرت المحاضر إلى البلاد، وشنع عليهم تشنيع كبير. وسبب ذلك الغضب ما عمل مع الرسول المرسل من المعز بن باديس، فإنه لما شهر بالقاهرة على جمل مقلوب، وكتاب العقد في عنقه والهدية بين يديه، ثم أحرقت الخلع والتقليد، أعيد الرسول إلى ملك الروم؛ فعز عليه ما فعل واعتذر إليه منه؛ فإنه كان قد ضمن له من مصر إعادته إليه سالماً بعد ما جرت مخاطبة في طلبه. ثم أعاده ملك الروم إلى بغداد، فوصل في سنة أربع وأربعين هذه.
وسبب عوده أن المعز بن باديس بعث رسوله أبا القاسم بن عبد الرحمن إلى بغداد في ذلكن فبعث معه الملك طغرلبك، أبا علي بن كبير ليخاطب ملك الروم في رد أبي غالب، وكتب معه كتابا عنوانه: من ركن الدين وغياث المسلمين، بهاء دين الله وسلطان بلاد الله، ومغيث عباد الله، أبي طالب يمين الخليفة أمير المؤمنين، إلى عظيم الروم. ومضمونه بعد البسملة: الحمد لله القاهر سلطانه، الباهر برهانه، العلي شأنه، السابغ إحسانه؛ ثم مر فيه إلى أن قال: وقد نجم بمصر منذ سنين ناجم ضلالة يدعو إلى نفسه، ويغتر بمن أغواه من حزبه، ويعتقد من الدين ما لا يستجيزه أحد من أهل العلم في الأئمة الأول وهذا العصر، ولا يستحسنه عاقل من أهل الإسلام والكفر. ثم ذكر رسول أبا غالب وعاتب في أمره، وطلب تسييره مخفوراً إلى المعز بن باديس. فقدم إلى قسطنطين. متملك
الروم بالقسطنطينية في صفر من هذه السنة، فتلقاه الملك وأدخله عليه، وسأله عن السلطان طغرلبك؛ فذكر له الرسالة، وطلب منه مقاطعة صاحب مصر، وإطلاق أبي غالب، وإرسال رسول المعز إليه. فقال له: صاحب مصر مجاور لنا، وبيننا وبينه عهود وهدنة، وقد بقي منها سنتان، ولا يمكن فسخها؛ وأما رسل المعز والرسل إليه فهم قوم يسعون في الفساد. وتردد القول إلى أن أطلق أبا غالب وأجازه إلى المعز، وعاد أبو علي ورفيقه إلى بغداد في بقية السنة.
وفيها قصر مد النيل، ولم يكن في المخازن السلطانية شيء من الغلال، فاشتدت المسغبة بمصر. وكان لخلو المخازن السلطانية من الغلال سبب، وهو أن الوزير اليازوري لما تقلد وظيفة قضاء القضاة في وزارة أبي البركات الجرجرائي كان ينزل إلى الجامع بمصر في يومي السبت والثلاثاء من كل جمعة، فيجلس في الزيادة منه للحكم، على رسم من تقدمه من القضاة، وإذا أقبل العصر طلع إلى القاهرة. وكان في كل سوق من أسواق مصر على أرباب كل صنعة من الصنائع عريف يتولى أمورهم؛ وكانت عادة أخباز مصر في أزمنة المساغبة متى بردت لا يرجع منها إلى شيء لكثرة ما تغش به. وكان لعريف الخبازين دكان وكان يبيع الخبز، وبحذانها دكان لصعلوك يبيع الخبز أيضاً، وكان سعره يومئذ أربعة
أرطال بدرهم وثمن. فرأى الصعلوك أن خبزه قد كاد يبرد، فخاف من كساده، فنادى عليه أربعة أرطال بدرهم ليرغب الناس فيه؛ فمال إليه الزبون فاشتروا خبزه لأجل تسمحه بثمن درهم؛ وبار خبز العريف، فغضب ووكل به عونين من الحسبة أغرماه دراهم. ووافق ذلك نزول قاضي القضاة إلى الجامع، فاستغاث به، فأمر بإحضار المحتسب وأنكر ما فعله؛ واعتذر بأن هذا من العريف وأنه لم يتحقق باطن الحال. فأمر القاضي بصرف ذلك العريف وأن يغرم ما أخذ من الخباز؛ والتفت إلى صاحب ديوانه، وقال: ما معك فادفعه إلى هذا الخباز. فناوله قرطاسا فيه ثلاثون رباعيان، فكاد عقله يطير فرحا. وعاد فنادى على الخبز خمسة أرطال بدرهم، فمال إليه الناس، وهو ينادي بزيادة رطل برطل، إلى أن بلغ عشرة أرطال بدرهم. وانتشر ذلك في البلد جميعه، وتسامح الناس به فتسارعوا إليه، فلم يبق في البلد خباز حتى باع عشرة أرطال بدرهم.
وكانت العادة أن يبتاع في كل سنة غلة للسلطان بمائة ألف دينار ويمحل متجرا. فلما عاد القاضي إلى القاهرة مثل بحضرة الخليفة وعرفه ما مر به في يومه من إرخاص السعر بغير موجب؛ وقال: يا مولانا، إن المتجر الذي يقام بالغلة فيه مضرة كبيرة على المسلمين، وربما انحط السعر عن مشتراها فلا يمكن بيعها، فتتغير في المخازن وتتلف، وأنه يقام متجر لا كلفة على الناس فيه، ويفيد أضعاف فائدة الغلة، ولا يخشى عليه من تغير في المخازن ولا انحطاط سعر؛ وهو الخشب والصابون والحديد والرصاص والعسل وما أشبه ذلك. فأمضى الخليفة ما رآه، وبطل المتجر في الغلة وتوسع الناس بذلك.