الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[578] باب الفرق بين لفظة كافر وكفر
السائل: ما الفرق بين لفظ كافر وكَفَرَ؟
الشيخ: كافر يحمل معنى الصفة اللازمة له، وليس كذلك كَفَرَ، فليس كل من كفر يصير كافراً، مثال: ليس كل من عدل مرة واحدة يصير عادلاً، وليس كل من ظلم مرة واحدة يصبح ظالماً، وإلا كانت اختلطت الصفات بين الناس، فالحجاج الظالم المبير لا بد أنه عدل مرات وليس مرة واحدة، فهل نقول أنه عادل؟ ولا بد زيد من الناس آخَر عادل لكنه ظلم في قضية، فيصبح يأخذ اسم ظالم، فهذا اسم الفاعل هذا يعطي صفة معينة فيمن قام فيه هذا الفعل أكثر من كلمة كفر، ولذلك لا يجوز لنا أن نطلق كلمة كافر على شخص أطلق الرسول عليه لفظة (كفر)؛ لأن لفظة كفر دون لفظة كافر، بمعنى كل من قيل فيه كافر، فقد كفر، ولا عكس، ليس كل من كفر فهو كافر.
"الهدى والنور"(249/ 41: 52: 00)
[579] باب حول فتنة التكفير
سؤال: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فلا يخفى عليكم يا شيخ الساحة الأفغانية التي تكثر فيها الجماعات، والفرقة الضالة التي استطاعت وللأسف أن تبث أفكارها الخارجة عن منهج السلف
الصالح في شبابنا السلفي الذي كان يجاهد في أفغانستان، ومن هذه الأفكار تكفير الحكام وإحياء السنن المهجورة كالاغتيالات كما يدعون، والآن وبعد رجوع الشباب السلفي إلى بلادهم قاموا ببث ونشر هذه الآراء والشبه عندنا، وعلمنا يا شيخ أنه قد حصل بينكم وبين إحدى الإخوان قبل عدة سنين مناقشة طويلة في مسألة التكفير، وهذه الأشرطة تسجيلها غير واضح، لذا نود من فضيلتكم البيان في هذه المسألة، وجزاكم الله خير.
الشيخ: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
في الحقيقة أن مسألة التكفير ليس فقط للحكام، بل وللمحكومين أيضاً هي فتنة قديمة تبنتها فرقة من الفرق الإسلامية القديمة وهي المعروفة بالخوارج، والخوارج طوائف مذكورة في كتب الفرق ومنها فرقة موجودة لا تزال الآن باسم آخر وهو الإباضية، وهؤلاء الإباضية كانوا إلى عهد قريب منطوين على أنفسهم، ليس لهم أي نشاط دعوي كما يقال اليوم، لكن منذ بضع سنين بدؤوا ينشطون وينشرون بعض الرسائل وبعض العقائد التي هي عين عقائد الخوارج القدامى إلا أنهم يتسترون ويتشيعون بخصلة من خصال الشيعة ألا وهي التقيّة، فهم يقولون نحن لسنا بالخوارج، وأنتم تعلمون جميعاً أن الاسم لا يغير من حقائق المسميات إطلاقاً، وهؤلاء يلتقون في جملة ما يلتقون مع الخوارج في تكفير أصحاب الكبائر.
الآن يوجد في بعض الجماعات الذين يلتقون مع دعوة الحق في اتباع الكتاب والسنة، ولكنهم مع الأسف الشديد يقعون في الخروج عن الكتاب والسنة من جديد وباسم الكتاب والسنة، والسبب في ذلك يعود إلى أمرين اثنين في فهمي ونقدي، أحدهما هو ضحالة العلم وقلة التفقه في الدين، والأمر الآخر وهو مهم جداً أنهم لم يتفقوا بالقواعد الشرعية والتي هي من أسس الدعوة الإسلامية الصحيحة التي يعتبر كل من خرج عنها من تلك الفرق المنحرفة عن الجماعة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير ما حديث، بل والتي ذكرها ربنا عز وجل دليلاً واضحاً بيناً على أن من خرج عنها فيكون قد شاق الله ورسوله.
أعني بذلك قوله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء:115). الله عز وجل بأمر واضح جداً عند أهل العلم لم يقتصر على قوله عز وجل: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى، لم يقل هكذا وإنما أضاف إلى مشاققة الرسول اتباع غير سبيل المؤمنين، فقال عز وجل:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء:115).
إذاً: اتباع سبيل المؤمنين وعدم اتباع سبيل المؤمنين أمر هام جداً إيجاباً وسلباً، فمن اتبع سبيل المؤمنين فهو الناجي عند رب العالمين، ومن خالف سبيل المؤمنين فحسبه جنهم وبئس المصير، من هنا ضلت طوائف كثيرة وكثيرة جداً قديماً وحديثاً، حيث إنهم لم يلتزموا سبيل المؤمنين، وإنما ركبوا عقولهم، بل اتبعوا أهواءهم في تفسير الكتاب والسنة ثم بنوا على ذلك نتائج خطيرة وخطيرة جداً من ذلك الخروج عما كان عليه سلفنا الصالح.
هذه الفقرة من الآية الكريمة: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} لقد دلنا حولها وأكدها عليه الصلاة والسلام تأكيداً بالغاً في غير ما حديث نبوي صحيح، وهذه الأحاديث التي أنا أشير إليها الآن وسأذكر بعضاً منها مما تساعدني ذاكرتي ليست مجهولة عند عامة المسلمين، فضلاً عن خاصتهم، لكن المجهول فيها هو أنها
تدل على ضرورة التزام سبيل المؤمنين في فهم الكتاب والسنة، هذه النقطة
يسهو عنها كثير من الخاصة، فضلاً عن العامة، فضلاً عن هؤلاء الذين عرفوا بجماعة التكفير.
هؤلاء قد يكونون في قرارة نفوسهم صالحين، وقد يكونون أيضاً
مخلصين، ولكن هذا وحده غير كاف ليكون صاحبه عند الله عز وجل من
الناجين المفلحين.
لا بد للمسلم أن يجمع بين أمرين اثنين، بين الإخلاص في النية لله عز وجل، وبين حسن الاتباع لما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يكفي إذاً أن يكون المسلم مخلصاً وجاداً فيما هو في صدده من العمل بالكتاب والسنة، والدعوة إليهما، فلا بد بالإضافة إلى ذلك أن يكون منهجه منهجاً سوياً سليماً.
فمن تلك الأحاديث المعروفة كما أشرت آنفاً حديث الفرق الثلاث والسبعين، ولا أحد منكم إلا وهو يذكره، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:«تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: هي ما أنا عليه وأصحابي» (1) نجد أن جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأولئك
(1) صحيح الجامع (رقم9474) والصحيحة (1/ 358).
الذين سألوا عن الفرقة الناجية يلتقي تماماً مع الآية السابقة: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} (النساء:115)، فالمؤمنون المقصودون في هذه الآية الكريمة هم الأصحاب أول ما يدخل في عموم الآية:(وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) هم سبيل أصحاب الرسول عليه الصلاة السلام، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الجواب عن ذاك السؤال عن الفرقة الناجية ما هي وما أوصافها، قال:«هي التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي» ، لم يكتف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث على قوله:«ما أنا عليه» وقد يكون ذلك كافياً في الواقع للمسلم الذي يفهم حقاً الكتاب والسنة، ولكنه عليه الصلاة السلام كتحقيق عملي لقوله عز وجل في حقه:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128)، فمن رأفته ورحمته بأصحابه وأتباعه أنه أوضح لهم أن علامة الفرقة الناجية هي التي تكون على ما كان عليه الرسول عليه السلام وعلى ما عليه أصحابه من بعده.
فإذاً: لا يجوز للمسلم أن يقتصر فقط في فهمه للكتاب والسنة على الوسائل التي لا بد منها، منها مثلاً معرفة اللغة العربية والناسخ والمنسوخ، وكل القواعد، لكن من هذه القواعد الهامة أن يرجع في كل ذلك إلى ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنهم كما تعلمون من كثير من الآثار ومن سيرتهم أنهم كانوا أخلص لله عز وجل في العبادة وأفقه منا للكتاب والسنة .. إلى غير ذلك من الخصال الحميدة الذي كانوا تخلقوا بها.
هذا الحديث يلتقي مع الآية تماماً، حيث أنه ألمح عليه السلام في هذا الجواب أنه لا بد من الرجوع ليكون المسلم من الفرقة الناجية إلى ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
يشبه هذا الحديث تماماً حديث الخلفاء الراشدين الذي ذكر في السنن من رواية العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: أوصنا يا رسول الله. قال: أوصيكم بالسمع والطاعة وإن ولي عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسير اختلافاً كثيرا، فعليكم بستني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي
…
» إلى آخر الحديث.
الشاهد من هذا الحديث هو كالشاهد من جوابه عليه السلام عن السؤال السابق، حيث حض أمته في أشخاص أصحابه أن يتمسكوا بسنته، ثم لم يقتصر على ذلك قال:«وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» .
إذاً: لا بد لنا من أن ندندن دائماً وأبداً إذا أردنا أن نفهم عقيدتنا، أن نفهم عبادتنا، أن نفهم أخلاقنا وسلوكنا، لا بد من أن نعود إلى سلفنا الصالح .. كل هذه الأمور التي لا بد منها للمسلم ليتحقق فيه أنه من الفرقة الناجية.
من هنا ضلت طوائف قديمة وحديثة حينما لا يلتفتون إطلاقاً إلى الآية السابقة وإلى حديث الفرقة الناجية، وإلى حديث سنة الخلفاء الراشدين من بعده عليه السلام، فكان أمراً طبيعياً جداً أن ينحرفوا كما انحرف من سبقهم من المنحرفين عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنهج السلف الصالح، من هؤلاء الخوارج قديماً وحديثاً.
التكفير الذي ذر قرنه في هذا الزمان الآية التي يدندنون حولها دائماً وأبداً، ألا وهي قوله تبارك وتعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة:44).
ونعلم جميعاً أن هذه الآية جاءت في خاتمتها بألفاظ ثلاثة، فأولئك هم الكافرون، فأولئك هم الظالمون، فأولئك هم الفاسقون.
فمن جهل الذين يحتجون بهذه الآية في اللفظ الأول منها: {فأولئك هم الكافرون} أنهم لم يلموا على الأقل ببعض النصوص التي جاء فيها ذكر لفظة الكفر، فأخذوا لفظة الكفر في الآية على أنها تعني الخروج من الدين، وأنه لا فرق بين هذا الذي وقع الكفر وبين أولئك المشركين من اليهود والنصارى وأصحاب الملل الأخرى الخارجة عن ملة الإسلام، بينما الكفر في لغة الكتاب والسنة لا تعني هذا الذي هم يدندنون حوله ويسلطون هذا الفهم الخاطئ على كثير من المسلمين وهم بريئون من ذاك التكفير الذي يطبقونه على هؤلاء المسلمين، شأن لفظة التكفير من حيث إنها لا تدل على معنى واحد وهو الردة والخروج عن الملة شأن هذا اللفظ شأن اللفظين الآخرين الذين ذكرا في الآيتين الأخريين الفاسقين والظالمين، فكما أنه ليس كل من وصف بأنه كفر لا يعني أنه ارتد عن دينه، كذلك لا يعني أن كل من وصف بأنه ظالم أو فاسق بأنه مرتد عن دينه.
هذا التنوع في معنى اللفظ الواحد هو الذي يدل عليه اللغة ثم الشرع الذي جاء بلغة العرب، لغة القرآن الكريم كما هو معلوم.
من أجل ذلك كان من الواجب على كل مسلم من يتصدى للحكم بما أمر الله عز وجل، لست أعني الآن الحكام، وإنما أعني أولئك الذين يصدرون الأحكام على المسلمين سواء كانوا حكاماً أو محكومين، كان من الواجب على هؤلاء أن يكونوا على علم بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح والكتاب لا يمكن فهمه وكذلك ما ضم إليه إلا بطريق معرفة اللغة العربية معرفة خاصة، وقد يكون إنسان
ما ليس عنده معرفة قوية أو تامة باللغة العربية فيساعده في استدراك هذا النقص الذي قد يشعر به في نفسه حينما يعود إلى من قبله من العلماء خاصة إذا كانوا من أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، فالرجوع إليهم حينئذ سيكون شاهداً له لاستدراك ما قد يفوته من المعرفة باللغة العربية وآدابها.
نعود الآن إلى هذه الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة:44)، هل الضروري أن يكون هذا اللفظ:{فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} أنه يعني كفراً خروجاً عن الملة، قد يعني هذا، وقد يعني ما دون ذلك، فهنا العبرة في فهم هذه الآية، فهذه الآية الكريمة:(فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) قد تعني: أي: الخارجون عن الملة، وقد تعني أنهم خرجوا عملياً عن بعض ما جاءت به الملة الإسلامية، يساعدنا على ذلك قبل كل شيء ترجمان القرآن ألا وهو عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه؛ لأنه من الصحابة الذين اعترف المسلمون جميعاً إلا من كان من تلك الفرق الضالة على أنه كان إماماً في التفسير ولذلك سماه بعض السلف من الصحابة ولعله هو عبد الله بن مسعود بترجمان القرآن، هذا الإمام في التفسير والصحابي الجليل كأنه طرق سمعه يومئذ ما نسمعه اليوم تماماً أن هناك أناساً يفهمون هذه الآية على ظاهرها دون التفصيل الذي أشرت إليه آنفاً، وهو أنه قد يكون أحياناً المقصود بالكافرين المرتدين عن دينهم، وقد يكون ليس هو المقصود وإنما هو ما دون ذلك، فقال ابن عباس رضي الله عنه:«ليس الأمر كما يفهمون، أو كما يظنون، وإنما هو كفر دون كفر» ، ولعله كان يعني بذلك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين، ثم كان من عواقب ذلك أنهم سفكوا دماء المؤمنين وفعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين، فقال: ليس الأمر كما قالوا أو كما
ظنوا، وإنما هو كفر دون كفر.
هذا الجواب المختصر الواضح من ترجمان القرآن في تفسير هذه الآية هو الذي لا يمكن أن يفهم سواه من النصوص التي ألمحت إليها آنفاً في مطلع كلمتي هذه، أن كلمة الكفر ذكرت في كثير من النصوص، مع ذلك تلك النصوص لا يمكن أن تفسر بهذا التفسير الذي فسروا به الآية، أو لفظ الكفر الذي جاء في تلك النصوص لا يمكن أن يفسر بأنه يساوي الخروج من الملة، فمن ذلك مثلاً الحديث المعروف في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» .
قتاله كفر، عندي هو تفنن في الأسلوب العربي في التعبير؛ لأنه لو قال قائل سباب المسلم وقتاله فسوق يكون كلاماً صحيحاً؛ لأن الفسق هو المعصية وهو الخروج عن الطاعة، لكن الرسول عليه الصلاة السلام باعتباره أفصح من نطق بالضاد، قال:«سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» ترى هل يجوز لنا أن نفسر الفقرة الأولى من هذا الحديث سباب المسلم فسوق بالفسق المذكور في اللفظ الثاني أو الثالث في الآية السابقة: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} ، و «سباب المسلم فسوق» نقول: قد يكون الفسق أيضاً مرادفاً للكفر الذي هو بمعنى الخروج عن الملة، وقد يكون الفسق مرادفاً للكفر الذي لا يعني الخروج عن الملة، وإنما يعني ما قاله ترجمان القرآن إنه كفر دون كفر، وهذا الحديث يؤكد أن الكفر قد يكون بهذا المعنى؛ لأن الله عز وجل ذكر في القرآن الكريم الآية المعروفة:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات:9)، إذاً: قد ذكر هنا ربنا عز وجل الفرقة الباغية التي تقاتل الفرقة الناجية الفرقة المحقة المؤمنة، ومع ذلك
فما حكم عليها بالكفر مع أن الحديث يقول: «وقتاله كفر» .
إذاً: قتاله كفر، أي: دون كفر كما قال ابن عباس في تفسير الآية السابقة.
فقتال المسلم للمسلم بغي واعتداء وفسق وكفر، ولكن هذا يعني أن الكفر قد يكون كفراً عملياً، وقد يكون كفراً اعتقادياً، من هنا جاء التفصيل الدقيق الذي تولى بيانه وشرحه الإمام بحق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعده تلميذه البار ابن القيم الجوزية، حيث أن لهم الفضل في الدندنة حول تقسيم الكفر إلى ذلك التقسيم الذي رفع رايته ترجمان القرآن بتلك الكلمة الجامعة الموجزة، فابن تيمية رحمه الله وتلميذه وصاحبه ابن القيم الجوزية يفرقون أو يدندنون دائماً بضرورة التفريق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي، وإلا وقع المسلم من حيث لا يدري في فتنة الخروج عن جماعة المسلمين التي وقع فيها الخوارج قديماً، وبعض أذنابهم حديثاً.
فإذاً: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وقتاله كفر» لا يعني الخروج عن الملة، وأحاديث كثيرة وكثيرة جداً لو جمعها المتتبع لخرج منها برسالة نافعة في الحقيقة فيها حجة دامغة لأولئك الذين يقفون عند الآية السابقة ويلتزمون فقط تفسيرها بالكفر الاعتقادي، بينما هناك النصوص الكثيرة والكثيرة جداً التي فيها لفظة الكفر ولا يعنى أنها تعني الخروج عن الملة، فحسبنا الآن هذا الحديث؛ لأنه دليل قاطع على أن قتال المسلم لأخيه المسلم هو كفر بمعنى الكفر العملي وليس الكفر الاعتقادي، فإذا عدنا إلى جماعة التكفير وإطلاقهم الكفر على الحكام، وعلى من يعيشون تحت رايتهم وبالأولى الذين يعيشون تحت إمرتهم وتوظيفهم، فوجهة نظرهم هي الرجوع إلى أن هؤلاء ارتكبوا المعاصي فكفروا بذلك.
من جملة الأمور التي يذكرني بها سؤال الأخ إبراهيم السائل آنفاً الذي سمعته من بعض أولئك الذين كانوا من جماعة التكفير ثم هداهم الله عز وجل، قلنا لهم: ها أنتم كفرتم بعض الحكام، فما بالكم تكفرون مثلاً أئمة المساجد، خطباء المساجد، مؤذني المساجد، خدمة المساجد، ما بالكم تكفرون أساتذة العلم الشرعي في المدارس الثانوية مثلاً أو الجامعات؟ قال: الجواب لأن هؤلاء رضوا بحكم هؤلاء الحكام الذين يحكمون بما أنزل الله.
يا جماعة هذا الرضا إن كان رضاً قلبيا بالحكم بغير ما أنزل الله، حينئذ ينقلب الكفر العملي إلى كفر اعتقادي، فأي حاكم يحكم بغير ما أنزل الله وهو يرى أن هذا الحكم هو الحكم اللائق بتبنيه في هذا العصر وأنه لا يليق تبني الحكم الشرعي المنصوص في الكتاب والسنة، لا شك أن هذا يكون كفره كفراً اعتقادياً، وليس كفراً عملياً، ومن رضي بمثل هذا الحكم أيضاً فيلحق به، فأنتم أولاً لا تستطيعون أن تحكموا على كل حاكم يحكم ببعض القوانين الغربية الكافرة أو بكثير منها أنه لو سئل لأجاب بأن الحكم بهذه القوانين هو اللازم في العصر الحاضر، وأنه لا يجوز الحكم بالإسلام، لو سئلوا لا تستطيعون أن تقولوا بأنهم لا يجبيون بأن الحكم بما أنزل الله اليوم لا يليق، وإلا صاروا كفاراً دون شك ولا ريب، فإذا نزلنا إلى المحكومين وفيهم العلماء وفيهم الصالحون .. وإلى آخره، كيف أنتم مجرد أن ترونهم يعيشون تحت حكم يشملهم كما يشملكم أنتم تماماً، لكنكم تعلنون أنكم كفار، وهؤلاء لا يعلنون أنهم كفار بمعنى المرتدين، لكنهم يقولون إن الحكم بما أنزل الله هو الواجب، وأن مخالفة الحكم الشرعي بمجرد العمل هذا لا يستلزم الحكم على هذا العالم بأنه مرتد عن دينه.
من جملة المناقشات التي توضح خطأهم وضلالهم قلنا لهم: متى يحكم على المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقد يصلي كثيراً أو قليلاً، متى بحكم بأنه ارتد عن دينه، يكفي مرة واحدة أو يجب أن يعلن سواء بلسان حاله أو بلسان قاله إنه مرتد عن الدين، كانوا كما يقال لا يحيلون جواباً، لا .. جواب.
فاضطر إلى أن أضرب لهم المثل التالي، أقول: قاض يحكم بالشرع، هكذا عادته ونظامه، لكنه في حكومة واحدة زلت به القدم، فحكم بخلاف الشرع، أي: أعطى الحق للظالم وحرمه المظلوم، هل هذا حكم بغير ما أنزل الله أم لا؟ حكم بغير ما أنزل الله.
هل تقولون بأنه كفر بمعنى الكفر عندهم، كفر ردة؟ قالوا: لا.
قلنا: لم؟ وهو خالف حكم الشرع. قالوا: لأن هذا صدر منه ذلك مرة واحدة. قلنا: حسناً، صدر نفس الحكم مرة ثانية أو حكم آخر لكن خالف فيه الشرع أيضاً؟ فهل كفر؟ أخذت أكرر عليهم ثلاث مرات أربع مرات، متى تقول إنه كفر؟ لا تستطيع أن تضع حداً بتعداد أحكامه التي خالف فيها الشرع، تستطيع العكس تماماً، لأنه في الحكم الأول استحسنه واستقبح الحكم الشرعي أن تحكم عليه بالردة، وعلى العكس من ذلك: لو رأيت منه عشرات الحكومات في قضايا متعددة خالف فيها الشرع، لكن قلت له يا شيخ: أنت حكمت بغير ما أنزل الله عز وجل، فلم ذلك؟ والله خفت خشيت على نفسي، أو ارتشيت مثلاً وهذا أسوأ من الأول بكثير .. إلى آخره، مع ذلك لا تستطيع أن تقول بكفره حتى يعرب عن كفره المضمور في قلبه أنه لا يرى الحكم بما أنزل الله عز وجل، حينئذ تستطيع أن تقول
بأنه كافر كفر ردة.
إذاً: وخلاصة الكلام الآن أنه لا بد من معرفة أن الكفر كالفسق والظلم ينقسم إلى قسمين: كفر ظلم فسق يخرج عن الملة، وكل ذلك يعود للاستحلال القلبي، وخلاف ذلك يعود إلى الاستحلال العملي، وبخاصة ما فشى في هذا الزمان من استحلال الربا وكل هذا كفر عملي، فلا يجوز لنا أن نكفر هؤلاء بمجرد ارتكابهم معصية واستحلالهم إياها عملياً إلا إذا صدر منهم أو بدا لنا منهم ما يكشف لنا عما في قرارة نفوسهم أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله عقيدة، فإذا عرفنا أنهم وقعوا في هذه المخالفة القلبية حكمنا حينئذ بأنهم كفروا كفر ردة، أما إذا لم نعلم ذلك فلا سبيل لنا إلى الحكم بكفرهم؛ لأننا نخشى أن نقع في وعيد قوله عليه الصلاة والسلام:«من كفر مسلماً فقد باء به أحدهما» والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة وكثيرة جداً.
نذكر بهذه المناسبة بقصة ذلك الصحابي الذي بارز مشركاً فلما رأى المشرك أنه صار تحت ضربة سيف المسلم الصحابي قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فما بالاها الصحابي وقتله، فلما بلغ خبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنكر عليه ذلك أشد الإنكار كما تعلمون، فاعتذر الرجل بأنه ما قالها إلا خوفاً من القتل، فكون جوابه صلى الله عليه وآله وسلم:«هلا شققت عن قلبه» (1).
إذاً: الكفر الاعتقادي ليس له علاقة بالعمل، ونحن لا نستطيع أن نعلم ما في قلب الكافر الفاجر السارق الزاني المرابي إلى آخره إلا إذا عبر عما في قلبه بلسانه، أما عمله فعمله ينبئ أنه خالف الشرع مخالفة عملية، فنحن نقول إنك
(1)"تحقيق الإيمان" لابن تيمية (ص89).
خالفت وإنك فسقت وفجرت، لكن ما نقول إنك كفرت وارتددت عن دينك، حتى يظهر منه شيء يكون لنا عذر عند الله عز وجل أن نحكم بردته وبالتالي يأتي الحكم المعروف في الإسلام ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام:«من بدل دينه فاقتلوه» (1).
ثم كنت ولا أزال أقول لهؤلاء الذين يدندنون حول تكفير حكام المسلمين، هبوا يا جماعة أن هؤلاء فعلاً كفار كفر ردة، وأنهم لو كان هناك حاكم أعلى عليهم واكتشف منهم أن كفرهم كفر ردة، لوجب على ذلك الحاكم أن يطبق فيهم الحديث السابق:«من بدل دينه فاقتلوه» .
الآن ماذا تستفيدون أنتم من الناحية العملية إذا سلمنا جدلاً أن كل هؤلاء الحكام هم كفار كفر ردة، ماذا يمكنكم أن تعملوا، هؤلاء الكفار احتلوا كثيراً من بلاد الإسلام ونحن هنا مع الأسف ابتلينا باحتلال اليهود لفلسطين، فماذا أنتم ولا نحن نستطيع أن نعمل مع هؤلاء حتى تستطيعوا أنتم أن تعملوا مع الحكام الذين تظنون أنهم من الكفار، هلا تركتم هذه الناحية جانباً، وبدأتم بتأسيس وبوضع القاعدة التي على أساسها تقوم قائمة الحكومة المسلمة، وذلك باتباع سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي ربى أصحابه عليها ونشأهم على نظامها وأساسها، وذلك ما نحن نعبر عنه في كثير من مثل هذه المناسبة بأنه لا بد لكل جماعة مسلمة تعمل بحق لإعادة حكم الإسلام ليس فقط على أرض الإسلام، بل على الأرض كلها تحقيقاً لقوله تبارك وتعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة:33).
(1)"البخاري"(رقم2854).
وقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة أن هذه الآية ستحقق فيما بعد، فلكي يتمكن المسلمون من تحقيق هذا النص القرآن، هل يكون البدء بإعلان الثورة على هؤلاء الحكام الذين يظنون فيهم أن كفرهم كفر ردة، ثم مع ظنهم وهو ظن خطأ لا يستطيعون أن يعملوا شيئاً.
إذاً: لتحقيق هذا النبأ القرآني الحق: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة:33) ما هو المنهج؟ ما هو الطريق؟ لا شك أن الطريق هو ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدندن ويذكر أصحابه في كل خطبة: خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: فعلى المسلمين كافة وبخاصة منهم من يهتم لإعادة الحكم بالإسلام على الأرض الإسلامية بل الأرض كلها، أن يبدأ من حيث بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما نكني نحن عنه بكلمتين خفيفتين: التصفية والتربية؛ ذلك لأننا نحن نعلم حقيقة يغفل عنها أو يتغافل عنها بالأصح؛ لأنه لا يمكن الغفلة عنها، يتغافل عنها أولئك الغلاة الذين ليس لهم هم إلا إعلان تكفير الحكام، ثم لا شيء، وسيظلون كما ظلت جماعة من قبلهم يدعون إلى إقامة حكم الإسلام على الأرض، لكن دون أن يتخذوا لذلك الأسباب المشروعة، فيظلون يعلنون تكفير الحكام، ثم لا يصدر منهم إلا .. ، والواقع في هذه السنوات الأخيرة التي تعلمونها بدءاً من فتنة الحرم المكي، ثم فتنة مصر وقتل السادات وذهاب دماء كثير من المسلمين الأبرياء بسبب هذه الفتنة، ثم أخيراً في سوريا، ثم الآن في الجزائر مع الأسف .. إلى آخره. كل هذا سببه أنهم خالفوا نصوصاً من الكتاب والسنة، من أهمها:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (الأحزاب:21).
إذاً: إذا نحن أردنا أن نقيم حكم الله عز وجل في الأرض، هل نبدأ بقتال الحكام ونحن لا نستطيع أن نقاتلهم، أم نبدأ بما بدأ به الرسول عليه السلام؟!
لا شك أن الجواب: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب:21)، بماذا بدأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، تعلمون بأنه بدأ بالدعوة بين بعض الأفراد الذين كان يظن فيهم أنهم عندهم استعداد لتقبل الحق، ثم استجاب له من استجاب كما هو معروف في السيرة النبوية، ثم الضعف والشدة التي أصابت المسلمين في مكة، ثم الأمر بالهجرة الأولى والثانية .. إلى آخر ما هنالك، حتى وطد الله عز وجل الإسلام في المدينة المنورة، وبدأت هناك المناوشات، وبدأ القتال بين المسلمين وبين الكفار من جهة ثم اليهود من جهة أخرى .. وهكذا.
إذاً: لا بد أن نبدأ نحن بالتعليم كما بدأ به الرسول عليه السلام، لكن نحن لا نقول الآن بالتعليم، أي: لا نقتصر فقط على كلمة تعليم الأمة الإسلام؛ لأننا في وضع الآن من حيث أنه دخل في التعليم الإسلامي ما ليس من الإسلام بسبيل إطلاقاً، بل ما به يخرب الإسلام ويقضى على الثمرة التي يمكن الوصول إليها بالإسلام الصحيح، ولذلك فواجب الدعاة الإسلاميين أن يبدؤوا بما ذكرت آنفاً، بتصفية هذا الإسلام، مما دخل فيه من الأشياء التي تفسد الإسلام، ليس فقط في فروعه في أخلاقه، بل وفي عقيدته أيضاً.
والشيء الثاني أن يقترن مع هذه التصفية تربية الشباب المسلم الناشئ على هذا الإسلام المصفى، ونحن إذا درسنا الجماعات الإسلامية القائمة الآن منذ نحو قرابة قرن من الزمان، لوجدنا كثيراً منهم لم يستفيدوا شيئاً رغم صياحهم ورغم زعاقهم أنهم يريدونها حكومة إسلامية، وربما سفكوا دماء أبرياء كثيرة وكثيرة جداً