الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة
فيها أظهر المعز بن باديس صاحب إفريقية، الخلاف على المستنصر، وسير رسولاً إلى بغداد ليقيم الدعوة العباسية، واستدعى منهم الخلع؛ فأجيب إلى ذلك. وجهزت الخلع على يد رسول يقال له أبو غالب الشيزري، ومعه العهد واللواء الأسود؛ فمر ببلاد الروم ليعدى منها إلى إفريقية، فقبض عليه صاحب الروم. وبلغ ذلك المعز بن باديس، فأرسل إلى قسطنطين ملك الروم في أمره، فلم يجبه رعايةً لحق المستنصر. واتفق قدوم رسول طغرلبك يستأذنه في مسيره إلى مصر؛ فأظهر المودة التي بينه وبين المستنصر، وأنه لا يرخص في أذيته. واتفق قدوم رسول المستنصر إليه بهدية عظيمة، فبعث معه برسول القائم بما على يده، فدخل إلى القاهرة على جمل، وأحرق العهد واللواء والهدية في حفرة بين القصرين؛ وكان القادر قد فعل مع الظاهر والد المستنصر مثل ذلك بالخلعة التي سيرها إلى محمود بن سبكتكين. ثم أقر المستنصر رد الرسول إلى صاحب القسطنطينية.
وكان سبب عصيان ابن باديس ما تقدم من تقصيره في مكاتبة الوزير اليازوري وما دار في ذلك.
وكان بطرابلس الغرب وما والاها زغبة ورياح، وهما قبيلتان من العرب، وبينهما حروب وعداوة، فأحضر الوزير مكين الدولة أبا علي الحسن بن علي بن ملهم بن دينار العقيلي، أحد أمراء الدولة، وكان رجلا عاقلا، وسيره إلى زغبة ورياح بخلع سنية وأنعام كثيرة، وأمره أن يصلح ذات بينهما، ويتحمل ما بينهما من ديات، ويفديه بالزيادة في إقطاعاتهما. فلما تم له ذلك أمرهم بالمسير إلى المعز بن باديس، وأباحهم دياره، وتشدد في هذا الأمر حتى توجه المذكورون إلى ديار ابن باديس وملكوها، وجمعوا ذيوله عليه، وقلموا أظفاره، وضيقوا خناقه حتى لم يتمكن من قتالهم إلا مستنداً إلى حيطان إفريقية. وذلك أنهم ملكوا برقة، فسار إليهم المعز فهزموه، وتبعوه إلى إفريقية، وحصروا المدن، فنزل بأهل إفريقية بلاء لا يوصف، فخرج إليهم المعز في أربعين ألفا وقاتلهم، فهزموه إلى القيروان. ثم جمع ثمانين ألفا وقاتلهم، فهزموه، وأكثروا من القتل في أصحابه، وحصروه بالقيروان. وأقاموا يحاصرون البلاد وينهبون إلى سنة تسع وأربعين، فانتقل المعز إلى المهدية في شهر رمضان منها، حتى نفدت أمواله، وقلت عدده، وتفلت منه رجاله، وأشرف على التلف؛ فلم يجد سبيلاً غير إعمال الحيلة في خلاصه. فخرج متخفياً في زي امرأة حتى انتهى إلى المهدية، فاستولت العربان على حرمه وداره وغلمانه، وقتلوا الرجال وسبوا النساء، وانتهبوا ما كان في دوره وقصوره؛ وعاثوا في البلد ينهبون ويأسرون ويقتلون، فخربت القيروان حينئذ إلى اليوم. ووصل كثير مما نهب من قصور بني باديس من الأسلحة والعدد والآلات والخيام وغيرها إلى القاهرة، فكان ليوم دخولها إلى القاهرة أمر عظيم من اجتماع الناس واعتبار أهل البصائر بتقلب الأحوال.
وكان من خبر دخول العرب إلى المغرب أن بطون هلال وسليم من مضر لم يزالوا في البادية، ونجعوا من نجد إلى الحجاز؛ فنزل بنو سليم مما يلي المدينة النبوية، ونزل بنو
هلال في جبل غزوان عند الطائف؛ وكانوا يطرقون العراق في رحلة الشتاء والصيف فيغيرون على أطراف الشام والعراق؛ وكانت بنو سليم تغير على الحاج أيام الموسم وزيارتهم المدينة. ثم تجهز بنو سليم وكثير من ربيعة بن عامر إلى القرامطة عند ظهورهم، وصاروا جنداً لهم بالبحرين وعمان، وقدموا معهم إلى الشام. فلما غلبت القرامطة في أيام المعز لدين الله أبي تميم معد، ثم في أيام ابنه العزيز بالله أبي منصور نزار، وانهزموا من الشام إلى البحرين نقل العزيز بالله من كان معهم من بني هلال وسليم إلى مصر، وأنزلهم بالجانب الشرقي من بلاد الصعيد. وأقاموا هنالك وأضروا بالبلاد إلى أن ملك المعز بن باديس القيروان في سنة صمان وأربعمائة، وهو ابن ثماني سنين، من قبل الظاهر لإعزاز دين الله علي بن الحاكم بأمر الله، فامتدت أيامه حتى قام في الخلافة المستنصر بالله أبو تميم معد بن الظاهر، واستوزر أبا محمد اليازوري، فأنف من مكاتبته بالمولى؛ وكان ما تقدم ذكره.
فحلف المعز بن باديس ليحلون الدعوة إلى بني العباس، ولج في ذلك، وقطع الدعاء للمستنصر، وأزال اسمه من الطرز والرايات، ودعا للقائم أبي جعفر بن القادر في سنة أربعين وأربعمائة، وكتب إليه بذلك. فكتب إليه بالعهد صحبة أبي الفضل بن عبد الواحد التميمي، فقرأ كتابه بجامع القيروان، ونشر الرايات السود، وهدم دار الإسماعيلية. ووصل الخبر بذلك إلى القاهرة؛ فأشار اليازوري بتجهيز أحياء هلال بن جشم. والأشروزينية ورياح وعدي وربيعة إلى المغرب، وتولية مشايخهم أعمال إفريقية. فقبلت مشورته. وأرسل إليهم في سنة إحدى وأربعين، وحمل إلى مشايخهم الأموال، وأنعم على سائرهم بفرو ودينار لكل أحد، وأبيح لهم حمى المغرب.
وكتب اليازوري إلى المعز بن باديس: أما بعد؛ فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا، وأرسلنا عليها رجالا كهولا ليقتضي الله أمراً كان مفعولاً.
فسارت العرب إلى برقة، وفتحوا أمصارها؛ وكتبوا لإخوانهم الذين بشرقي الصعيد يرغبونهم في البلاد؛ فأعطوا من الدولة دينارين لكل واحد، ومضوا إلى أصحابهم؛ فتصارعوا على البلاد، فحصل لسليم الشرق، ولهلال المغرب. وخربوا المدينة الحمراء وأجدابية وسرت. وأقامت بطون من سليم وأحلافها بأرض برقة، وسارت قبائل دياب وعرق وزغب وجميع بطون هلال إلى إفريقية كالجراد المنتشر، لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه، حتى وصلوا إلى إفريقية سنة ثلاث وأربعين. وكان أول من وصل منهم أمير رياح مؤنس بن يحيى العنزي؛ فاستماله المعز بن باديس، وكثر عيثهم في البلاد، ونادوا بشعار المستنصر. فبعث إليهم المعز العسار فأوقعوا بها؛ فخرج إليهم في ثلاثين ألفا فهزموه؛ وفر بنفسه وخاصته إلى القيروان، فنهبوا جميع ما كان معه، وقتلوا خلقا كثيرا، وحصروه بالقيروان حتى هلكت الضواحي والقرى.
واقتسم العرب بلاد إفريقية في سنة ست وأربعين؛ وكان لزغبة طرابلس وما يليها، ولمرداس بن رياح باجة وما يليها. ثم اقتسموا البلاد ثانيا، وكان لهلال من قابس إلى المغرب، وهم رياح وزغبة والمعقل وجشم وترنجة والأسيح وشداد والخلط وسفيان.
ونصوح الملك من المعز بن باديس فركب البحر في سنة تسع وأربعين؛ فدخل العرب القيروان واستباحوه وخربوا مبانيه، فتفرق أهله في البلاد. ثم أخذوا المهدية وحاربوا
زناتة من بعد صنهاجة، وغلبوهم على الضواحي واتصلت الفتنة بينهم فخربت إفريقية بأسرها، وصيروا البربر لهم خولاً. ومات المعز بن باديس سنة أربع وخمسين وأربعمائة.
وكان المستنصر لما بعثهم إلى إفريقية جعل المؤنس بن يحيى المرداسي ولاية القيروان وباجة، وأعطى زغبة طرابلس وقابس، وجعل الحسن بن مسرة في ولاية قسنطينة؛ فلما غلبوا صنهاجة ملك كل منهم ما عقد عليه، فاشتد عيثهم وإفسادهم.
وفيها كانت وقعة البحيرة. وذلك أنها في إقطاع بني قرة وقد ملكوها وعمروا ضياعها، وكثرت فيها أموالهم واشتدت شوكتهم، وخشن جانبهم، وكثر المقدمون فيهم حتى انتشر ذكرهم، وذل لهم عددهم؛ وثقل أمرهم على الولاية بالإسكندرية؛ فجاورهم الطلحيون واستذموا منهم، وكانت لهم واجبات على الدولة من غير إقطاع، وهم يأخذون واجباتهم محمولة مع واجبات العسكر بالإسكندرية عندما تحمل إليها. فاتفق أن ناصر الدولة ابن حمدان أبا نصر الدولة حسين كان واليا بالإسكندرية. فاستحق الطلحيون على الدولة، عن واجباتهم المذكورة، ثلاثة آلاف دينار، فواصلوا اقتضاء ناصر الدولة إنفاقهم فيهم، فوعدهم؛ وكتب إلى الحضرة يلتمس ذلك؛ فوعده الوزير أنه إذا حمل إلى رجال العسكر استحقاقهم حمل ذلك في جملته. وكان قد بقى على حمل المال شهران، فاستبعدوا الصبر إلى ذلك الوقت وواصلوا مطالبته؛ وحملوا القريين على معونتهم
عليه، فاضطروه إلى المسير معهم إلى الحضرة لالتماس ذلك، فسار إلى الجيزة، وطلع إلى الوزير وعرفه الحال؛ فقال ما أخرنا ذلك عنهم إلا أن السنة كثيرة النفقات والطوارئ، وهذه ألف دينار أنفقها فيهم إلى أن تحمل باق مالهم مع مال العسكر. فأخذ الألف وعرفهم ما قال الوزير. فامتنعوا عن الأخذ، وأبوا إلا قبض الثلاثة آلاف، وألزموه بالعود. فعاد، وعرف الوزير؛ فاغتاظ، وأمر لهم بألف أخرى. فنزل إليهم، فأبوا إلا أخذ الجميع، وجفوا في الخطاب؛ فعاد إلى الوزير، وعرفه؛ فغضب وقال: إجابتهم إلى ما التمسوه دفعةً بعد أخرى طمعهم طمعهم؛ والله لا أطلق لهم درهماً واحداً. واستعاد الألفي دينار، وتقدم بتجريد العسكر لهم؛ فتسرع يزحف مع ليث الدولة كافور الشرابي، ونزل إليهم؛ فإذا هم قد تأهبوا للقائهم. فجرت بينهم وقفة قتل فيها اثنان من العسكر وحجز بينهما الليل.
وبلغ الوزير ذلك، فشق عليه إقدامهم على المحاربة، سيما بنو قرة فإنهم صلوا الحرب وكانوا فيها أشد من الطلحيين. فأخذ الوزير يجرد إليهم العساكر، فانطردوا وجمعوا حشودهم، والتقوا بكوم شريك، وكانت الدائرة عليهم وقتل منهم خلق كثير. وأنهزموا والعساكر تتبعهم، فأحاطت بأموالهم من كل ما يملكونه؛ وفر بنو قرة على وجوههم إلى برقة ومعهم الطلحيون، فانقطع أثرهم من البحيرة إلى اليوم، وصاروا مطردين في قبائل العرب نحواً من أربعين سنة.
وكان كل من بالحضرة يفند رأى الوزير في تجهيز العساكر إليهم ويحكمون بأنهم لا يفارقون إلى البحيرة، فجاء الأمر بخلاف ظنهم.
ثم إن الوزير رأى أن في إقامة العساكر في أعمال البحيرة كلفةً كبيرة، فأرسل إلى بني سنبس، وكانوا بالداروم وفلسطين، وقد ثقلت وطأتهم هنالك وصعب أمرهم؛ فعدى بهم إلى البحيرة، وهم أعداء قيس، وأوطأهم ديارهم، وأقطعهم أرضهم، فمحى اسم بني قرة من هناك.
وكان تجهيزه للعسكر في شهر رمضان، وتسييره لهم إلى بني قرة في مستله شوال، فخطأه الناس في فعله، وقالوا لم يجرد عسكر قط في شوال، فظنوا أنه لا يؤمن على العسكر أن ينهزم وينكسر. وكان شمس الدولة زمام الأتراك والقيصرية، وإليه زم القصور والخدمة في الرسالة، وليس أحد في الدولة يجري مجراه جلالة وتقدما، بينه وبين الوزير مباينة شديدة ويتربص به الدوائر، ويغتال له الغوائل؛ فكان ينتظر إنهزام العسكر ليقبض عليه. فلما أراد العسكر أن يسير من الجيزة، ومقدمه ناصر الدولة، قرر معه لقاءهم في اليوم الخامس من شوال بطالع يخبره به؛ وسير معه عدة طيور من الحمام ليطالعه بما يكون يوما بيوم.
فلما كان في ذلك اليوم، وهو يوم خميس جلس في داره وقد اشتد قلقه وكثر اهتمامه بما يكون من العسكر؛ واحتجب عن الناس لشغل سره، وجلس ينتظر الطائر. فلم يزل كذلك إلى الساعة الخامسة من نهاره، فقام ليجدد طهارة، فعبر البستان وقد أطلق الماء في مجاريه، فرأى ورقة تمر على وجه الماء، فأخذها متفائلاً بها، فوجدها أول كتاب كان قد وصل من القائد فضل إلى الحاكم بأمر الله، قد ذهبت طرته وعنوانه وبقى صدره، وهو: كتب عبد مولانا الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين من المخيم المنصور في الساعة
الخامسة من نهار الخميس الخامس من شوال، وقد أظفره الله عز وجل بعدو الله تعالى وعدو الحضرة المطهرة، أبي ركوة المخذول، وهو في قبضة الأسارى والحمد لله رب العالمين. فلما وقف على ذلك سجد شكراً لله تعالى، وعجب من موافقة اليوم وعدة الأيام من شوال والأعلام بالظفر. ثم تجهز للصلاة، فما فرغ حتى سقط الطائر بانكسار بني قرة وانهزامهم، وما من الله تعالى به من الظفر بهم. فأخذ الكتاب والطائر وركب إلى القصر، ودخل إلى المستنصر وأوقفه على الكتاب؛ فسر بذلك؛ وأراه الطير وقال: هذا أعجب يا أمير المؤمنين؛ وحدثه بحديثه، فعجب من هذا الاتفاق.
ثم تواصلت رسل ناصر الدولة بالبشرى وشرح الحال في الظفر وانهزام القوم، فخلع على الوزير، وزيد في ألقابه للدين، غياث الدين؛ فتم له النظر وقوى أمره، وذلك من كان يعاديه؛ فجرى على عادته في العفو والمجاملة.
وكان أهل جزيرة صقلية قد خالفوا الدولة غير مرة، لما فيهم من الشر والغلظة، وطردوا الولاة. وصار إليهم المعز ابن باديس، فملكوه عليهم وقد خرج عن طاعة الدولة، فأساء السيرة فيهم، وثقل عليهم، فوثبوا عليه وأخرجوه منها. وكاتبوا ملك الروم، فسار إليهم بطريق كبير، فولوه أمرهم مدة ثم وثبوا به وأخرجوه عنهم. وبعثوا إلى الحضرة يسألون إقالة عثرتهم والعفو عنهم ويسألون إيفاد وال. وكان بصقلية بنو أبي الحسين، لهم رئاسة وفيهم من يؤهل نفسه لولايتها؛ فسارت الخلع إلى رجل منهم يعرف بمستخلص الدولة؛ فمكث فيهم زمانا، ثم نفروا منه، وبعثوا يسألون تغييره عنهم. فسير الوزير
رجلاً من أمراء الدولة يعرف بصمصام الدولة ابن لؤلؤ، وأسر إليه أن يتلطف في إخراج بني أبي الحسين من صقلية ويسيرهم إلى الحضرة. فدخل إليها، وساس أمره، حتى بعث بجميع من كان فيها من بني أبي الحسين. واستقام الأمر في صقلية بخروجهم عنها.
وقام ببلاد اليمن رجل يعرف بعلي بن محمد الصليحي يتشيع، فحسن له الدعاة الدخول في نصرة خلفاء مصر، فأعلن ذلك بها، ودعا أهل اليمن إليها، وحمل تجارتهم مع هدية جليلة القدر تبلغ زهاء عشرة آلاف دينار إلى المستنصر. وكان أبوه قاضياً باليمن سني المذهب، وزوجته أسماء ابنة عمه شهاب، وكانت أجمل خلق الله، وهي أم الدعاة باليمن، وعرفت بالحرة. وكانت ذات عز وكرم، وتفاخر بنوها بها، ومدحت.
وكان باليمن الداعي عامر بن عبد الله الرواحي، فاستمال أبا الحسن علي بن محمد بن علي الصليحي، وهو صغير، حتى مال إليه، فلما مات عامر أوصى له بكتبه وعلومه، فدرسها حتى تضلع من معارفه وصار من فقهاء الشيعة، وحج بالناس دليلاً خمس عشرة سنة. ثم ثار في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وتزايد أمره، ودعا للمستنصر، وكتب إليه بما هو عليه، واستأذنه في المسير إلى تهامة، فأذن له. ولم تخرج سنة خمسين وأربعمائة حتى ملك السهل والجبل الوعر من بلاد اليمن.
وجهز الوزير إلى النوبة، فأضعف عليهم البقط، وحملوه؛ واستقر الأمر على ذلك.