الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[602] باب حديثُ الشفاعة
وأنَّها تشملُ تاركي الصلاةِ منَ المسلمين
[قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم]:
«إذا خَلصَ المؤمنونَ من النار وأَمِنُوا؛ فـ[والذي نفسي بيده!] ما مُجَادَلَةُ أحَدِكُم لصاحبِهِ في الحقِّ يكون له في الدنيا بأشدِّ من مجادلة المؤمنين لربِّهم في إخوانِهِمُ الذين أُدْخِلُوا النار. قال: يقولون: ربَّنا:! إخوانُنَا كانوا يصلُّون معنا؛ ويصومون، معنا؛ ويحُجُّون معنا؛ [ويُجاهدون معنا]؛ فأدخلتَهم النار. قال: فيقولُ: اذهَبُوا فأخرِجُوا من عَرَفْتُم منهم؛ فيأتُونهم؛ فَيَعْرفونَهُم بِصُورِهم؛ لا تأكلُ النار صُوَرَهُم؛ [لم تَغْشَ الوَجْهَ]؛ فَمِنْهم من أَخَذتْهُ النارُ إلى أنصافِ ساقَيْهِ؛ ومنهم من أخذته إلى كَعْبَيْه (1)[فَيُخرِجُونَ مِنْها بشراً كثيراً]؛ فيقولون: ربَّنا! قد أَخْرَجنا مَنْ أَمَرتنا. قال: ثم [يَعُودون فيتكلمون فـ] يقولُ: أَخْرِجُوا من كان في قلبهِ مِثقالُ دينارٍ من الإيمانِ. [فيُخرِجُون خلقاً كثيراً]، ثم [يقولون: ربَّنا! لم نَذَرْ فيها أحداً ممن أَمَرتَنا. ثم يقول: ارجعوا، فـ] من كان في قلبه وزنُ نصف دينارٍ [فأًخْرِجُوهُ. فيُخرِجونَ خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربَّنا! لم نَذَرْ فيها ممن أمرتنا
…
]؛ حتى يقول: أخرِجُوا من كان في قلبه مثقال ذَرَّةٍ. [فيخرجون خلقاً كثيراً]، قال أبو سعيد: فمن لم يُصّدِّقْ بهذا الحديث فليَقْرَأْ هذه الآية: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء:40)؛ قال: فيقولون: ربنا! قد أَخْرَجْنا
(1) الأصل: " كفيه" وعلى الهامش: "في "مسلم": ركبتيه". قلت: والتصويب من "المسند"، و"النسائي"، وابن ماجة ".وفي "البخاري":"قدميه " وفي رواية مسلم سويد بن سعيد؛ وهو متكلم فيه. [منه].
من أمرتنا؛ فلم يَبْقَ في النار أحدٌ فيه خيرٌ. قال: ثم يقول الله: شفعَتِ الملائكة؛ وشَفَعَتِ الأنبياء؛ وشَفَعَ المؤمنون؛ وبَقِيَ أرحم الراحمين قال: فَيَقْبضُ قبضةً من النار- أو قال: قَبْضَتَينِ - ناساً لم يعملوا خيراً قَطُّ؛ قد احتَرَقُوا حتى صاروا حُمَماً. قال: فَيُؤْتَى بهم إلى ماء يُقالُ له: (الحياةُ)؛ فَيُصَبُّ عليهم؛ فَيَنْبُتُونَ كما تَنْبُتُ الحبَّةُ في حَمِيلِ السَّيلِ؛ [قد رَأَيْتُمُوها إلى جانب الصخرة؛ وإلى جانب الشجرة؛ فما كان إلى الشمس منها كان أخضر؛ وما كان منها إلى الظلِّ كان أبيض]؛ قال: فَيَخْرُجُونَ من أجسادِهِم مِثلَ اللؤلؤِ؛ وفي أعناقهم الخاتمُ؛ (وفي رواية: الخواتِمُ): عُتَقاءُ الله. قال: فيُقالُ لَهُمُ: ادخلوا الجنة؛ فما تمنَّيتمُ وَرَأيتُم من شيءٍ فهو لكُم [ومِثلُهُ مَعَهُ]. [فيقول أهل الجنة: هؤلاء عُتقاءُ الرحمن أَدْخَلَهُمُ الجنة بغيرِ عملٍ عَمِلُوهُ؛ ولا خيرٍ َقدَّمُوهُ]. قال: فيقولون: ربَّنا! أَعَطَيْتَنا ما لم تُعطِ أحداً من العالمين. قال: فيقول: فإن لكم عندي أفْضَلَ منه. فيقولون: ربَّنا! وما أَفْضَلُ من ذلكَ؟ [قال:] فيقولُ: رِضائي عَنْكُم؛ فلا أَسْخَطُ عليكم أبداً».
[قال الإمام]:
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف "(11/ 409 - 411): أخبرنا معمر عن زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
…
فذكره.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (3/ 94)، والنسائي (2/ 270)، وابن ماجة (رقم 60)، والترمذي (2598) - مختصراً-، وابن خزيمة في " التوحيد " (ص 184و201و212)؛ وابن نصر المروزي في (تعظيم قدرالصلاة رقم:276) وتابعه محمد بن ثور عن معمر به؛ لم يسق لفظه؛ وإنما قال: بنحوه. يعني: حديث هشام بن سعد الآتي تخريجه.
أخرجه أبو عوانة.
وتابعه سعيد بن هلال عن زيد بن أسلم به أتم منه؛ وأوله: " هل تضارُّون
في رؤية الشمس والقمر .. " الحديث بطوله. أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (1/ 114 - 117)، وابن خزيمة أيضاً (ص201) وابن حبان (333 - الإحسان).
وحفص بن ميسرة عن زيد: أخرجه مسلم (1/ 114 - 117)، وكذا البخاري (4581)؛ لكنه لم يسقه بتمامه؛ وكذا أبو عوانة (1/ 168 - 169). وهشام بن سعد عنه: أخرجه أبو عوانة (1/ 181 - 183) بتمامه؛ وابن خزيمة (ص200)؛ والحاكم (4/ 582 - 584) وصححه، وكذا مسلم (1/ 117)؛ إلا أنه لم يسق لفظه، وإنما أحال به على لفظ حديث حفص بن ميسرة نحوه. وتابع عطاء (1): سليمان بن عمرو بن عبيد العتواري- أحد بني ليث، وكان في حجر أبي سعيد- قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول
…
فذكره نحوه مختصراً، وفيه الزيادة الثالثة.
أخرجه أحمد (3/ 11 - 12)، وابن خزيمة (ص 211)، وابن أبي شيبة في "المصنف "(13/ 176/16039)، وعنه ابن ماجه (4280)، وابن جرير في "التفسير"(16/ 85)، ويحيى بن صاعد في "زوائد الزهد"(ص 448/ 1268)، والحا كم (4/ 585) وقال:"صحيح الإسناد على شرط مسلم "! وبيض له الذهبي، وإنما هو حسن فقط؛ لأن فيه محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث.
أقول- بعد تخريج الحديث هذا التخريج الذي قد لا تراه في مكان آخر،
(1) ووقع في رسالتي، حكم تارك الصلاة" (ص 31 - المطبوعة):"وتابع زيداً" وهو سهو وسبقُ قَلَم. [منه].
وبيان أنه متفق عليه بين الشيخين وغيرهما من أهل" الصحاح " و" السنن" و" المسانيد"-:فيه فوائد جمة عظيمة؛ منها شفاعة المؤمنين الصالحين في إخوانهم المصلين الذين أدخلوا النار بذنوبهم، ثم في غيرهم ممن هم دونهم على اختلاف قوة إيمانهم. ثم يتفضل الله تبارك وتعالى على من بقي في النار من المؤمنين، فيخرجهم من النار بغير عمل عملوه؛ ولا خير قدموه. ولقد توهم بعضهم أن المراد بالخير المنفي تجويز إخراج غير الموحدين من النار! قال الحافظ في "الفتح" (13/ 429):
«ورد ذلك بأن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين؛ كما
تدل عليه بقية الأحاديث».
قلت: منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أنس الطويل في الشفاعة أيضاً: «فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب! ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله. فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله» .
متفق عليه، وهو مخرج في "ظلال الجنة" (2/ 296/ رقم: 828). وفي طريق أخرى عن أنس رضي الله عنه: « .. وفرغ الله من حساب الناس، وأدخل من بقي من أمتي النار، فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله عز وجل لا تشركون بالله شيئاً؟ فيقول الجبار عز وجل: فبعزتي لأعتقنهم من النار. فيرسل إليهم فيخرجون وقد امتحشوا، فيدخلون في نهر الحياة، فينبتون .. » الحديث.
أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح، وهو مخرج في "الظلال " تحت الحديث (844)، وله فيه شواهد (842 - 843)، وفي "الفتح "(11/ 455) شواهد
أخرى. وفي الحديث رد على استنباط ابن أبي جمرة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيه: "لم تغش الوجه "، ونحوه الحديث الآتي بعده:"إلا دارات الوجوه ": أن من كان مسلماً ولكنه كان لايصلي لايخرج؛ إذ لا علامة له! ولذلك تعقبه الحافظ بقوله (11/ 457): " لكن يحمل على أنه يخرج في القبضة؛ لعموم قوله: " لم يعملوا خيراً قط "؛ وهو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي في (التوحيد) "، يعني هذا.
وقد فات الحافظ رحمه الله أن في الحديث نَفْسِهِ تعقباً على ابن أبي جمرة من وجه آخر؛ وهو أن المؤمنين كما شفعهم الله في إخوانهم المصلين والصائمين وغيرهم في المرة الأولى، فأخرجوهم من النار بالعلامة، فلما شُفِّعوا في المرات الأخرى، وأخرجوا بشراً كثيراً؛ لم يكن فيهم مصلون بداهة، وإنما فيهم من الخير كل حسب إيمانه. وهذا ظاهر جداً لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى.
وعلى ذلك؛ فالحديث دليل قاطع على أن تارك الصلاة- إذا مات مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله- لا يخلد في النار مع المشركين، ففيه دليل قوي جداً أنه داخل تحت مشيئة الله تعالى في قوله:{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (النساء:48)، وقد روى الإمام أحمد في "مسنده " (6/ 240) حديثاً صريحاً في هذا من رواية عائشة رضي الله عنها مرفوعاً بلفظ:«الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة .. » الحديث، وفيه: «فأما الديوان الذي لا يغفره الله؛ فالشرك بالله، قال الله عز وجل:{مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} (المائدة:72).
وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً؛ فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه؛ من صوم يوم تركه؛ أو صلاة تركها؛ فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء .. " الحديث. وقد صححه الحاكم (4/ 576)، وهذا وإن كان غير مُسَلْمٍ عندي - لما بينته في "تخريج شرح الطحاوية" (رقم: 384) -؛ فإنه يشهد له هذا الحديث
الصحيح: حديث الترجمة. فتنبه.
إذا عرفت ما سلف يا أخي المسلم! فإن عجبي حقاً لا يكاد ينتهي من إغفال جماهير المؤلفين الذين توسعوا في الكتابة في هذه المسألة الهامة؛ ألا وهي: هل يكفر تارك الصلاة كسلاً أم لا؟ لقد غفلوا جميعاً- فيما اطلعت- عن إيراد هذا الحديث الصحيح مع اتفاق الشيخين وغيرهما على صحته، لم يذكره من هو حجة له، ولم يجب عنه من هو حجة عليه، وبخاصة منهم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فإنه مع توسعه في سوق أدلة المختلفين في كتابه القيم:"الصلاة"، وجواب كل منهم عن أدلة مخالفه؛ فإنه لم يذكر هذا الحديث في أدلة المانعين من التكفير؛ إلا مختصراً اختصاراً مخلاً لا يظهر دلالته الصريحة على أن الشفاعة تشمل تارك الصلاة أيضاً، فقد قال رحمه الله:"وفي حديث الشفاعة: "يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله ". وفيه: "فيخرج من النار من لم يعمل خيراً قط
…
".
قلت: وهذا السياق ملفق من حديثين؛ فالشطر الأول هو في آخر حديث أنس المتفق عليه؛ وقد سبق أن ذكرت (ص 131) الطرف الأخير منه؛ والشطر الآخر هو في حديث الترجمة: " فيقبض قبضة من النار ناساً لم يعملوا لله خيراً قط
…
".
وأما أن اختصاره اختصار مخل؛ فهو واضح جداً إذا تذكرت أيها القارئ الكريم ما سبق أن استدركته على الحافظ (ص132) متمماً به تعقيبه على ابن أبي جمرة؛ مما يدل على أن شفاعة المؤمنين كانت لغير المصلين في المرة الثانية وما بعدها؛ وأنهم أخرجوهم من النار؛ فهذا نص قاطع في المسألة؛ ينبغي أن يزول به النزاع في هذه المسألة بين أهل العلم الذين تجمعهم العقيدة الواحدة؛ التي منها: عدم تكفير أهل الكبائر من الأمة المحمدية؛ وبخاصة في هذا الزمان الذي توسع
فيهم بعض المنتمين إلى العلم في تكفير المسلمين؛ لإهمالهم القيام بما يجب عليهم عمله مع سلامة عقيدتهم؛ خلافاً للكفار الذين لا يصلون تديناً وعقيدة؛ والله سبحانه وتعالى يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون} (القلم:35، 36)؟! لما تقدم كنت أحب لابن القيم رحمه الله أن لا يغفل ذكر هذا الحديث الصحيح كدليل صريح للمانعين من التكفير؛ وأن يجيب عنه إن كان لديه جواب؛ وبذلك يكون قد أعطى البحث والإنصاف للفريقين دون تحيز لفئة.
نعم؛ إنه لممّا يجب علي أن أنوه به أنه عقد فصلاً خاصاً " في الحكم بين الفريقين؛ وفصل الخطاب بين الطائفتين "؛ يساعد الباحث على تفهم نصوص الفريقين؛ فهماً صحيحاً؛ فإنه حقق فيه تحقيقاً رائعاً ما هو مسلم به عند العلماء؛ أنه ليس كل كفر يقع فيه المسلم يخرج به من الملة. فمن المفيد أن أقدم إلى القارىء فقرات أو خلاصات من كلامه تدل على مرامه؛ ثم أعقب عليه بما يلزم مما يلتقي مع هذا الحديث الصحيح؛ ويؤيد المذهب الرجيح.
لقد أفاد رحمه الله أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود واعتقاد.
وأن كفر العمل ينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وإلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه؛ يضاد الإيمان. وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة؛ فهو من الكفر العملي قطعاً.
(قلت: قد يكون ذلك من الكفر الاعتقادي أحياناً، وذلك إذا اقترن به ما يدل على فساد عقيدته؛ كاستهزائه بالصلاة والمصلين، وكإيثاره القتل على أن يصلي إذا دعاه الحاكم إليها، كما سيأتي، فتذكر هذا؛ فإنه مهم. ثم قال:) ولا يمكن أن يُنفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه؛ ولكن هو كفر عمل لا كفر اعتقاد.
وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان عن الزاني، والسارق، وشارب الخمر، وعمن لا يأمن جاره بوائقه، وإذا نفى عنه اسم الإيمان؛ فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد.
(قلت: لكني أرى أنه لا يصح أن يطلق على أمثال هؤلاء لفظة الكفر؛ فيقال مثلاً: من زنى فقد كفر، فضلاً عن أنه لا يجوز أن يقال: فهو كافر، حتى على تارك الصلاة وعلى غيره ممن وصف في الحديث بالكفر، وقوفاً مع النص- ودفعاً لإيهام الوصف بالكفر الاعتقادي-، ومن باب أولى أن لا يقال: كافر حلال الدم! قال بعد أن ذكر الحديث الصحيح: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"): ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية؛ كما لا يخرج الزاني والشارب من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان.
وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام والكفر ولوازمهما.
ثم ذكر الأثر المعروف عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} (المائدة:44): ليس بالكفر الذي تذهبون إليه.
(قلت: زاد الحاكم: إنه ليس كفراً ينقل عن الملة، كفر دون كفر. وصححه هو (2/ 313) والذهبي. وهذا قاصمة ظهر جماعة التكفير وأمثالهم من الغلاة. ثم قال ابن القيم رحمه الله: والمقصود أن سلب الإيمان عن تارك الصلاة أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر، وسلب اسم الإسلام عنه أولى من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، فلا يسمى تارك الصلاة مسلماً ولا مؤمناً؛ وإن كان معه
شعبة من شعب الإسلام والإيمان.
(قلت: نفي التسمية المذكورة عن تارك الصلاة فيه نظر؛ فقد سمى الله تعالى الفئة الباغية بالمؤمنة في الآية المعروفة: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
…
} (الحجرات:9) مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتقدم: «وقتاله كفر» ، فكما لم يلزم من وصف المسلم الباغي بالكفر نفي اسم المؤمن عنه فضلاً عن اسم المسلم، فكذلك تارك الصلاة؛ إلا إن كان يقصد بذلك أنه مسلم كامل، وذلك بعيد. قال): نعم، يبقى أن يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار؟ فيقال: ينفعه إن لم يكن المتروك شرطاً في صحة الباقي واعتباره، وإن كان المتروك شرطاً في اعتبار الباقي لم ينفعه.
فهل الصلاة شرط لصحة الإيمان؟ هذا سر المسألة. (قلت: ثم أشار إلى الأدلة التي كان ذكرها للفريق الأول المكفر، ثم قال:) وهي تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة.
(فأقول: يبدو لي جلياً أن ابن القيم رحمه الله بعد بحثه القيم في التفريق بين الكفر العملي والكفر الاعتقادي، وأن المسلم لا يخرج من الملة بكفر عملي؛ لم يستطع أن يحكم للفريق المكفر بترك الصلاة؛ مع الأدلة الكثيرة التي ساقها لهم؛ لأنها كلها لا تدل إلا على الكفر العملي. ولذلك لجأ أخيراً إلى أن يتساءل: هل ينفعه إيمانه؟ وهل الصلاة شرط لصحة الإيمان؟
وإن كل من تأمل في جوابه على هذا التساؤل يلاحظ أنه حاد عنه إلى القول بأن الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بالصلاة، فأين الجواب عن كون الصلاة شرطاً لصحة الإيمان؟ أي: ليس فقط شرط كمال؛ فإن الأعمال الصالحة كلها شرط
كمال عند أهل السنة؛ خلافاً للخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار؛ مع تصريح الخوارج بتكفيرهم، فلو قال قائل بأن الصلاة شرط لصحة الإيمان، وأن تاركها مخلد في النار؛ فقد التقى مع الخوارج في بعض قولهم هذا، وأخطر من ذلك أنه خالف حديث الشفاعة هذا كما تقدم بيانه.
ولعل ابن القيم رحمه الله بحيدته عن ذاك الجواب أراد أن يشعر القارئ بأهمية الصلاة في الإسلام من جهة؛ وأنه لا دليل على أنها شرط لصحة الإيمان من جهة أخرى.
وعليه؛ فتارك الصلاة كسلاً لا يكفر عنده إلا إذا اقترن مع تركه إياها ما يدل على أن كفره كفر اعتقادي، فهو في هذه الحالة فقط يكفر كفراً يخرج به من الملة؛ كما تقدمت الإشارة بذلك مني. وهو ما يشعر به كلام ابن القيم في آخر هذا الفصل)؛ فإنه قال:"ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ، وهو يرى بارقة السيف على رأسه، ويشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك؟ فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبداً! " ..
قلت: وعلى مثل هذا المصر على الترك والامتناع عن الصلاة- مع تهديد الحاكم له بالقتل- يجب أن تحمل كل أدلة الفريق المكفر للتارك، وبذلك تجتمع أدلتهم مع أدلة المخالفين؛ ويلتقون على كلمة سواء: أن مجرد الترك لا يكفر؛ لأنه كفر عملي لا اعتقادي؛ كما تقدم عن ابن القيم، وهذا ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أعني أنه حمل تلك الأدلة هذا الحمل-، فقال في "مجموع الفتاوى"(22/ 48) - وقد سئل عن تارك الصلاة من غير عذر هل هو مسلم في تلك الحال؟ فأجاب رحمه الله ببحث طويل ملىء علماً؛ لكن المهم منه الآن ما يتعلق منه بحديثنا هذا؛ فإنه بعد أن حكى أن تارك الصلاة يقتل عند جمهور
العلماء: مالك والشافعي وأحمد؛ قال: "وإذا صبر حتى يقتل؛ فهل يقتل كافراً مرتداً؛ أو فاسقاً كفساق المسلمين؟ على قولين مشهورين حُكيا روايتين عن أحمد؛ فإن كان مقراً بالصلاة في الباطن معتقداً لوجوبها؛ يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل ولا يصلي، هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم، ولهذا لم يقع هذا قط في الإسلام، ولا يعرف أن أحداً يعتقد وجوبها، ويقال له: إن لم تصل وإلا قتلناك. وهو يصر على تركها مع إقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قط في الإسلام.
ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقراً بوجوبها ولا ملتزماً بفعلها، فهذا كافر باتفاق المسلمين؛ كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة؛ كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة» . رواه مسلم
…
فمن كان مصراً على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط فهذا لا يكون قط؛ مسلماً مقراً بوجوبها، فإن اعتقاد الوجوب، واعتقاد أن تاركها يستحق القتل؛ هذا داع تام إلى فعلها، والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإن كان قادراً ولم يصل قط؛ علم أن الداعي في حقه لم يوجد، والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل. لكن هذا قد يعارضه أحياناً أمور توجب تأخيرها، وترك بعض واجباتها، وتفويتها أحياناً. فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك؛ فهذا لا يكون مسلماً.
لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في "السنن "، حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة؛ من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ
عليهن لم يكن له عهد عند الله؛ إن شاء عذبه؛ وإن شاء غفر له» (1). فالمحافظ عليها: الذي يصليها في مواقيتها كما أمر الله تعالى.
والذي يؤخرها (الأصل: ليس يؤخرها) أحياناً عن وقتها، أو يترك واجباتها؛ فهذا تحت مشيئة الله تعالى. وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه كما جاء في الحديث " (2).
وعلى هذا المحمل يدل كلام الإمام أحمد أيضاً؛ الذي شهر عنه بعض أتباعه المتأخرين القول بتكفير تارك الصلاة دون تفصيل، وكلامه يدل على خلاف ذلك " بحيث لا يخالف هذا الحديث الصحيح، كيف وهو قد أخرجه في "مسنده " كما أخرج حديث عائشة بمعناه كما تقدم؟! فقد ذكر ابنه عبد الله في "مسائله (55) قال: "سألت أبي رحمه الله عن ترك الصلاة متعمداً؟ قال: والذي يتركها لا يصليها، والذي يصليها في غير وقتها؛ أدعوه ثلاثاً؛ فإن صلى وإلا ضربت عنقه، هو عندي بمنزلة المرتد .. ".
قلت: فهذا نص من الإمام أحمد بأنه لم يكفر بمجرد تركه للصلاة، وإنما بامتناعه من الصلاة مع علمه بأنه سيقتل إن لم يصل، فالسبب هو إيثاره القتل على الصلاة، فهو الذي دل على أن كفره كفر اعتقادي، فاستحق القتل.
(1) حديث صحيح مخرج في "صحيح أبي داود"(451 و1276). [منه].
(2)
وهو حديث صحيح، مخرج في "صحيح أبي داود"(810). [الناشر "ناشر الصحيحة"]
ونحوه ما ذكره المجد ابن تيمية- جد شيخ الإسلام ابن تيمية- في كتابه " المحرر في الفقه الحنبلي "(ص 62):" ومن أخر صلاة تكاسلاً لا جحوداً أمر بها؛ فإن أصر حتى ضاق وقت الأخرى؛ وجب قتله ".
قلت: فلم يكفر بالتأخير، وإنما بالإصرار المنبئ عن الجحود. ولذلك قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في "مشكل الآثار" في باب عقده في هذه المسألة، وحكى شيئاً من أدلة الفريقين، ثم اختار أنه لا يكفر؛ قال (4/ 228): " والدليل على ذلك أنا نأمره أن يصلي، ولا نأمر كافراً أن يصلي، ولو كان بما كان منه كافراً لأمرناه بالإسلام؛ فإذا أسلم أمرناه بالصلاة؛ وفي تركنا لذلك وأمرنا إياه بالصلاة؛ ما قد دل على أنه من أهل الصلاة؛ ومن ذلك أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أفطر في رمضان يوماً متعمداً بالكفارة التي أمره بها وفيها الصيام؛ لا يكون الصيام إلا من المسلمين. ولما كان الرجل يكون مسلماً إذا أقر بالإسلام قبل أن يأتي بما
يوجبه الإسلام من الصلوات الخمس؛ ومن صيام رمضان كان كذلك؛ ويكون كافراً بجحوده لذلك؛ ولا يكون كافراً بتركه إياه بغير جحود منه له؛ ولا يكون كافراً إلا من حيث كان مسلماً، وإسلامه كان بإقراره بالإسلام؛ فكذلك ردته لا تكون إلا بجحوده الإسلام ".
قلت: وهذا فقه جيد، وكلام متين لا مرد له، وهو يلتقي تماماً مع ما تقدم من كلام الإمام أحمد رحمه الله الدال على أنه لا يكفر بمجرد الترك؛ بل بامتناعه من الصلاة بعد دعائه إليها، وإن مما يؤكد ما حملت عليه كلام الإمام أحمد؛ ما جاء في كتاب " الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل " للشيخ علاء الدين المرداوي؛ قال رحمه الله (1/ 402) - كالشارح لقول أحمد المتقدم آنفاً:" أدعوه ثلاثاً " -: " الداعي له هو الإمام أو
نائبه، فلو ترك صلوات كثيرة قبل الدعاء لم يجب قتله، ولا يكفر على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم ".
وممن اختار هذا المذهب أبو عبد الله بن بطة، كما ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة المقدسي في كتابه " الشرح الكبير على المقنع " للإمام موفق الدين المقدسي (1/ 385)، وزاد أنه أنكر قول من قال بكفره. قال أبو الفرج:" وهو قول أكثر الفقهاء؛ منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي .. ".ثم استدل على ذلك بأحاديث كثيرة أكثرها عند ابن القيم، ومنها حديث عبادة المتقدم في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال عقبه:"ولو كان كافراً لم يدخله في المشيئة".
قلت: ويؤكد ذلك حديث الترجمة وحديث عائشة تأكيداً لا يدع لأحد شكاً أو شبهة، فلا تنسى. ثم قال أبو الفرج:" ولأن ذلك إجماع المسلمين؛ فإننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحداً من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه، ولا مُنع ميراث مورِّثه، ولا فُرِّقَ بين زوجين لِتَرْكِ الصلاة من أحدهما- مع كثرة تاركي الصلاة-! ولو كفر لثبتت هذه الأحكام، ولا نعلم خلافاً بين المسلمين أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها مع اختلافهم في المرتد (1). وأما الأحاديث المتقدمة (يعني: التي احتج بها المكفرون كحديث: " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة "؛ فهي على وجه التغليظ والتشبيه بالكفار لا على الحقيقة؛ كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» .. وأشباه هذه مما أريد به التشديد في الوعيد. قال شيخنا رحمه الله (يعني: الموفق المقدسي): وهذا أصوب القولين. والله أعلم".
قلت: ونقله الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
(1) قلت: الراجح أنه لا يضيء؛ كما حققه ابن تيمية رحمه الله (22/ 46). [منه].
رحمهم الله في حاشيته على "المقنع " لابن قدامة (1/ 95 - 96) مقراً له.
ومع تصريح الإمام الشوكاني في "السيل الجرار"(1/ 292) بتكفير تارك الصلاة عمداً، وأنه يستحق القتل، ويجب على إمام المسلمين قتله؛ فقد بين في "نيل الأوطار" أنه لا يعني كفراً لا يغفر، فقال بعد أن حكى أقوال العلماء واختلافهم، وذكر شيئاً من أدلتهم (1/ 254 - 255): "والحق أنه كافر يقتل، أما كفره؛ فلأن الأحاديث صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم (!) وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة، فتركها مقتض لجواز الإطلاق.
ولا يلزمنا شيء من المعارضات التي أوردها الأولون؛ لأنا نقول: لا يمنع أن
يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة؛ ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفراً. فلا مُلْجِئَ إلى التأويلات التي وقع الناس في مضيقها ".
ولقد صدق رحمه الله. لكن ذهابه إلى جواز إطلاق اسم (الكافر) على تارك الصلاة؛ هو توسع غير محمود عندي، لأن الأحاديث التي أشار إليها ليس فيها الإطلاق المدعى، وإنما فيها:"فقد كفر"، وما أظن أن أحداً يستجيز له أن يشتق منه اسم فاعل فيقول فيه:(كافر)، إذن؛ لزمه أن يطلقه أيضاً على كل من قيل فيه:"كَفَر"؛ كالذي يحلف بغير الله، ومن قاتل مسلماً، أو تبرأ من نسب، ونحو ذلك مما جاء في الأحاديث.
نعم؛ لو صح ما رواه أبو يعلى وغيره عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: " عُرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة؛ عليهن أسس الإسلام؛ من ترك واحدة منهن فهو بها
كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان ".
أقول: لو صح هذا؛ لكان دليلاً واضحاً على جواز إطلاقه على تارك الصلاة، ولكنه لم يصح كما كنت بينته في " السلسلة الضعيفة "(94).
والخلاصة؛ أن مجرد الترك لا يمكن أن يكون حجة لتكفير المسلم، وإنما هو فاسق، أمره إلى الله، إن شاء عذبه؛ وإن شاء غفر له، وحديث الترجمة نص صريح في ذلك لا يسع مسلماً أن يرفضه.
وأن من دعي إلى الصلاة، وأنذر بالقتل؛ إن لم يستجب فقتل؛ فهو كافر يقيناً حلال الدم، لا يُصَلَّى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، فمن أطلق التكفير فهو مخطئ، ومن أطلق عدم التكفير فهو مخطئ، والصواب التفصيل.
فهذا الحق ليس به خفاءُ فدعني عن بنيات الطريق وبعد؛ فإن أخشى ما أخشاه أن يبادر بعض المتعصبين الجهلة إلى رد هذا الحديث الصحيح؛ لدلالته الصريحة على أن تارك الصلاة كسلاً مع الإيمان بوجوبها داخل في عموم قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء]؛كما فعل بعضهم أخيراً بتاريخ (1407 هـ)، فقد تعاون اثنان من طلاب العلم: أحدهما سعودي، والآخر مصري، فتعقباني في بعض الأحاديث من المئة الأولى من " سلسلة الأحاديث الصحيحة "؛ منها حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه المتقدم برقم (87) ولفظه:«يَدْرُسُ الإسلام كما يَدْرُسُ وشْيُ الثوب حتى لا يُدرى ما صيام؛ ولا صلاة ولا نسك، ولا صدقة، ولَيُسْرَى على كتاب الله عز وجل في ليلة؛ فلا يبقى منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير، والعجوز؛ يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: " لا إله إلا الله "، فنحن نقولها» .
قال صلة بن زفر لحذيفة: ما تغني عنهم " لا إله إلا الله " وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟! فأعرض عنه حذيفة، ثم رددها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة. ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة! تنجيهم من النار (ثلاثاً).
قلت: فسوّدا في تضعيف هذا الحديث ثلاث صفحات كبار في الرد عليَّ لتصحيحي إياه، لم يجدا ما يتعلقان به لتضعيفه؛ إلا أنه من رواية أبي معاوية محمد بن خازم الضرير؛ بحجة أنه كان يرى الإرجاء! وأن الحديث موافق لبدعة الإرجاء!! وهذا من الجهل البالغ، ولا مجال الآن لبيانه إلا مختصراً، فإن أبا معاوية مع كونه ثقة محتجاً به عند الشيخين؛ فإنه قد توبع من ثقة مثله، ثم إن الحديث لا صلة له بالإرجاء مطلقاً، وهما إنما ادعيا ذلك لجهلهما بالعلم، وكيف يكون كذلك وقد صححه الحاكم والذهبي، وكذا ابن تيمية والعسقلاني والبوصيري؟! ولئن جاز في عقلهما أنهم كانوا في تصحيحهم إياه جميعاً مخطئين فهل وصل الأمر بهما أن يعتقدا بأنهم يصححون ما يؤيد الإرجاء؟! تالله إنها لإحدى الكبر؛ أن يتسلط على هذا العلم من لا يحسنه، وأن يضعف ما يصححه أهل العلم! وهذا الحديث الصحيح يستفاد منه؛ أن الجهل قد يبلغ ببعض الناس أنهم لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادة، وهذا لا يعني أنهم يعرفون وجوب الصلاة وسائر الأركان ثم هم لا يقومون بها؛ كلا، ليس في الحديث شيء من ذلك، بل هم في ذلك ككثير من أهل البوادي والمسلمين حديثاً في بلاد الكفر لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادتين، وقد يقع شيء من ذلك في بعض العواصم، فقد سألني أحدهم هاتفياً عن امرأة تزوجها، وكانت تصلي دون أن تغتسل من الجماع! وقريباً سألني إمام مسجد ينظر إلى نفسه أنه على شيء من العلم يسوغ له
أن يخالف العلماء! سألني عن ابنه أنه كان يصلي جنباً بعد أن بلغ مبلغ الرجال واحتلم؛ لأنه كان لا يعلم وجوب الغسل من الجنابة! وقد قال ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى "(22/ 41): " ومن علم أن محمداً رسول الله فآمن بذلك، ولم يعلم كثيراً مما جاء به؛ لم يعذبه الله على ما لم يبلغه؛ فإنه إذا لم يعذر على ترك الإيمان بعد البلوغ، فإنه [أن] لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلوغ أولى وأحرى، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المستفيضة عنه في أمثال ذلك ".
ثم ذكر أمثلة طيبة؛ منها: المستحاضة؛ قالت: إني أستحاض حيضة شديدة تمنعني الصلاة والصوم؟ فأمرها بالصلاة زمن دوام الاستحاضة، ولم
يأمرها بالقضاء.
قلت: وهذه المستحاضة هي فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها، وحديثها في "الصحيحين " وغيرهما، وهو مخرج في "صحيح أبي داود"(281).
ومثلها: أم حبيبة بنت جحش زوجة عبد الرحمن بن عوف، واستحيضت سبع سنين، وحديثها عند الشيخين أيضاً، وهو مخرج في "صحيح أبي داود"
أيضاً (283).
وثمة ثالثة؛ وهي حمنة بنت جحش، وهي التي أشار إليها ابن تيمية؛ فإن في حديثها:"إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة؛ فما ترى فيها؛ قد منعتني الصلاة والصوم .. " الحديث. أخرجه أبو داود وغيره من أصحاب "السنن " بإسناد حسن، وصححه جمع، وهو مخرج في "صحيح أبي داود"(293) و"الإرواء"(881).
هذا؛ وهناك نص آخر للإمام أحمد كان ينبغي أن يضم إلى ما سبق نقله عنه؛ لشديد ارتباطه به ودلالته أيضاً على أن تارك الصلاة لا يكفر بمجرد الترك، ولكن
هكذا قُدِّر؛ قال عبد الله بن أحمد في "مسائله "(ص 56/ 195):
"سألت أبي عن رجل فرط في صلوات شهرين؟ فقال: يصلي ما كان في وقت يحضره ذكر تلك الصلوات؛ فلا يزال يصلي حتى يكون آخر وقت الصلاة التي ذكر فيها هذه الصلوات التي فرط فيها؛ فإنه يصلي هذه التي يخاف فوتها؛ ولا يضيع مرتين؛ ثم يعود فيصلي أيضاً حتى يخاف فوت الصلاة التي بعدها؛ إلا إن كثر عليه؛ ويكون ممن يطلب المعاش؛ ولا يقوى أن يأتي بها؛ فإنه يصلي حتى يحتاج إلى أن يطلب ما يقيمه من معاشه؛ ثم يعود إلى الصلاة؛ لا تجزئه صلاة وهو ذاكر الفرض المتقدم قبلها، فهو يعيدها أيضاً إذا ذكرها وهو في صلاة ".
فانظر أيها القارئ الكريم! هل ترى في كلام الإمام أحمد هذا إلا ما يدل على ما سبق تحقيقه؛ أن المسلم لا يخرج من الإسلام بمجرد ترك الصلاة؛ بل صلوات شهرين متتابعين! بل وأذن له أن يؤجل قضاء بعضها لطلب المعاش.
وهذا عندي يدل على شيئين: أحدهما - وهو ما سبق -: أنه يبقى على إسلامه، ولو لم تبرأ ذمته بقضاء كل ما عليه من الفوائت.
والآخر: أن حكم القضاء دون حكم الأداء؛ لأنني لا أعتقد أن الإمام أحمد - بل ولا من هو دونه في العلم- يأذن بترك الصلاة حتى يخرج وقتها لعذر طلب المعاش. والله سبحانه وتعالى أعلم.
واعلم أخي المسلم! أن هذه الرواية عن الإمام أحمد- وما في معناها- هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه كل مسلم لذات نفسه أولاً؛ ولخصوص الإمام أحمد.
ثانياً؛ لقوله رحمه الله: " إذا صح الحديث فهو مذهبي "؛ وبخاصة أن الأقوال الأخرى المروية عنه على خلاف ما تقدم مضطربة جداً؛ كما تراها في كتاب
" الإنصاف "(10/ 327 - 328) وغيره من الكتب المعتمدة؛ ومع اضطرابها؛ فليس في شيء منها التصريح بأن المسلم يكفر بمجرد ترك الصلاة؛ وإذ الأمر كذلك؛ فيجب حمل الروايات المطلقة عنه على الروايات المقيدة والمبنية لمراده رحمه الله؛ وهي ما تقدم نقله عن ابنه عبد الله.
ولو فرضنا أن هناك رواية صريحة عنه في التكفير بمجرد الترك؛ وجب تركها والتمسك بالروايات الأخرى؛ لموافقتها لهذا الحديث الصحيح الصريح في خروج تارك الصلاة من النار بإيمانه ولو مقدار ذرة. وبهذا صرح كثير من كبار علماء الحنابلة المحققين؛ كابن قدامة المقدسي -كما تقدم في نقل أبي الفرج عنه-، ونص كلام ابن قدامة:" وإن ترك شيئاً من العبادات الخمس تهاوناً؛ لم يكفر".
كذا في كتابه "المقنع "، ونحوه في "المغني "(2/ 298 - 302) في بحث طويل له؛ ذكر الخلاف فيه وأدلة كل فريق؛ ثم انتهى إلى هذا الذي في " المقنع"؛ وهو الحق الذي لاريب فيه؛ وعليه مؤلف " الشرح الكبير" و" الإنصاف " كما تقدم وإذا عرفت الصحيح من قول أحمد؛ فلا يرد عليه ما ذكره السبكي في ترجمة الإمام الشافعي؛ من " طبقات الشافعية الكبرى "(1/ 220)، قال:" حكي أن أحمد ناظر الشافعي في تارك الصلاة؛ فقال له الشافعي: يا أحمد! تقول: إنه يكفر؟ قال: نعم. قال: إذا كان كافراً فبم يسلم؟ قال: يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. قال: فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه!! قال: يسلم بأن يصلي. قال: صلاة الكافر لا تصح ولا يحكم بالإسلام بها. فانقطع أحمد وسكت ".
فأقول: لا يرد هذا على أحمد رحمه الله لأمرين:
أحد هما: أن الحكاية لا تثبت، وقد أشار إلى ذلك السبكي رحمه الله
بتصديره إياها بقوله: " حُكي"، فهي منقطعة. والآخر: أنه ذكر بناءً على القول بأن أحمد يكفر المسلم بمجرد ترك الصلاة؛ وهذا لم يثبت عنه كما تقدم بيانه؛ وإنما يرد هذا على بعض المشايخ الذين لا يزالون يقولون بالتكفير بمجرد الترك! وأملي أنهم سيرجعون عنه بعد أن يقفوا على هذا الحديث الصحيح؛ وعلى قول أحمد وغيره من كبار أئمة الحنابلة الموافق له؛ فإنه لا يجوز تكفير المسلم الموحد بعمل يصدر منه؛ حتى يتبين منه أنه جاحد ولو بعض ما شرع الله؛ كالذي يدعى إلى الصلاة فإن استجاب وإلا قتل كما تقدم. ويعجبني بهذه المناسبة ما نقله الحافظ في "الفتح "(12/ 300) عن الغزالي أنه قال:
"والذي ينبغي الاحتراز منه: التكفير؛ ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة دماء المسلمين المقرِّين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد ".
هذا؛ وقد بلغني أن بعضهم لما أُوِقف على هذا الحديث؛ شك في دلالته على نجاة المسلم التارك للصلاة من الخلود في النار مع الكفار، وزعم أنه ليس له ذكر في كل الدفعات التي أخرجت من النار. وهذه مكابرة عجيبة تذكرنا بمكابرة متعصبة المذاهب في رد دلالات النصوص انتصاراً للمذهب، فإن الحديث صريح في أن الدفعة الأولى شملت المصلين بعلامة أن النار لم تأكل وجوههم، فما بعدها من الدفعات ليس فيها مصلون بداهة، فإن لم ينفع مثل هذا بعض المقلدين الجامدين؛ فليس لنا إلا أن نقول:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِين} .
(تنبيه): ابن قدامة رحمه الله من جملة الذين فاتهم الاستدلال بهذا الحديث الصحيح للمذهب الصحيح في عدم تكفير تارك الصلاة كسلاً. لكن العجيب أنه
ذكر حديثاً آخر لو صح لكان قاطعاً للخلاف؛ لأن فيه أن مولى للأنصار مات وكان يصلي ويدع، ومع ذلك أمر صلى الله عليه وآله وسلم بغسله والصلاة عليه ودفنه، وهو وإن كان قد سكت عنه؛ فإنه قد أحسن بذكره مع إسناده من رواية الخلال، الأمر الذي مكنني من دراسته والحكم عليه بما يستحق من الضعف والنكارة، ولذلك أودعته في الكتاب الآخر:" الضعيفة "(6036).
بعد كتابة ما تقدم بأيام أطلعني بعض إخواني على كتاب بعنوان هام: "فتح من العزيز الغفار بإثبات أن تارك الصلاة ليس من الكفار" تأليف عطاء بن عبد اللطيف بن أحمد، ففرحت به فرحاً كبيراً، وازداد سروري حينما قرأته، وتصفحت بعض فصوله، وتبين لي أسلوبه العلمي وطريقته في معالجة الأدلة المختلفة التي منها- بل هي أهمها- تخريج الأحاديث وتتبع طرقها وشواهدها، وتمييز صحيحها من ضعيفها؛ ليتسنى له بعد ذلك إسقاط ما لا يجوز الاشتغال به لضعفه، والاعتماد على ما ثبت منها، ثم الاستدلال به أو الجواب عنه، وهذا ما صنعه الأخ المؤلف جزاه الله خيراً؛ خلافاً لبعض المؤلفين الذي يحشرون كل ما يؤيدهم دون أن يتحروا الصحيح فقط؛ كما فعل الذين ردوا علي في مسألة وجه المرأة من المؤلفين في ذلك من السعوديين والمصريين وغيرهم. أما هذا الأخ (عطاء)؛ فقد سلك المنهج العلمي في الرد على المكفرين؛ فتتبع أدلتهم، وذكر ما لها وما عليها، ثم ذكر الأدلة المخالفة لها على المنهج نفسه، ووفق بينها وبين ما يخالفها بأسلوب رصين متين، وإن كان يصحبه أحياناً شيء من التساهل في التصحيح باعتبار الشواهد، ثم التكلف في التوفيق بينه وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على عدم كفر تارك الصلاة؛ كما فعل في حديث أبي الدرداء في الصلاة:" فمن تركها فقد خرج من الملة ". فإنه بعد أن تكلم عليه وبين ضعف إسناده؛ عاد فقواه بشواهده،
وهي في الحقيقة شواهد قاصرة لا تنهض لتقوية هذا الحديث، ثم أغرب فتأول الخروج المذكور فيه بأنه خروج دون الخروج!! وله غير ذلك من التساهل والتأويل؛ كالحديث المخرج في " الضعيفة "(6037).
والحق؛ أن كتابه نافع جداً في بابه؛ فقد جمع كل ما يتعلق به سلباً أو إيجاباً، قبولاً أو رفضاً؛ دون تعصب ظاهر منه لأحد أو على أحد، وأحسن ما فيه الفصل الأول من الباب الثاني؛ وهو كما قال:" في ذكر أدلة خاصة تدل على أن تارك الصلاة لا يخرج من الملة "! وعدد أدلته المشار إليها (12) دليلاً، ولقد ظننت حين قرأت هذا العنوان في مقدمة كتابه أن منها حديث الشفاعة هذا؛ لأنه قاطع للنزاع كما سبق بيانه، ولكنه- مع الأسف- قد فاته كما فات غيره من المتقدمين على ما سلف ذكره.
غير أنه لابد لي من التنويه بدليل من أدلته لأهميته وغفلة المكفرين عنه؛ ألا وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن للإسلام صُوىً ومناراً كمنار الطريق .. " الحديث، وفيه ذكر التوحيد، والصلاة وغيرها من الأركان الخمسة المعروفة والواجبات، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:«فمن انتقص مِنْهُنَّ شيئاً؛ فهو سهم من الإسلام تركه؛ ومن تركهن؛ فقد نبذ الإسلام وراءه» .
وقد خرجه المومى إليه تخريجاً جيداً، وتتبع طرقه؛ وبين أن بعضه صحيح الإسناد، ثم بين دلالته الصريحة على عدم خروج تارك الصلاة من الملة. فراجعه وراجع الكتاب كله؛ إن كان عندك شك في المسألة.
وقد كنت خرجته قديماً برقم (333) منذ أكثر من ثلاثين سنة، واستفاد هو منه- كما هو شأن المتأخر مع المتقدم- ولكنه لم يشر إلى ذلك أدنى إشارة، ولقد كان يحسن به ذلك؛ ولا سيما أنه خصني بالنقد في بعض الأحاديث، وذلك مما
لا يضرني البتة؛ بل إنه لينفعني أصاب أم أخطأ، وليس الآن مجال تفصيل القول في ذلك.
والخلاصة؛ أن حديثنا هذا حديث الشفاعة حديث عظيم، ومن ذلك دلالته القاطعة على أن تارك الصلاة- مع إيمانه بوجوبها- لا يخرج من الملة، وأنه لا يخلد في النار مع الكفرة الفجرة.
ولذلك؛ فإني أرجو مخلصاً كل من وقف على هذا الحديث وغيره مما في معناه أن يتراجع عن تكفير المسلمين التاركين للصلاة مع إيمانهم بها، والموحدين لله تبارك وتعالى؛ فإن تكفير المسلم أمر خطير جداً كما تقدم. وعليهم فقط أن يذكروا بعظمة منزلة الصلاة في الإسلام بما جاء في ذلك في الكتاب والأحاديث النبوية، والآثار السلفية الصحيحة، فإن الحكم قد خرج- مع الأسف- من أيدي العلماء، فهم لذلك لا يستطيعون أن ينفذوا حكم الكفر والقتل في تارك واحد للصلاة؛ بله جمع من التاركين؛ ولو في دولتهم فضلاً عن الدول الإسلامية الأخرى! فإن قتل التارك للصلاة بعد دعوته إليها إنما كان لحكمة ظاهرة، وهو لعله يتوب إذا كان مؤمناً بها، فإذا آثر القتل عليها؛ دل ذلك على أن تركه كان عن جحد، فيموت- والحالة هذه- كافراً؛ كما تقدم عن ابن تيمية، فامتناعه منها في هذه الحالة دليل عملي على خروجه من الملة. وهذا مما لا سبيل إلى تحقيقه اليوم مع الأسف، فليقنع العلماء- إذن من الوجهة النظرية- على ما عليه جمهور أئمة المسلمين؛ بعدم تكفير تارك الصلاة مع إيمانه بها، وقد قدمنا الدليل القاطع على ذلك من السنة الصحيحة؛ فلا عذر لأحد بعد ذلك {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} (النور:63).
ثم طَبَعْتُ هذا البحث في رسالة خاصة بعنوان " حكم تارك الصلاة " فنفع الله بها من شاء من عباده، واستنكر بعض المؤلفين ما فيه من الحكم: أن تارك الصلاة كسلاً- مع إيمانه بها- ليس بكافر؛ لمخالفته إياه عقيدة، فهو بهذا الاعتبار مخالف له؛ وهو عمل قلبي؛ والله عز وجل ضمن أن لا يضيعه؛ كما قال أبو سعيد في الحديث هذا: " فمن لم يصدق بهذا الحديث؛ فليقرأ هذه الآية: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
…
}.
وبالنظر إلى تركه الصلاة فهو مشابه للكفار عملاً؛ الذين يتحسرون يوم القيامة؛ فيقولون وهم في سقر: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين} (المدثر:43، 44)؛ فكفره كفر عملي؛ لأنه عمل عمل الكفار؛ فهو كالتارك للزكاة؛ وقد صح الحديث أيضاً أن مانع الزكاة يعذب يوم القيامة بماله الذي كان منعه، ثم يساق إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولكن المؤلف المشار إليه- هدانا الله وإياه-تأول هذا الحديث كما تأول حديث المانع للزكاة تأويلاً عطل دلالته الصريحة على ما ذهبنا إليه من الفرق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي؛ مع أنه قد صح هذا عن ابن عباس وبعض تلامذته، وجرى عليه من بعدهم من أتباع السلف؛ كابن القيم وشيخه؛ كما تقدم في هذا البحث؛ ومع ذلك لم يعرج عليه المومى إليه مطلقاً ولو لرده؛ ولا سبيل له إليه! والله عز وجل يقول:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون} (القلم:35، 36)؟ وكذلك صرف المؤلف المذكور نظره عن حديث:" إن للإسلام صوى .. " الصريح في التفريق بين: "من ترك سهماً؛ فهو سهم من الإسلام تركه "؛ وبين " من ترك الأسهم كلها؛ فقد نبذ الإسلام كله "؛ فلم يتعرض له بجواب. ولا أستبعد أن يحاول تأويله أو تضعيفه؛ كما فعل بغيره من الأحاديث الصحيحة.
وبالجملة؛ فمجال الرد عليه واسع جداً، ولا أدري متى تسنح لي الفرصة للرد عليه، وبيان ما يؤخذ عليها فقهاً وحديثاً؟ وإن كنت أشكر له أدبه ولطفه وتبجيله لكاتب هذه الأحرف، ودفاعه عن عقيدة أهل الحديث في أن الإيمان يزيد وينقص؛ وإن كان قد اقترن به أحياناً شيء من الغلو والمخالفة؛ والاتهام بالإرجاء؛ مع أنه يعلم أنني أخالفهم مخالفة جذرية؛ فأقول: الإيمان يزيد وينقص؛ وإن الأعمال الصالحة من الإيمان، وإنه يجوز الاستثناء فيه؛ خلافاً للمرجئة، ومع ذلك رماني أكثر من مرة بالإرجاء! فقلب بذلك وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم:" وأتبع السيئة الحسنة تمحها .. "! فقلت: ما أشبه اليوم بالبارحة! فقد قال رجل لابن المبارك: " ما تقول فيمن يزني ويشرب الخمر؛ أمؤمن هو؟ قال: لا أخرجه من الإيمان. فقال الرجل: على كبر السن صرت مرجئاً! فقال له ابن المبارك: إن المرجئة لا تقبلني! أنا أقول: الإيمان يزيد وينقص. والمرجئة لا تقول ذلك. والمرجئة تقول: حسناتنا متقبلة. وأنا لا أعلم تُقبلت مني حسنة؟ وما أحوجك إلى أن تأخذ سبورة فتجالس العلماء ". رواه ابن راهويه في "مسند هـ "(3/ 670 - 671).
قلت: ووجه المشابهة بين الاتهامين الظالمين هو الإشراك بالقول مع المرجئة في بعض مايقوله المرجئة؛ أنا بقولي بعدم تكفير تارك الصلاة كسلاً؛ وابن المبارك في عدم تكفير مرتكب الكبيرة ولو أردت أن أقابله بالمثل لرميته بالخروج؛ لأن الخوارج يكفرون تارك الصلاة وبقية الأركان الأربعة! و {أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين} .
"السلسلة الصحيحة"(7/ 1/127 - 154).