الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأحاديث في هذا الصدد كثيرة، ولستُ الآن في صدد بيانها؛ لأنها كلمة حول التجمع في المجلس، وعدم التفرق فيه، ولكني قبل أن أنهيها أرى نفسي مضطراً أن أذكِّر بحديث آخر فقط؛ لما فيه من الروعة في اهتمام الرسول صلوات الله وسلامه عليه في إصلاح تعابير الناس وظواهرهم: ألا وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يقولون أحدكم: خبثت نفسي، ولكن لقست» (1) ما معنى لقست؟ في اللغة: يساوي خبثت، لقصت لغة بمعنى: خبثت، لكن كلمة الخبيثة خبيثة، فما أرادها الرسول عليه السلام أن يتلفظ بها المسلم حينما يجد في نفسه شيء من هذه الخباثة، وإنما عدل به عنها إلى لفظة لقست، وهذه اللفظة بطبيعة الحال وأنتم عرب ما تعرفونها، لكن سيد العرب والعجم هو علمكموها، وقال:«لا يقولون أحدكم: خبثت نفسي، ولكن لقست» .
هذا في تأدب المسلم مع نفسه لأنه مسلم، فما بالك في التأدب مع الله ومع نبيه عليه الصلاة والسلام، فبالأحرى أن يتأدب المسلم مع الله ثم مع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يأتي بعبارة قد تمس مقام النبوة أو مقامة الرسالة.
" الهدى والنور"(1/ 28: 51: 00)
[516] باب منه
[قال الإمام]:
[نبينا]صلى الله عليه وآله وسلم خير الدنيا والآخرة، لم يأت فقط لإصلاح القلوب هو جاء لإصلاح القلوب ولا شك كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المعروف الذي أوله «إن الحلال بين والحرام بين
…
» إلى آخره في الأخير قال: «ألا أن في
(1) البخاري (رقم4714) ومسلم (6015).
الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»، أقول: لا شك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء لإصلاح القلوب، ولكنه لم يأت فقط لإصلاح القلوب بل ولإصلاح الظاهر أيضاً، ذلك لأن هذه الظواهر تنبئ عن البواطن، في ذلك يقول العلماء الظاهر عنوان الباطن، ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الآخر الذي يربط فيه العمل وهو ظاهر بالقلب وهو باطن لا يعلم ما في القلوب إلا الله عز وجل فيقول صلى الله عليه وآله وسلم تعبيراً عن هذه الحقيقة:«إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» ، «ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (1)، وبهذه المناسبة أقول من الخطأ الشائع والفاحش أن يقال في بعض المناسبات إن العبرة بما في القلب؛ لا، هذا كلام ناقص، العبرة بما في القلب وما في العمل، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر في الحديث السابق:«ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» ، ولذلك كما جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإصلاح القلوب جاء أيضاً لإصلاح الأعمال، ومما لا شك فيه أنه يدخل في الأعمال [انقطاع]صلى الله عليه وآله وسلم جاء لإصلاح القلوب والأعمال أيضاً بدليل تلك النصوص، ولا شك ولا ريب أن الأقوال من جملة الأعمال وإذا الأمر كذلك؛ فينبغي أن تكون أقوالنا في حد ذاتها صالحة كالعمل، وكما أنه لا يجوز لمسلم أن يأتي بعمل ثم يظهر أن هذا العمل مخالف للشرع فيرقعونه بحجة أن نيته طيبة، هذا ترقيع؛ ذلك لأنه لا يشفع للعمل الطالح النية الصالحة؛ أي: إذا كان العمل مخالفاً للشرع وكانت النية صالحة هذه النية الصالحة لا تقلب العمل الطالح المخالف للشرع إلى عمل صالح، كما أنه على العكس من ذلك تماماً، لو كان العمل صالحاً
(1) مسلم (رقم6708).
وكانت النية فاسدة فهذا العمل الصالح لا يقلب النية الفاسدة فيجعلها صالحة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (1)
المقصود في الهجرة هنا هو الجهاد في سبيل فيقول عليه الصلاة والسلام: «فمن كانت هجرته» أي: جهاده في سبيل الله فهو العمل الصالح، ومن كانت هجرته أي جهاده في أمر مادي كامرأة يصيبها أو دنيا فحينئذ عمله يصبح فاسداً، هكذا الشرع يربط بين وجوب صلاح العمل مع صلاح النية وأن صلاح أحدهما لا يكون مصلحاً لما فسد من الآخر والعكس تماماً بالعكس، وعلى هذا إذا كان لا بد من أن يكون العمل صالحاً مع صلاح القلب، وكانت الأقوال هي من الأعمال فلا بد من أن تكون الأقوال صالحة كالأعمال، فوجود النية أو القصد الصالح كما ذكرنا آنفا لا يجعل العمل الفاسد صالحاً، كذلك وجود النية الصالحة لا يجعل القول الفاسد المخالف للشرع صالحاً، وعندنا نصوص وأحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجلى فيها اهتمامه صلى الله عليه وآله وسلم بإصلاح الألفاظ، كما اهتم بإصلاح الأعمال من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وهذا مبدأ عام وعظيم جداً:«إياك وما يعتذر منه» (2)، «إياك وما يعتذر منه» ، وأوضح من هذا قوله عليه السلام:«لا تكلمن بكلام تعتذر به عند الناس» (3)
هذا هو التأويل، ويزيد الأمر وضوحاً المعالجة الفعلية منه عليه الصلاة والسلام لبعض الأقوال التي صدرت من بعض الأصحاب خطأ فما نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما نظر إلى فساد تلك الأقوال التي ستسمعون بعضها ما نظر إلى صلاح قلوب قائليها
(1) البخاري (رقم1) ومسلم (رقم5036) ..
(2)
صحيح الجامع (رقم3776).
(3)
صحيح الجامع (رقم744) ..
وإنما توجه إلى إصلاح تلك الأقوال؛ لأنه مكلف من رب العالمين أن يصلح الأعمال والأقوال مع القلوب بذلك الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في «مسنده» من حديث عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب يوماً فقام رجل من الصحابة فقال ما شاء الله وشئت يا رسول الله، ما شاء الله وشئت، فقال عليه الصلاة والسلام بشيء من الانزعاج والغضب:«أجعلتني لله نداً؟ قل: ما شاء الله وحده» وفي الرواية الأخرى قل: «ما شاء الله ثم شئت» ، ما أكثر ما نسمع الآن عدم التجاوب من كثير من المسلمين مع هذا التوجيه النبوي الكبير في هذا الحديث؛ ذلك لأن كثيراً من العرب المسلمين عادوا كالعجم المسلمين يعني ما يعرفون لغتهم العربية، ولا يفرقون بين قول القائل: ما شاء الله ثم شئت، وبين قول القائل: ما شاء الله وشئت، ويكاد كثير من الناس حينما يقرؤون هذا الحديث أو يسمعونه لا يفهمون السر في كون الرسول غضب من ذاك الصحابي حينما قال: ما شاء الله وشئت، وعاد الرسول عليه السلام بالإنكار، وأَصَّل له العبارة وقال: قل: ما شاء الله وحده، أو ما شاء الله ثم شئت، والفرق أن الواو في اللغة العربية تفيد الجمع، إذا قال القائل: جاء الملك والوزير، معناه جاؤوا معاً، أما إذا قال القائل جاء الملك ثم الوزير معناه: أن الملك جاء متقدماً، ثم الوزير جاء متأخراً، لهذا السبب أنكر الرسول عليه السلام قول ذلك القائل ما شاء الله وشئت؛ لأنه قرن مشيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجمعها مع مشيئة الله {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} فمشيئة الله هي الغالبة ومشيئة عباده هي من مشيئة الله وبعد مشيئة الله تبارك وتعالى، لو رجعنا إلى ذلك القائل: ما شاء الله وشئت، ودققنا في قوله عليه السلام: أجعلتني لله نداً أي شريكاً، وسألناه: هل أنت تعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ند وشريك مع الله؟ لقال: أعوذ بالله أنا ما آمنت به نبياً ورسولاً إلا فراراً من الإشراك بالله تبارك وتعالى، مع ذلك فقد أنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه تلك اللفظة لأنها
تشعر بخلاف ما يريد المتكلم، وهنا بيت القصيد كما يقال إن هذه الكلمة العاجلة -بيت القصيد- أن المتكلم ذاك لا يريد أن يجعل نبيه شريكاً مع الله في الإرادة والمشيئة، بمعنى: أنه لا يكون شيء في هذا الكون إلا بمشيئة الله ومشيئة رسول الله، حاشا هذا الصحابي بل حاشا أي مسلم أن يعني هذا الشرك الصريح، لكن اللفظ توهم هذا عربيةً.
من هذا أيضاً ما جاء في حديث آخر صحيح وفيه عبرة لمن يعتبر وهو أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء صباح يومٍ إليه فقال: يا رسول الله، رأيت البارحة في المنام بينما وأنا أمشي في طريق من طرق المدينة لقيت رجلاً من اليهود فقلت له في المنام: نعم القوم أنتم معشر يهود لولا أنكم تشركون بالله فتقولون عزير ابن الله فعارضه اليهودي في المنام أيضاً فقال: فنعم القوم أنتم معشر المسلمين لولا أنكم تشركون بالله فتقولون ما شاء الله وشاء محمد، ثم مضى فلقي رجل من النصارى وقال له: نعم القوم أنتم معشر النصارى لولا أنكم تشركون بالله فتقولون عيسى ابن الله فعارضه النصراني مثل ما عارضه اليهودي فقال: ونعم القوم أنتم معشر المسلمين لولا أنكم تشركون بالله، فتقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فقال عليه السلام لهذا الرجل الرائي تلك الرؤيا في المنام: هل قصصت رُؤياك على أحد؟ قال: فوقف عليه السلام خطيباً لأصحابه وقال ما معناه: «طالما كنت أسمع أحدكم يقول ما شاء الله وشاء محمد فأستحي منكم» ، يعني يصعب عليه إنه يكشف عن خطأ هذه الكلمة لعلمه بحسن نواياهم لكن الآن جاء وقت البيان: «لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ليقل ما شاء الله وحده" هذا الحديث والذي قبله والذي قبله وقبله كل ذلك لإصلاح الألفاظ ولا
يغتر إنسان بقوله والله أنا نيتي طيبة، يا أخي بارك الله في نيتك الطيبة، لكن ألا تريد
أن يبارك الله في قولك الطيب أيضاً لازم يلتزم القول الصالح كما قلنا مع العمل الصالح.
لقد وصلت عناية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيه المسلمين إلى إحسان الكلام والتلفظ به إلى أمر عجيب جداً يغفل عنه جماهير المسلمين ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن لقست» شو معنى لقست: خبثت، لغةً المعنى واحد، «لا يقولن أحدكم خبثت نفسي لكن ليقل لقست"، والمعنى واحد، لكن اللفظ الخبيث خبيث في عرف الناس، ولذلك قد يقال بلفظة تؤدي نفس المعنى ولكن تكون اللفظة في ذاتها ألطف لفظاً وعرفاً.
مثاله من واقع الناس بدل ما يقول الرجل: زوجتي قالت لي كذا، امرأتي قالت لي كذا، يقول قالوا لي في البيت، المعنى واحد لكن بدل ما يذكر زوجته أمام رجل غريب، ويخلي الذهن يشتغل بهذه اللفظة، يبتعد في اللفظ ويقرب في التعبير والمعنى، فيقول قالوا في البيت؛ هذا مثال يقرب كل ما سبق الكلام عليه آنفاً.
الشاهد من هذا الحديث الأخير المسلم كما جاء في باب الأحاديث كالسنبلة تأتي الرياح فتميل بها يميناً ويساراً وأحياناً تستقيم، هذا الميل هو كناية عن الميل مع الأهواء والشهوات، فهنا يشعر الإنسان في هذا الميل بأنه نفسه أصابها شيء من الخباثة فهو يريد أن يعبر عنها فلا يقول ولا يكون التعبير باللفظ خبثت ولكن بلفظ لقست.
إذا كان هذا شأن الإسلام في توجيه ألفاظ أتباعه حتى فيما يتعلق بنفوسهم الخبيثة؛ فكيف يجوز للمسلم أن يأتي بلفظة تتعلق بدينه بنبيه بربه أولى وأولى ألا يكون هذا جائزاً، قلنا آنفاً: إنه عليه السلام كما جاء لإصلاح القلوب والأعمال،
فأيضاً جاء لإصلاح الأقوال، وأن النية الصالحة لا تغني عن هذه الأمور الأخرى وهي الأعمال والأقوال الفاسدة.
كثير من الناس مثلاً نراهم يأتون إلى بعض القبور منسوبة لأنبياء أو صالحين فيدعون عندها وقد يصلون إليها مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذلك أشد النهي، فقال:«اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وقال:«لا تجلسوا على القبور» " لما فيه من إهانتها وهذا إكرام من الرسول للميت وهو في قبره لكنه بالمقابل أيضاً قال: «ولا تصلوا إليها"؛ لأنه في الصلاة إليها تعظيم لها أكثر مما يجوز شرعاً، فنجد بعض الناس يفعلون هذه الأمور المخالفة للشريعة نجد في المقابل ناس ينكرونها ولكننا مع الأسف لا نعدم من يقول اتركه يا أخي هذا نيته طيبة، نيته طيبة، إذاً هذا الذي يقول هذا الكلام؛ هذه الأحاديث كأنه ما قرأها ولا سمعها أو أنه قرأها وسمعها ثم مر عنها كما يقال مر الكرام، وإلا كيف يعتمد على هذه الكلمة: دعه نيته طيبة، وهو يراه يخالف الشرع، وقد ذكرنا آنفا أن ذاك الصحابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:«ما شاء الله وشئت» ، ما قصد أن يجعله شريكاً، مع ذلك أصلح له لفظه.
فمن المخالفة للشرع أن ندع الناس يخالفون الشرع بدعوى أن قلوبهم صالحة علماً أننا لا نستطيع أن نكشف عما في القلوب، هل هي حقيقةً صالحة، هل هي حقيقةً صالحة أم طالحة، هذه علمها عند ربي فإذا ما ربطنا آنفا بين قوله عليه السلام:«ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله» حينئذ نستطيع أن نجعل عمل المسلم دلَّ على ما في قلبه؛ ذلك لأن الظاهر مرتبط مع الباطن وقد أكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحقيقة حينما كان يأمر أصحابه حينما ينهضون لعبادة الله وحده لا شريك له كان يقول لهم: «لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين
وجوهكم» فإذاً الإخلال العملي بتسوية الصفوف يؤدي إلى الإخلال في إصلاح القلوب، ولذلك تعجبني كلمة يقولها بعض أهل العلم رداً على بعض من ينتمون إلى التصوف بحق أو بباطل، يقول هؤلاء العلماء رداً عليهم: الظاهر عنوان الباطن، الظاهر عنوان الباطن لهذا يجب على المسلمين أقول في ختام هذه الكلمة يجب على المسلمين أنهم قبل أن يتكلموا أن يزنوا كلمتهم فقد ابتدأنا هذا الكلام بقوله عليه السلام:«لا تكلمن بكلام تعتذر به عند الناس» ، ما لازم تحكي كلام بعدين تندم عليه، وتضطر ماذا إلى تأويله، لا فكر ثم قل، لذلك جاء في بعض الآثار:«عقل المؤمن قبل كلامه، وكلامه وراء عقله، وعقل المنافق بعد الكلام» يتكلم ثم يفكر، المسلم ليس كذلك؛ يفكر ثم يتكلم.
"الهدى والنور"(534/ 52: 00: 00)