الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة تسع وستين وأربعمائة
فيها اجتمع بمدينة طوخ من صعيد مصر عدد كبير من عرب جهينة والثعالبة والجعافرة لمحاربة أمير الجيوش، فسار إليهم حتى قرب منهم، فنزل، ثم ارتحل بالليل وأمر بضرب الطبول وزعقت البوقات، واشتعلت المشاعل وقد تزايد وقود النيران. وجد في السير والعساكر لها صرخات وصيحات متتابعة في دفعة واحدة، حتى طرقهم بغتة ووضع فيهم السيف فأفنى أكثرهم قتلا، وفر منهم طوائف فغرقوا، ولم ينج منهم إلا القليل. وأحاط بأموالهم فحاز منها ما يتجاوز الوصف كثرة، وسيرها إلى المستنصر.
وثار كنز الدولة محمد بأسوان وتغلب عليها وعلى نواحيها، وكثرت أتباعه ونجم أمره؛ فسار إليه أمير الجيوش بعساكره، فالتقى معهم وحاربهم محاربة طويلة أسفرت عن قتله وهزيمة أصحابه بعد أن قتل منهم جم غفير، فكانت هذه الواقعة آخر الوقائع التي قطع فيها دابر المفسدين، وخمدت جمرتهم.
وفيها جمع أطسز صاحب دمشق العساكر وسار يريد تملك الديار المصرية وإزالة الدولة الفاطمية منها وإقامة الدعوة العباسية كما فعل في بلاد الشام. وكان أكثر الأسباب الحاملة له على ذلك أن ابن يلدكوش لما فر من أمير الجيوش وصار إلى بلاد الشام اتصل بأطسز، وقدم إليه ستين حبة لؤلؤ مدحرج، زنة كل حبة منها ينيف على مثقال، وحجر ياقوت زنته سبعة عشر مثقالا، وتحفاً كثيرة مما كان قد وصل إلى أبيه من خزائن المستنصر في سني الشدة، وأغراه بأهل مصر وحثه على قصد البلاد، وهونها عنده. فقوي طمعه وسار وقد حصل في قوة بمن صار إليه من عساكر مصر ومن انضاف إليه من أهل الشام.
وكان أمير الجيوش ببلاد الصعيد قد انتهى إلى بلاد أسوان، فوصل الخبر بمسير أطسز إلى مصر، فكتب بذلك إلى أمير الجيوش، وكان عند موافاة الخبر إليه في شغل عن ذلك، فقدم أطسز إلى أطراف مصر في جمادى الأولى، وقد أشار عليه ابن يلدكوش بألا تشتغل بالقاهرة ولكن تملك الريف. وقال له: إذا ملكت الريف فقد ملكت مصر. فأقام بالريف جمادى الأولى وجمادى الآخرة وبعض رجب وأمير الجيوش في إصلاح الصعيد وتدبير أموره، وقد حضر إليه أكثر أهل أسوان وبدر بن حازم بجمائع طي. فلما استوثق أمره وجمع إليه العساكر عاد إلى القاهرة وخرج يريد محاربة أطسز في جمع تبلغ عدته ما ينيف على ثلاثين ألفاً ما بين فارس وراجل، وذلك في يوم الخميس لثلاث عشرة بقيت من رجب بعد ما جهز عدة مراكب قد شحنها بالعلوفات والأزواد. فجمع أطسز إليه أصحابه واستشارهم، فاختلفوا عليه في الرأي، فقال بعضهم أن ترجع فإنك قد دست بلاد مصر وليس معك غير خمسة آلاف، والقوم في كثرة، وعواقب الأمور غير معلومة. وقال له أخوه وابن يلدكوش لا يهولنك ما تسمع به من كثرتهم فإنما هم سوقة وأخلاط، لو سمعوا صيحة لفروا عن آخرهم؛ فإياك والرجوع عن هذا الملك قد أشرفت على أخذه ولم يبق إلا تملكه. وأشار عليه شكل، أمير طبرية، بموافقة القوم والدخول إلى مصر. فتقرر الرأي على ملاقاة العساكر المصرية.
فلما كان يوم الثلاثاء لثمان بقين منه تلاقى الفريقان وتحاربا، فكانت بينهما عدة وقائع كانت الغلبة فيها للمصريين، فانهزم أطسز، وقتل أخوه وعدة من أصحابه، وعاد
في قليل ممن معه وأقام بالرملة حتى تلاحقت به عساكره. ثم رحل إلى القدس ففتحها وقتل من فيها من المسلمين ولم يترك من استجار بالأقصى.
ثم سار إلى دمشق، فدخلها لعشر بقين من شعبان؛ وقد احتوى أمير الجيوش على كثير مما كان معهم، ورجع إلى القاهرة مؤيداً مظفراً. وكان المتولي لكسرة أطسز بدر بن حازم ابن علي بن دغفل بن جراح. فلما جلس أمير الجيوش بدر الجمالي للهناء بنصرته قرأ ابن لفتة، أحد القراء، " ولقد نصركم الله ببدر "، ولم يتم الآية، يعني بدر بن حازم. فبينا أمير الجيوش بدر في ذلك إذ بلغه اجتماع عرب قيس وسليم وفزارة، فخرج إليهم وأوقع بهم، وأكثر من القتل فيهم، وفر من بقي منهم إلى برقة.
وفيها سقط أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر، فمات في عشية اليوم الثالث من رجب؛ وكان له على الدولة الفاطمية في كل شهر ثلاثون ديناراً وغلة لإصلاح ما يكتب في ديوان الإنشاء، فكان يعرض عليه جميع ما يكتب منه، وإذا حرره أمر به فدفع لأربابه. ثم إنه تخلى عن الخدم السلطانية وانقطع للعبادة حتى مات؛ وكان أبوه واعظاً بمصر.