الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يستطيع أن يثبت عليه إلا بأن يحكم هذا القانون الذي وجده وتلقاه من قبله إما كافراً متحكماً في البلاد الإسلامية أو ممن خلفه من بعده ممن يعدون أنفسهم مسلمين، فالمهم أن هذا الاستبدال إما أن يكون عن عقيدة فهو كفر ليخرج به صاحبة عن الملة وإما أن يكون ليس عن عقيدة وإنما يعمل عمل الكفار أن يحكم بغير ما أنزل الله وهذا مما انطبع عليه الكفار حين قال:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} {فأولئك هم الظالمون} {فأولئك هم الفاسقون} ولذلك ذكر علماء التفسير أن هذه الآيات هي نزلت في حق اليهود الذين كانوا يدسون بعض أفرادهم ليسألوا الرسول فإن كان جوابه موافقاً لهواهم تبنوه، وإلا قالوا نحن لا نؤمن بهذا الكلام، فالجواب هو نفس الجواب الحقيقة لكن في لفت نظر هو تلاعب بالألفاظ.
"الهدى والنور"(563/ 41: 00: 00)
[622] باب سبب نزول ومن لم يحكم بما أنزل الله
وأن الكفر العملي غير الاعتقادي وأمثلة ذلك
-" إن الله عز وجل أنزل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} و {أولئك هم الظالمون} و {فأولئك هم الفاسقون} .
قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتله (العزيزة) من (الذليلة) فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتله (الذليلة) من (العزيزة) فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك، حتى قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويؤمئذ لم يظهر ولم يوطئهما عليه وهو في الصلح، فقتلت
الذليلة من العزيزة قتيلاً، فأرسلت (العزيزة) إلى (الذليلة) أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت (الذليلة): وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض؟! إنا إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا، وفرقاً منكم، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، ثم ذكرت (العزيزة) فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهرا لهم، فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه، إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه. فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ في الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا
…
} إلى قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} ، ثم قال: فيهما والله نزلت، وإياهما عنى الله عز وجل ".
[قال الإمام]:
(فائدة هامة): إذا علمت أن الآيات الثلاث: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} ، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} ، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} نزلت في اليهود وقولهم في حكمه صلى الله عليه وآله وسلم:" إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه "، وقد أشار القرآن إلى قولهم هذا قبل هذه الآيات فقال:{يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ} ، إذا عرفت هذا، فلا يجوز حمل هذه الآيات على بعض الحكام المسلمين وقضاتهم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية، أقول: لا يجوز تكفيرهم بذلك،
وإخراجهم من الملة إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله، وإن كانوا مجرمين بحكمهم بغير ما أنزل الله، لا يجوز ذلك، لأنهم وإن كانوا كاليهود من جهة حكمهم المذكور، فهم مخالفون لهم من جهة أخرى، ألا وهي إيمانهم وتصديقهم بما أنزل الله، بخلاف اليهود الكفار، فإنهم كانوا جاحدين له كما يدل عليه قولهم المتقدم: "
…
وإن لم يعطكم حذرتموه فلم تحكموه "، بالإضافة إلى أنهم ليسوا مسلمين أصلاً، وسر هذا أن الكفر قسمان: اعتقادي وعملي، فالاعتقادي مقره القلب، والعملي محله الجوارح، فمن كان عمله كفراً لمخالفته للشرع، وكان مطابقا لما وقر في قلبه من الكفر به، فهو الكفر الاعتقادي، وهو الكفر الذي لا يغفره الله، ويخلد صاحبه في النار أبداً، وأما إذا كان مخالفا لما وقر في قلبه، فهو مؤمن بحكم ربه، ولكنه يخالفه بعمله، فكفره كفر عملي فقط، وليس كفراً اعتقادياً، فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وعلى هذا النوع من الكفر تحمل الأحاديث التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئاً من المعاصي من المسلمين، ولا بأس من ذكر بعضها:
1 -
«اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في الأنساب والنياحة على الميت» . رواه مسلم (1).
2 -
3 -
«سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» . رواه مسلم (3).
(1)"تخريج الطحاوية"(ص 298).
(2)
"صحيح الجامع الصغير"(3/ 83/3101).
(3)
تخريج " الإيمان " لأبي عبيد (ص 86)، وتخريج " الحلال "(رقم 341).
4 -
كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق (1).
5 -
«التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر» (2).
6 -
لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض. متفق عليه (3).
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا مجال الآن لاستقصائها. فمن قام من المسلمين بشيء من هذه المعاصي، فكفره كفر عملي، أي إنه يعمل عمل الكفار، إلا أن يستحلها، ولا يرى كونها معصية فهو حينئذ كافر حلال الدم، لأنه شارك الكفار في عقيدتهم أيضاً، والحكم بغير ما أنزل الله، لا يخرج عن هذه القاعدة أبداً، وقد جاء عن السلف ما يدعمها، وهو قولهم في تفسير الآية:" كفر دون كفر "، صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ثم تلقاه عنه بعض التابعين وغيرهم، ولابد من ذكر ما تيسر لي عنهم لعل في ذلك إنارة للسبيل أمام من ضل اليوم في هذه المسألة الخطيرة، ونحا نحو الخوارج الذين يكفرون المسلمين بارتكابهم المعاصي، وإن كانوا يصلون ويصومون!
1 -
روى ابن جرير الطبري (10/ 355/12053) بإسناد صحيح عن ابن عباس: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} قال: هي به كفر، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله.
2 -
وفي رواية عنه في هذه الآية: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه (4)، إنه
(1)"الروض النضير"(رقم 587).
(2)
"الأحاديث الصحيحة "(رقم 667).
(3)
"الروض النضير"(رقم 797)، و" الأحاديث الصحيحة " رقم (1974).
(4)
كأنه يشير إلى الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه. [منه].
ليس كفراً ينقل عن الملة، كفر دون كفر. أخرجه الحاكم (2/ 313) وقال:"صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي، وحقهما أن يقولا: على شرط الشيخين، فإن إسناده كذلك، ثم رأيت الحافظ ابن كثير نقل في "تفسيره" (6/ 163) عن الحاكم أنه قال:"صحيح على شرط الشيخين"، فالظاهر أن في نسخة "المستدرك" المطبوعة سقطاً، وعزاه ابن كثير لابن أبي حاتم أيضا ببعض اختصار.
3 -
وفي أخرى عنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق. أخرجه ابن جرير (12063). قلت: وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، لكنه جيد
في الشواهد.
4 -
ثم روى (12047 - 12051) عن عطاء بن أبي رباح قوله:
(وذكر الآيات الثلاث): كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم.
وإسناده صحيح.
5 -
ثم روى (12052) عن سعيد المكي عن طاووس (وذكر الآية) قال: ليس بكفر ينقل عن الملة. وإسناده صحيح، وسعيد هذا هو ابن زياد الشيباني المكي، وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان وغيرهم، وروى عنه جمع.
6 -
وروى (12025 و12026) من طريقين عن عمران بن حدير قال: أتى أبا مجلز (1) ناس من بني عمرو بن سدوس (وفي الطريق الأخرى: نفر من الإباضية)(2) فقالوا: أرأيت قول الله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
(1) من كبار ثقات التابعين واسمه لاحق بن حميد البصري. [منه].
(2)
طائفة من الخوارج. [منه].
الْكَافِرُون} أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} أحق هو؟ قال: نعم.
قال: فقالوا: يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون وإليه يدعون -[يعني الأمراء]- فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم أصابوا ذنباً. فقالوا: لا والله، ولكنك تفرق (1). قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك، أو نحواً من هذا، وإسناده صحيح.
وقد اختلف العلماء في تفسير الكفر في الآية الأولى على خمسة أقوال ساقها ابن جرير (10/ 346 - 357) بأسانيده إلى قائليها، ثم ختم ذلك بقوله (10/ 358): " وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبراً عنهم أولى.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد عم بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصاًّ؟ قيل: إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم - على سبيل ما تركوه - كافرون، وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به هو بالله كافر، كما قال ابن عباس؛ لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي "، وجملة القول أن الآية
(1) أي: تجزع وتخاف. [منه].