الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة إحدى وأربعين وأربعمائة
في ثاني المحرم صرف قاضي القضاة أحمد بن عبد العزيز بن النعمان عن القضاء. وكانت هذه ولايته الثانية، وله فيه ثلاث عشرة سنة وشهر وأربعة أيام. واستدعي إلى حضرة المستنصر القاضي أبو محمد اليازوري وخلع عليه مكانه في رابع عشره، وقرئ سجله في الديوان؛ وخرج والدولة بأسرها بين يديه. واستناب ابنه الأكبر أبا الحسن محمداً ولقب بالقاضي الأجل خطير الملك؛ وأقام ابنه الآخر في جهات السيدة.
وشرع الوزير في الإرسال إلى السيدة بأن يستقر ابنه في بابها؛ فامتنعت من ذلك وقالت ما كنت بالذي يستبدل به بوجه ولا سبب. فسقط في يده وقال: أردنا وضعه والله تعالى يريد رفعه. فقال له أبو الفضل: أما إذ جرى الأمر بخلاف ما ظنناه فليس إلا مجاملة الرجل.
وكان أبو محمد اليازوري لا يسلم على الوزير، ولا يجتمعان إلا يوماً في الشهر، يحضر إلى دار الوزير، فإذا حضر إليه احتجب عن كل أحد، وتلقاه قائما، وأجلسه على مخدة، وأعطه من المجاملة فوق ما يؤثره منه؛ وهو مع ذلك يبطن له السوء، ويعمل في التدبير عليه.
وكانت أيام الوزير كلها رديئة لكثرة القبض على الناس، والمصادرات، واصطفاء الأموال، والنفي، ونحو ذلك؛ فكثر الذام له. وكان أيضاً يبطش بمن يبطش به من غير علم الخليفة ولا استئذانه، فتغير خاطر الخليفة عليه، وتكثر منه تغيظه. إلا أن العادة جرت بألا يعترض الوزير فيما يفعله، ويمد له في النفس، ويصبر على ما يكون منه.
وفيها قبض على أبي نصر إبراهيم بن سهل، واتهم أنه مالأ ثمال بن صالح حتى قتل جعفر بن كليد صاحب حمص؛ وسلم إلى الوزير أبي البركات الجرجرائي فضيق عليه وصادره حتى مات تحت العقوبة. وكان هو الذي سعى به إلى المستنصر فقال إنه عين لثمال.
واتفق وصول الخادم رفق إلى دمشق وخروجه منها في سادس صفر يريد حلب، فوصل إلى جبل جوشن في ثاني عشري ربيع الأول، وأقام هناك؛ ثم بدا له فبعث بما معه من الأثقال إلى المعرة، فظن من معه من العساكر أنه يريد أن ينهزم، فأجدوا في الرحيل وقد حاصر قلوبهم الوجل وداخلهم الخوف؛ فأمر بردهم إليه، فأبوا ذلك عليه. وفطن أهل حلب لهم. فتبعوهم ونهبوا ما قدروا عليه منهم؛ وكانت بينهما حرب جرح فيها رفق في عدة مواضع من رأسه وبدنه، وأسر، وانهزم العسكر بأسره. وحمل رفق على بغل وهو مكشوف الرأس، ومعه جماعة من وجوه عسكره، فلم يحتمل ما أصابه، واختلط عقله، ومات بقلعة حلب بعد ثلاثة أيام، في مستهل ربيع الآخر؛ واعتقل عامة من كان معه من القواد والكتاب بحلب.
فلما ورد الخبر بذلك على المستنصر أمر بالإفراج عن ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن الحسين بن حمدان من الاعتقال، وقلد إمارة دمشق الأمير المؤيد مصطفى الملك معز الدولة، ذا الرئاستين، حيدرة بن الأمير عصب الدولة حسين بن مفلح، في رجب، وخرج معه ناظرا في أعمال الشام أبو محمد الحسين بن حسن الماسكي.
ووجد أعداء الوزير أبي البركات الحسين بن محمد الجرجرائي سبيلاً إلى إغراء المستنصر به، وأنه تسرع فيما عادت مضرته على الدولة من تجهيز العساكر إلى حلب. فحركت هذه الأقوال وما يشبهها عليه ما يحقده الخليفة من استبداده بأمور من غير أمر ولا استئذان، فأمر به فقبض عليه ونفى إلى صور في منتصف شوال، فاعتقل بصور. فكانت وزارته سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام. ثم أفرج عنه ومضى إلى دمشق.
وبقي الأمر في الوزارة عدة أيام والخليفة يعرض لقاضي القضاة أبي محمد اليازوري بالوزارة وهو يمتنع عليه؛ فأسند إلى أبي الفضل صاعد بن مسعود، من الأمراء، وأقيم واسطةً لا وزيرا، وخلع عليه ولقب بعميد الملك زين الكفاة، وجعل يرسم عليه عرض ما يختص بالرجال دون الأموال. وكان إذا أراد الاستئذان على ما يفعل جلس اليازوري بحضرة الخليفة واستدعى أبو الفضل، فعرض ما يحتاج إليه؛ فيتقدم إليه اليازوري بما يفعله. ويخرج في نفسه من اليازوري ما كان يدور بينه وبين الوزراء في معناه. فأخذ يحمل عليه الرجال ويوهمهم أنه إذا سأل لهم في زيادة أو ولاية يعترضه اليازوري ويفسد عليه. فلما كان في بعض الأيام قال ناصر الدولة حسن بن حسين بن حمدان لبعض ثقاته: اعلم أن القاضي له الثناء الجميل الكثير، ونحن شاكرون له، مقيدون بجميله، مفتقرون
إلى جاهه في جميع أمورنا؛ واعتفاؤه من هذا الأمر لا يبرئه من ذمنا إن وقفت حوائجنا، ويكون الشكر فيه لغيره إن قضيت؛ وهذا الرجل عميد الملك هوذا يحمل الرجال عليه ويشعرهم أنه يجتهد في قضاء حوائجهم، وأنه يعترضه بما يبطلها عليهم؛ وفي هذا الأمر ما تعلمه. فقل أنت له عني: يا سيدنا، إما أن تزيد شكر الرجال وسلامة صدورهم لك وخلاص نياتهم في طاعتك، فادخل في هذا الأمر، فإن أحسنت عرفوا ذلك لك، وشكروه منك وإن أسأت كان عليك ضرره وشره؛ وإلا فاعتزل جانبا ولا تلعب بروحك مع الرجال، وإلا أبلغك أبو الفضل. فبلغه الرجل ذلك؛ فقال: أمهلني الليلة ثم بكر إلي. فلما كان في السحر بكر إليه؛ فقال: أعد علي قول ناصر الدولة؛ فأعاده. فقال: أقره عني السلام، وقل له: والله إلا أدخل فيه ويكون لي خيره وشره. وأبلغ ناصر الدولة رسالته؛ فقال: هذا هو الصواب.