الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مُقَدِّمَة]
بسم الله الرحمن الرحيم
ــ
[رد المحتار]
قَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أَبْتَدِئُ بِهَا عَمَلًا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَالْإِشْكَالُ فِي تَعَارُضِ رِوَايَاتِ الِابْتِدَاءِ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ مَشْهُورٌ وَكَذَا التَّوْفِيقُ بَيْنَهَا بِحَمْلِ الِابْتِدَاءِ عَلَى الْعُرْفِيِّ أَوْ الْإِضَافِيِّ وَكَذَا مَا أَوْرَدَ مِنْ الْأَذَانِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَمْ يَبْدَأْ بِهِمَا فِيهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا الِابْتِدَاءُ بِإِحْدَاهُمَا أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ، أَوْ يُحْمَلُ الْمُقَيَّدُ عَلَى الْمُطْلَقِ، وَهُوَ رِوَايَةُ " بِذِكْرِ اللَّهِ " عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ، ثُمَّ الْبَاءُ لَفْظٌ خَاصٌّ حَقِيقَةٌ فِي الْإِلْصَاقِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَعَانِي لَا مُشْتَرَكَ بَيْنَهَا لِتَرَجُّحِ الْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ مَوْضُوعٌ بِالْوَضْعِ الْعَامِّ لِلْمَوْضُوعِ لَهُ الْخَاصِّ عِنْدَ الْعَضُدِ وَغَيْرِهِ: أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشَخَّصَاتِ الْجُزْئِيَّةِ الْمَلْحُوظَةِ بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ، وَهُوَ مُطْلَقُ الْإِلْصَاقِ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا وَاحِدٌ بِخُصُوصِهِ. وَالْإِلْصَاقُ تَعْلِيقُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَإِيصَالُهُ بِهِ، فَيَصْدُقُ بِالِاسْتِعَانَةِ وَالسَّبَبِيَّةِ لِإِلْصَاقِك الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ وَبِسَبَبِهِ كَمَا فِي التَّحْرِيرِ. وَلَمَّا كَانَ مَدْلُولُ الْحَرْفِ مَعْنًى حَاصِلًا فِي غَيْرِهِ لَا يَتَعَقَّلُ ذِهْنًا وَلَا خَارِجًا إلَّا بِمُتَعَلِّقِهِ اُشْتُرِطَ لَهُ الْمُتَعَلِّقُ الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ الْإِلْصَاقُ؛ وَالنَّحْوِيُّ وَهُوَ هُنَا مَا جُعِلَتْ التَّسْمِيَةُ مَبْدَأً لَهُ، فَيُفِيدُ تَلَبُّسَ الْفَاعِلِ بِالْفِعْلِ حَالَ الْإِلْصَاقِ، وَالْمُرَادُ الْإِلْصَاقُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَالِاسْتِعَانَةِ. وَالْأَوْلَى تَقْدِيرُ الْمُتَعَلِّقِ مُؤَخَّرًا لِيُفِيدَ قَصْدَ الِاهْتِمَامِ بِاسْمِهِ تَعَالَى، رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِ الْمُبْتَدِئِ بِاسْمِ آلِهَتِهِ اهْتِمَامًا بِهَا لَا لِلِاخْتِصَاصِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَنْفِي التَّبَرُّكَ بِاسْمِهِ تَعَالَى، وَلِيُفِيدَ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِاسْمِهِ تَعَالَى رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِ أَيْضًا وَإِظْهَارًا لِلتَّوْحِيدِ، فَيَكُونُ قَصْرَ إفْرَادٍ؛ وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي قَوْله تَعَالَى - {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]- لِأَنَّ الْعِنَايَةَ بِالْقِرَاءَةِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، لِيَحْصُلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ طَلَبِ أَصْلِ الْقِرَاءَةِ، إذْ لَوْ أَخَّرَ لَأَفَادَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ كَوْنُ الْقِرَاءَةِ مُفْتَتَحَةً بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِاسْمِ غَيْرِهِ، ثُمَّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا وَهَلْ هِيَ كَذَلِكَ مَعْنًى أَوْ إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى؟ ظَاهِرُ كَلَامِ السَّيِّدِ الثَّانِي، وَالْمَقْصُودُ إظْهَارُ إنْشَاءِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ رَدًّا عَلَى الْمُخَالِفِ إمَّا عَلَى طَرِيقِ النَّقْلِ الشَّرْعِيِّ كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، أَوْ عَلَى إرَادَةِ اللَّازِمِ كَ {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36] فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا إظْهَارُ التَّحَسُّرِ لَا الْإِخْبَارُ بِمَضْمُونِهَا، وَهَلْ تَخْرُجُ بِذَلِكَ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ عَنْ الْإِخْبَارِ أَوْ لَا؟ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيّ إلَى الْأَوَّلِ وَعَبْدُ الْقَاهِرِ إلَى الثَّانِي وَسَيَأْتِي فِي الْحَمْدَلَةِ لِذَلِكَ مَزِيدُ بَيَانٍ. وَأَوْرَدَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إنْشَائِيَّةً لَمَا تَحَقَّقَ مَدْلُولُهَا خَارِجًا بِدُونِهَا، وَالتَّالِي بَاطِلٌ فَالْمُقَدَّمُ مِثْلُهُ، إذْ السَّفَرُ وَالْأَكْلُ وَنَحْوُهُمَا مِمَّا لَيْسَ بِقَوْلٍ لَا يَحْصُلُ بِالْبَسْمَلَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ لِإِنْشَاءِ إظْهَارِ التَّبَرُّكِ أَوْ الِاسْتِعَانَةِ بِاسْمِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ عَلَى مَا قُلْنَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ إنَّمَا تَحَقَّقَ بِهَا؛ كَمَا أَنَّ إظْهَارَ التَّحَزُّنِ وَالتَّحَسُّرِ إنَّمَا تَحَقَّقَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ، فَإِنَّ الْإِنْشَاءَ قِسْمَانِ: مِنْهُ مَا لَا يَتَحَقَّقُ مَدْلُولُهُ الْوَضْعِيُّ بِدُونِ لَفْظِهِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَتَحَقَّقُ مَدْلُولُهُ الِالْتِزَامِيُّ بِدُونِهِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي. ثُمَّ إنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْمِ هُنَا مَا قَابَلَ الْكُنْيَةَ وَاللَّقَبَ فَيَشْمَلُ الصِّفَاتِ حَقِيقِيَّةً، أَوْ إضَافِيَّةً أَوْ سَلْبِيَّةً فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّبَرُّكَ وَالِاسْتِعَانَةَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى. وَاَللَّهُ عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ الْمُسْتَجْمِعَةِ لِلصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ كَمَا قَالَهُ السَّعْدُ وَغَيْرُهُ، أَوْ الْمَخْصُوصَةِ: أَيْ بِلَا اعْتِبَارِ صِفَةٍ أَصْلًا كَمَا قَالَهُ الْعِصَامُ. قَالَ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ: كَمَا تَاهَتْ الْعُقُولُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لِاحْتِجَابِهَا بِنُورِ الْعَظَمَةِ تَحَيَّرَتْ أَيْضًا فِي اللَّفْظَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الذَّاتِ، كَأَنَّهُ انْعَكَسَ إلَيْهَا مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَارِ أَشِعَّةٌ فَبَهَرَتْ أَعْيُنَ الْمُسْتَبْصِرِينَ،
حَمْدًا
ــ
[رد المحتار]
فَاخْتَلَفُوا أَسُرْيَانِيٌّ هُوَ أَمْ عَرَبِيٌّ؟ اسْمٌ أَوْ صِفَةٌ؟ مُشْتَقٌّ؟ أَوْ عَلَمٌ أَوْ غَيْرُ عَلَمٍ؟ . وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ عَلَمٌ مُرْتَجَلٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَصْلٍ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ وَالْخَلِيلُ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَبِهِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَأَكْثَرُ الْعَارِفِينَ حَتَّى أَنَّهُ لَا ذِكْرَ عِنْدَهُمْ لِصَاحِبِ مَقَامٍ فَوْقَ الذِّكْرِ بِهِ كَمَا فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ لِابْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ. وَالرَّحْمَنُ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ، وَقِيلَ مُعَرَّبٌ عَنْ (رَخْمَانِ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ لِإِنْكَارِ الْعَرَبِ حِينَ سَمِعُوهُ. وَرُدَّ بِأَنَّ إنْكَارَهُمْ لَهُ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ غَيْرُهُ تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى - {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110]- وَذَهَبَ الْأَعْلَمُ إلَى أَنَّهُ عَلَمٌ كَالْجَلَالَةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ تَعَالَى وَعَدَمِ إطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي مُسَيْلِمَةَ.
وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا
…
فَمِنْ تَعَنُّتِهِ وَغُلُوِّهِ فِي الْكُفْرِ
وَاخْتَارَهُ فِي الْمُغْنِي. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَنْعَ شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ، وَأَنَّ الْمَخْصُوصَ بِهِ تَعَالَى الْمُعَرَّفُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَقِيلَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي اللَّفْظِ لَا تَكُونُ إلَّا لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى وَإِلَّا كَانَتْ عَبَثًا، وَقَدْ زِيدَ فِيهِ حَرْفٌ عَلَى الرَّحِيمِ وَهُوَ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ بِصِيغَتِهِ، فَدَلَّتْ زِيَادَتُهُ عَلَى زِيَادَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى كَمًّا، لِأَنَّ الرَّحْمَانِيَّةَ تَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَالرَّحِيمِيَّةَ تَخُصُّ الْمُؤْمِنَ، أَوْ كَيْفًا لِأَنَّ الرَّحْمَنَ الْمُنْعِمُ بِجَلَائِل النِّعَمِ، وَالرَّحِيمَ الْمُنْعِمُ بِدَقَائِقِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَصْفَ بِهِمَا لِلْمَدْحِ، فِيهِ إشَارَةٌ إلَى لَمِّيَّةِ الْحُكْمِ أَيْ إنَّمَا افْتَتَحَ كِتَابَهُ بِاسْمِهِ تَعَالَى مُتَبَرِّكًا مُسْتَعِينًا بِهِ لِأَنَّهُ الْمُفِيضُ لِلنِّعَمِ كُلِّهَا، وَكُلُّ مَنْ شَأْنُهُ ذَلِكَ لَا يُفْتَتَحُ إلَّا بِاسْمِهِ وَهَلْ وَصْفُهُ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا عَنْ الْإِنْعَامِ أَوْ عَنْ إرَادَتِهِ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ الْمُسْتَحِيلَةِ عَلَيْهِ تَعَالَى فَيُرَادُ غَايَتُهَا؟ الْمَشْهُورُ الثَّانِي. وَالتَّحْقِيقُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ الْأَعْرَاضِ هِيَ الْقَائِمَةُ بِنَا، وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهَا فِي حَقِّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ حَتَّى تَكُونَ مَجَازًا كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ مَعَانِيهَا الْقَائِمَةُ بِنَا مِنْ الْأَعْرَاضِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهَا فِي حَقِّهِ تَعَالَى مَجَازٌ، وَتَمَامُ تَحْقِيقِهِ مَعَ فَوَائِدَ أُخَرَ فِي حَوَاشِينَا عَلَى شَرْحِ الْمَنَارِ لِلشَّارِحِ (قَوْلُهُ: حَمْدًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِعَامِلٍ مَحْذُوفٍ وُجُوبًا. وَالْحَمْدُ لُغَةً الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ. وَعُرْفًا فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ بِسَبَبِ إنْعَامِهِ، فَالْأَوَّلُ أَخَصُّ مَوْرِدًا إذْ الْوَصْفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ، وَأَعَمُّ مُتَعَلِّقًا لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَا بِمُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ وَالثَّانِي بِعَكْسِهِ، فَبَيْنَهَا عُمُومٌ وَجْهِيٌّ وَالشُّكْرُ لُغَةً يُرَادِفُ الْحَمْدَ عُرْفًا. وَعُرْفًا صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ إلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ، وَخَرَجَ بِالِاخْتِيَارِ الْمَدْحُ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الْحَمْدِ لِانْفِرَادِهِ فِي مَدَحْت زَيْدًا عَلَى رَشَاقَةِ قَدِّهِ، وَاللُّؤْلُؤَةَ عَلَى صَفَائِهَا فَبَيْنَهَا عُمُومٌ مُطْلَقٌ. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيّ إلَى تَرَادُفِهِمَا لِاشْتِرَاطِهِ فِي الْمَمْدُوحِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا كَالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ، وَنَقَضَ التَّعْرِيفَ جَمْعًا بِخُرُوجِ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الذَّاتَ لَمَّا كَانَتْ كَافِيَةً فِي اقْتِضَاءِ تِلْكَ الصِّفَاتِ جُعِلَتْ بِمَنْزِلَةِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَبِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ مَبْدَأً لِأَفْعَالٍ اخْتِيَارِيَّةٍ كَانَ الْحَمْدُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ، فَالْمَحْمُودُ عَلَيْهِ اخْتِيَارِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ، أَوْ أَنَّ الْحَمْدَ عَلَيْهَا مَجَازٌ عَنْ الْمَدْحِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[رد المحتار]
ثُمَّ إنَّ الْمَحْمُودَ عَلَيْهِ وَبِهِ قَدْ يَتَغَايَرَانِ ذَاتًا كَمَا هُنَا، أَوْ اعْتِبَارًا كَمَا إذَا وُصِفَ الشُّجَاعُ بِشَجَاعَتِهِ، فَهِيَ مَحْمُودٌ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَصْفَ كَانَ بِهَا، وَمَحْمُودٌ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا كَانَتْ بَاعِثَةً عَلَى الْحَمْدِ. وَالْحَمْدُ حَيْثُ أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْعُرْفِيِّ لِمَا قَالَهُ السَّيِّدُ فِي حَوَاشِي الْمَطَالِعِ: اللَّفْظُ عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنَاهُ الْعُرْفِيِّ، مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ. وَعِنْدَ مُحَقِّقِي الصُّوفِيَّةِ حَقِيقَةُ الْحَمْدِ إظْهَارُ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهُوَ بِالْفِعْلِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْقَوْلِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْأَفْعَالِ عَقْلِيَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّخَلُّفُ، وَدَلَالَةَ الْأَقْوَالِ وَضْعِيَّةٌ يُتَصَوَّرُ فِيهَا ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى وَثَنَاؤُهُ عَلَى ذَاتِهِ فَإِنَّهُ بَسَطَ بِسَاطَ الْوُجُودِ عَلَى مُمْكِنَاتٍ لَا تُحْصَى، وَوَضَعَ عَلَيْهِ مَوَائِدَ كَرَمِهِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى، فَإِنَّ كُلَّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْوُجُودِ تَدُلُّ عَلَيْهَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعِبَارَاتِ مِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك» ثُمَّ إنَّ الْحَمْدَ مَصْدَرٌ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَى الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ: أَيْ الْحَامِدِيَّةُ، أَوْ الْمَبْنِيَّ لِلْمَفْعُولِ: أَيْ الْمَحْمُودِيَّةُ، أَوْ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيَّ أَوْ الْحَاصِلَ بِالْمَصْدَرِ، وَعَلَى كُلٍّ فَأَلْ فِي قَوْلِنَا الْحَمْدُ لِلَّهِ إمَّا لِلْجِنْسِ أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَوْ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ: أَيْ الْفَرْدُ الْكَامِلُ الْمَعْهُودُ ذِهْنًا، وَهُوَ الْحَمْدُ الْقَدِيمُ، فَهِيَ اثْنَتَا عَشْرَةَ صُورَةً. وَاخْتَارَ فِي الْكَشَّافِ الْجِنْسَ لِأَنَّ الصِّيغَةَ بِجَوْهَرِهَا تَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ جِنْسِ الْمَحَامِدِ بِهِ تَعَالَى، وَيَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِصَاصُ كُلِّ فَرْدٍ، إذْ لَوْ خَرَجَ فَرْدٌ مِنْهَا لَخَرَجَ الْجِنْسُ تَبَعًا لَهُ لِتَحَقُّقِهِ فِي كُلِّ فَرْدٍ، فَيَكُونُ اخْتِصَاصُ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ ثَابِتًا بِطَرِيقٍ بُرْهَانِيٍّ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ إثْبَاتِهِ ابْتِدَاءً فَلَا حَاجَةَ فِي تَأْدِيَةِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى وَانْتِفَاؤُهُ عَنْ غَيْرِهِ إلَى أَنْ يُلَاحِظَ الشُّمُولَ وَالْإِحَاطَةَ. وَاخْتَارَ غَيْرُهُ الِاسْتِغْرَاقَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِدُونِ اعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ قَلِيلٌ فِي الشَّرْعِ؛ وَعَلَى كُلٍّ فَالْحَصْرُ ادِّعَائِيٌّ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ تَنْزِيلًا لِحَمْدِ غَيْرِهِ تَعَالَى مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، أَوْ حَقِيقِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَيْهِ لِتَمْكِينِهِ تَعَالَى وَإِقْدَارِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ جَعَلَ الْجِنْسَ فِي الْمَقَامِ الْخَطَّابِيِّ مُنْصَرِفًا إلَى الْكَامِلِ كَأَنَّهُ كُلُّ الْحَقِيقَةِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ - {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2]- وَالْحَاتِمُ الْجَوَادُ، وَهَلْ الْحَصْرُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ أَوْ الْمَنْطُوقِ؟ قِيلَ بِالْمَنْطُوقِ. وَرُدَّ بِأَنَّ أَلْ تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ وَالشُّمُولِ فَلَيْسَ النَّفْيُ جُزْءَ مَفْهُومِهَا وَإِنْ كَانَ لَازِمًا، وَقِيلَ بِالْمَفْهُومِ لِمَا ذُكِرَ، وَقِيلَ لَا تُفِيدُ الْحَصْرَ وَنُسِبَ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَضَعَّفَهُ فِي التَّحْرِيرِ بِأَنَّ كَلَامَهُمْ مَشْحُونٌ بِاعْتِبَارِهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ الِاسْتِدْلَال مِنْهُمْ فِي نَفْيِ الْيَمِينِ عَنْ الْمُدَّعِي بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: جَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ. وَعَلَى كُلٍّ مِنْ الصُّوَرِ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ فَلَامُ لِلَّهِ إمَّا لِلْمِلْكِ أَوْ لِلِاسْتِحْقَاقِ أَوْ لِلِاخْتِصَاصِ فَهِيَ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ، وَعَلَى الْأَخِيرِ فَهِيَ لِتَأْكِيدِ الِاخْتِصَاصِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ أَلْ كَمَا قَالَهُ السَّيِّدُ مِنْ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَحَامِدِ بِهِ تَعَالَى، وَقِيلَ إنَّ الِاخْتِصَاصَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ اللَّامِ هُوَ اخْتِصَاصُ الْحَمْدِ بِمَدْخُولِهَا وَأَلْ لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ بِهِ تَعَالَى، وَتَمَامُهُ فِي شَرْحِ آدَابِ الْبَحْثِ. أَقُولُ: يَظْهَرُ لِي أَنَّ أَلْ لَا تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ أَصْلًا كَمَا مَرَّ مَنْسُوبًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ النِّسْبَةِ أَوْ مِنْ اللَّامِ، لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّلْوِيحِ مِنْ أَنَّ أَلْ لِلتَّعْرِيفِ وَمَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ وَالتَّعْيِينُ وَالتَّمْيِيزُ، وَالْإِشَارَةُ إمَّا إلَى حِصَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ أَيْ الْخَارِجِيِّ كَجَاءَنِي رَجُلٌ فَأَكْرَمْت الرَّجُلَ، وَإِمَّا إلَى نَفْسِ الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى اعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ، وَهُوَ تَعْرِيفُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ، كَ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَفْتَقِرُ إلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ تُوجَدَ قَرِينَةُ الْبَعْضِيَّةِ كَمَا فِي اُدْخُلْ السُّوقَ وَهُوَ الْعَهْدُ الذِّهْنِيُّ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[رد المحتار]
أَوْ لَا وَهُوَ الِاسْتِغْرَاقُ كَ {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] احْتِرَازًا عَنْ تَرْجِيحِ بَعْضِ الْمُتَسَاوِيَاتِ بِلَا مُرَجِّحٍ. فَالْعَهْدُ الذِّهْنِيُّ وَالِاسْتِغْرَاقُ مِنْ فُرُوعِ الْحَقِيقَةِ، وَلِهَذَا ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى أَنَّ اللَّامَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ أَوْ الْحَقِيقَةِ لَا غَيْرُ إلَّا أَنَّ الْقَوْمَ أَخَذُوا بِالْحَاصِلِ وَجَعَلُوهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ اهـ مُوَضَّحًا فَهَذِهِ مَعَانِي أَلْ؛ فَإِذَا كَانَ مَدْخُولُهَا مَوْضُوعًا وَحُمِلَ عَلَيْهِ مَقْرُونٌ بِاللَّامِ الَّتِي هِيَ لِلِاخْتِصَاصِ أَفَادَتْ اللَّامُ أَنَّ الْجِنْسَ أَوْ الْمَعْهُودَ مُخْتَصٌّ بِمَدْخُولِهَا وَإِنْ كَانَ الْمَحْمُولُ غَيْرَ مَقْرُونٍ بِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْلَةِ مَا يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ كَتَعْرِيفِ الطَّرَفَيْنِ وَنَحْوِهِ فِيهَا. وَإِلَّا فَإِنْ كَانَتْ أَلْ لِلْجِنْسِ وَالْمَاهِيَّةِ فَنَفْسُ النِّسْبَةِ تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، إذْ لَوْ خَرَجَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَوْضُوعِ لَمْ تَصْدُقْ النِّسْبَةُ لِخُرُوجِ الْجِنْسِ مَعَهُ كَمَا مَرَّ فِي كَلَامِ الْكَشَّافِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاخْتِصَاصَ مُسْتَفَادٌ مِنْ اللَّامِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ أَوْ مِنْ النِّسْبَةِ، لَكِنْ إذَا كَانَتْ أَلْ لِلْجِنْسِ وَالْمَاهِيَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» أَمَّا إذَا كَانَتْ أَلْ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَلَمْ يَقْتَرِنْ الْمَحْمُولُ فَاللَّامُ الِاخْتِصَاصِ وَنَحْوِهَا، كَقَوْلِك الرَّجُلُ يَأْكُلُ الرَّغِيفَ فَلَا اخْتِصَاصَ أَصْلًا، هَذَا مَا ظَهَرَ لِفَهْمِي الْقَاصِرِ فَتَدَبَّرْهُ، وَبِهِ انْدَفَعَ مَا فِي التَّحْرِيرِ مِنْ التَّضْعِيفِ، وَإِذَا جُعِلَتْ اللَّامُ لِلْمِلْكِ أَوْ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا اخْتِصَاصَ وَإِنْ قُلْنَا إنَّ أَلْ تُفِيدُهُ، لِأَنَّ اخْتِصَاصَ مِلْكِ الْحَمْدِ أَوْ اسْتِحْقَاقَهُ بِمَدْخُولِ اللَّامِ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ الْحَمْدِ لِآخَرَ لَا بِطَرِيقِ الْمِلْكِ أَوْ الِاسْتِحْقَاقِ تَأَمَّلْ. ثُمَّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَحْتَمِلُ الْخَبَرِيَّةَ وَيَصْدُقُ عَلَيْهَا التَّعْرِيفُ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْحَمْدِ وَصْفٌ بِالْجَمِيلِ إلَخْ أَوْ فِعْلٌ يُنْبِئُ إلَخْ، وَإِذَا كَانَتْ أَلْ فِيهَا لِلْجِنْسِ فَالْقَضِيَّةُ مُهْمَلَةٌ أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَكُلِّيَّةٌ أَوْ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ فَجُزْئِيَّةٌ؛ وَلَوْ صَحَّ جَعْلُهَا لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ فَشَخْصِيَّةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْقُولَةً إلَى الْإِنْشَاءِ شَرْعًا أَوْ مَجَازًا عَنْ لَازِمِ مَعْنَاهَا فَالْمَقْصُودُ إيجَادُ الْحَمْدِ بِنَفْسِ الصِّيغَةِ: أَيْ إنْشَاءُ تَعْظِيمِهِ تَعَالَى. وَاخْتَلَفُوا فِي الْجُمْلَةِ الْإِخْبَارِيَّةِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي لَازِمِ مَعْنَاهَا كَالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْهِجَاءِ، هَلْ تَصِيرُ إنْشَائِيَّةً أَمْ لَا؟ ذَهَبَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ إلَى الثَّانِي، قَالَ لِئَلَّا يَلْزَمَ إخْلَاءُ الْجُمْلَةِ عَنْ نَوْعِ مَعْنَاهَا، قِيلَ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ هُنَا انْتِفَاءُ الِاتِّصَافِ بِالْجَمِيلِ قَبْلَ حَمْدِ الْحَامِدِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِنْشَاءَ يُقَارِنُ لَفْظُهُ مَعْنَاهُ فِي الْوُجُودِ. وَرُدَّ بِأَنَّ اللَّازِمَ انْتِفَاءُ الْوَصْفِ بِالْجَمِيلِ لَا الِاتِّصَافُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ
1 -
[تَتِمَّةٌ] تَأْتِي الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فِي كُلٍّ مِنْ الْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ؛ أَمَّا الْبَسْمَلَةُ فَتَجِبُ فِي ابْتِدَاءِ الذَّبْحِ وَرَمْيِ الصَّيْدِ وَالْإِرْسَالِ إلَيْهِ، لَكِنْ يَقُومُ مَقَامَهَا كُلُّ ذِكْرٍ خَالِصٍ. وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِأَنَّ الذَّبْحَ لَيْسَ بِمُلَائِمٍ لِلرَّحْمَةِ، لَكِنْ فِي الْجَوْهَرَةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنْ الرَّحِيمْ " فَهُوَ حَسَنٌ وَفِي ابْتِدَاءِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. قِيلَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَتُسَنُّ أَيْضًا فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ وَالْأَكْلِ، وَفِي ابْتِدَاءِ كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ، وَتَجُوزُ أَوْ تُسْتَحَبُّ فِيمَا بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِي مَحَلِّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتُبَاحُ أَيْضًا فِي ابْتِدَاءِ الْمَشْيِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ. وَتُكْرَهُ عِنْدَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ أَوْ مَحَلِّ النَّجَاسَاتِ، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ إذَا وَصَلَ قِرَاءَتَهَا بِالْأَنْفَالِ كَمَا قَيَّدَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، قِيلَ وَعِنْدَ شُرْبِ الدُّخَانِ أَيْ وَنَحْوِهِ مِنْ كُلِّ ذِي رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ كَأَكْلِ ثُومٍ وَبَصَلٍ. وَتَحْرُمُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ مُحَرَّمٍ، بَلْ فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَغَيْرِهَا يَكْفُرُ مَنْ بَسْمَلَ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ كُلِّ حَرَامٍ قَطْعِيِّ الْحُرْمَةِ، وَكَذَا تَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ إنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الذِّكْرَ. اهـ. ط مُلَخَّصًا مَعَ بَعْضِ زِيَادَاتٍ. وَأَمَّا الْحَمْدَلَةُ فَتَجِبُ فِي الصَّلَاةِ، وَتُسَنُّ فِي الْخُطَبِ، وَقَبْلَ الدُّعَاءِ وَبَعْدَ الْأَكْلِ، وَتُبَاحُ بِلَا سَبَبٍ، وَتُكْرَهُ
لَك يَا مَنْ شَرَحْت صُدُورَنَا بِأَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ سَابِقًا، وَنَوَّرْت بَصَائِرَنَا
ــ
[رد المحتار]
فِي الْأَمَاكِنِ الْمُسْتَقْذَرَةِ، وَتَحْرُمُ بَعْدَ أَكْلِ الْحَرَامِ، بَلْ فِي الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي كُفْرِهِ
(قَوْلُهُ: لَك) آثَرَ الْخِطَابَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى الدَّالَّ عَلَى اسْتِجْمَاعِهِ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ إشَارَةً إلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِجْمَاعَ مِنْ الظُّهُورِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ، بَلْ رُبَّمَا يَدَّعِي أَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْفَقُ لِمُقْتَضَى الْمَقَامِ، بَلْ الْمُهِمُّ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ قَوِيَ لِلْحَامِدِ مُحَرِّكُ الْإِقْبَالِ وَدَاعِي التَّوَجُّهِ إلَى جَنَابِهِ عَلَى الْكَمَالِ، حَتَّى خَاطَبَهُ مُشْعِرًا بِأَنَّهُ تَعَالَى كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ لَهُ حَالَةَ الْحَمْدِ لِرِعَايَةِ مَرْتَبَةِ الْإِحْسَانِ، وَهُوَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، أَوْ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَرِيبٌ مِنْ الْحَامِدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى - {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]- وَإِنْ كَانَ الْحَامِدُ لِنُقْصَانِهِ فِي كَمَالِ الْبُعْدِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ يَا الْمَوْضُوعَةُ لِنِدَاءِ الْبَعِيدِ عَلَى مَا قِيلَ، فَفِي الْإِتْيَانِ بِهَا هَضْمٌ لِنَفْسِهِ وَاسْتِبْعَادٌ لَهَا عَنْ مَظَانِّ الزُّلْفَى كَمَا أَفَادَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَزْدَوِيُّ (قَوْلُهُ: يَا مَنْ شَرَحْت) الْأَوْلَى شَرَحَ كَمَا عَبَّرَ فِي مُخْتَصَرِ الْمَعَانِي، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الظَّاهِرَةَ كُلَّهَا غَيْبٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مَوْصُولَةً أَوْ مَوْصُوفَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ، لَكِنْ بِمُرَاعَاةِ جَانِبِ النِّدَاءِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْمُخَاطَبِ يَسُوغُ الْخِطَابُ نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى. وَذَكَرَ فِي الْمُطَوَّلِ أَنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ. قَبِيحٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ. وَاعْتَرَضَهُ حَسَنٌ جَلَبِي بِأَنَّ الِالْتِفَاتَ مِنْ أَتَمِّ وُجُوهِ تَحْسِينِ الْكَلَامِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّقْبِيحِ، لِأَنَّهُ الْتِفَاتٌ مِنْ الْغَيْبَةِ إلَى التَّكَلُّمِ، وَفِيهِ تَغْلِيبُ جَانِبِ الْمَعْنَى عَلَى جَانِبِ اللَّفْظِ، عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى النَّحْوِيِّينَ - {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55]- فَلَوْ كَانَ فِيهِ قَبَاحَةٌ لَمَا وَقَعَ فِي كَلَامٍ هُوَ فِي أَعْلَى طَبَقَاتِ الْبَلَاغَةِ. اهـ. أَقُولُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِي قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ إلَخْ مِنْ اللَّطَافَةِ عِنْدَ أَهْلِ الظَّرَافَةِ، وَفِي مُغْنِي اللَّبِيبِ فِي بَحْثِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى رَابِطٍ أَنَّ نَحْوَ: أَنْتَ الَّذِي فَعَلْت مَقِيسٌ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ، وَإِذَا تَمَّ الْمَوْصُولُ بِصِلَتِهِ انْسَحَبَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْخِطَابِ، وَلِهَذَا قِيلَ قُمْتُمْ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّ آمَنُوا مُغَايَبَةً قُمْتُمْ مُوَاجَهَةً فَقَدَّمُوهَا. اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَتِمَّ الْمَوْصُولُ بِصِلَتِهِ: أَيْ لَمْ يَأْتِ الضَّمِيرُ بَعْدَ تَمَامِ الصِّلَةِ، فَدَعْوَى الِالْتِفَاتِ فِيهِ صَحِيحَةٌ (قَوْلُهُ: شَرَحْت صُدُورَنَا) أَصْلُ الشَّرْحِ بَسْطُ اللَّحْمِ وَنَحْوِهِ وَمِنْهُ شَرْحُ الصَّدْرِ: أَيْ بَسْطُهُ بِنُورٍ إلَهِيٍّ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ التَّوْسِعَةُ مُطْلَقًا، وَيُقَابِلُهُ الضِّيقُ - {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} [الأنعام: 125]- الْآيَةُ، وَفُسِّرَ فِي آيَةِ - {أَلَمْ نَشْرَحْ} [الشرح: 1]- بِتَوْسِعَتِهِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَخَصَّ الصُّدُورَ لِأَنَّهَا ظُرُوفُ الْقُلُوبِ الْمُلُوكِ عَلَى سَائِرِ الْجَوَارِحِ، لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْعَقْلِ كَمَا يَأْتِي فِي بَابِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ أَوْ الْمُرَادُ بِهَا الْقُلُوبُ، وَاتِّسَاعُهَا كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ مَا يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ الْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ (قَوْلُهُ: بِأَنْوَاعِ: الْهِدَايَةِ) قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: الْهِدَايَةُ دَلَالَةٌ بِلُطْفٍ وَلِذَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وقَوْله تَعَالَى - {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23]- عَلَى التَّهَكُّمِ وَهِدَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى تَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا لَا يُحْصِيهَا عَدَدٌ لَكِنَّهَا تَنْحَصِرُ فِي أَجْنَاسٍ مُتَرَتِّبَةٍ: الْأَوَّلُ إفَاضَةُ الْقُوَى الَّتِي بِهَا يَتَمَكَّنُ الْمَرْءُ مِنْ الِاهْتِدَاءِ إلَى مَصَالِحِهِ كَالْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ وَالْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ وَالْمَشَاعِرِ الظَّاهِرَةِ. وَالثَّانِي نَصْبُ الدَّلَائِلِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ. وَالثَّالِثُ الْهِدَايَةُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ. وَالرَّابِعُ أَنْ يَكْشِفَ عَلَى قُلُوبِهِمْ السَّرَائِرَ وَيُرِيَهُمْ الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ بِالْوَحْيِ أَوْ الْإِلْهَامِ أَوْ الْمَنَامَاتِ الصَّادِقَةِ وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ اهـ مُلَخَّصًا (قَوْلُهُ: سَابِقًا) حَالٌ مِنْ مَصْدَرِ شَرَحْتَ: أَيْ جَعَلْتَ صُدُورَنَا قَابِلَةً لِلْخَيْرَاتِ حَالَ كَوْنِ الشَّرْحِ سَابِقًا أَوْ صِفَةٌ لِذَلِكَ الْمَصْدَرِ. اهـ. ط. أَقُولُ: أَوْ صِفَةٌ لِزَمَانٍ أَيْ زَمَانًا سَابِقًا فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ: أَيْ حِينَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ أَوْ حِينَ وُلِدْنَا عَلَى الْفِطْرَةِ أَوْ عَقَلْنَا الدِّينَ الْحَقَّ وَاخْتَرْنَا الْبَقَاءَ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ: وَنَوَّرْتَ بَصَائِرَنَا) النُّورُ كَيْفِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ بِنَفْسِهَا مُظْهِرَةٌ لِغَيْرِهَا
بِتَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ لَاحِقًا، وَأَفَضْت عَلَيْنَا مِنْ أَشِعَّةِ شَرِيعَتِك الْمُطَهَّرَةِ بَحْرًا رَائِقًا، وَأَغْدَقْتَ لَدَيْنَا مِنْ بِحَارِ
ــ
[رد المحتار]
وَالضِّيَاءُ أَقْوَى مِنْهُ وَأَتَمُّ، وَلِذَلِكَ أُضِيفَ إلَى الشَّمْسِ فِي قَوْله تَعَالَى - {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5]- وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الضِّيَاءَ ضَوْءٌ ذَاتِيٌّ وَالنُّورَ ضَوْءٌ عَارِضٌ. وَقَدْ يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النُّورُ أَقْوَى عَلَى الْإِطْلَاقِ، - {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 35]- وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ فِي الْآيَةِ الْمُنَوِّرَ، وَقَدْ حَمَلَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى ذَلِكَ اهـ حَسَنٌ جَلَبِي عَلَى الْمُطَوَّلِ. وَالْبَصَائِرُ: جَمْعُ بَصِيرَةٍ، وَهِيَ قُوَّةٌ لِلْقَلْبِ الْمُنَوَّرِ بِنُورِ الْقُدُسِ يَرَى بِهَا حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ بِمَثَابَةِ الْبَصَرِ لِلنَّفْسِ كَمَا فِي تَعْرِيفَاتِ السَّيِّدِ (قَوْلُهُ: بِتَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ) الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بِنُورِ بَصَرِهِ يَنْظُرُ إلَى عَجَائِبِ الْمَصْنُوعَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِلَى الْكُتُبِ النَّافِعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا فِي الْعَادَةِ لِتَنْوِيرِ الْبَصِيرَةِ بِاكْتِسَابِ الْمَعَارِفِ (قَوْلُهُ: لَاحِقًا) الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي سَابِقًا؛ وَإِنَّمَا كَانَ تَنْوِيرُ الْبَصَائِرِ لَاحِقًا: أَيْ مُتَأَخِّرًا عَنْ شَرْحِ الصُّدُورِ، لِأَنَّ شَرْحَهَا الِاهْتِدَاءُ إلَى الْإِسْلَامِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} [الأنعام: 125]- الْآيَةُ، وَهَذَا سَابِقٌ عَادَةً عَلَى تَنْوِيرِ الْبَصَائِرِ بِمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْمُخْتَصَرِ: قَدَّمَ شَرْحَ الصَّدْرِ عَلَى تَنْوِيرِ الْقَلْبِ، لِأَنَّ الصَّدْرَ وِعَاءُ الْقَلْبِ وَشَرْحُهُ مُقَدَّمٌ لِدُخُولِ النُّورِ فِي الْقَلْبِ (قَوْلُهُ: وَأَفَضْت) يُقَالُ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى نَفْسِهِ: أَيْ أَفْرَغَهُ قَامُوسٌ (قَوْلُهُ: مِنْ أَشِعَّةِ) جَمْعُ شُعَاعٍ بِالضَّمِّ: وَهُوَ مَا تَرَاهُ مِنْ الشَّمْسِ كَأَنَّهُ الْحِبَالُ مُقْبِلَةً عَلَيْك إذَا نَظَرْت إلَيْهَا، أَوْ مَا يَنْتَشِرُ مِنْ ضَوْئِهَا قَامُوسٌ. وَالشَّرِيعَةُ: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ أَيْ مَشْرُوعَةٌ، فَقَدْ شَرَعَهَا اللَّهُ حَقِيقَةً وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَجَازًا، وَالشَّرِيعَةُ وَالْمِلَّةُ وَالدِّينُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. فَهِيَ شَرِيعَةٌ لِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ شَرَعَهَا. وَالشَّرِيعَةُ فِي الْأَصْلِ الطَّرِيقُ يُورَدُ لِلِاسْتِقَاءِ، فَأُطْلِقَتْ عَلَى الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ لِبَيَانِهَا وَوُضُوحِهَا، وَلِلتَّوَصُّلِ بِهَا إلَى مَا بِهِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَمِلَّةٌ لِكَوْنِهَا أُمْلِيَتْ عَلَيْنَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَدِينٌ لِلتَّدَيُّنِ بِأَحْكَامِهَا: أَيْ لِلتَّعَبُّدِ بِهَا. اهـ. ط، وَكُلٌّ مِنْ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّبِيِّ وَالْأُمَّةِ. بِخِلَافِ الْمِلَّةِ فَإِنَّهَا لَا تُضَافُ إلَّا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُقَالُ مِلَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُقَالُ مِلَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مِلَّةُ زَيْدٍ كَمَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ وَالرَّاغِبُ وَغَيْرُهُمَا. فَيُشْكِلُ مَا قَالَهُ التَّفْتَازَانِيُّ إنَّهَا تُضَافُ إلَى آحَادِ الْأُمَّةِ قُهُسْتَانِيٌّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْكَيْدَانِيَّةِ. هَذَا، وَقَالَ ح: الْأَنْسَبُ بِالْإِضَافَةِ وَالْبَحْرِ أَنْ يَقُولَ مِنْ شَآبِيبَ مَثَلًا، وَهُوَ جَمْعُ شُؤْبُوبٍ: الدُّفْعَةُ مِنْ الْمَطَرِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. اهـ. أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ شَبَّهَ الشَّرِيعَةَ بِالشَّمْسِ بِجَامِعِ الِاهْتِدَاءِ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ وَالْأَشِعَّةُ تَخْيِيلٌ، وَكُلٌّ مِنْ الْإِفَاضَةِ وَالْبَحْرِ لَا يُلَائِمُ ادِّعَاءَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مِنْ أَفْرَادِ الشَّمْسِ الَّذِي هُوَ مَبْنَى الِاسْتِعَارَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِجَوَازِ أَنْ تُشَبَّهَ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ بِالْأَشِعَّةِ مِنْ حَيْثُ الِاهْتِدَاءُ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ وَالْقَرِينَةُ إضَافَةُ الْأَشِعَّةِ إلَى الشَّرِيعَةِ ثُمَّ تُشَبَّهُ الْأَحْكَامُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْأَشِعَّةِ مِنْ حَيْثُ الِارْتِفَاعُ أَوْ الْكَثْرَةُ بِالسَّحَابِ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ. وَالْإِضَافَةُ اسْتِعَارَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ، وَالْبَحْرُ تَرْشِيحٌ، فَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثُ اسْتِعَارَاتٍ عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى - {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112]- وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إضَافَةُ الْأَشِعَّةِ إلَى الشَّرِيعَةِ مِنْ إضَافَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ إلَى الْمُشَبَّهِ، وَشَبَّهَ الْمَسَائِلَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْبَحْرِ بِجَامِعِ الْكَثْرَةِ أَوْ النَّفْعِ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ وَالْإِفَاضَةُ تَرْشِيحٌ فَافْهَمْ (قَوْلُهُ: وَأَغْدَقْت) أَيْ أَكْثَرْت، فِي التَّنْزِيلِ - {لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]- أَيْ كَثِيرًا مِصْبَاحٌ (قَوْلُهُ: لَدَيْنَا) أَيْ عِنْدَنَا، وَقِيلَ إنَّ لَدَى تَقْتَضِي الْحَضْرَةَ بِخِلَافِ عِنْدَ، تَقُولُ: عِنْدِي فَرَسٌ إذَا كُنْت تَمْلِكُهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً فِي مَكَانِ التَّكَلُّمِ، وَلَا تَقُولُ لَدَيَّ
مِنَحِك الْمُوَفَّرَةِ نَهْرًا فَائِقًا، وَأَتْمَمْت نِعْمَتَك عَلَيْنَا حَيْثُ يَسَّرْت ابْتِدَاءَ تَبْيِيضِ هَذَا الشَّرْحِ الْمُخْتَصَرِ تُجَاهَ وَجْهِ مَنْبَعِ الشَّرِيعَةِ وَالدُّرَرِ، وَضَجِيعَيْهِ الْجَلِيلَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، بَعْدَ الْإِذْنِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم
ــ
[رد المحتار]
إلَّا إذَا كَانَتْ حَاضِرَةً (قَوْلُهُ: مِنَحِك) جَمْعُ مِنْحَةٍ: وَهِيَ الْعَطِيَّةُ (قَوْلُهُ: الْمُوَفَّرَةِ) أَيْ الْكَثِيرَةِ (قَوْلُهُ: نَهْرًا فَائِقًا) الْفَائِقُ: الْخِيَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَامُوسٌ، وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ أَيْضًا نَظِيرَ مَا مَرَّ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَسَامِي الْكُتُبِ مِنْ الْهِدَايَةِ وَالتَّنْوِيرِ وَالْبَحْرِ وَالنَّهْرِ مِنْ اللَّطَافَةِ وَحُسْنِ الْإِيهَامِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا نَفْسَ الْكُتُبِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّكَلُّفِ وَفَوَاتِ النِّكَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ فِي لَطِيفِ الْكَلَامِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَأْلُوفِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ فَافْهَمْ (قَوْلُهُ: أَتْمَمْت) أَيْ أَكْمَلْت نِعْمَتَك: أَيْ إنْعَامَك، أَوْ مَا أَنْعَمْت بِهِ ط (قَوْلُهُ: عَلَيْنَا) الضَّمِيرُ لِلْمُؤَلِّفِ وَحْدَهُ نَظَرًا إلَى عَوْدِ ثَوَابِ الِانْتِفَاعِ بِهِ إلَيْهِ فَقَطْ، وَأَتَى بِضَمِيرِ الْعَظَمَةِ لِلتَّحْدِيثِ بِالنِّعْمَةِ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ، أَوْ الضَّمِيرُ لِمَعَاشِرِ الْحَنَفِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَهَذَا حُسْنُ ظَنٍّ مِنْ الشَّيْخِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ أُلِّفَتْ بَعْدَ ابْتِدَائِهِ هَذَا الْكِتَابَ بَلْ عَلَى أَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ ط (قَوْلُهُ: حَيْثُ) الْحَيْثِيَّةُ لِلتَّعْلِيلِ: أَيْ لِأَنَّك يَسَّرْت: أَيْ سَهَّلْت، أَوْ لِلتَّقْيِيدِ: أَيْ أَتْمَمْت وَقْتَ تَيْسِيرِ ابْتِدَاءِ إلَخْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ط (قَوْلُهُ: تَبْيِيضِ) هُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُصَنِّفِينَ عِبَارَةٌ عَنْ كِتَابَةِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الضَّبْطِ وَالتَّحْرِيرِ مِنْ غَيْرِ شَطْبٍ بَعْدَ كِتَابَتِهِ كَيْفَمَا اتَّفَقَ. اهـ. حَمَوِيٌّ (قَوْلُهُ: هَذَا الشَّرْحِ) الْإِشَارَةُ إلَى مَا فِي الذِّهْنِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَخَيَّلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى مِنْ الْأَوْجُهِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةِ ط، وَهِيَ كَوْنُ الْإِشَارَةِ إلَى وَاحِدٍ فَقَطْ مِنْ الْأَلْفَاظِ أَوْ النُّقُوشِ أَوْ الْمَعَانِي أَوْ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا أَوْ إلَى ثَلَاثَةٍ، وَعَلَى كُلٍّ فَالْإِشَارَةُ مَجَازِيَّةٌ هُنَا. وَالشَّرْحُ بِمَعْنَى الشَّارِحِ: أَيْ الْمُبَيِّنُ وَالْكَاشِفُ، أَوْ جَعَلَ الْأَلْفَاظَ شَرْحًا مُبَالَغَةً (قَوْلُهُ: الْمُخْتَصَرِ) الِاخْتِصَارُ: تَقْلِيلُ اللَّفْظِ وَتَكْثِيرُ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْإِيجَازُ كَمَا فِي الْمِفْتَاحِ (قَوْلُهُ: تُجَاهَ) فِي الْقَامُوسِ: وَجَاهَك وَتُجَاهَك مُثَلَّثَيْنِ تِلْقَاءَ وَجْهِك (قَوْلُهُ: مَنْبَعِ الشَّرِيعَةِ) أَيْ مَحَلِّ نَبْعِهَا وَظُهُورِهَا، شَبَّهَ الظُّهُورَ بِالنَّبْعِ ثُمَّ اشْتَقَّ مِنْ النَّبْعِ بِمَعْنَى الظُّهُورِ مَنْبَعَ بِمَعْنَى مُظْهِرٍ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ، أَوْ شَبَّهَ الشَّرِيعَةَ بِالْمَاءِ وَالْمَنْبَعُ تَخْيِيلٌ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ، وَالْمَعْنَى وَجْهِ صَاحِبِ مَنْبَعِ الشَّرِيعَةِ (قَوْلُهُ: وَالدُّرَرِ) أَيْ الْفَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ الشَّبِيهَةِ بِالدُّرَرِ فِي النَّفَاسَةِ وَالِانْتِفَاعِ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ وَعَطْفُهُ عَلَى الشَّرِيعَةِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَفِيهِ إيهَامٌ لَطِيفٌ بِكِتَابِ الدُّرَرِ (قَوْلُهُ: وَضَجِيعَيْهِ) عَطْفٌ عَلَى مَنْبَعٍ تَثْنِيَةُ ضَجِيعٍ بِمَعْنَى مُضَاجِعٍ: وَهُوَ مَنْ يَضْطَجِعُ بِحِذَاءِ آخَرَ بِلَا فَاصِلٍ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمَا ضَجِيعَيْنِ لِقُرْبِهِمَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم (قَوْلُهُ: الْجَلِيلَيْنِ) أَيْ الْعَظِيمَيْنِ (قَوْلُهُ: بَعْدَ الْإِذْنِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَسَّرْت أَوْ ابْتِدَاءَ، وَكَأَنَّ الْإِذْنَ لِلشَّارِحِ حَصَلَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم صَرِيحًا بِرُؤْيَةِ مَنَامٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ، وَبِبَرَكَتِهِ صلى الله عليه وسلم فَاقَ هَذَا الشَّرْحُ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فَاقَ مَتْنُهُ حَيْثُ رَأَى الْمُصَنِّفُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ لَهُ مُسْتَقْبِلًا وَاعْتَنَقَهُ عَجِلًا؛ وَأَلْقَمَهُ عليه الصلاة والسلام لِسَانَهُ الشَّرِيفَ كَمَا حَكَاهُ فِي الْمِنَحِ، فَكُلٌّ مِنْ الْمَتْنِ وَالشَّرْحِ مِنْ آثَارِ بَرَكَتِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا غَرْوَ أَنْ شَاعَ ذِكْرُهُمَا، وَفَاقَ وَعَمَّ نَفْعُهُمَا فِي الْآفَاقِ (قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم) فِعْلٌ مَاضٍ قِيَاسُ مَصْدَرِهِ التَّصْلِيَةُ، وَهُوَ مَهْجُورٌ لَمْ يُسْمَعْ هَكَذَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْقَامُوسِ صَلَّى صَلَاةً لَا تَصْلِيَةً دَعَا اهـ وَيَرُدُّهُ مَا أَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ:
تَرَكْت الْقِيَانَ وَعَزْفَ الْقِيَانِ
…
وَأَدْمَنْت تَصْلِيَةً وَابْتِهَالًا
الْقِيَانُ جَمْعُ قَيْنَةٍ: وَهِيَ الْأَمَةُ، وَعَزْفُهَا: أَصْوَاتُهَا. قَالَ: وَالتَّصْلِيَةُ مِنْ الصَّلَاةِ، وَابْتِهَالًا مِنْ الدُّعَاءِ اهـ وَقَدْ ذَكَرَهُ الزَّوْزَنِيُّ فِي مَصَادِرِهِ. وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ: الصَّلَاةُ اسْمٌ مِنْ التَّصْلِيَةِ وَكِلَاهُمَا مُسْتَعْمَلٌ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ بِمَعْنَى أَدَاءِ الْأَرْكَانِ فَإِنَّ مَصْدَرَهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ كَمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي الدُّعَاءِ مَجَازٌ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
ــ
[رد المحتار]
فِي الْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ كَمَا حَقَّقَهُ السَّعْدُ فِي حَوَاشِي الْكَشَّافِ، وَتَمَامُهُ فِي حَاشِيَةِ الْأَشْبَاهِ لِلْحَمَوِيِّ. وَفِي التَّحْرِيرِ: هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلِاعْتِنَاءِ بِإِظْهَارِ الشَّرَفِ، وَيَتَحَقَّقُ مِنْهُ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ عَلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِهِ بِالدُّعَاءِ، فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُشْتَرَكِ الْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ أَرْجَحُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ، أَوْ هِيَ مَجَازٌ فِي الِاعْتِنَاءِ الْمَذْكُورِ. اهـ. وَبِهِ انْدَفَعَ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى - {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]- الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَعْنَى الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ، وَلِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْعَطْفِ عُدِّيَتْ بِعَلَى لِلْمَنْفَعَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَعَدِّي بِهَا لِلْمَضَرَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُتَرَادِفَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ جَرَيَانِ أَحَدِهِمَا مَجْرَى الْآخَرِ، وَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا مَنْقُولَةٌ إلَى الْإِنْشَاءِ، أَوْ مَجَازٌ فِيهِ بِمَعْنَى اللَّهُمَّ صَلِّ، إذْ الْمَقْصُودُ إيجَادُ الصَّلَاةِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ. قَالَ الْقُهُسْتَانِيُّ: وَمَعْنَاهَا الثَّنَاءُ الْكَامِلُ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِنَا فَأُمِرْنَا أَنْ نَكِلَ ذَلِكَ إلَيْهِ تَعَالَى كَمَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ
1 -
مَطْلَبٌ (أَفْضَلُ صِيَغِ الصَّلَاةِ) وَأَفْضَلُ الْعِبَارَاتِ عَلَى مَا قَالَ السُّيُوطِيّ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ هُوَ التَّعْظِيمُ؛ فَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ عَظِّمْهُ فِي الدُّنْيَا بِإِعْلَاءِ ذِكْرِهِ وَإِنْفَاذِ شَرِيعَتِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِتَضْعِيفِ أَجْرِهِ وَتَشْفِيعِهِ فِي أُمَّتِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ اهـ وَعَطَفَ قَوْلَهُ وَسَلَّمَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَيُحْتَمَلُ صِيغَةُ الْأَمْرِ مِنْ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِنْشَاءِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى وَحُذِفَ مَعْمُولُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ: أَيْ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَمَصْدَرُهُ التَّسْلِيمُ وَاسْمُ مَصْدَرِهِ السَّلَامَةُ، وَمَعْنَاهُ السَّلَامَةُ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ. قَالَ الْحَمَوِيُّ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ كَرِهَ إفْرَادَ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَنَا لَا يُكْرَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي مُنْيَةِ الْمُفْتِي، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي حَقِّ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَمَنْ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُورِدَ نَقْلًا صَرِيحًا وَلَا يَجِدُ إلَيْهِ سَبِيلًا كَذَا فِي شَرْحِ الْعَلَّامَةِ ميرك عَلَى الشَّمَائِلِ. اهـ. أَقُولُ: وَجَزَمَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ أَمِيرِ حَاجٍّ فِي شَرْحِهِ عَلَى التَّحْرِيرِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْقَوْلِ بِكَرَاهَةِ الْإِفْرَادِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ فِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى [حِلْيَةُ الْمُجَلِّي فِي شَرْحِ مُنْيَةِ الْمُصَلِّي] بِمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ فِي حَدِيثِ الْقُنُوتِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ " ثُمَّ قَالَ: مَعَ أَنَّ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181]- {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]- إلَى غَيْرِ ذَلِكَ أُسْوَةً حَسَنَةً. اهـ. وَمِمَّنْ رَدَّ الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ الْعَلَّامَةُ مُنْلَا عَلِيٌّ الْقَارِي فِي شَرْحِ الْجَزْرِيَّةِ فَرَاجِعْهُ
(قَوْلُهُ: وَعَلَى آلِهِ) اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَالْأَكْثَرُونَ أَنَّهُمْ قَرَابَتُهُ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهِمْ، وَقِيلَ جَمِيعُ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَإِلَيْهِ مَالَ مَالِكٌ وَاخْتَارَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ شَرْحُ التَّحْرِيرِ.
وَذَكَرَ الْقُهُسْتَانِيُّ أَنَّ الثَّانِيَ مُخْتَارُ الْمُحَقِّقِينَ (قَوْلُهُ: وَصَحْبِهِ) جَمْعُ صَاحِبٍ، وَقِيلَ اسْمُ جَمْعٍ لَهُ. قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ: وَالصَّحَابِيُّ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَمَاتَ قَبْلَهَا عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أَوْ ارْتَدَّ وَعَادَ فِي حَيَاتِهِ. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ مُتَّبِعًا لَهُ مُدَّةً يَثْبُتُ مَعَهَا إطْلَاقُ صَاحِبِ فُلَانٍ عُرْفًا بِلَا تَحْدِيدٍ فِي الْأَصَحِّ. اهـ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَنْ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ تَعُودُ صُحْبَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُحْبَطُ عَمَلُهُ مَا لَمْ يَمُتْ عَلَى الرِّدَّةِ: أَمَّا عِنْدَنَا فَبِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ يُحْبَطُ الْعَمَلُ، وَالصُّحْبَةُ مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْمَالِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا إنَّهُ بِالْإِسْلَامِ تَعُودُ أَعْمَالُهُ مُجَرَّدَةً عَنْ الثَّوَابِ، وَلِذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ سِوَى عِبَادَةٍ بَقِيَ سَبَبُهَا كَالْحَجِّ وَكَصَلَاةٍ صَلَّاهَا فَارْتَدَّ فَأَسْلَمَ فِي وَقْتِهَا. وَعَلَى هَذَا فَقَدْ يُقَالُ تَعُودُ صُحْبَتُهُ مُجَرَّدَةً عَنْ الثَّوَابِ،
الَّذِينَ حَازُوا مِنْ مِنَحِ فَتْحِ كَشْفِ فَيْضِ فَضْلِك الْوَافِي حَقَائِقًا. وَبَعْدُ: فَيَقُولُ فَقِيرُ ذِي اللُّطْفِ الْخَفِيِّ.
ــ
[رد المحتار]
وَقَدْ يُقَالُ إنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا تَعُودُ صُحْبَتُهُ مَا لَمْ يَلْقَهُ لِبَقَاءِ سَبَبِهَا فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: الَّذِينَ حَازُوا) أَيْ جَمَعُوا (قَوْلُهُ: مِنْ مِنَحِ إلَخْ) فِيهِ صِنَاعَةُ التَّوْجِيهِ حَيْثُ ذَكَرَ أَسْمَاءَ الْكُتُبِ وَهِيَ الْمِنَحُ لِلْمُصَنِّفِ وَالْفَتْحُ شَرْحُ الْهِدَايَةِ لِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ وَالْكَشْفُ شَرْحُ الْمَنَارِ لِلنَّسَفِيِّ وَالْفَيْضُ لِلْكُرْكِيِّ وَالْوَافِي مَتْنُ الْكَافِي لِلنَّسَفِيِّ وَالْحَقَائِقُ شَرْحُ مَنْظُومَةِ النَّسَفِيِّ، وَفِيهِ حُسْنُ الْإِبْهَامِ بِذِكْرِ مَا لَهُ مَعْنًى قَرِيبٌ وَمَعْنًى بَعِيدٌ. وَأَرَادَ الْمَعْنَى الْبَعِيدَ وَهُوَ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةُ هُنَا دُونَ الِاصْطِلَاحِيَّةِ لِأَهْلِ الْمَذْهَبِ: أَيْ حَازُوا عَنْ عَطَايَا فَتْحِ بَابِ كَشْفٍ: أَيْ إظْهَارِ فَيْضٍ أَيْ كَثِيرِ فَضْلِك أَيْ إنْعَامِك الْوَافِي أَيْ التَّامِّ حَقَائِقًا أَيْ أُمُورًا مُحَقَّقَةً.
وَبِهَذِهِ اللَّطَافَةِ يُغْتَفَرُ مَا فِيهِ مِنْ تَتَابُعِ الْإِضَافَاتِ الَّذِي عُدَّ مُخِلًّا بِالْفَصَاحَةِ إلَّا إذَا لَمْ يَثْقُلْ عَلَى اللِّسَانِ فَإِنَّهُ يَزِيدُ الْكَلَامَ مِلَاحَةً وَلَطَافَةً. فَيَكُونُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ. وَيُسَمَّى الِاطِّرَادُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى - {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} [مريم: 2]- وقَوْله تَعَالَى - {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} [الأنفال: 52]-.
[تَنْبِيهٌ] حَقَائِقًا بِالْأَلِفِ لِلسَّجْعِ مَعَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الصَّرْفِ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ. فَصَرَفَهُ هُنَا عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى - {سَلاسِلَ وَأَغْلالا} [الإنسان: 4]- وقَوْله تَعَالَى - قَوَارِيرًا - فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَوَّنَهُمَا. وَذَكَرُوا لِذَلِكَ أَوْجُهًا مِنْهَا التَّنَاسُبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ " سَلَاسِلَا " بِالْأَلِفِ دُونَ تَنْوِينٍ (قَوْلُهُ: وَبَعْدُ) يُؤْتَى بِهَا لِلِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ. فَهِيَ مِنْ الِاقْتِضَابِ الْمَشُوبِ بِالتَّخَلُّصِ.
وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا. وَدَاوُد أَقْرَبُ. وَهِيَ فَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ، وَهِيَ مِنْ الظُّرُوفِ الزَّمَانِيَّةِ أَوْ الْمَكَانِيَّةِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ الْإِضَافَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ لِنِيَّةِ مَعْنَى الْمُضَافِ إلَيْهِ أَوْ مَنْصُوبَةٌ غَيْرَ مُنَوَّنَةٍ لِنِيَّةِ لَفْظِهِ أَوْ مُنَوَّنَةٌ إنْ لَمْ يَنْوِ لَفْظَهُ وَلَا مَعْنَاهُ. وَالثَّالِثُ لَا يُحْتَمَلُ هُنَا لِعَدَمِ مُسَاعَدَةِ الْخَطِّ إلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ لَا يَكْتُبُ الْأَلْفَ الْمُبْدَلَةَ عَنْ التَّنْوِينِ حَالَ النَّصْبِ، وَعَلَى كُلٍّ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُتَعَلِّقٍ. فَإِنْ كَانَتْ الْوَاوُ هُنَا نَائِبَةً عَنْ أَمَّا كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ فَمُتَعَلِّقُهَا إمَّا الشَّرْطُ أَوْ الْجَزَاءُ، وَالثَّانِي أَوْلَى لِيُفِيدَ تَأْكِيدَ الْوُقُوعِ. لِأَنَّ التَّعْلِيقَ عَلَى أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ يُفِيدُ وُقُوعَ الْمُعَلَّقِ أَلْبَتَّةَ.
وَالتَّقْدِيرُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَيَقُولُ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ وَالتَّصْلِيَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. أَوْ لِلِاسْتِئْنَافِ فَالْعَامِلُ فِيهَا يَقُولُ. وَزِيدَتْ فِيهِ الْفَاءُ لِتَوَهُّمِ أَمَّا إجْرَاءً لِلْمُتَوَهَّمِ مَجْرَى الْمُحَقَّقِ كَمَا فِي: وَلَا سَابِقَ بِالْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ وَيَقُولُ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ.
وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهِيَ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لِنِيَابَةِ الْوَاوِ عَنْ أَدَاتِهِ. وَاعْتَرَضَهُ حَسَنٌ جَلَبِي فِي حَوَاشِي التَّلْوِيحِ بِأَنَّ النِّيَابَةَ تَقْتَضِي مُنَاسَبَةً بَيْنَ النَّائِبِ وَالْمَنُوبِ عَنْهُ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْوَاوِ وَأَمَّا اهـ وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ أَمَّا بَعْدَ الْوَاوِ لِأَنَّ أَمَّا لَا تُحْذَفُ إلَّا إذَا كَانَ الْجَزَاءُ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا نَاصِبًا لِمَا قَبْلَهُ أَوْ مُفَسِّرًا لَهُ كَمَا فِي الرَّضِي وَمَا هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ (قَوْلُهُ: فَقِيرُ ذِي اللُّطْفِ) أَيْ كَثِيرُ الْفَقْرِ: أَيْ الِاحْتِيَاجِ لِلَّهِ تَعَالَى. ذِي اللُّطْفِ: أَيْ الرِّفْقِ وَالْبِرِّ بِعِبَادِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ (قَوْلُهُ: الْخَفِيِّ) أَيْ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ. فَإِنَّ لُطْفَهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَى شَخْصٍ فِي كُلِّ شَخْصٍ، أَوْ الْمُرَادُ الْخَفِيُّ عَنْ الْعَبْدِ. بِأَنْ يُدَبِّرَ لَهُ الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ تَعَانٍ مِنْهُ وَمَشَقَّةٍ. وَيُهَيِّئَ لَهُ أُمُورَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ط
(قَوْلُهُ: مُحَمَّدٌ) بَدَلٌ مِنْ فَقِيرٍ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَعَلَاءُ الدِّينِ لَقَبُهُ: أَيْ مُعْلِيهِ وَرَافِعُهُ بِالْعَمَلِ بِهِ وَبَيَانِ أَحْكَامِهِ.
مُحَمَّدُ عَلَاءُ الدِّينِ الْحَصْكَفِيُّ ابْنُ الشَّيْخِ عَلِيٍّ الْإِمَامِ بِجَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ
ــ
[رد المحتار]
وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ التَّسَمِّي بِمِثْلِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَزْكِيَةُ نَفْسٍ وَيَأْتِي تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي شَرْحِ ابْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَلَى هَذَا الشَّرْحِ: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ حَسَنِ بْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ الْحِصْنِيُّ الْأَثَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْحَصْكَفِيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ فِي الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ، مِنْهَا هَذَا الشَّرْحُ وَشَرْحُ الْمُلْتَقَى وَشَرْحُ الْمَنَارِ فِي الْأُصُولِ وَشَرْحُ الْقَطْرِ فِي النَّحْوِ وَمُخْتَصَرُ الْفَتَاوَى الصُّوفِيَّةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ فَتَاوَى ابْنِ نُجَيْمٍ جَمْعُ التُّمُرْتَاشِيِّ وَجَمْعُ ابْنِ صَاحِبِهَا، وَلَهُ تَعْلِيقَةٌ عَلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ تَبْلُغُ نَحْوَ ثَلَاثِينَ كُرَّاسًا وَعَلَى تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إلَى سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَحَوَاشٍ عَلَى الدُّرَرِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الرَّسَائِلِ وَالتَّحْرِيرَاتِ، وَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِالْفَضْلِ وَالتَّحْقِيقِ مَشَايِخُهُ وَأَهْلُ عَصْرِهِ حَتَّى قَالَ شَيْخُهُ الشَّيْخُ خَيْرُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ فِي إجَازَتِهِ لَهُ: وَقَدْ بَدَأَنِي بِلَطَائِفِ أَسْئِلَةٍ وَقَفْت بِهَا عَلَى كَمَالِ رِوَايَتِهِ وَسَعَةِ مَلَكَتِهِ، فَأَجَبْته غَيْرَ مُوَسِّعٍ عَلَيْهِ، فَكَرَّرَ عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى فَزِدْته فَزَادَ فَرَأَيْت جَوَادَ رِهَانِهِ فِي غَايَةِ الْمُكْنَةِ وَالسَّبْقِ، فَبَعُدَتْ لَهُ الْغَايَةُ فَأَتَاهَا مُسْتَرِيحًا لَا يَخْفِقُ، مُسْتَبْصِرًا لَا يَطْرُقُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لِي أَنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي حُدِّثْت عَنْهُ وَصَلْت بِهِ إلَى حَالَةٍ يَأْخُذُ مِنِّي وَآخُذُ مِنْهُ إلَى أَنْ قَالَ فِي شَأْنِهِ: فَيَا مَنْ لَهُ شَكٌّ فَدُونَك فَاسْأَلْ تَجِدْ جَبَلًا فِي الْعِلْمِ غَيْرَ مُخَلْخَلِ يُبَارِي فُحُولَ الْفِقْهِ فِيمَا يَرَوْنَهُ وَيَبْرُزُ لِلْمَيْدَانِ غَيْرَ مُزَلْزَلِ يَقْشُرُ عَنْ لُبٍّ مَعْلُومٍ قُشُورُهُ وَيَأْتِي بِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ مُفَصَّلِ وَيَقْوَى عَلَى التَّرْجِيحِ فِيهِ بِثَاقِبٍ مِنْ الْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ غَيْرَ مُحَوَّلِ وَفِكْرٍ إذَا مَا حَاوَلَ الصَّخْرَ قَلَّهُ وَإِنْ رُمْت حَلَّ الصَّعْبِ فِي الْحَالِ يَنْجَلِي وَمَا قُلْت هَذَا الْقَوْلَ إلَّا بُعَيْدَ مَا سَبَرْت خَبَايَاهُ بِأَفْحَم مِقْوَلِ وَقَالَ شَيْخُهُ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدُ أَفَنْدِي الْمَحَاسِنِيُّ فِي إجَازَتِهِ لَهُ أَيْضًا: وَإِنَّهُ مِمَّنْ نَشَأَ وَالْفَضَائِلُ تَعُلُّهُ وَتَنْهَلُهُ، وَالرَّغْبَةُ فِي الْعِلْمِ تُقَرِّبُ لَهُ مَا يُحَاوِلُهُ مِنْ ذَلِكَ وَتُسَهِّلُهُ، حَتَّى نَالَ مِنْ قِدَاحِ الْكَمَالِ الْقَدَحَ الْمُعَلَّى، وَفَازَ بِمَا وَشَّحَ بِهِ صَدْرَ النَّبَاهَةِ وَحَلَّى، وَكَانَ لِي عَلَى الْغَوْصِ عَلَى غُرَرِ الْفَوَائِدِ أَعْظَمَ مُعِينٍ، فَأَفَادَ وَاسْتَفَادَ، وَفَهِمَ وَأَجَادَ،. اهـ.
وَتَرْجَمَهُ تِلْمِيذُهُ خَاتِمَةُ الْبُلَغَاءِ الْمُحِبِّيُّ فِي تَارِيخِهِ فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: إنَّهُ كَانَ عَالِمًا مُحَدِّثًا فَقِيهًا نَحْوِيًّا، كَثِيرَ الْحِفْظِ وَالْمَرْوِيَّاتِ طَلْقَ اللِّسَانِ، فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، جَيِّدَ التَّقْرِيرِ وَالتَّحْرِيرِ، وَتُوُفِّيَ عَاشِرَ شَوَّالٍ سَنَةَ (1088) عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ الصَّغِيرِ (قَوْلُهُ: الْحَصْكَفِيُّ) كَذَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفَتْحِ الْكَافِ وَفِي آخِرِهِ فَاءٌ وَيَاءُ النِّسْبَةِ إلَى حِصْنِ كِيفَا، وَهُوَ مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ. قَالَ فِي الْمُشْتَرَكِ: وَحِصْنُ كِيفَا عَلَى دِجْلَةَ بَيْنَ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ ومَيَّافَارِقِينِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَنْسُبُوا إلَيْهِ الْحِصْنِيَّ وَقَدْ نَسَبُوا إلَيْهِ أَيْضًا كَذَلِكَ، لَكِنْ إذَا نَسَبُوا إلَى اسْمَيْنِ أُضِيفَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ رَكَّبُوا مِنْ مَجْمُوعِ الِاسْمَيْنِ اسْمًا وَاحِدًا وَنَسَبُوا إلَيْهِ كَمَا فَعَلُوا هُنَا، وَكَذَلِكَ نَسَبُوا إلَى رَأْسِ عَيْنٍ رَاسَعَيْنِيٌّ وَإِلَى عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ شَمْسٍ وَعَبْدِ الدَّارِ عَبْدَلِيٌّ وَعَبْشَمِيٌّ وَعَبْدَرِيٌّ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ نَظِيرَ هَذَا ذَكَرَهُ الْمُحِبِّيُّ فِي تَارِيخِهِ فِي تَرْجَمَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْلَا
(قَوْلُهُ: بِجَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ) مُتَعَلِّقٌ بِالْإِمَامِ وَالْبَاءُ بِمَعْنَى فِي ط، وَقَدْ بَنَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأُمَوِيُّ، نُقِلَ أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفِيهِ رَأْسُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عليهما السلام، وَفِي حَائِطِهِ الْقِبْلِيِّ مَقَامُ هُودٍ عليه السلام، وَيُقَالُ إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ بَنَى جُدْرَانَهُ الْأَرْبَعَ.
ثُمَّ الْمُفْتِي بِدِمَشْقَ الْمَحْمِيَّةِ الْحَنَفِيُّ: لَمَّا بَيَّضْت الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ خَزَائِنِ الْأَسْرَارِ، وَبَدَائِعِ الْأَفْكَارِ، فِي شَرْحِ
ــ
[رد المحتار]
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى - {وَالتِّينِ} [التين: 1]- أَنَّهُ مَسْجِدُ دِمَشْقَ، وَكَانَ بُسْتَانًا لِنَبِيِّ اللَّهِ هُودٍ عليه السلام، وَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ شَجَرُ التِّينِ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَهُ الْوَلِيدُ اهـ فَهُوَ الْمَعْبَدُ الْقَدِيمُ الَّذِي تَشَرَّفَ بِالْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَصَلَّى فِيهِ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ. وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ الْأَفْضَلَ بَعْدَ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مَا كَانَ أَقْدَمَ، بَلْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ أَخْبَارِ الدُّوَلِ بِالسَّنَدِ إلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ بِثَلَاثِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَهُوَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ إلَى وَقْتِنَا هَذَا مَعْمُورٌ بِالْعِبَادَةِ وَمَجْمَعُ الْعِلْمِ وَالْإِفَادَةِ.
وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَنْ يَهْبِطَ عَلَى مَنَارَتِهِ الشَّرْقِيَّةِ الْبَيْضَاءِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام، إلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا مِنْ الْأَنَامِ (قَوْلُهُ: ثُمَّ الْمُفْتِي إلَخْ) أَفَادَ أَنَّ الْإِفْتَاءَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَهُ مَعَ الْإِمَامَةِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ عَنْهَا ط وَفِي تَارِيخِ الْمُحِبِّيِّ أَنَّهُ تَوَلَّى الْإِفْتَاءَ خَمْسَ سِنِينَ. وَكَانَ مُتَحَرِّيًا فِي أَمْرِ الْفَتْوَى غَايَةَ التَّحَرِّي، وَلَمْ يُضْبَطْ عَلَيْهِ شَيْءٌ خَالَفَ فِيهِ الْقَوْلَ الْمُصَحَّحَ (قَوْلُهُ: بِدِمَشْقَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَقَدْ تُكْسَرُ: قَاعِدَةُ الشَّامِ، سُمِّيَتْ بِبَانِيهَا دِمْشَاقُ بْنُ كَنْعَانَ قَامُوسٌ. وَقِيلَ بَانِيهَا غُلَامُ الْإِسْكَنْدَرِ وَاسْمُهُ دِمَشْقُ أَوْ دِمَشْقَشُ. وَهِيَ أَنْزَهُ بِلَادِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخُوَارِزْمِيَّ: جَنَّاتُ الدُّنْيَا أَرْبَعٌ: غُوطَةُ دِمَشْقَ وَصُغْدُ سَمَرْقَنْدَ وَشِعْبُ بَوَّانَ وَجَزِيرَةُ نَهْرِ الْأُبُلَّةِ. وَفَضْلُ غُوطَةِ دِمَشْقَ عَلَى الثَّلَاثَةِ كَفَضْلِ الثَّلَاثَةِ عَلَى سَائِرِ الدُّنْيَا، وَنَاهِيك مَا وَرَدَ فِيهَا خُصُوصًا وَفِي الشَّامِ عُمُومًا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ (قَوْلُهُ: الْحَنَفِيُّ) ذَكَرَ الْعِرَاقِيُّ فِي آخِرِ شَرْحِ أَلْفِيَّةِ الْحَدِيثِ: أَنَّ النِّسْبَةَ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَى الْقَبِيلَةِ وَهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ.
وَأَنْ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيَّ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِزِيَادَةِ يَاءٍ فِي النِّسْبَةِ لِلْمَذْهَبِ وَيَقُولُونَ حَنِيفِيٌّ، وَأَنَّهُ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ لَمْ أَجِدْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ النَّحْوِيِّينَ إلَّا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ (قَوْلُهُ: لَمَّا بَيَّضْت) الْجُمْلَةُ إلَى آخِرِ الْكِتَابِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ مَقُولُ الْقَوْلِ أَوْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْ الْكِتَابِ مَحَلُّهَا نَصْبٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ جُزْءَ الْمَقُولِ لَهُ مَحَلٌّ، أَوْ لَيْسَ لَهُ مَحَلٌّ وَهُمَا قَوْلَانِ ط (قَوْلُهُ: مِنْ خَزَائِنِ الْأَسْرَارِ) الْخَزَائِنُ جَمْعُ خِزَانَةٍ أَلِفُهَا زَائِدَةٌ تُقْلَبُ فِي الْجَمْعِ هَمْزَةً كَقَلَائِدَ فِي الْأَلْفِيَّةِ:
وَالْمُدُّ زِيدَ ثَالِثًا فِي الْوَاحِدِ
…
هَمْزًا يُرَى فِي مِثْلِ كَالْقَلَائِدِ
فَتُكْتَبُ بِهَمْزَةٍ لَا بِيَاءٍ بِنُقْطَتَيْنِ مِنْ تَحْتٍ بِخِلَافِ نَحْوَ مَعَايِشَ فَإِنَّ الْيَاءَ فِي الْمُفْرَدِ أَصْلِيَّةٌ فَتُكْتَبُ بِهَا ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. [فَائِدَةٌ] مِنْ لَطَائِفِ الْمُفْتِي أَبِي السُّعُودِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْخِزَانَةِ وَالْقَصْعَةِ أَيُقْرَآنِ بِالْفَتْحِ أَوْ بِالْكَسْرِ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: لَا تُفْتَحُ الْخِزَانَةُ، وَلَا تُكْسَرُ الْقَصْعَةُ، (قَوْلُهُ: وَبَدَائِعِ) جَمْعُ بَدِيعَةٍ. مِنْ ابْتَدَعَ الشَّيْءَ: ابْتَدَأَهُ (قَوْلُهُ: الْأَفْكَارِ) جَمْعُ فِكْرٍ بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ: إعْمَالُ النَّظَرِ فِي الشَّيْءِ كَالْفِكْرَةِ وَالْفِكْرَى قَامُوسٌ. وَالْمُرَادُ مَا ابْتَدَعَهُ بِفِكْرِهِ مِنْ الْأَبْحَاثِ وَحُسْنِ التَّرْكِيبِ وَالْوَضْعِ، أَوْ مَا ابْتَدَعَهُ الْمُجْتَهِدُ وَاسْتَنْبَطَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهَذَا بَيَانٌ لِمَعَانِي أَجْزَاءِ الْعَلَمِ قَبْلَ الْعَلَمِيَّةِ. أَمَّا بَعْدَهَا فَالْمَجْمُوعُ اسْمُ الْكِتَابِ
(قَوْلُهُ: فِي شَرْحِ) إنْ كَانَ مِنْ جُزْءِ الْعَلَمِ فَلَا يُبْحَثُ عَنْ الظَّرْفِيَّةِ وَإِلَّا فَالْأَوْلَى حَذْفُ " فِي " لِأَنَّ خَزَائِنَ الْأَسْرَارِ هُوَ نَفْسُ الشَّرْحِ. وَظَاهِرُ الظَّرْفِيَّةِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ أَفَادَهُ ط. أَقُولُ: وَقَدْ تُزَادُ فِي، وَحُمِلَ عَلَى بَعْضِهِمْ قَوْله تَعَالَى - {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} [هود: 41]- وَيُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ حَالًا وَالظَّرْفِيَّةُ فِيهَا مَجَازِيَّةٌ مِثْلُ - {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]- وَيُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ بِمَذْكُورٍ نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ قَبْلَ الْعَلَمِيَّةِ، فَإِنَّ الْأَعْلَامَ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا اللَّفْظَ قَدْ يُلَاحَظُ مَعَهَا الْمَعَانِي الْأَصْلِيَّةُ بِالتَّبَعِيَّةِ، وَلِهَذَا نَادَى بَعْضُ الْكَفَرَةِ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه بِأَبِي الْفَصِيلِ أَفَادَهُ حَسَنٌ جَلَبِي فِي حَاشِيَةِ التَّلْوِيحِ عِنْدَ قَوْلِهِ الْمَوْسُومِ بِالتَّلْوِيحِ إلَى
تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ وَجَامِعِ الْبِحَارِ، قَدَّرْتُهُ فِي عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ كِبَارٍ، فَصَرَفْت عِنَانَ الْعِنَايَةِ نَحْوَ الِاخْتِصَارِ، وَسَمَّيْتُهُ بِالدُّرِّ الْمُخْتَارِ، فِي شَرْحِ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ، الَّذِي فَاقَ كُتُبَ هَذَا الْفَنِّ فِي الضَّبْطِ وَالتَّصْحِيحِ وَالِاخْتِصَارِ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ
ــ
[رد المحتار]
كَشْفِ حَقَائِقِ التَّنْقِيحِ (قَوْلُهُ: قَدَّرْته فِي عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ كِبَارٍ) مُجَلَّدَاتٌ جَمْعُ مُجَلَّدٍ، وَاسْمُ الْمَفْعُولِ مِنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ إذَا جُمِعَ يُجْمَعُ جَمْعَ تَأْنِيثٍ كَمَخْفُوضَاتٍ وَمَرْفُوعَاتٍ وَمَنْصُوبَاتٍ، وَالْمُرَادُ أَجْزَاءٌ، لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْجُزْءَ يُوضَعُ فِي جِلْدٍ عَلَى حِدَةٍ ط أَيْ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّضَ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْهُ قَدَّرَ أَنَّ تَمَامَ الْكِتَابِ عَلَى مِنْوَالِ مَا بَيَّضَ مِنْهُ يَبْلُغُ عَشْرَ مُجَلَّدَاتٍ كِبَارٍ. وَذَكَرَ الْمُحِبِّيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ وَصَلَ فِي هَذَا الْكِتَابِ إلَى بَابِ الْوِتْرِ؛ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْهُ فِي الْمُسْوَدَّةِ أَيْضًا وَإِنَّمَا أَلَّفَ مِنْهُ هَذَا الْجُزْءَ الَّذِي بَيَّضَهُ فَقَطْ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (قَوْلُهُ: فَصَرَفْت عِنَانَ الْعِنَايَةِ) الْعِنَانُ بِالْكَسْرِ: مَا وُصِلَ بِلِجَامِ الْفَرَسِ، وَالْعِنَايَةُ الْقَصْدُ. وَفِي نِهَايَةِ الْحَدِيثِ: يُقَالُ عَنَيْت فُلَانًا عَنْيًا إذَا قَصَدْته، وَتَشْبِيهُ الْعِنَايَةِ بِصُورَةِ الْفَرَسِ فِي الْإِيصَالِ إلَى الْمَطْلُوبِ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ وَإِثْبَاتُ الْعِنَانِ اسْتِعَارَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ، وَذِكْرُ الصَّرْفِ تَرْشِيحٌ، وَفِيهِ الْإِيهَامُ بِكِتَابِ الْعِنَايَةِ. اهـ.
ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (قَوْلُهُ: نَحْوَ الِاخْتِصَارِ) أَيْ جِهَةَ اخْتِصَارِ مَا فِي خَزَائِنِ الْأَسْرَارِ (قَوْلُهُ: وَسَمَّيْته بِالدُّرِّ الْمُخْتَارِ) أَيْ سَمَّيْت هَذَا الْمُخْتَصَرَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الِاخْتِصَارِ أَوْ الشَّرْحَ الْمُتَقَدِّمَ فِي قَوْلِهِ تَبْيِيضِ هَذَا الشَّرْحِ، وَسَمَّى يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ الْأَوَّلُ بِنَفْسِهِ وَالثَّانِي بِحَرْفِ الْجَرِّ كَمَا هُنَا أَوْ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي سَمَّيْت ابْنِي مُحَمَّدًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا اُشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ أَسْمَاءَ الْكُتُبِ عَلَمُ جِنْسٍ وَأَسْمَاءَ الْعُلُومِ عَلَمُ شَخْصٍ نُوقِشَ فِيهِ بِأَنَّهُ إنْ نُظِرَ لِتَعَدُّدِ الشَّيْءِ بِتَعَدُّدِ مَحَلِّهِ فَكِلَاهُمَا عَلَمُ جِنْسٍ، وَإِنْ نَظَرَ لِلِاتِّحَادِ الْعُرْفِيِّ فَعَلَمُ شَخْصٍ. وَأَمَّا التَّفْرِقَةُ فَهِيَ تَحَكُّمٌ وَتَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ. اهـ.
وَالدُّرُّ: الْجَوْهَرُ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَصْدُقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَالْمُخْتَارُ: الَّذِي يُؤْثَرُ عَلَى غَيْرِهِ أَفَادَهُ ط (قَوْلُهُ: الَّذِي فَاقَ) نَعْتٌ لِتَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ لَا لِلدُّرِّ الْمُخْتَارِ. اهـ. ح، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي شَرْحِ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنْ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ لَيْسَ جُزْءَ عَلَمٍ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ جُزْءَ الْعِلْمِ لَا يُوصَفُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُنْظَرُ فِيهِ إلَى مَا قَبْلَ الْعَلَمِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَافْهَمْ (قَوْلُهُ: هَذَا الْفَنِّ) فِي الْقَامُوسِ: الْفَنُّ الْحَالُ وَالضَّرْبُ مِنْ الشَّيْءِ كَالْأُفْنُونِ جَمْعُهُ أَفْنَانٌ وَفُنُونٌ. اهـ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا عَلَمٌ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْعُلُومِ (قَوْلُهُ: فِي الضَّبْطِ) هُوَ الْحِفْظُ بِالْحَزْمِ قَامُوسٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا حُسْنُ التَّحْرِيرِ وَمَتَانَةُ التَّعْبِيرِ فَهُوَ مَضْبُوطٌ كَالْحِمْلِ الْمَحْزُومِ (قَوْلُهُ: وَالتَّصْحِيحِ) أَيْ ذِكْرِ الْأَقْوَالِ الْمُصَحَّحَةِ إلَّا مَا نَدَرَ (قَوْلُهُ: وَالِاخْتِصَارِ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ، فَهُوَ مَعَ حُسْنِ التَّحْرِيرِ وَالتَّصْحِيحِ خَالٍ عَنْ التَّطْوِيلِ
(قَوْلُهُ: وَلَعَمْرِي) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: الْعُمُرُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ الْبَقَاءُ إلَّا أَنَّ الْفَتْحَ غَلَبَ فِي الْقَسَمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ فِيهِ الضَّمُّ، يُقَال لَعَمْرُكَ وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ، وَارْتِفَاعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ اهـ: أَيْ قَسَمِي أَوْ يَمِينِي، وَالْوَاوُ فِيهِ لِلِاسْتِئْنَافِ وَاللَّامُ لِلِابْتِدَاءِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَإِذَا سَقَطَتْ اللَّامُ نُصِبَ انْتِصَابَ الْمَصَادِرِ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ قَوْلِ لَعَمْرُ اللَّهِ. اهـ. قَالَ الْحَمَوِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْأَشْبَاهِ: فَعَلَى هَذَا مَا كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا الْقَسَمِ الْجَاهِلِيِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. اهـ.
وَفِي شَرْحِ النُّقَايَةِ لِلْقُهُسْتَانِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُقَالُ لَعَمْرِ فُلَانٍ، وَإِذَا حَلَفَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبَرَّ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَحْنَثَ، فَإِنَّ الْبِرَّ فِيهِ كُفْرٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ كَمَا فِي كِفَايَةِ الشَّعْبِيِّ اهـ. أَقُولُ: لَكِنْ قَالَ فَاضِلُ الرُّومِ حَسَنٌ جَلَبِي فِي حَاشِيَةِ الْمُطَوَّلِ: قَوْلُهُ: لَعَمْرِي يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ: أَيْ لِوَاهِبِ عُمْرِي وَكَذَا أَمْثَالُهُ مِمَّا أُقْسِمَ فِيهِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَالشَّمْسِ} [الشمس: 1]- وَاللَّيْلِ - وَالْقَمَرِ - وَنَظَائِرِهِ أَيْ وَرَبِّ الشَّمْسِ إلَخْ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ لَعَمْرِي وَأَمْثَالِهِ ذِكْرَ صُورَةِ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ وَتَرْوِيجِهِ فَقَطْ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ سَائِرِ الْمُؤَكَّدَاتِ، وَأَسْلَمُ مِنْ التَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِوُجُوبِ الْبِرِّ بِهِ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ الْيَمِينَ الشَّرْعِيَّ وَتَشْبِيهَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فِي التَّعْظِيمِ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اسْمِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ
أَضْحَتْ رَوْضَةُ هَذَا الْعِلْمِ بِهِ مُفَتَّحَةَ الْأَزْهَارِ، مُسَلْسَلَةَ الْأَنْهَارِ، مِنْ عَجَائِبِهِ ثَمَرَاتُ التَّحْقِيقِ تُخْتَارُ، وَمِنْ غَرَائِبِهِ ذَخَائِرُ تَدْقِيقٍ تُحَيِّرُ الْأَفْكَارَ، لِشَيْخِ شَيْخِنَا شَيْخِ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّمُرْتَاشِيِّ الْحَنَفِيِّ الْغَزِّيِّ
ــ
[رد المحتار]
عز وجل مَكْرُوهٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ كُفْرٌ إنْ كَانَ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَلَفَ يَجِبُ الْبِرُّ بِهِ، وَحَرَامٌ إنْ كَانَ بِدُونِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ، وَذِكْرُ صُورَةِ الْقَسَمِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلِهَذَا شَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، كَيْفَ وَقَدْ «قَالَ عليه الصلاة والسلام قَدْ أَفْلَحَ وَأَبِيهِ» وَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٌ - {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]- فَهَذَا جَرَى عَلَى رَسْمِ اللُّغَةِ وَكَذَا إطْلَاقُ الْقَسَمِ عَلَى أَمْثَالِهِ اهـ
(قَوْلُهُ: أَضْحَتْ) أَيْ صَارَتْ، وَتُسْتَعْمَلُ أَضْحَى بِمَعْنَى صَارَ كَثِيرًا كَمَا ذَكَرَهُ الْأُشْمُونِيُّ (قَوْلُهُ: رَوْضَةُ هَذَا الْعِلْمِ) الرَّوْضَةُ مِنْ الْعُشْبِ: مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ لِاسْتِرَاضَةِ الْمَاءِ فِيهَا، وَهَذَا مَعْنَاهَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الرَّوْضَةُ أَرْضٌ ذَاتُ مِيَاهٍ وَأَشْجَارٍ وَأَزْهَارٍ، شَبَّهَ الْفِقْهَ بِبُسْتَانٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ وَإِثْبَاتُ الرَّوْضَةِ تَخْيِيلٌ، وَمَا بَعْدَهُ تَرْشِيحٌ لِلْمَكْنِيَّةِ أَوْ لِلتَّخْيِيلِيَّة بَاقِيًا عَلَى مَعْنَاهُ مَقْصُودًا بِهِ تَقْوِيَةَ الِاسْتِعَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارُ الْمُلَائِمِ الْمُشَبَّهَ كَمَا قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ، بِأَنَّ تَشْبِيهَ الْمَسَائِلِ بِالْأَزْهَارِ وَالْأَنْهَارِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ أَيْضًا وَإِثْبَاتُ التَّفْتِيحِ وَالتَّسَلْسُلِ تَخْيِيلٌ (قَوْلُهُ: مُفَتَّحَةَ الْأَزْهَارِ) أَصْلُهُ مُفَتَّحَةَ الْأَزْهَارِ مِنْهَا أَوْ أَزْهَارُهَا عَلَى جَعْلِ أَلْ عِوَضًا عَنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَالْأَزْهَارُ مَرْفُوعٌ بِالنِّيَابَةِ عَنْ الْفَاعِلِ فَحُوِّلَ الْإِسْنَادُ إلَى ضَمِيرِ الْمَوْصُوفِ ثُمَّ أُضِيفَ اسْمُ الْمَفْعُولِ إلَى مَرْفُوعِهِ مَعْنًى، فَهُوَ حِينَئِذٍ جَارٍ مَجْرَى الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَافْهَمْ (قَوْلُهُ: مُسَلْسَلَةَ الْأَنْهَارِ) الْكَلَامُ فِيهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. وَفِي الْقَامُوسِ: تَسَلْسَلَ الْمَاءُ جَرَى فِي حُدُورٍ
(قَوْلُهُ: مِنْ عَجَائِبِهِ) جَمْعُ عَجِيبٍ وَالِاسْمُ الْعَجِيبَةُ وَالْأُعْجُوبَةُ قَامُوسٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَسَائِلُهُ الْعَجِيبَةُ، وَمِنْ صِلَةٌ لِقَوْلِهِ تُخْتَارُ وَثَمَرَاتُ مُبْتَدَأٌ وَالتَّحْقِيقُ مُضَافٌ إلَيْهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى ذِكْرِ الشَّيْءِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ وَعَلَى إثْبَاتِ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ وَجُمْلَةُ تُخْتَارُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَفِي الْكَلَامِ اسْتِعَارَةٌ مَكِنِيَّةٌ حَيْثُ شَبَّهَ التَّحْقِيقَ بِشَجَرَةٍ وَإِثْبَاتُ الثَّمَرَاتِ لَهَا تَخْيِيلٌ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْكِتَابِ مَذْكُورَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ وَثَابِتَةٌ بِدَلَائِلِهَا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إثْبَاتِ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ أَنْ يُكْتَبَ دَلِيلُهُ مَعَهُ حَتَّى يَرِدَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَتْنِ الْأَدِلَّةَ، وَكَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ مَسَائِلِهِ مَذْكُورَةً عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مِنْ الْمُتُونِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَافْهَمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالثَّمَرَةِ الْفَائِدَةُ وَالنَّتِيجَةُ؛ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّحْقِيقِ وَيُسْتَنْتَجُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ يُخْتَارُ مِنْ مَسَائِلِهِ الْمُعْجِبَةِ (قَوْلُهُ: وَمِنْ غَرَائِبِهِ) جَمْعُ غَرِيبَةٍ أَيْ مَسَائِلِهِ الْغَرِيبَةِ الْعَزِيزَةِ الْوُجُودِ الَّتِي زَادَهَا عَلَى الْمُتُونِ الْمُتَدَاوَلَةِ فَهِيَ كَالرَّجُلِ الْغَرِيبِ، أَوْ الْمُرَادُ تَرَاكِيبُهُ وَإِشَارَاتُهُ الْفَائِقَةُ عَلَى غَيْرِهَا حَتَّى صَارَتْ غَرِيبَةً فِي بَابِهَا. وَالذَّخَائِرُ: جَمْعُ ذَخِيرَةٍ بِمَعْنَى مَذْخُورَةٍ مَا يُذْخَرُ أَيْ يُخْتَارُ وَيُحْفَظُ. وَالتَّدْقِيقُ إثْبَاتُ الْمَسْأَلَةِ بِدَلِيلٍ دَقَّ طَرِيقُهُ لِنَاظِرِيهِ كَمَا فِي تَعْرِيفَاتِ السَّيِّدِ، وَقِيلَ إثْبَاتُ دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَجُمْلَةُ تُحَيِّرُ الْأَفْكَارَ صِفَةُ ذَخَائِرَ الْوَاقِعِ مُبْتَدَأً مُؤَخَّرًا مُخْبَرًا عَنْهُ بِالظَّرْفِ قَبْلَهُ. وَلَمَّا كَانَ التَّدْقِيقُ مَأْخُوذًا مِنْ الدِّقَّةِ وَهِيَ الْغُمُوضُ وَالْخَفَاءُ ذَكَرَ مَعَهُ الذَّخَائِرَ الَّتِي تُحْفَظُ عَادَةً وَتُخَبَّأُ، وَذَكَرَ مَعَهُ أَيْضًا تُحَيِّرُ الْأَفْكَارَ: وَهُوَ عَدَمُ اهْتِدَائِهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا أَصْحَابُهَا، بِخِلَافِ التَّحْقِيقِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دِقَّةٌ، وَالْحَقُّ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى فَلِذَا ذَكَرَ مَعَهُ الثَّمَرَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ عَادَةً (قَوْلُهُ: لِشَيْخِ شَيْخِنَا) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ نَعْتٌ لِتَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ أَوْ حَالٌ مِنْهُ: أَيْ الْكَائِنَ أَوْ كَائِنًا. اهـ. ح
(قَوْلُهُ: شَيْخِ الْإِسْلَامِ) أَيْ شَيْخِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا الْوَصْفُ غَلَبَ عَلَى مَنْ كَانَ فِي مَنْصِبِ الْإِفْتَاءِ أَوْ الْقَضَاءِ (قَوْلُهُ: مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ أَحْمَدَ الْخَطِيبِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْخَطِيبِ. اهـ. ح. وَرَأَيْت فِي رِسَالَةٍ لِحَفِيدِ الْمُصَنِّفِ: وَهُوَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ ابْنُ الشَّيْخِ صَالِحٍ ابْنِ الْمُصَنِّفِ،
عُمْدَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْأَخْيَارِ،
فَإِنِّي أَرْوِيهِ عَنْ شَيْخِنَا الشَّيْخِ عَبْدِ النَّبِيِّ الْخَلِيلِيِّ، عَنْ الْمُصَنِّفِ عَنْ ابْنِ نُجَيْمٍ الْمِصْرِيِّ
ــ
[رد المحتار]
زَادَ بَعْدَ إبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ ابْنَ خَلِيلِ بْنِ تُمُرْتَاشِيٍّ. قَالَ الْمُحِبِّيُّ: كَانَ إمَامًا كَبِيرًا حَسَنَ السَّمْتِ قَوِيَّ الْحَافِظَةِ كَثِيرَ الِاطِّلَاعِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَبْقَ مَنْ يُسَاوِيهِ فِي الرُّتْبَةِ، وَقَدْ أَلَّفَ التَّآلِيفَ الْعَجِيبَةَ الْمُتْقَنَةَ، مِنْهَا التَّنْوِيرُ وَهُوَ فِي الْفِقْهِ جَلِيلُ الْمِقْدَارِ جَمُّ الْفَائِدَةِ، دَقَّقَ فِي الْمَسَائِلِ كُلَّ التَّدْقِيقِ وَرُزِقَ فِيهِ السَّعْدُ، فَاشْتُهِرَ فِي الْآفَاقِ، وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ كُتُبِهِ، وَشَرَحَهُ هُوَ، وَاعْتَنَى بِشَرْحِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْعَلَّامَةُ الْحَصْكَفِيُّ مُفْتِي الشَّامِ وَالْمُنْلَا حُسَيْنُ بْنُ إسْكَنْدَرَ الرُّومِيُّ نَزِيلُ دِمَشْقَ.
وَالشَّيْخُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُدَرِّسُ النَّاصِرِيَّةِ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدٌ الْأَنْكُورِيُّ كِتَابَاتٍ فِي غَايَةِ التَّحْرِيرِ وَالنَّفْعِ، وَكَتَبَ عَنْ شَرْحِ مُؤَلِّفِهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خَيْرِ الدِّينِ الرَّمْلِيِّ حَوَاشِيَ مُفِيدَةً. وَلَهُ تَآلِيفُ لَا تُحْصَى، تُوُفِّيَ سَنَةَ (1004) عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً (156) اهـ. قُلْت: وَمِنْ تَأْلِيفِ الْمُصَنِّفِ كِتَابُ مُعِينُ الْمُفْتِي وَالْمَنْظُومَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُسَمَّاةُ تُحْفَةُ الْأَقْرَانِ وَشَرْحُهَا مَوَاهِبُ الرَّحْمَنِ وَالْفَتَاوَى الْمَشْهُورَةُ. وَشَرْحُ زَادِ الْفَقِيرِ لِابْنِ الْهُمَامِ وَشَرْحُ الْوِقَايَةِ، وَشَرْحُ الْوَهْبَانِيَّةِ، وَشَرْحُ يَقُولُ الْعَبْدُ، وَشَرْحُ الْمَنَارِ وَشَرْحُ مُخْتَصَرِ الْمَنَارِ، وَشَرْحُ الْكَنْزِ إلَى كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَحَاشِيَةٌ عَلَى الدُّرَرِ لَمْ تَتِمَّ، وَرَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا رِسَالَةٌ فِي الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، وَفِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي دُخُولِ الْحَمَّامِ، وَفِي لَفْظِ جَوَّزْتُك بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ. وَفِي الْقَضَاءِ، وَفِي الْكَنَائِسِ، وَفِي الْمُزَارَعَةِ، وَفِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَفِي الْكَرَاهِيَةِ، وَفِي حُرْمَةِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ. وَفِي جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي الْخُطْبَةِ.
وَفِي أَحْكَامِ الدُّرُوزِ وَالْأَرْفَاضِ، وَفِي مُشْكِلَاتِ مَسَائِلَ وَشَرْحِهَا، وَلَهُ رِسَالَةٌ فِي التَّصَوُّفِ وَشَرْحُهَا، وَمَنْظُومَةٌ فِيهِ، وَرِسَالَةٌ فِي عِلْمِ الصَّرْفِ. وَشَرْحِ الْقَطْرِ وَغَيْرُ ذَلِكَ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ (قَوْلُهُ: التُّمُرْتَاشِيِّ) نِسْبَةً إلَى تُمُرْتَاشَ. نَقَلَ صَاحِبُ مَرَاصِدِ الِاطِّلَاعِ فِي أَسْمَاءِ الْأَمَاكِنِ وَالْبِقَاعِ أَنَّ تُمُرْتَاشَ بِضَمَّتَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَتَاءٍ وَأَلِفٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى خُوَارِزْمَ. اهـ. ط. قُلْت. وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى جَدِّهِ تُمُرْتَاشِيٍّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ (قَوْلُهُ: الْغَزِّيِّ) نِسْبَةً إلَى غَزَّةِ هَاشِمٍ، وَهِيَ كَمَا فِي الْقَامُوسِ: بَلَدٌ بِفِلَسْطِينَ، وُلِدَ بِهَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَمَاتَ بِهَا هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ (قَوْلُهُ: عُمْدَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ) أَيْ مُعْتَمَدِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ (قَوْلُهُ: الْأَخْيَارِ) جَمْعُ خَيِّرٍ بِالتَّشْدِيدِ: كَثِيرُ الْخَيْرِ
(قَوْلُهُ: فَإِنِّي أَرْوِيهِ) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ لِشَيْخِ شَيْخِنَا إلَخْ. فَإِنَّهُ لَمَّا جَزَمَ بِنِسْبَتِهِ إلَيْهِ أَفَادَ أَنَّ ذَلِكَ وَاصِلٌ إلَيْهِ بِالسَّنَدِ. وَالضَّمِيرُ لِتَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ، وَلَكِنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ ابْنِ نُجَيْمٍ بِاعْتِبَارِ الْمَسَائِلِ الَّتِي فِيهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صُورَتِهِ الْمُشَخَّصَةِ كَمَا أَفَادَهُ ح، أَوْ الضَّمِيرُ لِلْعِلْمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ لَقَدْ أَضْحَتْ رَوْضَةُ هَذَا الْعِلْمِ كَمَا أَفَادَهُ ط (قَوْلُهُ: عَنْ ابْنِ نُجَيْمٍ) هُوَ الشَّيْخُ زَيْنُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ نُجَيْمٍ وَزَيْنٌ اسْمُهُ الْعَلَمِيُّ. تَرْجَمَهُ النَّجْمُ الْغَزِّيِّ فِي الْكَوَاكِبِ السَّائِرَةِ فَقَالَ: هُوَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ الْمُدَقِّقُ الْفَهَّامَةُ زَيْنُ الْعَابِدِينَ الْحَنَفِيُّ. أَخَذَ الْعُلُومَ عَنْ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ وَالشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ الشَّلَبِيُّ وَالشَّيْخُ أَمِينُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْعَالِ وَأَبُو الْفَيْضِ السُّلَمِيُّ. وَأَجَازَهُ بِالْإِفْتَاءِ وَالتَّدْرِيسِ فَأَفْتَى وَدَرَّسَ فِي حَيَاةِ أَشْيَاخِهِ وَانْتَفَعَ بِهِ خَلَائِقُ. وَلَهُ عِدَّةُ مُصَنَّفَاتٍ: مِنْهَا شَرْحُ الْكَنْزِ وَالْأَشْبَاهُ وَالنَّظَائِرُ. وَصَارَ كِتَابُهُ عُمْدَةَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَرْجِعَهُمْ. وَأَخَذَ الطَّرِيقَ عَنْ الشَّيْخِ الْعَارِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى سُلَيْمَانَ الْخُضَيْرِيِّ، وَكَانَ لَهُ ذَوْقٌ فِي حَلِّ مُشْكِلَاتِ الْقَوْمِ. قَالَ الْعَارِفُ الشَّعْرَانِيُّ: صَحِبْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ. فَمَا رَأَيْت عَلَيْهِ شَيْئًا يَشِينُهُ، وَحَجَجْت مَعَهُ فِي سَنَةِ (953) فَرَأَيْته عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ مَعَ جِيرَانِهِ وَغِلْمَانِهِ ذَهَابًا وَإِيَابًا مَعَ أَنَّ السَّفَرَ يُسْفِرُ عَنْ أَخْلَاقِ الرِّجَالِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ (969) كَمَا أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ تِلْمِيذُهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ الْعَلَمِيُّ. اهـ.
بِسَنَدِهِ إلَى صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، بِسَنَدِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ، عَنْ جِبْرِيلَ، عَنْ اللَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي إجَازَاتِنَا بِطُرُقٍ عَدِيدَةٍ، عَنْ الْمَشَايِخِ الْمُتَبَحِّرِينَ الْكِبَارِ.
وَمَا كَانَ فِي الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ لَمْ أَعْزُهُ إلَّا مَا نَدَرَ، وَمَا زَادَ وَعَزَّ نَقْلُهُ عَزَوْتُهُ لِقَائِلِهِ وَمَا لِلِاخْتِصَارِ، وَمَأْمُولِي مِنْ النَّاظِرِ فِيهِ أَنْ يَنْظُرَ بِعَيْنِ الرِّضَا وَالِاسْتِبْصَارِ، وَأَنْ يَتَلَافَى تَلَافَهُ
ــ
[رد المحتار]
قُلْت: وَمِنْ تَآلِيفِهِ شَرْحٌ عَلَى الْمَنَارِ وَمُخْتَصَرُ التَّحْرِيرِ لِابْنِ الْهُمَامِ وَتَعْلِيقَةٌ عَلَى الْهِدَايَةِ مِنْ الْبُيُوعِ وَحَاشِيَةٌ عَلَى جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ. وَلَهُ الْفَوَائِدُ وَالْفَتَاوَى وَالرَّسَائِلُ الزَّيْنِيَّةُ. وَمِنْ تَلَامِذَتِهِ أَخُوهُ الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ عُمَرُ بْنُ نُجَيْمٍ صَاحِبُ النَّهْرِ (قَوْلُهُ: بِسَنَدِهِ) أَيْ حَالَ كَوْنِهِ رَاوِيًا ذَلِكَ بِسَنَدِهِ، وَقَدَّمْنَا تَمَامَ السَّنَدِ (قَوْلُهُ: الْمُصْطَفَى) مِنْ الصَّفْوَةِ: وَهُوَ الْخُلُوصُ. وَالِاصْطِفَاءُ: الِاخْتِيَارُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُصْطَفَى إلَّا إذَا كَانَ خَالِصًا طَيِّبًا، وَقَوْلُهُ: الْمُخْتَارِ بِمَعْنَاهُ وَهَذَانِ اسْمَانِ مِنْ أَسْمَائِهِ صلى الله عليه وسلم (قَوْلُهُ: كَمَا هُوَ) حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ بِسَنَدِهِ (قَوْلُهُ: عَنْ الْمَشَايِخِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنْ إجَازَتِنَا: أَيْ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُمْ أَوْ بِإِجَازَاتِنَا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى رِوَايَاتِنَا. وَمِنْ جُمْلَةِ مَشَايِخِهِ الْقُطْبُ الْكَبِيرُ وَالْعَالِمُ الشَّهِيرُ سَيِّدِي الشَّيْخُ أَيُّوبُ الْخَلْوَتِيُّ الْحَنَفِيُّ
(قَوْلُهُ: فِي الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ) كِلَاهُمَا لِمُنْلَا خُسْرو وَالدُّرَرُ هُوَ شَرْحُ الْغُرَرِ (قَوْلُهُ: لَمْ أَعْزُهُ) أَيْ لَمْ أَنْسُبْهُ، مِنْ عَزَا يَعْزُو وَاسْمُ الْمَفْعُولِ مِنْهُ مَعْزُوٌّ كَمَدْعُوٍّ بِالتَّصْحِيحِ أَرْجَحُ مِنْ مَعْزِيٍّ بِالْإِعْلَالِ. قَالَ فِي الْأَلْفِيَّةِ:
وَصَحِّحْ الْمَفْعُولَ مِنْ نَحْوِ عَدَا
…
وَاعْلُلْهُ إنْ لَمْ تَتَحَرَّ الْأَجْوَدَا
وَيُرْوَى بِالْوَجْهَيْنِ قَوْلُ الشَّاعِرِ
أَنَا اللَّيْثُ مَعْدِيًّا عَلَيْهِ وَعَادِيًا
وَالثَّانِي هُوَ الْجَارِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ (قَوْلُهُ: مَا زَادَ وَعَزَّ نَقْلُهُ) أَيْ وَمَا زَادَ عَلَى مَا فِي الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ وَعَزَّ نَقْلُهُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَدَاوَلَةِ عَزَوْته لِقَائِلِهِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَمَا زَادَ عَنْ نَقْلِهِ، أَيْ وَمَا زَادَ عَنْ الْمَنْقُولِ فِي الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ، فَعَنْ بِمَعْنَى عَلَى وَالْمَصْدَرُ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ (قَوْلُهُ: وَمَا) أَيْ قَصْدًا لِلِاخْتِصَارِ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ لَمْ أَعْزُهُ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى كَثْرَةِ نَقْلِهِ عَنْ الدُّرَرِ وَمُتَابَعَتِهِ لَهُ كَعَادَةِ الْمُصَنِّفِ فِي مَتْنِهِ وَشَرْحِهِ، وَهُوَ بِذَلِكَ حَقِيقٌ فَإِنَّهُ كِتَابٌ مَبْنِيٌّ عَلَى غَايَةِ التَّحْقِيقِ (قَوْلُهُ: وَمَأْمُولِي) مِنْ الْأَمَلِ وَهُوَ الرَّجَاءُ (قَوْلُهُ: مِنْ النَّاظِرِ) أَيْ الْمُتَأَمِّلِ. قَالَ الرَّاغِبُ: النَّظَرُ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ وَالتَّفَحُّصُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الْفَحْصِ، وَاسْتِعْمَالُ النَّظَرِ فِي الْبَصِيرَةِ أَكْثَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ بِالْعَكْسِ اهـ وَتَمَامُهُ فِي حَاشِيَةِ الْحَمَوِيِّ (قَوْلُهُ: فِيهِ) أَيْ فِي شَرْحِي هَذَا (قَوْلُهُ: بِعَيْنِ الرِّضَا) أَيْ بِالْعَيْنِ الدَّالَّةِ عَلَى الرِّضَا، وَلَا يَنْظُرُ بِعَيْنِ الْمَقْتِ، فَإِنَّ مَنْ نَظَرَ بِهَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ بَاطِلًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ
…
كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا
أَوْ أَنَّهُ شَبَّهَ الرِّضَا بِإِنْسَانٍ لَهُ عَيْنٌ تَشْبِيهًا مُضْمَرًا فِي النَّفْسِ وَذِكْرُ الْعَيْنِ تَخْيِيلٌ ط (قَوْلُهُ: وَالِاسْتِبْصَارِ) السِّينُ وَالتَّاءُ زَائِدَتَانِ: أَيْ وَالْإِبْصَارِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّبَصُّرُ وَالتَّأَمُّلُ ط (قَوْلُهُ: وَأَنْ يَتَلَافَى) أَيْ يَتَدَارَكَ. فِي الْقَامُوسِ: تَلَافَاهُ تَدَارَكَهُ (قَوْلُهُ: تَلَافَهُ) الَّذِي فِي الْقَامُوسِ وَجَامِعِ اللُّغَةِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ: التَّلَفُ الْهَلَاكُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا التَّلَافَ فَلْيُرَاجَعْ. اهـ. ح. وَوَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ لِغَيْرِ الشَّارِحِ كَالْإِمَامِ عُمَرَ بْنِ الْفَارِضِ قَدَّسَ سِرَّهُ فِي قَصِيدَتِهِ الْكَافِيَةِ بِقَوْلِهِ:
وَتَلَافِي إنْ كَانَ فِيهِ
…
ائْتِلَافِي بِك عَجِّلْ بِهِ جُعِلْت فِدَاكَا
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْأَلْفَ إشْبَاعٌ وَهُوَ لُغَةُ قَوْمٍ ط. وَفَسَّرَ الْعَلَّامَةُ الْبُورِينِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى دِيوَانِ ابْنِ الْفَارِضِ التَّلَافَ
بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، أَوْ يَصْفَحَ لِيَصْفَحَ عَنْهُ عَالِمُ الْإِسْرَارِ وَالْإِضْمَارِ، وَلَعَمْرِي إنَّ السَّلَامَةَ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ لَأَمْرٌ يَعِزُّ عَلَى الْبَشَرِ.
وَلَا غَرْوَ فَإِنَّ النِّسْيَانَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَالْخَطَأَ وَالزَّلَلَ مِنْ شَعَائِرِ الْآدَمِيَّةِ،
ــ
[رد المحتار]
بِالتَّلَفِ، وَكَذَا قَالَ سَيِّدِي عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابْلُسِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَيْهِ، وَتَلَافِي مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلَى الْمُتَكَلِّمِ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الشُّعَرَاءِ كَثِيرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عُنَيْنٍ يُخَاطِبُ بَعْضَ الْمُلُوكِ وَكَانَ مَرِيضًا:
اُنْظُرْ إلَيَّ بِعَيْنِ مَوْلًى لَمْ يَزَلْ
…
يُولِي النَّدَى وَتَلَافَ قَبْلَ تَلَافِ
أَنَا كَاَلَّذِي أَحْتَاجُ مَا يَحْتَاجُهُ
…
فَاغْنَمْ دُعَائِي وَالثَّنَاءَ الْوَافِي
فَجَاءَهُ الْمَلِكُ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي، وَهَذِهِ الصِّلَةُ، وَأَنَا الْعَائِدُ (قَوْلُهُ: بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَتَلَافَى وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ: أَيْ إذَا رَأَى فِيهِ عَيْبًا يَتَدَارَكُهُ بِإِمْكَانِهِ، بِأَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ حَيْثُ أَمْكَنَ، أَوْ يُصْلِحَهُ بِتَغْيِيرِ لَفْظِهِ إنْ لَمْ يُمْكِنْ تَأْوِيلُهُ (قَوْلُهُ: أَوْ يَصْغَى) فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْوَاوِ: أَيْ يَسْمَحَ وَلَا يَفْضَحَ. وَالصَّفْحُ فِي الْأَصْلِ: الْمَيْلُ بِصَفْحَةِ الْعُنُقِ ثُمَّ أُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ الْإِعْرَاضِ (قَوْلُهُ: لِيَصْفَحَ عَنْهُ إلَخْ) لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ (قَوْلُهُ: الْإِسْرَارِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مَصْدَرُ أَسَرَّ لِيُنَاسِبَ الْإِضْمَارَ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِهَا جَمْعُ سِرٍّ. اهـ. ح، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَعَطْفُ الْإِضْمَارِ عَلَيْهِ عَطْفٌ مُرَادِفٌ، وَعَلَى الثَّانِي عَطْفٌ مُغَايِرٌ. قَالَ ط: وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ بَدَلَ الْإِضْمَارِ الْإِظْهَارَ لِيَكُونَ فِي كَلَامِهِ صَنْعَةُ الطِّبَاقِ، وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ لَفْظَيْنِ مُتَقَابِلَيْ الْمَعْنَى (قَوْلُهُ: وَلَعَمَرِي) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْفِقْرَةُ وَقَعَتْ فِي خُطْبَةِ النَّهْرِ (قَوْلُهُ: الْخَطَرِ) هُوَ الْإِشْرَافُ عَلَى الْهَلَاكِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الشَّيْءُ الشَّاقُّ، وَهُوَ الْخَطَأُ وَالسَّهْوُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّلَافِ (قَوْلُهُ: يَعِزُّ) عَلَى وَزْنِ يَقِلُّ أَوْ يَمَلُّ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمَادَّةُ تَأْتِي بِمَعْنَى الْعُسْرِ وَبِمَعْنَى الْقِلَّةِ وَبِمَعْنَى الضِّيقِ وَبِمَعْنَى الْعَظَمَةِ كَمَا أَفَادَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَكُلٌّ صَحِيحٌ أَفَادَهُ ط (قَوْلُهُ: الْبَشَرِ) اسْمُ جِنْسٍ. وَالْبَشَرُ: ظَاهِرُ الْبَشَرَةِ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ مِنْ الْجَسَدِ. وَالْجِنُّ: مَا اخْتَفَى مِنْ الِاجْتِنَانِ، وَهُوَ الِاسْتِتَارُ ط
(قَوْلُهُ: وَلَا غَرْوَ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ مَصْدَرُ غَرَا مِنْ بَابِ عَدَا، بِمَعْنَى عَجِبَ بِوَزْنِ فَرِحَ: أَيْ لَا عَجَبَ. اهـ. ح: أَيْ مِنْ عَزَّةِ السَّلَامَةِ مِمَّا ذُكِرَ (قَوْلُهُ: فَإِنَّ النِّسْيَانَ) الْفَاءُ تَعْلِيلِيَّةٌ: أَيْ لِأَنَّ النِّسْيَانَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّلَافِ الْمُتَقَدِّمِ ط. وَعَرَّفَهُ فِي التَّحْرِيرِ بِأَنَّهُ عَدَمُ الِاسْتِحْضَارِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ، قَالَ: فَشَمَلَ السَّهْوَ لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا. اهـ. (قَوْلُهُ: مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْسَانِيَّةِ) أَيْ مِنْ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، بِالْحَقِيقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ: أَيْ بِأَفْرَادِهَا وَالْيَاءُ لِلنِّسْبَةِ إلَى الْمُجَرَّدِ عَنْهَا. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: سُمِّيَ إنْسَانًا لِأَنَّهُ عُهِدَ إلَيْهِ فَنَسِيَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَا تَنْسَيَنَّ تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا
…
سُمِّيت إنْسَانًا لِأَنَّك نَاسِي
وَقَالَ آخَرُ:
نَسِيتَ وَعْدَك وَالنِّسْيَانُ مُغْتَفَرٌ
…
فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ
وَقِيلَ لِأُنْسِهِ بِأَمْثَالِهِ أَوْ بِرَبِّهِ تَعَالَى، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إلَّا لِأُنْسِهِ
…
وَلَا الْقَلْبُ إلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ
(قَوْلُهُ: وَالْخَطَأَ) هُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِالْفِعْلِ غَيْرَ الْمَحَلِّ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ الْجِنَايَةَ كَالرَّمْيِ إلَى الصَّيْدِ فَأَصَابَ آدَمِيًّا تَحْرِيرٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْخَطَأُ ضِدُّ الصَّوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْخَطَأُ مَا لَمْ يُتَعَمَّدْ (قَوْلُهُ: مِنْ شَعَائِرِ الْآدَمِيَّةِ) الشَّعَائِرُ: الْعَلَامَاتُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ ح. قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: وَشَرْعًا مَا يُؤَدَّى مِنْ الْعِبَادَاتِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِهَارِ كَالْأَذَانِ
وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مُسْتَعِيذًا بِهِ مِنْ حَسَدٍ يَسُدُّ بَابَ الْإِنْصَافِ، وَيَرُدُّ عَنْ جَمِيلِ الْأَوْصَافِ. أَلَا وَإِنَّ الْحَسَدَ حَسَكٌ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ هَلَكَ، وَكَفَى لِلْحَاسِدِ ذَمًّا آخِرُ سُورَةِ الْفَلَقِ،
ــ
[رد المحتار]
وَالْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ وَالْأُضْحِيَّةِ. وَقِيلَ هِيَ مَا جُعِلَ عَلَمًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. اهـ. . قَالَ ط: وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِهَا هُنَا وَفِيمَا تَقَدَّمَ بِخَصَائِصَ لِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْسَانِ، وَالْخَطَأَ وَالزَّلَلَ يَكُونُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ حَتَّى مِنْ الْمَلَائِكَةِ كَمَا وَقَعَ لِإِبْلِيسَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ وَلِهَارُوتَ وَمَارُوتَ عَلَى مَا قِيلَ، كَقَوْلِهِمْ - {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]- وَكَنَظَرِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ إلَى مَقَامِهِ فِي الْعِبَادَةِ. وَأَمَّا الْجِنُّ فَذَلِكَ أَكْثَرُ حَالِهِمْ (قَوْلُهُ: وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) أَيْ أَطْلُبُ مِنْهُ سَتْرَ ذَنْبِي، وَكَأَنَّهُ أَتَى بِهِ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَهُ فِيهِ نَوْعُ تَبْرِئَةٍ لِلنَّفْسِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي، بَلْ الْأَوْلَى هَضْمُ النَّفْسِ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَإِنْ كَانَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِنْسَانِ (قَوْلُهُ: مُسْتَعِيذًا) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أَسْتَغْفِرُ. وَالْعَوْذُ: الِالْتِجَاءُ كَالْعِيَاذِ وَالْمُعَاذَةِ وَالتَّعَوُّذِ وَالِاسْتِعَاذَةِ. وَالْعَوَذُ: بِالتَّحْرِيكِ الْمَلْجَأُ كَالْمَعَاذِ وَالْعِيَاذِ قَامُوسٌ (قَوْلُهُ: مِنْ حَسَدٍ) هُوَ تَمَنِّي زَوَالَ نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ سَوَاءٌ تَمَنَّى انْتِقَالَهَا إلَيْهِ أَمْ لَا. وَيُطْلَقُ عَلَى الْغِبْطَةِ مَجَازًا، وَهِيَ تَمَنِّي مِثْلَ تِلْكَ النِّعْمَةِ مِنْ غَيْرِ إرَادَةِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا وَهُوَ غَيْرُ مَذْمُومٍ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «إيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» وَسَمَّاهُ عليه الصلاة والسلام حَالِقَةَ الدِّينِ لَا حَالِقَةَ الشَّعْرِ. وَقَالَ تَعَالَى - {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]- وَالْحَاسِدُ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، حَيْثُ أَتْعَبَ نَفْسَهُ وَأَحْزَنَهَا وَأَوْقَعَهَا فِي الْإِثْمِ، وَلِغَيْرِهِ حَيْثُ لَمْ يُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَلِذَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: وَأَظْلَمُ أَهْلِ الْأَرْضِ مَنْ كَانَ حَاسِدًا لِمَنْ بَاتَ فِي نَعْمَائِهِ يَتَقَلَّبُ (قَوْلُهُ: يَسُدُّ بَابَ الْإِنْصَافِ) صِفَةٌ تَأْكِيدِيَّةٌ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَسَدِ مُشْعِرَةٌ بِهَا، إذْ الْإِنْصَافُ هُوَ الْجَرْيُ عَلَى سُنَنِ الِاعْتِدَالِ، وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَتَأَتَّى وُجُودُهُ مَعَ الْحَسَدِ، وَالْغَرَضُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الْوَصْفِ التَّأْكِيدِيِّ النِّدَاءُ عَلَى كَمَالِ بَشَاعَةِ الْحَسَدِ وَتَقْرِيرِ ذَمِّهِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ والتخييلية وَالتَّرْشِيحِ (قَوْلُهُ: وَيَرُدُّ) أَيْ يَصْرِفُ صَاحِبَهُ عَنْ جَمِيلِ الْأَوْصَافِ: أَيْ عَنْ الِاتِّصَافِ بِالْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ أَوْ عَنْ رُؤْيَتِهَا فِي الْمَحْسُودِ فَلَا يَرَى الْحَاسِدُ لَهُ جَمِيلًا، لِمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا، وَرَدَّ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَيَتَعَدَّى بِعَنْ إلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْقَامُوسِ، فَمِنْ شَوَاهِدِ النُّحَاةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي
…
وَبَعْدَ عَطَائِك الْمِائَةَ الرِّتَاعَا فَافْهَمْ
وَهَذِهِ الْفِقْرَةُ بِمَعْنَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَفِي الْفِقْرَتَيْنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ التَّرْصِيعُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا فِي إحْدَاهُمَا مِنْ الْأَلْفَاظِ أَوْ أَكْثَرِهِ مِثْلَ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْأُخْرَى فِي الْوَزْنِ وَالتَّقْفِيَةِ. وَالْجِنَاسُ اللَّاحِقُ وَهُوَ اخْتِلَافُ اللَّفْظَيْنِ الْمُتَجَانِسَيْنِ فِي حَرْفَيْنِ، غَيْرِ مُتَقَارِبَيْنِ. وَلُزُومُ مَا لَا يَلْزَمُ، وَهُوَ هُنَا الْإِتْيَانُ بِالصَّادِ قَبْلَ الْأَلْفِ فِي الْإِنْصَافِ وَالْأَوْصَافِ، وَقَدْ أَتَى بِهَاتَيْنِ الْفِقْرَتَيْنِ الْمُصَنِّفُ فِي الْمِنَحِ وَابْنُ الشِّحْنَةِ فِي شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ، وَسَبَقَهُمَا إلَى ذَلِكَ ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ (قَوْلُهُ: أَلَا) أَدَاةُ اسْتِفْتَاحٍ يُسْتَفْتَحُ بِهَا الْكَلَامُ (قَوْلُ حَسَكٌ) بِفَتْحَتَيْنِ: شَوْكُ السَّعْدَانِ. وَالسَّعْدَانُ: نَبْتٌ مِنْ أَفْضَلِ مَرَاعِي الْإِبِلِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. ح: وَهَذَا مِنْ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ الْأَدَاةِ، أَوْ تَجْرِي فِيهِ اسْتِعَارَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ السَّعْدِ ط: وَبَيْنَ الْحَسَدِ وَحَسَكِ الْجِنَاسُ اللَّاحِقُ أَيْضًا (قَوْلُهُ: مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ هَلَكَ) يُشِيرُ إلَى وَجْهِ الشَّبَهِ فَإِنَّ الْحَسَدَ إذَا تَعَلَّقَ بِإِنْسَانٍ أَهْلَكَهُ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ حَسَنَاتِهِ ط. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي تَعَلَّقَ لِلْحَسَدِ لَا لِمَنْ، وَالْأَنْسَبُ إرْجَاعُهُ لِمَنْ (قَوْلُهُ: وَكَفَى لِلْحَاسِدِ إلَخْ) كَفَى فِعْلٌ مَاضٍ، وَاللَّامُ فِي لِلْحَاسِدِ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَذَمًّا تَمْيِيزٌ، وَتَمْيِيزُ كَفَى غَيْرُ مُحَوَّلٍ عَنْ شَيْءٍ كَمَا ذَكَرَهُ الدَّمَامِينِيُّ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ،
فِي اضْطِرَامِهِ بِالْقَلَقِ، لِلَّهِ دَرُّ الْحَسَدِ مَا أَعْدَلَهْ، بَدَأَ بِصَاحِبِهِ فَقَتَلَهْ.
وَمَا أَنَا مِنْ كَيْدِ الْحَسُودِ بِآمِنٍ
…
وَلَا جَاهِلٍ يَزْرِي وَلَا يَتَدَبَّرُ
وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
هُمْ يَحْسُدُونِي وَشَرُّ النَّاسِ كُلِّهِمْ
…
مَنْ عَاشَ فِي النَّاسِ يَوْمًا غَيْرَ مَحْسُودِ
ــ
[رد المحتار]
وَمِثْلُهُ: امْتَلَأَ الْكُوزُ مَاءً، وَآخَرُ بِالرَّفْعِ فَاعِلُ كَفَى، وَلَمْ يَزِدْ الْبَاءَ فِي فَاعِلِهَا لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ بَلْ غَالِبٌ، بِخِلَافِ زِيَادَتِهَا فِي فَاعِلِ أَفْعَلَ فِي التَّعَجُّبِ فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ؛ لَكِنْ قَالَ الدَّمَامِينِيُّ: إنْ كَانَ كَفَى بِمَعْنَى أَجْزَأَ وَأَغْنَى أَوْ بِمَعْنَى وَقَى لَمْ تَزِدْ الْبَاءُ فِي فَاعِلِهَا هَكَذَا قِيلَ، وَلَمْ أَرَ مَنْ أَفْصَحَ عَنْ مَعْنَى كَفَى الَّتِي تَغْلِبُ زِيَادَةُ الْبَاءِ فِي فَاعِلِهَا. وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهَا قَاصِرَةٌ لَا مُتَعَدِّيَةٌ، وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ اهـ فَافْهَمْ. وَوَجْهُ الذَّمِّ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْنَدَ إلَيْهِ الشَّرَّ وَأَمَرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ، وَأَيُّ ذَمٍّ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: فِي اضْطِرَامِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِكَفَى أَوْ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنْ الْحَاسِدِ، أَوْ فِي لِلتَّعْلِيلِ كَمَا فِي حَدِيثِ «إنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا» أَوْ بِمَعْنَى مَعَ كَمَا فِي - {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} [الأعراف: 38]- وَالِاضْطِرَامُ كَمَا قَالَ ح عَنْ جَامِعِ اللُّغَةِ: اشْتِعَالُ النَّارِ فِيمَا يُسْرِعُ اشْتِعَالَهَا فِيهِ. قَالَ ط: شَبَّهَ شِدَّةَ تَحَسُّرِهِ لِفَوَاتِ غَرَضِهِ بِالِاشْتِعَالِ (قَوْلُهُ: بِالْقَلَقِ) هُوَ بِالتَّحْرِيكِ: الِانْزِعَاجُ قَامُوسٌ (قَوْلُهُ: لِلَّهِ دَرُّ الْحَسَدِ) فِي الرَّضِي: الدَّرُّ فِي الْأَصْلِ مَا يُدَرُّ: أَيْ مَا يَنْزِلُ مِنْ الضَّرْعِ مِنْ اللَّبَنِ وَمِنْ الْغَيْمِ مِنْ الْمَطَرِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ فِعْلِ الْمَمْدُوحِ الصَّادِرِ عَنْهُ؛ وَإِنَّمَا نُسِبَ فِعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى قَصْدًا لِلتَّعَجُّبِ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْشِئُ الْعَجَائِبِ، وَكُلُّ شَيْءٍ عَظِيمٍ يُرِيدُونَ التَّعَجُّبَ مِنْهُ يَنْسُبُونَهُ إلَيْهِ تَعَالَى وَيُضِيفُونَهُ إلَيْهِ؛ فَمَعْنَى لِلَّهِ دَرُّهُ مَا أَعْجَبَ فِعْلَهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: وَقَوْلُهُمْ وَلِلَّهِ دَرُّهُ: أَيْ عَمَلُهُ كَذَا فِي حَوَاشِي الْجَامِيِّ لِلْمَوْلَى عِصَامٍ، ثُمَّ قَالَ: فَقَوْلُ الشَّرْحِ يَعْنِي الْجَامِيَّ لِلَّهِ خَيْرُهُ بِجَعْلِ الدَّرِّ كِنَايَةً عَنْ الْخَيْرِ لَا يُوَافِقُ تَحْقِيقَ اللُّغَةِ. اهـ. ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (قَوْلُهُ: مَا أَعْدَلَهْ إلَخْ) تَعَجُّبٌ ثَانٍ مُتَضَمِّنٌ لِبَيَانِ مَنْشَإِ التَّعَجُّبِ. وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ قَالَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه: لَيْسَ فِي خِلَالِ الشَّرِّ خَلَّةٌ أَعْدَلَ مِنْ الْحَسَدِ تَقْتُلُ الْحَاسِدَ غَمًّا قَبْلَ الْمَحْسُودِ اهـ لَكِنَّ شَرْطَهُ مَا قَالَ الشَّاعِرُ:
دَعْ الْحَسُودَ وَمَا يَلْقَاهُ مِنْ كَمَدِهِ
…
كَفَّاك مِنْهُ لَهَيْبُ النَّارِ فِي كَبِدِهِ
إنْ لُمْتَ ذَا حَسَدٍ نَفَّسْت كُرْبَتَهُ
…
وَإِنْ سَكَتَّ فَقَدْ عَذَّبْتَهُ بِيَدِهِ
وَقَالَ آخَرُ وَقَدْ أَجَادَ:
اصْبِرْ عَلَى كَيْدِ الْحَسُودِ
…
فَإِنَّ صَبْرَك يَقْتُلُهُ
النَّارُ تَأْكُلُ بَعْضَهَا
…
إنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهُ
(قَوْلُهُ: وَمَا أَنَا إلَخْ) الْبَيْتُ مِنْ الْمَنْظُومَةِ الْوَهْبَانِيَّةِ، قَالَ شَارِحُهَا الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْبَرِّ بْنُ الشِّحْنَةِ: الْكَيْدُ الْخَدِيعَةُ وَالْمَكْرُ، وَالْحَسُودُ فَعُولٌ مِنْ الْحَسَدِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي مَعْنَى الْحَاسِدِ. وَالْآمِنُ: الْمُطْمَئِنُّ، وَلَا جَاهِلٍ عَطْفٌ عَلَى الْحَسُودِ، يَعْنِي وَلَا مِنْ كَيَدِ جَاهِلٍ وَيَزْرِي بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ مِنْ زَرَى عَلَيْهِ: إذَا عَابَهُ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعُدَّهُ شَيْئًا أَوْ تَهَاوَنَ بِهِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا مِنْ أَزَرَى. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: لَكِنَّهُ قِيلَ وَتُزْرِي وَأَزْرَى بِأَخِيهِ: أَدْخَلَ عَلَيْهِ عَيْبًا أَوْ أَمْرًا يُرِيدُ أَنْ يُلْبِسَ عَلَيْهِ وَلَا يَتَدَبَّرُ عَطْفٌ عَلَيْهِ: أَيْ لَا يَتَفَكَّرُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ. وَسَبَبُ هَذَا الْبَيْتِ أَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِمَا اُبْتُلِيتُ بِهِ مِنْ حَسَدِ الْحَاسِدِينَ وَكَيْدِ الْمُعَانِدِينَ، وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يَجْعَلَ كَيْدَهُمْ فِي نَحْرِهِمْ، فَبَعْضُهُمْ اسْتَكْثَرَهُ عَلَيْهِ وَالْبَعْضُ قَالَ إنَّهُ مَسْبُوقٌ إلَيْهِ اهـ مُلَخَّصًا (قَوْلُهُ: هُمْ يَحْسُدُونِي) أَصْلُهُ يَحْسُدُونَنِي حُذِفَتْ إحْدَى
إذْ لَا يَسُودُ سَيِّدٌ بِدُونِ وَدُودٍ يَمْدَحُ، وَحَسُودٍ يَقْدَحُ، لِأَنَّ مَنْ زَرَعَ الْإِحَنَ، حَصَدَ الْمِحَنَ؛ فَاللَّئِيمُ يَفْضَحُ، وَالْكَرِيمُ يُصْلِحُ
لَكِنْ يَا أَخِي بَعْدَ الْوُقُوفِ
ــ
[رد المحتار]
النُّونَيْنِ تَخْفِيفًا. اهـ. ح. وَشَرُّ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ خَيْرٍ وَإِثْبَاتُهَا لُغَةٌ قَلِيلَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَكُلِّهِمْ بِالْجَرِّ تَأْكِيدٌ لِلنَّاسِ لِإِفَادَةِ الشُّمُولِ. وَلَا يُقَالُ الْكَافِرُ شَرٌّ مِمَّنْ لَمْ يَحْسُدْ فَكَيْفَ يَكُونُ مَنْ لَمْ يَحْسُدْ شَرًّا مِنْهُ؟ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ لَمْ يَحْسُدْ، بَلْ لَيْسَ لَهُ مَا يُحْسَدُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} [المؤمنون: 55]- الْآيَةَ فَافْهَمْ، فَافْهَمْ. وَفِي النَّاسِ بِمَعْنَى مَعَهُمْ، وَيَوْمًا ظَرْفٌ لَعَاشَ، وَغَيْرَهُ بِالنَّصْبِ حَالٌ، وَقَدْ أَتَى الشَّارِحُ بِهَذَا الْبَيْتِ تَبَعًا لِابْنِ الشِّحْنَةِ تَسْلِيَةً لِلنَّفْسِ، فَإِنَّ الْحَسَدَ لَا يَكُونُ إلَّا لِذَوِي الْكَمَالِ الْمُتَّصِفِينَ بِأَكْمَلِ الْخِصَالِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا يُنْسَبُ إلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ:
إنْ يَحْسُدُونِي فَإِنِّي غَيْرُ لَائِمِهِمْ
…
قَبْلِي مِنْ النَّاسِ أَهْلُ الْفَضْلِ قَدْ حُسِدُوا
فَدَامَ بِي وَبِهِمْ مَا بِي وَمَا بِهِمْ
…
وَمَاتَ أَكْثَرُنَا غَيْظًا بِمَا يَجِدُ
(قَوْلُهُ: إذْ لَا يَسُودُ) أَيْ لَا يَصِيرُ ذَا سُؤْدُدٍ وَفَخَارٍ، وَأَصْلُهُ يَسُودُ كَيَنْصُرُ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا فَسَكَنَتْ الْوَاوُ، وَهَذَا عِلَّةٌ لِمَفْهُومِ وَشَرُّ النَّاسِ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ شَرُّ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُحْسَدْ نَتَجَ أَنَّ خَيْرَهُمْ مَنْ يُحْسَدُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي سِيَادَتِهِ، لِأَنَّ الْمَدْحَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الرِّيَاسَةُ وَالسُّؤْدُدُ، وَالْقَدْحُ فِيهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحِلْمُ وَالتَّحَمُّلُ وَالصَّفْحُ وَذَلِكَ فِي السِّيَادَةِ أَيْضًا. اهـ. ط. قُلْت: وَالْحَسُودُ أَيْضًا سَبَبٌ فِي السِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِنَشْرِ مَا انْطَوَى مِنْ الْفَضَائِلِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ
…
طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ
(قَوْلُهُ: سَيِّدٌ) أَصْلُهُ سَيْوِدٌ اجْتَمَعَتْ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسُبِقَتْ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، قِيلَ إنَّهُ لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا قَالُوا لَهُ يَا سَيِّدَنَا، قَالَ: إنَّمَا السَّيِّدُ اللَّهُ» وَفِيهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» وَقَالَ تَعَالَى - {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39]- وَقِيلَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ تَعَالَى وَعُزِيَ إلَى مَالِكٍ؛ وَقِيلَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ تَعَالَى مُعَرَّفًا وَعَلَى غَيْرِهِ مُنَكَّرًا. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْعَظِيمِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ، وَفِي غَيْرِهِ بِمَعْنَى الشَّرِيفِ الْفَاضِلِ الرَّئِيسِ وَتَمَامُهُ فِي حَاشِيَةِ الْحَمَوِيِّ (قَوْلُهُ: بِدُونِ) أَيْ بِغَيْرِ، وَهُوَ أَحَدُ إطْلَاقَاتٍ لَهَا، وَتَأْتِي بِمَعْنَى الْمَكَانِ الْأَدْنَى وَهُوَ الْأَصْلُ فِيهَا ط (قَوْلُهُ: وَدُودٍ) هُوَ كَثِيرُ الْحُبِّ قَامُوسٌ (قَوْلُهُ: وَحَسُودٍ يَقْدَحُ) أَيْ يَطْعَنُ، وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَ وَدُودٍ وَحَسُودٍ مِنْ الطِّبَاقِ، وَبَيْنَ يَمْدَحُ وَيَقْدَحُ مِنْ الْجِنَاسِ اللَّاحِقِ وَلُزُومِ مَا لَا يَلْزَمُ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّرْصِيعِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَنْ زَرَعَ) تَعْلِيلٌ لِمَا اسْتَلْزَمَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ، لِأَنَّ قَدْحَ الْحَسُودِ إذَا كَانَ سَبَبًا فِي زِيَادَةِ الْمَحْسُودِ الْمُوجِبَةِ لِكَمَدِهِ كَانَ زَرْعُهُ الْحَسَدَ مُنْتِجًا لَهُ الْمِحَنَ وَالْبَلَايَا. وَالْإِحَنَ: جَمْعُ إحْنَةٍ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا، وَهِيَ الْحِقْدُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. اهـ. ح، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ سَابِقًا أَلَا وَإِنَّ الْحَسَدَ حَسَكٌ، مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ هَلَكَ، فَالْمَحْصُودُ الْهَلَاكُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ التَّعَلُّقِ ط وَتَشْبِيهُ الْحِقْدِ بِمَا يُزْرَعُ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ وَإِثْبَاتُ الزَّرْعِ تَخْيِيلٌ، وَذِكْرُ الْحَصْدِ تَرْشِيحٌ (قَوْلُهُ: فَاللَّئِيمُ يَفْضَحُ) مِنْ اللُّؤْمِ بِالضَّمِّ ضِدُّ الْكَرَمِ، يُقَالُ لَؤُمَ كَكَرُمَ لُؤْمًا فَهُوَ لَئِيمٌ جَمْعُهُ لِئَامٌ وَلُؤَمَاءُ، وَيُقَالُ فَضَحَهُ كَمَنَعَهُ: كَشَفَ مَسَاوِيهِ، وَالْإِصْلَاحُ ضِدُّ الْإِفْسَادِ قَامُوسٌ، وَهَذَا مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ إذْ لَا يَسُودُ سَيِّدٌ إلَخْ؛ فَاللَّئِيمُ هُوَ الْحَسُودُ وَالْكَرِيمُ هُوَ الْوَدُودُ، وَفِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوَّشٌ أَوْ بِقَوْلِهِ وَمَأْمُولِي مِنْ النَّاظِرِ فِيهِ إلَخْ، وَلَوْ قَالَ وَالْكَرِيمُ يَصْفَحُ أَوْ يَسْمَحُ لَكَانَ أَوْضَحَ
(قَوْلُهُ: لَكِنْ يَا أَخِي إلَخْ) لَمَّا كَانَ الْإِذْنُ بِالْإِصْلَاحِ مُطْلَقًا اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَهُوَ ظَرْفٌ لِيُصْلَحَ كَمَا أَفَادَهُ ح: أَيْ يُصْلِحُ بَعْدَ
عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا حَرَّرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ كَصَاحِبِ الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ وَالْفَيْضِ وَالْمُصَنِّفِ وَجَدِّنَا الْمَرْحُومِ وَعَزْمِي زَادَهْ وَأَخِي زَادَهْ وَسَعْدِي أَفَنْدِي وَالزَّيْلَعِيِّ وَالْأَكْمَلَ
ــ
[رد المحتار]
وُقُوفِهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى هَذِهِ الْكُتُبِ لَا بِمُجَرَّدِ الْخُطُورِ بِالْبَالِ. وَيَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ وَأَنْ يَتَلَافَى تَلَافَهُ. وَيُحْتَمَلُ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ فَصَرَفْت عِنَانَ الْعِنَايَةِ نَحْوَ الِاخْتِصَارِ: أَيْ إنَّمَا اخْتَصَرْته بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ: أَيْ حَالِ الْمَسَائِلِ وَمَعْرِفَةِ ضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: مَعَ تَحْقِيقَاتٍ سَنَحَ إلَخْ، وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ قَوْلُهُ: وَيَأْبَى اللَّهُ إلَخْ أَفَادَهُ ط (قَوْلُهُ: عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ) حَقِيقَةُ الشَّيْءِ: مَا بِهِ الشَّيْءُ هُوَ هُوَ كَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ لِلْإِنْسَانِ، بِخِلَافِ مِثْلِ الضَّاحِكِ وَالْكَاتِبِ مِمَّا يُمْكِنُ تَصَوُّرُ الْإِنْسَانِ بِدُونِهِ تَعْرِيفَاتُ السَّيِّدِ (قَوْلُهُ: كَصَاحِبِ الْبَحْرِ) هُوَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ زَيْنُ بْنُ نُجَيْمٍ وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ (قَوْلُهُ: وَالنَّهْرِ) أَيْ وَكَصَاحِبِ النَّهْرِ، وَهُوَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ عُمَرُ سِرَاجُ الدِّينِ الشَّهِيرُ بِابْنِ نُجَيْمٍ، الْفَقِيهُ الْمُحَقِّقُ، الرَّشِيقُ الْعِبَارَةِ الْكَامِلُ الِاطِّلَاعِ، كَانَ مُتَبَحِّرًا فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، غَوَّاصًا عَلَى الْمَسَائِلِ الْغَرِيبَةِ، مُحَقِّقًا إلَى الْغَايَةِ، وَجِيهًا عِنْدَ الْحُكَّامِ، مُعَظَّمًا عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ بَعْدَ الْأَلْفِ، وَدُفِنَ عِنْدَ شَيْخِهِ وَأَخِيهِ الشَّيْخِ زَيْنِ مُحِبِّيٍّ مُلَخَّصًا، وَلَهُ كِتَابُ إجَابَةُ السَّائِلِ فِي اخْتِصَارِ أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: وَالْفَيْضِ) أَيْ وَكَصَاحِبِ الْفَيْضِ وَهُوَ الْكَرْكِيُّ قَالَ التَّمِيمِيُّ فِي طَبَقَاتِ الْحَنَفِيَّةِ: إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْكَرْكِيُّ الْأَصْلِ، الْقَاهِرِيُّ الْمَوْلِدِ وَالْوَفَاةِ، لَازَمَ التَّقِيَّ الْحِصْنِيَّ وَالتَّقِيَّ الشُّمُنِّيَّ، وَحَضَرَ دُرُوسَ الْكَافِيجِيِّ، وَأَخَذَ عَنْ ابْنِ الْهُمَامِ، وَتَرْجَمَهُ السَّخَاوِيُّ فِي الضَّوْءِ بِتَرْجَمَةٍ حَافِلَةٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْفِقْهِ فَتَاوَى فِي مُجَلَّدَيْنِ، وَأَنَّ لَهُ حَاشِيَةً عَلَى تَوْضِيحِ ابْنِ هِشَامٍ اهـ مُلَخَّصًا، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ (923) وَأَرَادَ بِالْفَتَاوَى الْفَيْضَ الْمَذْكُورَ الْمُسَمَّى فَيْضُ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ عَلَى عَبْدِهِ إبْرَاهِيمَ، وَقَدْ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: وَضَعْت فِي كِتَابِي هَذَا مَا هُوَ الرَّاجِحُ وَالْمُعْتَمَدُ، لِيَقْطَعَ بِصِحَّةِ مَا يُوجَدُ فِيهِ أَوْ مِنْهُ يُسْتَمَدُّ (قَوْلُهُ: وَالْمُصَنِّفُ) تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ (قَوْلُهُ: وَجَدْنَا الْمَرْحُومَ) هُوَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ شَارِحُ الْوِقَايَةِ. اهـ. ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَلَمْ أَقِفْ لَهُ عَلَى تَرْجَمَةٍ (قَوْلُهُ: وَعَزْمِي زَادَهْ) هُوَ الْعَلَّامَةُ مُصْطَفَى بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّهِيرُ بِعَزْمِي زَادَهْ، أَشْهَرُ مُتَأَخِّرِي الْعُلَمَاءِ بِالرُّومِ، وَأَغْزَرُهُمْ مَادَّةً فِي الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ، ذُو التَّآلِيفِ الشَّهِيرَةِ، مِنْهَا حَاشِيَةٌ عَلَى الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ وَحَاشِيَةٌ عَلَى شَرْحِ الْمَنَارِ لِابْنِ مَلَكٍ، تُوُفِّيَ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِينَ بَعْدَ الْأَلْفِ مُحِبِّيٌّ مُلَخَّصًا (قَوْلُهُ: وَأَخِي زَادَهْ) قَالَ الْمُحِبِّيُّ فِي تَارِيخِهِ: هُوَ عَبْدُ الْحَلِيمِ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّهِيرُ الْمَعْرُوفُ بِأَخِي زَادَهْ أَحَدُ أَفْرَادِ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَسَرَاةِ عُلَمَائِهَا، كَانَ نَسِيجًا وَحْدَهُ فِي ثُقُوبِ الذِّهْنِ وَصِحَّةِ الْإِدْرَاكِ وَالتَّضَلُّعِ مِنْ الْعُلُومِ. وَلَهُ تَآلِيفُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا شَرْحٌ عَلَى الْهِدَايَةِ؛ وَتَعْلِيقَاتٌ عَلَى شَرْحِ الْمِفْتَاحِ؛ وَجَامِعِ الْفُصُولَيْنِ وَالدُّرَرِ وَالْغُرَرِ وَالْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْأَلْفِ اهـ مُلَخَّصًا. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّ الَّذِي فِي الْخَزَائِنِ أَخِي جَلَبِي بَدَلَ أَخِي زَادَهْ، وَهُوَ صَاحِبُ حَاشِيَةِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ الْمُسَمَّاةِ بِذَخِيرَةِ الْعَقَبِيِّ وَاسْمُهُ يُوسُفُ بْنُ جُنَيْدٍ، وَهُوَ تِلْمِيذُ مُنْلَا خُسْرو. اهـ. (قَوْلُهُ: وَسَعْدِي أَفَنْدِي) اسْمُهُ سَعْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى بْنِ أَمِيرِ خَانْ الشَّهِيرُ بِسَعْدِي جَلَبِي مُفْتِي الدِّيَارِ الرُّومِيَّةِ، لَهُ حَاشِيَةٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ وَحَاشِيَةٌ عَلَى الْعِنَايَةِ شَرْحِ الْهِدَايَةِ، وَرَسَائِلُ وَتَحْرِيرَاتٌ مُعْتَبَرَةٌ، ذَكَرَهُ حَافِظُ الشَّامِ الْبَدْرُ الْغَزِّيِّ الْعَامِرِيُّ فِي رِحْلَتِهِ، وَبَالَغَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالتَّمِيمِيُّ فِي الطَّبَقَاتِ. وَنَقَلَ عَنْ الشَّقَائِقِ النُّعْمَانِيَّةِ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ (945) (قَوْلُهُ: وَالزَّيْلَعِيِّ) هُوَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عُثْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ صَاحِبُ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ، قَدِمَ الْقَاهِرَةَ سَنَةَ (705) وَأَفْتَى وَدَرَّسَ وَصَنَّفَ وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ كَثِيرًا وَنَشَرَ الْفِقْهَ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ (743) (قَوْلُهُ: وَالْأَكْمَلَ) هُوَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ أَكْمَلُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَابَرْتِيُّ. وُلِدَ فِي بِضْعِ عَشَرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ. وَأَخَذَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ وَالْأَصْفَهَانِيِّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ الدَّلَاصِيِّ وَابْنِ عَبْدِ الْهَادِي، وَكَانَ عَلَّامَةً ذَا فُنُونٍ، وَافِرَ
وَالْكَمَالِ وَابْنِ الْكَمَالِ، مَعَ تَحْقِيقَاتٍ سَنَحَ بِهَا الْبَالُ، وَتَلَقَّيْتهَا عَنْ فُحُولِ الرِّجَالِ
ــ
[رد المحتار]
الْعَقْلِ، قَوِيَّ النَّفْسِ، عَظِيمَ الْهَيْبَةِ، أَخَذَ عَنْهُ الْعَلَّامَةُ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ وَالْعَلَّامَةُ الْفَنَرِيُّ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَامْتَنَعَ. لَهُ التَّفْسِيرُ وَشَرْحُ الْمَشَارِقِ وَشَرْحُ مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ. وَشَرْحُ عَقِيدَةِ الطُّوسِيِّ وَالْعِنَايَةُ شَرْحُ الْهِدَايَةِ وَشَرْحُ السِّرَاجِيَّةِ، وَشَرْحُ أَلْفِيَّةِ ابْنِ مُعْطِي، وَشَرْحُ الْمَنَارِ وَشَرْحُ تَلْخِيصِ الْمَعَانِي، وَالتَّقْرِيرُ شَرْحُ أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ، تُوُفِّيَ سَنَةَ (786) وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ السُّلْطَانُ فَمَنْ دُونَهُ، وَدُفِنَ بالشَّيْخُونِيَّةِ فِي مِصْرَ (قَوْلُهُ: وَالْكَمَالِ) هُوَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ حَيْثُ أُطْلِقَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ السِّيوَاسِيُّ ثُمَّ السَّكَنْدَرِيُّ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْهُمَامِ وُلِدَ تَقْرِيبًا سَنَةَ (790) وَتَفَقَّهَ بِالسَّرَّاجِ قَارِئِ الْهِدَايَةِ وَبِالْقَاضِي مُحِبِّ الدِّينِ بْنِ الشِّحْنَةِ، لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي التَّحْقِيقِ، وَكَانَ يَقُولُ أَنَا لَا أُقَلِّدُ فِي الْمَعْقُولَاتِ أَحَدًا. وَقَالَ الْبُرْهَانُ الْأَبْنَاسِيُّ وَكَأَنَّهُ مِنْ أَقْرَانِهِ لَوْ طَلَبْت حُجَجَ الدِّينِ مَا كَانَ فِي بَلَدِنَا مَنْ يَقُومُ بِهَا غَيْرَهُ، وَكَانَ لَهُ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِمَّا لِأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ مِنْ الْكَشْفِ وَالْكَرَامَاتِ، وَكَانَ تَجَرَّدَ أَوَّلًا بِالْكُلِّيَّةِ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ الطَّرِيقِ ارْجِعْ، فَإِنَّ لِلنَّاسِ حَاجَةً بِعِلْمِك، وَكَانَ يَأْتِيهِ الْوَارِدُ كَمَا يَأْتِي السَّادَةَ الصُّوفِيَّةَ لَكِنَّهُ يُقْلِعُ عَنْهُ بِسُرْعَةِ لِمُخَالَطَتِهِ لِلنَّاسِ، وَشَرَحَ الْهِدَايَةَ شَرْحًا لَا نَظِيرَ لَهُ سَمَّاهُ فَتْحَ الْقَدِيرِ، وَصَلَ فِيهِ إلَى أَثْنَاءِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ، وَلَهُ كِتَابُ التَّحْرِيرِ فِي الْأُصُولِ الَّذِي لَمْ يُؤَلَّفْ مِثْلُهُ وَشَرَحَهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ أَمِيرِ حَاجٍّ، وَلَهُ الْمُسَايَرَةُ فِي الْعَقَائِدِ، وَزَادُ الْفَقِيرِ فِي الْعِبَادَاتِ. تُوُفِّيَ بِالْقَاهِرَةِ سَنَةَ (861) وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ السُّلْطَانُ فَمَنْ دُونَهُ كَمَا فِي طَبَقَاتِ التَّمِيمِيِّ مُلَخَّصًا (قَوْلُهُ: وَابْنِ الْكَمَالِ) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ كَمَالِ بَاشَا، الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الرُّحْلَةُ الْفَهَّامَةُ. كَانَ بَارِعًا فِي الْعُلُومِ، وَقَلَّمَا أَنْ يُوجَدَ فَنٌّ إلَّا وَلَهُ فِيهِ مُصَنَّفٌ أَوْ مُصَنَّفَاتٌ دَخَلَ إلَى الْقَاهِرَةِ صُحْبَةً لِلسُّلْطَانِ سَلِيمٍ لَمَّا أَخَذَهَا مِنْ يَدِ الْجَرَاكِسَةِ، وَشَهِدَ لَهُ أَهْلُهَا بِالْفَضْلِ وَالْإِتْقَانِ، وَلَهُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَحَوَاشٍ عَلَى الْكَشَّافِ وَحَوَاشٍ عَلَى أَوَائِلِ الْبَيْضَاوِيِّ وَشَرْحِ الْهِدَايَةِ لَمْ يَكْمُلْ وَالْإِصْلَاحُ وَالْإِيضَاحُ فِي الْفِقْهِ وَتَغْيِيرُ التَّنْقِيحِ فِي الْأُصُولِ وَشَرْحُهُ. وَتَغْيِيرُ السِّرَاجِيَّةِ فِي الْفَرَائِضِ وَشَرْحُهُ وَتَغْيِيرُ الْمِفْتَاحِ وَشَرْحُهُ وَحَوَاشِي التَّلْوِيحِ وَشَرْحُ الْمِفْتَاحِ، وَرَسَائِلُ كَثِيرَةٌ فِي فُنُونٍ عَدِيدَةٍ لَعَلَّهَا تَزِيدُ عَلَى ثَلَثِمِائَةِ رِسَالَةٍ، وَتَصَانِيفُ فِي الْفَارِسِيَّةِ وَتَارِيخُ آلِ عُثْمَانَ بِالتُّرْكِيَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ فِي كَثْرَةِ التَّآلِيفِ وَالسُّرْعَةِ بِهَا وَسَعَةِ الِاطِّلَاعِ فِي الدِّيَارِ الرُّومِيَّةِ كَالْجَلَالِ السُّيُوطِيّ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ أَدَقُّ نَظَرًا مِنْ السُّيُوطِيّ وَأَحْسَنُ فَهْمًا، عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا جَمَالَ ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَلَمْ يَزَلْ مُفْتِيًا فِي دَارِ السَّلْطَنَةِ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَنَةَ (940) . اهـ. تَمِيمِيٌّ مُلَخَّصًا (قَوْلهُ: مَعَ تَحْقِيقَاتٍ) حَالٌ مِنْ مَا حَرَّرَهُ: أَيْ مُصَاحِبًا مَا حَرَّرَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ لِتَحْقِيقَاتٍ اهـ ح، وَالْمُرَادُ بِهَا حَلُّ الْمَعَانِي الْعَوِيصَةِ، وَدَفْعُ الْإِشْكَالَاتِ الْمُورَدَةِ عَلَى بَعْضِ الْمَسَائِلِ أَوْ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَتَعْيِينُ الْمُرَادِ مِنْ الْعِبَارَاتِ الْمُحْتَمَلَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَذَاتُ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ النَّقْلِ عَنْ أَهْلِهَا. (قَوْلُهُ: سَنَحَ بِهَا الْبَالُ) فِي الْقَامُوسِ: سَنَحَ لِي رَأْيٌ كَمَنَعَ سُنُوحًا وَسَنْحًا وَسُنْحًا: عَرَضَ وَبِكَذَا عَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ اهـ فَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ مِثْلُ أَدْخَلْت الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي وَالْأَصْلُ سَنَحَتْ: أَيْ عَرَضَتْ بِالْبَالِ أَيْ فِي خَاطِرِي وَقَلْبِي، وَعَلَى الثَّانِي لَا قَلْبَ؛ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ أَنَّ قَلْبِي وَخَاطِرِي عَرَضَ بِهَا وَلَمْ يُصَرِّحْ، وَهَذَا مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ التَّعْرِيضِ بِالرُّمُوزِ الْخَفِيَّةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَرِيبًا (قَوْلُهُ: وَتَلَقَّيْتهَا) أَيْ أَخَذْتهَا عَنْ أَشْيَاخِي عَنْ فُحُولِ الرِّجَالِ: أَيْ الرِّجَالِ الْفُحُولِ الْفَائِقِينَ عَلَى غَيْرِهِمْ. فِي الْقَامُوسِ: الْفَحْلُ الذَّكَرُ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ، وَفُحُولُ الشُّعَرَاءِ الْغَالِبُونَ بِالْهِجَاءِ عَلَى مَنْ هَاجَاهُمْ. اهـ. قَالَ ح: وَأَوْرَدَ أَنَّ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، تَنَافِيًا، فَإِنَّ الْبَالَ إذَا ابْتَكَرَ هَذِهِ التَّحْقِيقَاتِ جَمِيعَهَا فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَلَقِّيًا لَهَا جَمِيعَهَا عَنْ فُحُولِ الرِّجَالِ؟ وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ: أَيْ سَنَحَ بِبَعْضِهَا الْبَالُ وَتَلَقَّيْت بَعْضَهَا عَنْ فُحُولِ الرِّجَالِ اهـ أَيْ فَهُوَ عَلَى حَدِّ
وَيَأْبَى اللَّهُ الْعِصْمَةَ لِكِتَابٍ غَيْرَ كِتَابِهِ، وَالْمُنْصِفُ مَنْ اغْتَفَرَ قَلِيلَ خَطَأِ الْمَرْءِ فِي كَثِيرِ صَوَابِهِ، وَمَعَ هَذَا فَمَنْ أَتْقَنَ كِتَابِي هَذَا فَهُوَ الْفَقِيهُ الْمَاهِرُ، وَمَنْ ظَفَرَ بِمَا فِيهِ، فَسَيَقُولُ بِمِلْءِ فِيهِ: كَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ
ــ
[رد المحتار]
قَوْله تَعَالَى - {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} [فاطر: 27]- (قَوْلُهُ: وَيَأْبَى اللَّهُ الْعِصْمَةَ إلَخْ) أَبَى الشَّيْءَ يَأْبَاهُ وَيَأْبِيهِ إبَاءً وَإِبَاءَةً بِكَسْرِهِمَا كَرِهَهُ قَامُوسٌ. وَهَذَا اعْتِذَارٌ مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَيْ إنَّ هَذَا الْكِتَابَ وَإِنْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا حَرَّرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَعَلَى التَّحْقِيقَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ. أَيْ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ وُقُوعِ الْخَطَأِ وَالسَّهْوِ فِيهِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ، أَوْ لَمْ يُقَدِّرْ الْعِصْمَةَ لِكِتَابٍ غَيْرِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الَّذِي قَالَ فِيهِ - {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]- فَغَيْرُهُ مِنْ الْكُتُبِ قَدْ يَقَعُ فِيهِ الْخَطَأُ وَالزَّلَلُ، لِأَنَّهَا مِنْ تَآلِيفِ الْبَشَرِ وَالْخَطَأُ وَالزَّلَلُ مِنْ شِعَارِهِمْ. [تَنْبِيهٌ] قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْعَزِيزِ النَّجَّارِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى أُصُولِ الْإِمَامِ الْبَزْدَوِيِّ مَا نَصُّهُ: رَوَى الْبُوَيْطِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ لَهُ: إنِّي صَنَّفْت هَذِهِ الْكُتُبَ فَلَمْ آلُ فِيهَا الصَّوَابَ. وَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ، كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]- فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي رَاجِعٌ عَنْهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْمُزَنِيّ: قَرَأْت كِتَابَ الرِّسَالَةِ عَلَى الشَّافِعِيِّ ثَمَانِينَ مَرَّةً، فَمَا مِنْ مَرَّةٍ إلَّا وَكَانَ يَقِفُ عَلَى خَطَأٍ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيهِ، أَبَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا صَحِيحًا غَيْرَ كِتَابِهِ. اهـ. (قَوْلُهُ: قَلِيلَ. خَطَأِ الْمَرْءِ) أَيْ خَطَأَ الْمَرْءِ الْقَلِيلِ. فَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ. وَعَبَّرَ بِالْخَطَأِ إشَارَةً إلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا عَنْ اخْتِيَارٍ. فَالْإِثْمُ مَرْفُوعٌ وَالثَّوَابُ ثَابِتٌ ط (قَوْلُهُ: فِي كَثِيرِ صَوَابِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنْ الْخَطَأِ: أَيْ الْخَطَأَ الْقَلِيلَ كَائِنًا فِي أَثْنَاءِ الصَّوَابِ الْكَثِيرِ أَوْ بِاغْتَفَرَ. وَفِي بِمَعْنَى مَعَ. أَوْ لِلتَّعْلِيلِ أَفَادَهُ ط. وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَخَطَإٍ وَصَوَابٍ مِنْ الطِّبَاقِ (قَوْلُهُ: وَمَعَ هَذَا) أَيْ مَعَ مَا حَوَاهُ مِنْ التَّحْرِيرَاتِ وَالتَّحْقِيقَاتِ. اهـ. ح. قُلْت: وَالْأَوْلَى جَعْلُهُ مُرْتَبِطًا بِقَوْلِهِ وَيَأْبَى اللَّهُ. أَيْ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَحْفُوظٍ مِنْ الْخَلَلِ فَمَنْ أَتْقَنَهُ كَمَا تَقُولُ فُلَانٌ بَخِيلٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ فُلَانٍ ط (قَوْلُهُ: فَهُوَ الْفَقِيهُ) الْجُمْلَةُ خَبَرٌ مَنْ قُرِنَتْ بِالْفَاءِ لِعُمُومِ الْمُبْتَدَأِ فَأَشْبَهَ الشَّرْطَ. وَالْمُرَادُ بِالْفَقِيهِ مَنْ يَحْفَظُ الْفُرُوعَ الْفِقْهِيَّةَ وَيَصِيرُ لَهُ إدْرَاكٌ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْفِقْهِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا ط (قَوْلُهُ: الْمَاهِرُ) أَيْ الْحَاذِقُ قَامُوسٌ (قَوْلُهُ: وَمَنْ ظَفَرَ) فِي الْقَامُوسِ: الظَّفَرُ بِالتَّحْرِيكِ الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ ظَفَرَهُ وَظَفَرَ بِهِ وَعَلَيْهِ (قَوْلُهُ: بِمَا فِيهِ) أَيْ مِنْ التَّحْرِيرَاتِ وَالتَّحْقِيقَاتِ وَالْفُرُوعِ الْجَمَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ (قَوْلُهُ: فَسَيَقُولُ) أَتَى بِسِينِ التَّنْفِيسِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ السُّؤَالِ أَوْ لِلنَّاظِرَةِ مَعَ الْإِخْوَانِ غَالِبًا، أَوْ أَنَّهَا زَائِدَةٌ أَفَادَهُ ط أَوْ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي حَرَّرَهَا غَيْرُهُ وَطَوَّلَهَا بِنَقْلِ الْأَقْوَالِ الْكَثِيرَةِ وَالتَّعْلِيلَاتِ الشَّهِيرَةِ، وَخِلَافِيَّاتِ الْمَذَاهِبِ وَالِاسْتِدْلَالَات مِنْ خُلُوِّهَا مِنْ تَكْثِيرِ الْفُرُوعِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْهَا كَغَالِبِ شُرُوحِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا. فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ هَذَا الشَّرْحَ هُوَ الدُّرَّةُ الْفَرِيدَةُ الْجَامِعُ لِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ، وَلِذَا أَكَبَّ عَلَيْهِ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ. (قَوْلُهُ: بِمِلْءِ فِيهِ) الْمِلْءُ بِالْكَسْرِ: اسْمُ مَا يَأْخُذُهُ الْإِنَاءُ إذَا امْتَلَأَ وَبِهَاءٍ هَيْئَةُ الِامْتِلَاءِ وَمَصْدَرُهُ مِلْءٌ قَامُوسٌ، وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ حَيْثُ شَبَّهَ الْكَلَامَ الصَّرِيحَ الَّذِي يَسْتَحْسِنُهُ قَائِلُهُ وَيَرْتَضِيهِ، وَلَا يَتَحَاشَى عَنْ الْجَهْرِ بِهِ بِمَا يَمْلَأُ الْإِنَاءَ بِجَامِعِ بُلُوغِ كُلٍّ إلَى النِّهَايَةِ أَوْ مَكْنِيَّةٌ حَيْثُ شَبَّهَ الْفَمَ بِالْإِنَاءِ وَالْمِلْءُ تَخْيِيلٌ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الْقَوْلِ جَهْرًا بِلَا تَوَقُّفٍ وَلَا خَوْفٍ مِنْ تَكْذِيبِ طَاعِنٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِيهِ وَفِيهِ الْجِنَاسُ التَّامُّ (قَوْلُهُ: كَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ) مَقُولُ الْقَوْلِ وَكَمْ خَبَرِيَّةٌ لِلتَّكْثِيرِ
وَمَنْ حَصَّلَهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْحَظُّ الْوَافِرُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْبَحْرُ لَكِنْ بِلَا سَاحِلٍ، وَوَابِلُ الْقَطْرِ غَيْرَ أَنَّهُ مُتَوَاصِلٌ بِحُسْنِ عِبَارَاتٍ وَرَمْزِ إشَارَاتٍ وَتَنْقِيحِ مَعَانِي، وَتَحْرِيرِ مَبَانِي، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ،
ــ
[رد المحتار]
مَفْعُولُ تَرَكَ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ جِنْسُ مَنْ تَقَدَّمَ فِي الزَّمَنِ وَمَنْ تَأَخَّرَ، وَهَذَا فِي مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي خُطْبَةِ التَّسْهِيلِ: وَإِذَا كَانَتْ الْعُلُومُ مِنَحًا إلَهِيَّةً، وَمَوَاهِبَ اخْتِصَاصِيَّةً فَغَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ أَنْ يُدَّخَرَ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، مَا عَسِرَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ. اهـ. وَأَنْتَ تَرَى كُتُبَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَفُوقُ عَلَى كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الضَّبْطِ وَالِاخْتِصَارِ وَجَزَالَةِ الْأَلْفَاظِ وَجَمْعِ الْمَسَائِلِ، لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ مَصْرِفُ أَذْهَانِهِمْ إلَى اسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ وَتَقْوِيمِ الدَّلَائِلِ؛ فَالْعَالِمُ الْمُتَأَخِّرُ يَصْرِفُ ذِهْنَهُ إلَى تَنْقِيحِ مَا قَالُوهُ، وَتَبْيِينِ مَا أَجْمَلُوهُ، وَتَقْيِيدِ مَا أَطْلَقُوهُ، وَجَمْعِ مَا فَرَّقُوهُ، وَاخْتِصَارِ عِبَارَاتِهِمْ، وَبَيَانِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ اخْتِلَافَاتِهِمْ، فَهُوَ كَمَاشِطَةِ عَرُوسٍ رَبَّاهَا أَهْلُهَا حَتَّى صَلَحَتْ لِلزَّوَاجِ، تُزَيِّنُهَا وَتَعْرِضُهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ، وَعَلَى كُلٍّ فَالْفَضْلُ لِلْأَوَائِلِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
كَالْبَحْرِ يَسْقِيهِ السَّحَابُ وَمَا لَهُ
…
فَضْلٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ مَائِهِ
نَعَمْ فَضْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَمْثَالِنَا مِنْ الْمُتَعَلِّمِينَ، رَحِمَ اللَّهُ الْجَمِيعَ وَشَكَرَ سَعْيَهُمْ آمِينَ (قَوْلُهُ: الْحَظُّ) أَيْ النَّصِيبُ، وَالْوَافِرُ: الْكَثِيرُ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ) : تَعْلِيلٌ لِلْجُمَلِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ، وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى الْكِتَابِ ط (قَوْلُهُ: هُوَ الْبَحْرُ) تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَوْ اسْتِعَارَةٌ (قَوْلُهُ: لَكِنْ بِلَا سَاحِلٍ) السَّاحِلُ رِيفُ الْبَحْرِ وَشَاطِئُهُ مَقْلُوبٌ، لِأَنَّ الْمَاءَ سَحَلَهُ وَكَانَ الْقِيَاسُ مَسْحُولًا قَامُوسٌ، وَإِذَا كَانَ لَا سَاحِلَ لَهُ فَهُوَ فِي غَايَةِ الِاتِّسَاعِ، لِأَنَّ نِهَايَةَ الْبَحْرِ سَاحِلُهُ، فَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ حَيْثُ أَثْبَتَ صِفَةَ مَدْحٍ وَاسْتَثْنَى مِنْهَا صِفَةَ مَدْحٍ أُخْرَى نَحْوَ «أَنَا أَفْصَحُ الْعَرَبِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ» ، وَهُوَ آكَدُ فِي الْمَدْحِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَدْحِ عَلَى الْمَدْحِ وَالْإِشْعَارُ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ صِفَةَ ذَمٍّ يَسْتَثْنِيهَا فَاضْطَرَّ إلَى اسْتِثْنَاءِ صِفَةِ مَدْحٍ. وَلَهُ نَوْعٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْ صِفَةِ ذَمٍّ مَنْفِيَّةٍ عَنْ الشَّيْءِ صِفَةَ مَدْحٍ، كَقَوْلِهِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
…
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
أَيْ فِي حَدِّهِنَّ كَسْرٌ مِنْ مُضَارَبَةِ الْجُيُوشِ، وَهَذَا الثَّانِي أَبْلَغُ كَمَا بُيِّنَ فِي مَحَلِّهِ فَافْهَمْ. وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ الْإِغْرَاقُ، حَيْثُ وَصَفَ الْبَحْرَ بِمَا هُوَ مُمْكِنٌ عَقْلًا مُمْتَنِعٌ عَادَةً (قَوْلُهُ: وَوَابِلُ الْقَطْرِ) الْوَابِلُ: الْكَثِيرُ، وَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ: أَيْ الْقَطْرُ الْوَابِلُ ط (قَوْلُهُ: غَيْرَ أَنَّهُ مُتَوَاصِلٌ) أَيْ تَوَاصُلًا نَافِعًا غَيْرَ مُفْسِدٍ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَإِلَّا كَانَ ذَمًّا، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ (قَوْلُهُ: بِحُسْنِ عِبَارَاتٍ) الْبَاءُ لِلتَّعْلِيلِ مِثْلُ - فَبِظُلْمٍ - أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ مِثْلُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ - أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَحْرِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُشْتَقِّ: أَيْ الْوَاسِعُ مِثْلُ حَاتِمٍ فِي قَوْمِهِ، وَمِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ
لِتَأَوُّلِهِ بِكَرِيمٍ وَجَرِيءٍ أَوْ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي لِأَنَّهُ أَوْ مِنْ كِتَابِي (قَوْلُهُ: وَرَمْزِ إشَارَاتٍ) هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ: وَهُوَ الْإِيمَاءُ بِالْعَيْنِ أَوْ الْيَدِ أَوْ نَحْوِهِمَا كَمَا فِي الْقَامُوسِ. فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَلْطَفَ أَنْوَاعِ الْإِيمَاءِ وَأَخْفَاهَا كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: مُعْتَمِدًا فِي دَفْعِ الْإِيرَادِ أَلْطَفَ الْإِشَارَةِ. (قَوْلُهُ: وَتَنْقِيحِ مَعَانِي) أَيْ تَهْذِيبِهَا وَتَنْقِيَتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَتَحْرِيرِ مَبَانِي. وَفِي الْقَامُوسِ: تَحْرِيرُ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ تَقْوِيمُهُ اهـ وَمَبَانِي الْكَلِمَاتِ: مَا تُبْنَى عَلَيْهِ مِنْ الْحُرُوفِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ، مِنْ إطْلَاقِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ، وَفِي قَوْلِهِ الْمَعَانِي وَالْمَبَانِي مُرَاعَاةُ النَّظِيرِ: وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ أَمْرٍ وَمَا يُنَاسِبُهُ، لَا بِالتَّضَادِّ نَحْوَ - {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]- ثُمَّ الْمَوْجُودُ فِي النُّسَخِ رَسْمُهَا بِالْيَاءِ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ حَذْفُهَا، وَالْوَقْفُ عَلَى النُّونِ سَاكِنَةً مِثْلُ {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72]- (قَوْلُهُ: وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ: الْمُعَايَنَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَهَذِهِ عِلَّةٌ لِمَحْذُوفٍ: أَيْ أَنَّ مَا قُلْته خَبَرٌ يَحْتَمِلُ
وَسَتَقَرُّ بِهِ بَعْدَ التَّأَمُّلِ الْعَيْنَانِ، فَخُذْ مَا نَظَرْت مِنْ حُسْنِ رَوْضِهِ الْأَسْمَى، وَدَعْ مَا سَمِعْت عَنْ الْحُسْنِ وَسَلْمَى:
خُذْ مَا نَظَرْت وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْت بِهِ
…
فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا يُغْنِيك عَنْ زُحَلَ
هَذَا وَقَدْ أَضْحَتْ أَعْرَاضُ الْمُصَنِّفِينَ أَغْرَاضَ سِهَامِ أَلْسِنَةِ الْحُسَّادِ، وَنَفَائِسُ تَصَانِيفِهِمْ
ــ
[رد المحتار]
الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَبَعْدَ اطِّلَاعِك عَلَى التَّأْلِيفِ الْمَذْكُورِ تُعَايِنُ مَا ذَكَرْته لَك وَتَتَحَقَّقُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْعِيَانِ أَفَادَهُ ط وَفِي هَذَا الْكَلَامِ اقْتِبَاسٌ مِمَّا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِيَّةِ، وَتَضْمِينٌ لِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَا ابْنَ الْكِرَامِ أَلَا تَدْنُو فَتُبْصِرَ مَا
…
قَدْ حَدَّثُوك فَمَا رَاءٍ كَمَنْ سَمِعَا
(قَوْلُهُ: وَسَتُقِرُّ) الْقُرُّ: بِالضَّمِّ الْبَرْدُ، وَعَيْنُهُ تُقِرُّ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ قُرَّةً وَتُضَمُّ وَقَرُورًا بَرَدَتْ وَانْقَطَعَ بُكَاؤُهَا. أَوْ رَأَتْ مَا كَانَتْ مُتَشَوِّفَةً إلَيْهِ قَامُوسٌ، وَكَأَنَّهُ وَصَفَ الْعَيْنَ بِالْبُرُودَةِ، لِمَا قَالُوا مِنْ أَنَّ دَمْعَةَ السُّرُورِ بَارِدَةٌ وَدَمْعَةَ الْحُزْنِ حَارَّةٌ (قَوْلُهُ: بَعْدَ التَّأَمُّلِ) أَيْ التَّفَكُّرِ فِيهِ وَالتَّدَبُّرِ فِي مَعَانِيهِ ط (قَوْلُهُ: فَخُذْ) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ: أَيْ إذَا كَانَ كَمَا وَصَفْتُهُ لَك أَوْ إذَا تَأَمَّلْتَهُ وَقَرَّتْ بِهِ عَيْنَاك فَخُذْ إلَخْ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ هُنَا إلَى قَوْلِهِ كَيْفَ لَا وَقَدْ يَسَّرَ اللَّهُ ابْتِدَاءَ تَبْيِيضِ إلَخْ سَاقِطٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ النُّسَخِ، وَكَأَنَّهُ مِنْ إلْحَاقَاتِ الشَّارِحِ، فَمَا نُقِلَ مِنْ نُسْخَتِهِ قَبْلَ الْإِلْحَاقِ خَلَا عَنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَوْلُهُ: مِنْ حُسْنِ رَوْضِهِ) الْحُسْنُ الْجَمَالُ جَمْعُهُ مَحَاسِنُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ قَامُوسٌ. فَهُوَ اسْمٌ جَامِدٌ لَا صِفَةٌ فَالْإِضَافَةُ فِيهِ لَامِيَّةٌ فَافْهَمْ، وَالْأَسْمَى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنْ السُّمُوِّ: أَيْ الْأَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ ط: وَفِي الْكَلَامِ اسْتِعَارَةٌ شَبَّهَ عِبَارَتَهُ الْحَسَنَةَ بِالرَّوْضِ بِجَامِعِ النَّفَاسَةِ وَتَعَلُّقِ النُّفُوسِ بِكُلٍّ وَالْقَرِينَةُ إضَافَةُ الرَّوْضِ إلَى الضَّمِيرِ (قَوْلُهُ: عَنْ الْحُسْنِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ بِضَمِّ الْحَاءِ، فَالْمَعْنَى دَعْ الْحُسْنَ الصُّورِيَّ الْمَحْسُوسَ وَانْظُرْ إلَى حُسْنِ رَوْضِ هَذَا الشَّرْحِ الْأَعْلَى قَدْرًا. اهـ. ح (قَوْلُهُ: وَسَلْمَى) امْرَأَةٌ مِنْ مَعْشُوقَاتِ الْعَرَبِ الْمَشْهُورَاتِ كَلَيْلَى وَلُبْنَى وَسُعْدَى وَبُثَيْنَةَ وَمَيَّةَ وَعَزَّةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى الْعَلَمِيَّ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْوَصْفِيُّ لِاشْتِهَارِهَا بِالْحُسْنِ كَاشْتِهَارِ حَاتِمٍ بِالْكَرْمِ، فَيُقَالُ فُلَانٌ حَاتِمٌ بِمَعْنَى كَرِيمٍ، فَالْمُرَادُ دَعْ الْجَمَالَ وَالْجَمِيلَ (قَوْلُهُ: فِي طَلْعَةِ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَمَا يُغْنِيك مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ؛ وَالْمَعْنَى أَنَّ طَلْعَةَ الشَّمْسِ: أَيْ طُلُوعَهَا يَكْفِيكَ عَنْ نُورِ الْكَوْكَبِ الْمُسَمَّى بِزُحَلَ، نَزَّلَ كِتَابَهُ مَنْزِلَةَ الشَّمْسِ بِجَامِعِ الِاهْتِدَاءِ بِكُلٍّ، وَنَزَّلَ غَيْرَهُ مَنْزِلَةَ زُحَلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ نُورَ الشَّمْسِ وَالِاهْتِدَاءَ بِهِ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهَا مِنْ الْكَوَاكِبِ، وَزُحَلُ أَحَدُ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ الَّتِي هِيَ السَّبْعُ، جَمَعَهَا الشَّاعِرُ عَلَى تَرْتِيبِ السَّمَوَاتِ كُلُّ كَوْكَبٍ فِي سَمَاءٍ بِقَوْلِهِ:
زُحَلُ شَرَى مَرِّيخُهُ مِنْ شَمْسِهِ
…
فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدَ الْأَقْمَارُ
ط (قَوْلُهُ: هَذَا) أَيْ خُذْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْته، وَأَرَادَ بِهِ الِانْتِقَالَ عَنْ وَصْفِ الْكِتَابِ إلَى التَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِمَا يُشَنِّعُ بِهِ حُسَّادُ الزَّمَانِ الْمُغَيِّرُونَ فِي وُجُوهِ الْحِسَانِ:
كَضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا
…
حَسَدًا وَلُؤْمًا إنَّهُ لَدَمِيمُ
(قَوْلُهُ أَعْرَاضُ) جَمْعُ عِرْضٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ: مَحَلُّ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ ط (قَوْلُهُ: أَغْرَاضَ) أَيْ كَالْأَغْرَاضِ خَبَرُ أَضْحَى فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَالْأَغْرَاضُ: جَمْعُ غَرَضٍ، وَهُوَ الْهَدَفُ الَّذِي يُرْمَى بِالسِّهَامِ، فَكَمَا أَنَّ الْغَرَضَ يُرْمَى بِالسِّهَامِ كَذَلِكَ أَعْرَاضُ الْمُصَنِّفِينَ تُرْمَى بِالْقَوْلِ الْكَاذِبِ، وَشَاعَ اسْتِعْمَالُ الرَّمْيِ فِي نِسْبَةِ الْقَبَائِحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى - {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]- {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]- وَبَيْنَ الْأَعْرَاضِ وَالْأَغْرَاضِ الْجِنَاسُ الْمُضَارِعُ ط، وَفِي تَشْبِيهِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ بِالسِّهَامِ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ الْقَرِينَةُ إضَافَتُهَا إلَى الْأَلْسِنَةِ وَالْجَامِعُ حُصُولُ الضَّرَرِ بِكُلٍّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إضَافَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ إلَى الْمُشَبَّهِ: أَيْ الْأَلْسِنَةُ الَّتِي هِيَ كَالسِّهَامِ، لَكِنَّ تَشْبِيهَ الْكَلَامِ بِالسِّهَامِ أَظْهَرُ مِنْ تَشْبِيهِ الْأَلْسِنَةِ بِهَا تَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ: وَنَفَائِسُ تَصَانِيفِهِمْ وَإِلَخْ) النَّفَائِسُ جَمْعُ نَفِيسَةٍ، يُقَالُ: شَيْءٌ نَفِيسٌ أَيْ يُتَنَافَسُ فِيهِ وَيُرْغَبُ،
مُعَرَّضَةً بِأَيْدِيهِمْ تَنْتَهِبُ فَوَائِدَهَا ثُمَّ تَرْمِيهَا بِالْكَسَادِ:
أَخَا الْعِلْمِ لَا تَعْجَلْ بِعَيْبِ مُصَنِّفٍ
…
وَلَمْ تَتَيَقَّنْ زَلَّةً مِنْهُ تَعْرِفُ
فَكَمْ أَفْسَدَ الرَّاوِي كَلَامًا بِعَقْلِهِ
…
وَكَمْ حَرَّفَ الْأَقْوَالَ قَوْمٌ وَصَحَّفُوا
وَكَمْ نَاسِخٍ أَضْحَى لِمَعْنًى مُغَيِّرًا
…
وَجَاءَ بِشَيْءٍ لَمْ يُرِدْهُ الْمُصَنِّفُ
وَمَا كَانَ قَصْدِي مِنْ هَذَا أَنْ يُدْرَجَ ذِكْرِي بَيْنَ الْمُحَرِّرِينَ. مِنْ الْمُصَنِّفِينَ وَالْمُؤَلِّفِينَ. بَلْ الْقَصْدُ رِيَاضُ الْقَرِيحَةِ وَحِفْظُ الْفُرُوعِ الصَّحِيحَةِ. مَعَ رَجَاءِ الْغُفْرَانِ. وَدُعَاءِ الْإِخْوَانِ، وَمَا عَلَيَّ
ــ
[رد المحتار]
وَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ مَرْفُوعٌ بِالْعَطْفِ عَلَى اسْمِ أَضْحَى أَوْ عَلَى الِابْتِدَائِيَّةِ وَالْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ أَوْ لِلْحَالِ، وَمُعَرَّضَةً بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ أَضْحَى أَوْ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَبِأَيْدِيهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِهِ: أَيْ مَنْصُوبَةً بِأَيْدِيهِمْ، مِنْ قَوْلِهِمْ: جَعَلْت الشَّيْءَ عُرْضَةً لَهُ: أَيْ نَصَبْته: أَوْ بِفَتْحِ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً مِنْ أَعْرَضَ بِمَعْنَى أَظْهَرَ: أَيْ مُظْهَرَةً فِي أَيْدِيهِمْ وَالضَّمِيرُ لِلْحُسَّادِ، وَجُمْلَةُ تَنْتَهِبُ أَيْ الْحُسَّادُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَعْلُومِ حَالِيَّةٌ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ هِيَ الْخَبَرُ وَمُعَرَّضَةً حَالٌ. وَرَمْيُهَا بِالْكَسَادِ كِنَايَةٌ عَنْ هَجْرِهَا أَوْ ذَمِّهَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحُسَّادَ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهَا بَلْ يَنْتَهِبُونَ فَوَائِدَهَا وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا ثُمَّ يَذُمُّونَهَا وَيَقُولُونَ إنَّهَا سِلْعَةٌ كَاسِدَةٌ (قَوْلُهُ: أَخَا الْعِلْمِ) مُنَادَى عَلَى حَذْفِ أَدَاةِ النِّدَاءِ وَالْأَخُ: مِنْ النَّسَبِ وَالصِّدِّيقُ وَالصَّاحِبُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَالْمُرَادُ الْأَخِيرُ (قَوْلُهُ: بِعَيْبِ) مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلَى مَفْعُولِهِ، وَإِنْ جُعِلَ الْعَيْبُ اسْمًا لِمَا يُوجِبُ الذَّمَّ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ: أَيْ بِذِكْرِ عَيْبٍ ط (قَوْلُهُ: مُصَنِّفٍ) بِكَسْرِ النُّونِ أَوْ بِفَتْحِهَا (قَوْلُهُ: وَلَمْ تَتَيَقَّنْ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ ط (قَوْلُهُ: مِنْهُ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ صِفَةٌ لِزَلَّةٍ وَجُمْلَةُ تَعْرِفُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ أَوْ حَالٌ. أَوْ مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِتَعْرِفُ وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِزَلَّةٍ (قَوْلُهُ: فَكَمْ) خَبَرِيَّةٌ لِلتَّكْثِيرِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا خَبَرٌ كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ فِيمَا إذَا وَلِيَهَا فِعْلٌ مُتَعَدٍّ أَخَذَ مَفْعُولَهُ فَافْهَمْ (قَوْلُهُ: بِعَقْلِهِ) الْبَاءُ لِلْآلَةِ أَيْ أَنَّ عَقْلَهُ هُوَ الْآلَةُ فِي الْإِفْسَادِ ط (قَوْلُهُ: وَكَمْ حَرَّفَ) التَّحْرِيفُ التَّغْيِيرُ. وَالتَّصْحِيفُ: الْخَطَأُ فِي الصَّحِيفَةِ قَامُوسٌ. لَكِنْ فِي شَرْحِ أَلْفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّ لِلْقَاضِي زَكَرِيَّا: التَّحْرِيفُ الْخَطَأُ فِي الْحُرُوفِ بِالشَّكْلِ. وَالتَّصْحِيفُ الْخَطَأُ فِيهَا بِالنُّقَطِ وَاللَّحْنُ: الْخَطَأُ فِي الْإِعْرَابِ اهـ. وَفِي تَعْرِيفَاتِ السَّيِّدِ: تَجْنِيسُ التَّحْرِيفِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي الْهَيْئَةِ كَبُرْدٍ وَبَرْدٍ وَتَجْنِيسُ التَّصْحِيفِ أَنْ يَكُونَ الْفَارِقُ نُقْطَةً كَأَنْقَى وَأَلْقَى. اهـ. (قَوْلُهُ: أَضْحَى لِمَعْنًى مُغَيِّرًا) اللَّامُ فِي الْمَعْنَى زَائِدَةٌ لِلتَّقْوِيَةِ لِتَقَدُّمِ الْمَفْعُولِ عَلَى عَامِلِهِ مَعَ أَنَّ الْعَامِلَ مَحْمُولٌ عَلَى الْفِعْلِ فَضَعُفَ عَنْ الْمَعْمُولِ وَتَغْيِيرِ النَّاسِخِ الْمَعْنَى بِسَبَبِ تَغْيِيرِهِ الْأَلْفَاظَ وَجُمْلَةُ وَجَاءَ إلَخْ مُؤَكِّدَةٌ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ النَّاسِخُ عَدُوُّ الْمُؤَلِّفِ (قَوْلُهُ: مِنْ هَذَا) أَيْ التَّأْلِيفِ (قَوْلُهُ: أَنْ يُدْرَجَ) أَيْ يَجْرِيَ. وَفِي الْقَامُوسِ: دَرَجَتْ الرِّيحُ بِالْحَصَى أَيْ جَرَتْ عَلَيْهِ جَرْيًا شَدِيدًا (قَوْلُهُ: مِنْ الْمُصَنِّفِينَ وَالْمُؤَلِّفِينَ) التَّأْلِيفُ: جَعْلُ الْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ كَانَ لِبَعْضِهَا نِسْبَةٌ إلَى بَعْضٍ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ أَوْ لَا. وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ التَّأْلِيفُ أَعَمَّ مِنْ التَّرْتِيبِ اهـ تَعْرِيفَاتُ السَّيِّدِ. قِيلَ وَأَعَمُّ مِنْ التَّصْنِيفِ لِأَنَّهُ مُطْلَقُ الضَّمِّ، وَالتَّصْنِيفُ جَعْلُ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى حِدَةٍ. وَقِيلَ الْمُؤَلِّفُ مَنْ يَجْمَعُ كَلَامَ غَيْرِهِ وَالْمُصَنِّفُ مَنْ يَجْمَعُ مُبْتَكَرَاتِ أَفْكَارِهِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا قِيلَ وَاضِعُ الْعِلْمِ أَوْلَى بِاسْمِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْمُؤَلِّفِ (قَوْلُهُ: رِيَاضُ) فِي الْقَامُوسِ رَاضَ الْمُهْرَ رِيَاضًا وَرِيَاضَةً: ذَلِكَ اهـ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مَسَائِلُ الرِّيَاضَةِ. قَالَ الشِّنْشَوْرِيِّ أَيْ الَّتِي تُرَوِّضُ الْفِكْرَ وَتُذَلِّلُهُ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّمْرِينِ عَلَى الْعَمَلِ (قَوْلُهُ: الْقَرِيحَةِ) فِي الصِّحَاحِ: الْقَرِيحَةُ أَوَّلُ مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ الْبِئْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِفُلَانٍ قَرِيحَةٌ جَيِّدَةٌ: يُرَادُ اسْتِنْبَاطُ الْعِلْمِ بِجَوْدَةِ الطَّبْعِ. اهـ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا آلَةُ الِاسْتِنْبَاطِ: وَهِيَ الذِّهْنُ (قَوْلُهُ: وَدُعَاءِ) عَطْفٌ عَلَى الْغُفْرَانِ (قَوْلُهُ: وَمَا عَلَيَّ)
مِنْ إعْرَاضِ الْحَاسِدِينَ عَنْهُ حَالَ حَيَاتِي فَسَيَتَلَقَّوْنَهُ بِالْقَبُولِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ وَفَاتِي، كَمَا قِيلَ:
تَرَى الْفَتَى يُنْكِرُ فَضْلَ الْفَتَى
…
لُؤْمًا وَخُبْثًا فَإِذَا مَا ذَهَبْ
لَجَّ بِهِ الْحِرْصُ عَلَى نُكْتَةٍ
…
يَكْتُبُهَا عَنْهُ بِمَاءِ الذَّهَبْ
فَهَاكَ مُؤَلِّفًا مُهَذِّبًا بِمُهِمَّاتِ هَذَا الْفَنِّ، مُظْهِرًا لِدَقَائِقَ اُسْتُعْمِلَتْ الْفِكَرُ فِيهَا إذَا مَا اللَّيْلُ جَنَّ، مُتَحَرِّيًا أَرْجَحَ الْأَقْوَالِ وَأَوْجَزَ الْعِبَارَةِ، مُعْتَمِدًا فِي دَفْعِ الْإِيرَادِ أَلْطَفَ الْإِشَارَةِ؛ فَرُبَّمَا خَالَفْت فِي حُكْمٍ أَوْ دَلِيلٍ
ــ
[رد المحتار]
مَا نَافِيَةٌ وَعَلَيَّ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ وَمَا عَلَيَّ بَأْسٌ أَوْ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ وَعَلَيَّ الْخَبَرُ (قَوْلُهُ: فَسَيَتَلَقَّوْنَهُ بِالْقَبُولِ) قَدْ حَقَّقَ الْمَوْلَى رَجَاهُ وَأَعْطَاهُ فَوْقَ مَا تَمَنَّاهُ، وَهُوَ دَلِيلُ صِدْقِهِ وَإِخْلَاصِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَجَزَاهُ خَيْرًا (قَوْلُهُ: تَرَى الْفَتَى) رَأَى عِلْمِيَّةٌ وَالْفَتَى مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الشَّابُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُطْلَقُ الشَّخْصِ، وَجُمْلَةُ يُنْكِرُ مَفْعُولٌ ثَانٍ أَوْ بَصَرِيَّةٌ وَلَا يَرِدُ أَنَّ الْإِنْكَارَ مِمَّا لَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ لِأَنَّهُ قَدْ تُدْرَكُ أَمَارَاتُهُ، عَلَى أَنَّهُ إذَا جُعِلَتْ بَصَرِيَّةً فَجُمْلَةُ يُنْكِرُ حَالٌ لَا مَفْعُولَ لَهَا حَتَّى يَرِدَ ذَلِكَ فَافْهَمْ (قَوْلُهُ: لُؤْمًا) مَهْمُوزُ الْعَيْنِ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ (قَوْلُهُ: مَا ذَهَبَ) أَيْ مَاتَ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا بَعْدَ إذَا زَائِدَةٌ (قَوْلُهُ: لَجَّ) بِالْجِيمِ؛ مِنْ اللَّجَاجِ: وَهُوَ الْخُصُومَةُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ اهـ ح وَضَمَّنَهُ مَعْنَى اشْتَدَّ فَعَدَّاهُ بِالْبَاءِ ط (قَوْلُهُ: الْحِرْصُ) طَلَبُ الشَّيْءِ بِاجْتِهَادٍ فِي إصَابَتِهِ تَعْرِيفَاتُ السَّيِّدِ (قَوْلُهُ: عَلَى نُكْتَةٍ) مُتَعَلِّقٌ بِالْحِرْصِ وَالنُّكْتَةُ: هِيَ مَسْأَلَةٌ لَطِيفَةٌ أُخْرِجَتْ بِدِقَّةِ نَظَرٍ وَإِمْعَانِ فِكْرٍ، مِنْ نَكَتَ رُمْحَهُ بِأَرْضٍ: إذَا أَثَّرَ فِيهَا، وَسُمِّيَتْ الْمَسْأَلَةُ الدَّقِيقَةُ نُكْتَةً لِتَأَثُّرِ الْخَوَاطِرِ فِي اسْتِنْبَاطِهَا سَيِّدٌ (قَوْلُهُ: يَكْتُبُهَا) حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ أَوْ صِفَةٌ لِنُكْتَةٍ: أَيْ يُرِيدُ كِتَابَتَهَا (قَوْلُهُ: فَهَاكَ) اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى خُذْ (قَوْلُهُ: مُهَذِّبًا) بِالْكَسْرِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ مُظْهِرًا، أَوْ هُوَ أَوْلَى مِنْ الْفَتْحِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ تَكَلُّفًا وَالتَّهْذِيبُ: التَّنْقِيَةُ وَالْإِصْلَاحُ، وَقَوْلُهُ: لِمُهِمَّاتِ مَفْعُولُهُ وَاللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ، وَهُوَ جَمْعُ مُهِمَّةٍ: مَا يُهْتَمُّ بِتَحْصِيلِهِ (قَوْلُهُ: اسْتَعْمَلْت) أَيْ أَعْمَلْت فَالسِّينُ وَالتَّاءُ زَائِدَتَانِ، عَبَّرَ بِهِمَا إشَارَةً إلَى الِاعْتِنَاءِ وَالِاجْتِهَادِ ط (قَوْلُهُ: فِيهَا) أَيْ فِي تَحْرِيرِهَا ط (قَوْلُهُ: جَنَّ) أَيْ سَتَرَ الْأَشْيَاءَ بِظُلْمَتِهِ، وَالْمَادَّةُ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِتَارِ كَالْجِنِّ وَالْجِنَانِ وَالْجَنِينِ وَالْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّيْلَ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الْأَفْكَارِ غَالِبًا، وَفِيهِ يَزْكُو الْفَهْمُ لِقِلَّةِ الْحَرَكَةِ فِيهِ. وَعَادَةُ الْعُلَمَاءِ يَتَلَذَّذُونَ بِالسَّهَرِ فِي التَّحْرِيرِ لِلْمَسَائِلِ كَمَا قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ رحمه الله
سَهَرِي لِتَنْقِيحِ الْعُلُومِ أَلَذُّ لِي
…
مِنْ وَصْلِ غَانِيَةٍ وَطِيبِ عِنَاقِ
وَتَمَايُلِي طَرَبًا لِحَلِّ عَوِيصَةٍ
…
فِي الذِّهْنِ أَبْلَغُ مِنْ مُدَامَةِ سَاقِي
وَصَرِيرُ أَقْلَامِي عَلَى صَفَحَاتِهَا
…
أَشْهَى مِنْ الدَّوْكَاءِ وَالْعُشَّاقِ
وَأَلَذُّ مِنْ نَقْرِ الْفَتَاةِ لِدُفِّهَا
…
نَقْرِي لِأُلْقِيَ الرَّمْلَ عَنْ أَوْرَاقِي
(قَوْلُهُ: مُتَحَرِّيًا) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ اسْتَعْمَلْت، وَالتَّحَرِّي: طَلَبُ أَحْرَى الْأَمْرَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا سَيِّدٌ (قَوْلُهُ: أَرْجَحَ الْأَقْوَالِ) الْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى مِنْ وَهَذَا بِاعْتِبَارِ غَالِبِ مَا وَقَعَ لَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ يَذْكُرُ قَوْلَيْنِ مُصَحَّحَيْنِ أَوْ يَذْكُرُ الصَّحِيحَ دُونَ الْأَصَحِّ ط (قَوْلُهُ: وَأَوْجَزَ الْعِبَارَةِ) أَيْ أَخْصَرَهَا: وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى مِنْ ط (قَوْلُهُ: مُعْتَمِدًا) حَالٌ أَيْضًا مُتَرَادِفَةٌ أَوْ مُتَدَاخِلَةٌ: أَيْ مُعَوِّلًا ط (قَوْلُهُ: الْإِيرَادِ) أَيْ الِاعْتِرَاضِ (قَوْلُهُ: أَلْطَفَ الْإِشَارَةِ) كَأَنْ يَذْكُرَ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا أَوْ قَيْدًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدْفَعُ بِهِ الْإِيرَادَ، وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا لِمَنْ اطَّلَعَ عَلَى كَلَامِ الْمَوْرِدِ، فَإِذَا رَأَى مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ عَلِمَ أَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ وَرُبَّمَا صَرَّحَ بِمَا يُشِيرُ إلَيْهِ أَيْضًا (قَوْلُهُ: فِي حُكْمٍ) بِأَنْ يَذْكُرَ إبَاحَةَ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ كَرَاهَتَهُ مَثَلًا (قَوْلُهُ: أَوْ دَلِيلٍ) بِأَنْ يَكُونَ دَلِيلٌ فِيهِ كَلَامٌ فَيَذْكُرُ غَيْرَهُ سَالِمًا، وَهَذَا
فَحَسَبَهُ مَنْ لَا اطِّلَاعَ لَهُ وَلَا فَهْمَ عُدُولًا عَنْ السَّبِيلِ، وَرُبَّمَا غَيَّرْت تَبَعًا لِمَا شَرَحَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ كَلِمَةً أَوْ حَرْفًا، وَمَا دَرَى أَنَّ ذَلِكَ لِنُكْتَةٍ تَدُقُّ عَنْ نَظَرِهِ وَتَخْفَى.
وَقَدْ أَنْشَدَنِي شَيْخِي الْحَبْرُ السَّامِي وَالْبَحْرُ الطَّامِي. وَاحِدُ زَمَانِهِ وَحَسَنَةُ أَوَانِهِ. شَيْخُ الْإِسْلَامِ الشَّيْخُ خَيْرُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَهُ:
قُلْ لِمَنْ لَمْ يَرَ الْمَعَاصِرَ شَيْئًا
…
وَيَرَى لِلْأَوَائِلِ التَّقْدِيمَا
إنَّ ذَاكَ الْقَدِيمَ كَانَ حَدِيثًا
…
وَسَيَبْقَى هَذَا الْحَدِيثُ قَدِيمًا
ــ
[رد المحتار]
كُلُّهُ غَيْرُ مَا يُصَرِّحُ بِهِ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ مَا ذَكَرَهُ فُلَانٌ خَطَأٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: فَحَسَبَهُ) أَيْ ظَنَّ مَا خَالَفْت فِيهِ غَيْرِي (قَوْلُهُ: مَنْ لَا اطِّلَاعَ لَهُ) أَيْ عَلَى مَا اطَّلَعْت عَلَيْهِ وَلَا فَهْمَ لَهُ بِمَا قَصَدْته (قَوْلُهُ: عُدُولًا) أَيْ مَيْلًا عَنْ السَّبِيلِ، أَيْ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ (قَوْلُهُ: تَبَعًا لِمَا شَرَحَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ) فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا شَرَحَ مَتْنَهُ غَيَّرَ مِنْهُ بَعْضَ أَلْفَاظٍ مُنَبِّهًا عَلَى التَّغْيِيرِ فَبَقِيَتْ نُسَخُ الْمَتْنِ الْمُجَرَّدِ مُخَالِفَةً لِنُسْخَةِ الْمَتْنِ الْمَشْرُوحِ فَتَابَعَهُ الشَّارِحُ فِيمَا غَيَّرَهُ، وَرُبَّمَا غَيَّرَ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ الْمُصَنِّفُ (قَوْلُهُ: وَمَا دَرَى) مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ فَاعْتَرَضَ وَمَا دَرَى أَفَادَهُ ط
(قَوْلُهُ: وَقَدْ أَنْشَدَنِي) أَنْشَدَ الشِّعْرَ: قَرَأَهُ قَامُوسٌ، وَالْمُرَادُ أَسْمَعَنِي هَذَا الشِّعْرَ (قَوْلُهُ: الْحَبْرُ) بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ: الْعَالِمُ أَوْ الصَّالِحُ قَامُوسٌ (قَوْلُهُ: السَّامِي) أَيْ الْعَالِي الْقَدْرِ (قَوْلُهُ: الطَّامِي) أَيْ الْمَلْآنُ قَامُوسٌ (قَوْلُهُ: وَاحِدُ زَمَانِهِ) أَيْ الْمُنْفَرِدُ فِي زَمَانِهِ بِالصِّفَاتِ (قَوْلُهُ: وَحَسَنَةُ أَوَانِهِ) أَيْ الَّذِي أَحْسَنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى الْخَلْقِ فِي أَوَانِهِ: أَيْ زَمَانِهِ أَفَادَهُ ط أَوْ الَّذِي يُعَدُّ حَسَنَةً لِزَمَانِهِ الْكَثِيرِ الْإِسَاءَةِ عَلَى أَبْنَائِهِ (قَوْلُهُ: الشَّيْخُ خَيْرُ الدِّينِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمُهُ الْعُلَيْمِيُّ؛ إذْ تَرْجَمَهُ جَمَاعَةٌ وَلَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَهُ مِنْهُمْ الْأَمِيرُ الْمُحِبِّيُّ. قَالَ خَيْرُ الدِّينِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ نُورِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ زَيْنِ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْأَيُّوبِيُّ نِسْبَةً إلَى بَعْضِ أَجْدَادِهِ الْعُلَيْمِيِّ بِالضَّمِّ نِسْبَةً إلَى سَيِّدِي عَلِيِّ بْنِ عُلَيْمٍ الْوَلِيِّ الْمَشْهُورِ. الْفَارُوقِيِّ نِسْبَةً إلَى الْفَارُوقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الرَّمْلِيُّ الْإِمَامُ الْمُفَسِّرُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِيُّ الصُّوفِيُّ النَّحْوِيُّ الْبَيَانِيُّ الْعَرُوضِيُّ الْمَنْطِقِيُّ الْمُعَمِّرُ. شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ فِي عَصْرِهِ وَصَاحِبُ الْفَتَاوَى السَّائِرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ التَّآلِيفِ النَّافِعَةِ فِي الْفِقْهِ، مِنْهَا حَوَاشِيهِ عَلَى الْمِنَحِ. وَعَلَى شَرْحِ الْكَنْزِ لِلْعَيْنِيِّ. وَعَلَى الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ. وَعَلَى الْبَحْرِ الرَّائِقِ. وَعَلَى الزَّيْلَعِيِّ، وَعَلَى جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ، وَرَسَائِلُ، وَدِيوَانُ شِعْرٍ مُرَتَّبٌ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. وُلِدَ سَنَةَ (993) وَتُوُفِّيَ بِبَلَدِهِ الرَّمْلَةِ سَنَةَ (1081) وَأَطَالَ فِي ذِكْرِ مَنَاقِبِهِ وَأَحْوَالِهِ وَبَيَانِ مَشَايِخِهِ وَتَلَامِذَتِهِ فَلْيُرَاجَعْ (قَوْلُهُ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَهُ) أَيْ وُجُودَهُ. وَالْمُرَادُ الدُّعَاءُ بِالْبَرَكَةِ فِي عُمُرِهِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ مَحْتُومٌ، وَذَكَرَ ط عَنْ الشِّرْعَةِ وَشَرْحِهَا مَا يُفِيدُ كَرَاهَةَ الدُّعَاءِ بِذَلِكَ. أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَيْهِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَعَا لِخَادِمِهِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِدَعَوَاتٍ مِنْهَا: وَأَطَالَ عُمْرَهُ» وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ. وَاسْتُفِيدَ مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِ أَنَّهُ أَلَّفَ كِتَابَهُ هَذَا فِي حَيَاةِ شَيْخِهِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ سَيَذْكُرُ آخِرَ الْكِتَابِ أَنَّهُ فَرَغَ مِنْ تَأْلِيفِهِ سَنَةَ (1071) فَيَكُونُ قَدْ فَرَغَ مِنْ تَأْلِيفِهِ قَبْلَ مَوْتِ شَيْخِهِ الْمَذْكُورِ بِعَشْرِ سِنِينَ (قَوْلُهُ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إلَخْ) فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ الْمَذْهَبُ الْكَلَامِيُّ، وَهُوَ إيرَادُ حُجَّةٍ لِلْمَطْلُوبِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْكَلَامِ نَحْوَ - {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]- وَبَيَانُ أَنَّ تَفْضِيلَ الْمَرْءِ بِأَوْصَافِهِ لَا بِتَقَدُّمِهِ، لِأَنَّ كُلَّ مُتَقَدِّمٍ قَدْ كَانَ حَادِثًا وَلَمْ يَزِدْ بِتَقْدِيمِهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَقْتَ حُدُوثِهِ، وَهَذَا الْمَعَاصِرُ سَيَمْضِي عَلَيْهِ زَمَانٌ يَصِيرُ فِيهِ قَدِيمًا، فَإِذَا فَضَّلْتُمْ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمَ بِأَوْصَافِهِ لَزِمَكُمْ تَفْضِيلُ ذَلِكَ الْمَعَاصِرِ الَّذِي سَيَبْقَى
عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ وَالْمُرَادَ، مَا أَنْشَدَنِيهِ شَيْخِي رَأْسُ الْمُحَقِّقِينَ النُّقَّادُ مُحَمَّدٌ أَفَنْدِي الْمَحَاسِنِيُّ وَقَدْ أَجَادَ:
لِكُلِّ بَنِي الدُّنْيَا مُرَادٌ وَمَقْصَدٌ
…
وَإِنَّ مُرَادِي صِحَّةٌ وَفَرَاغُ
لِأَبْلُغَ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ مَبْلَغًا
…
يَكُونُ بِهِ لِي فِي الْجِنَانِ بَلَاغُ
فَفِي مِثْل هَذَا فَلْيُنَافِسْ أُولُو
…
النُّهَى وَحَسْبِي مِنْ الدُّنْيَا الْغَرُورِ بَلَاغُ
ــ
[رد المحتار]
قَدِيمًا بِأَوْصَافِهِ أَيْضًا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ الْمُبَرِّدِ: لَيْسَ لِقِدَمِ الْعَهْدِ يَفْضُلُ الْفَائِلُ وَلَا لِحَدَاثَتِهِ يُهْضَمُ الْمُصِيبُ، وَلَكِنْ يُعْطَى كُلٌّ مَا يَسْتَحِقُّ. اهـ. قَالَ الدَّمَامِينِيُّ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ بَعْدَ نَقْلِهِ كَلَامَ الْمُبَرِّدِ: وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ تَحَرَّى هَذِهِ الْبَلِيَّةَ الشَّنْعَاءَ، فَتَرَاهُمْ إذَا سَمِعُوا شَيْئًا مِنْ النُّكَتِ الْحَسَنَةِ غَيْرَ مَعْزُوٍّ إلَى مُعَيَّنٍ اسْتَحْسَنُوهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لِلْمُتَقَدِّمِينَ، فَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ لِبَعْضِ أَبْنَاءِ عَصْرِهِمْ نَكَصُوا عَلَى الْأَعْقَابِ وَاسْتَقْبَحُوهُ، أَوْ ادَّعَوْا أَنَّ صُدُورَ ذَلِكَ عَنْ عَصْرِيٍّ مُسْتَبْعَدٌ، وَمَا الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا حَسَدٌ ذَمِيمٌ وَبَغْيٌ مَرْتَعُهُ وَخِيمٌ اهـ مُلَخَّصًا (قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ إلَخْ) بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ فَهَاكَ إلَخْ، مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مَدْحُ نَفْسِهِ وَتَأْلِيفِهِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشُّهْرَةِ التَّأْلِيفُ ط (قَوْلُهُ: شَيْخِي) فِي بَعْضِ النُّسَخِ زِيَادَةٌ: وَبَرَكَتِي وَوَلِيُّ نِعْمَتِي قَالَ ط. الْبَرَكَةُ اتِّسَاعُ الْخَيْرِ، وَوَلِيٌّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ: أَيْ مُتَوَلِّي نِعْمَتِي، وَالْمُرَادُ بِالنِّعْمَةِ نِعْمَةُ الْعِلْمِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ اهـ (قَوْلُهُ: مُحَمَّدٌ أَفَنْدِي) قَالَ الْمُحِبِّيُّ فِي تَارِيخِهِ: هُوَ ابْنُ تَاجِ الدِّينِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَحَاسِنِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الْخَطِيبُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، أَشْهَرُ آلِ بَيْتِ مَحَاسِنَ وَأَفْضَلُهُمْ، كَانَ فَاضِلًا كَامِلًا أَدِيبًا لَبِيبًا، لَطِيفَ الشَّكْلِ وَجِيهًا، جَامِعًا لِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، حَسَنَ الصَّوْتِ، وَلِيَ خَطَابَةَ جَامِعِ السُّلْطَانِ سَلِيمٍ بِصَالِحِيَّةِ دِمَشْقَ، ثُمَّ صَارَ إمَامًا بِجَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ وَخَطِيبًا فِيهِ، وَقَرَأَ فِيهِ صَحِيحَ مُسْلِمٍ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ بَعْضَ تَعَالِيقَ. وَوَلِيَ دَرْسَ الْحَدِيثِ تَحْتَ قُبَّةِ النَّسْرِ مِنْ الْجَامِعِ الْمَذْكُورِ، وَكَانَ فَصِيحَ الْعِبَارَةِ. وَانْتَفَعَ بِهِ خَلْقٌ مِنْ عُلَمَاءِ دِمَشْقَ، مِنْهُمْ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْحَصْكَفِيُّ مُفْتِي الشَّامِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ وَتَحْرِيرَاتٌ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ. وُلِدَ سَنَةَ (1012) وَتُوُفِّيَ سَنَةَ (1072)، وَرَثَاهُ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابْلُسِيُّ - بِقَصِيدَةٍ جَيِّدَةٍ إلَى الْغَايَةِ مَطْلَعُهَا قَوْلُهُ: لِيَهْنُ رِعَاعُ النَّاسِ وَلْيَفْرَحْ الْجَهْلُ فَبَعْدَك لَا يَرْجُو الْبَقَا مَنْ لَهُ عَقْلُ أَيَا جَنَّةً قَرَّتْ عُيُونُ أُولِي النُّهَى بِهَا زَمَنًا حَتَّى تَدَارَكَهَا الْمَحْلُ اهـ مُلَخَّصًا (قَوْلُهُ: لِكُلِّ بَنِي الدُّنْيَا) أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ الْمَوْجُودِينَ فِيهَا، وَسُمُّوا أَبْنَاءَهَا لِأَنَّهُمْ مِنْهَا مَادَّةً وَغِذَاءً، وَبِهَا انْتِفَاعُهُمْ. وَفِيهَا تَرْبِيَتُهُمْ. وَهِيَ اسْمٌ لِمَا قَبْلَ الْآخِرَةِ لِدُنُوِّهَا وَقُرْبِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِأَبْنَائِهَا الطَّالِبُونَ لَهَا الْمُنْهَمِكُونَ فِيهَا (قَوْلُهُ: صِحَّةٌ) أَيْ فِي الْجَسَدِ، وَفَرَاغٌ مِمَّا يَشْغَلُ عَنْ الْآخِرَةِ (قَوْلُهُ: لِأَبْلُغَ) عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ وَإِنَّ مُرَادِي إلَخْ (قَوْلُهُ: مَبْلَغًا) مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ (قَوْلُهُ: فِي الْجِنَانِ بَلَاغُ) أَيْ إيصَالٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ فِيهَا، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْبَلَاغُ كَسَحَابِ الْكِفَايَةُ وَالِاسْمُ مِنْهُ الْإِبْلَاغُ وَالتَّبْلِيغُ وَهُمَا الْإِيصَالُ. اهـ. (قَوْلُهُ: فَفِي مِثْلِ هَذَا) أَيْ هَذَا الْمُرَادِ الْمَذْكُورِ وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ مُفِيدَةٌ لِلتَّعْلِيلِ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِيُنَافِسْ (قَوْلُهُ: فَلْيُنَافِسْ) أَيْ يَرْغَبْ وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى، مِثْلُهَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِذَا هَلَكْت فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِي
(قَوْلُهُ: أُولُو النُّهَى) أَيْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَمُنَافَسَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا (قَوْلُهُ: وَحَسْبِي) مُبْتَدَأٌ: أَيْ كَافِي ط (قَوْلُهُ: الْغَرُورِ) فَعُولٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ: أَيْ الْغَارَّةِ اهـ ط (قَوْلُهُ: بَلَاغُ) أَيْ مِقْدَارُ الْكِفَايَةِ وَهُوَ
فَمَا الْفَوْزُ إلَّا فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدٍ
…
بِهِ الْعَيْشُ رَغْدٌ وَالشَّرَابُ يُسَاغُ
ــ
[رد المحتار]
خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلَاغِ الْأَوَّلِ الْجِنَاسُ التَّامُّ الْخَطِّيُّ اللَّفْظِيُّ أَفَادَهُ ط (قَوْلُهُ: فَمَا الْفَوْزُ) أَيْ النَّجَاةُ وَالظَّفَرُ بِالْخَيْرِ قَامُوسٌ، وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يُنَافِسْ مُفِيدَةٌ لِلتَّعْلِيلِ (قَوْلُهُ: إلَّا فِي نَعِيمٍ إلَخْ) فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ مِثْلُهَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَيَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ مِنَّا فَوَارِسُ
…
بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الْكُلَى وَالْأَبَاهِرِ
لِأَنَّ فَازَ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ أَوْ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّعِيمِ مَحَلُّهُ: وَهُوَ الْجَنَّةُ، مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْحَالِّ وَإِرَادَةِ الْمَحَلِّ، مِثْلُ - {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107]- وَعَلَى كُلٍّ فَالْفَوْزُ مُبْتَدَأٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ، وَالتَّقْدِيرُ مَا الْفَوْزُ حَاصِلٌ بِشَيْءٍ إلَّا بِنَعِيمٍ، أَوْ مَا الْفَوْزُ حَاصِلٌ فِي مَحَلٍّ إلَّا فِي مَحَلِّ نَعِيمٍ، أَوْ الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِالْفَوْزِ: أَيْ فَمَا الْفَوْزُ مُعْتَبَرٌ إلَّا بِنَعِيمٍ، وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ، أَعْنِي جَعَلَ " فِي " بِمَعْنَى الْبَاءِ، وَلِلظَّرْفِيَّةِ عَلَى الثَّانِي مِثْلُ {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123] و {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34](قَوْلُهُ: الْعَيْشُ) أَيْ الْمَعِيشَةُ الَّتِي تَعِيشُ بِهَا مِنْ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَمَا يَكُونُ بِهِ الْحَيَاةُ قَامُوسٌ (قَوْلُهُ: رَغْدٌ) بِسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ: أَيْ وَاسِعٌ طَيِّبٌ ح عَنْ الْقَامُوسِ (قَوْلُهُ: يُسَاغُ) أَيْ يَسْهُلُ دُخُولُهُ فِي الْحَلْقِ ح عَنْ الْقَامُوسِ
مُقَدِّمَةٌ
حَقٌّ عَلَى مَنْ حَاوَلَ عِلْمًا أَنْ يَتَصَوَّرَهُ بِحَدِّهِ أَوْ رَسْمِهِ
ــ
[رد المحتار]
(قَوْلُهُ: مُقَدِّمَةٌ) بِالرَّفْعِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هَذِهِ مُقَدِّمَةٌ أَوْ بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ خُذْ مُقَدِّمَةً، وَهِيَ بِكَسْرِ الدَّالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْفَائِقِ، فَهِيَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَدَّمَ الْمُتَعَدِّي: أَيْ مُقَدِّمَةٌ مِنْ فَهْمِهَا عَلَى غَيْرِهِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ تَعْرِيفِ الْفِقْهِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا. وَمَوْضُوعُهُ وَاسْتِمْدَادُهُ مَحْظُورُهُ وَمُبَاحُهُ وَفَضْلُ الْعِلْمِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَرْجَمَةُ الْإِمَامِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَإِمَّا مِنْ اللَّازِمِ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ: أَيْ مُتَقَدِّمَةٌ بِذَاتِهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَيَجُوزُ فَتْحُ الدَّالِ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ الْمُتَعَدِّي: أَيْ قَدَّمَهَا أَرْبَابُ الْعُقُولِ عَلَى غَيْرِهَا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ ثُمَّ جُعِلَتْ اسْمًا لِلطَّائِفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الْجَيْشِ، ثُمَّ نُقِلَتْ إلَى أَوَّلِ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ جُعِلَتْ اسْمًا لِلْأَلْفَاظِ الْمَخْصُوصَةِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً إنْ لُوحِظَ أَنَّهَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ، أَوْ مَجَازًا إنْ لُوحِظَ خُصُوصُهَا. وَهِيَ قِسْمَانِ: مُقَدِّمَةُ الْعِلْمِ، وَهِيَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشُّرُوعُ فِي مَسَائِلِهِ مِنْ الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ، وَمُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ: وَهِيَ طَائِفَةٌ مِنْ الْكَلَامِ قُدِّمَتْ أَمَامَ الْمَقْصُودِ لِارْتِبَاطٍ لَهُ بِهَا وَانْتِفَاعٍ بِهَا فِيهِ، وَتَمَامُ تَحْقِيقِ ذَلِكَ فِي الْمُطَوَّلِ وَحَوَاشِيهِ.
(قَوْلُهُ: حَقٌّ) أَيْ وَاجِبٌ صِنَاعَةً لِيَكُونَ شُرُوعُهُ عَلَى بَصِيرَةٍ صَوْنًا لِسَعْيِهِ عَنْ الْعَبَثِ.
(قَوْلُهُ: عَلَى مَنْ حَاوَلَ) أَيْ رَامَ عِلْمًا: أَيَّ عِلْمٍ كَانَ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
فَالشَّرْعِيَّةُ عِلْمُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّوْحِيدِ، وَغَيْرُ الشَّرْعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَدَبِيَّةٌ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ كَمَا فِي شَيْخِي زَادَهْ. وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ: اللُّغَةَ وَالِاشْتِقَاقَ وَالتَّصْرِيفَ وَالنَّحْوَ وَالْمَعَانِيَ وَالْبَيَانَ وَالْبَدِيعَ وَالْعَرُوضَ وَالْقَوَافِيَ وَقَرِيضَ الشِّعْرِ وَإِنْشَاءَ النَّثْرِ وَالْكِتَابَةَ، وَالْقِرَاءَاتِ وَالْمُحَاضَرَاتِ وَمِنْهُ التَّارِيخُ. وَرِيَاضِيَّةٌ
وَهِيَ عَشَرَةٌ: التَّصَوُّفُ وَالْهَنْدَسَةُ وَالْهَيْئَةُ وَالْعِلْمُ التَّعْلِيمِيُّ وَالْحِسَابُ وَالْجَبْرُ وَالْمُوسِيقَى وَالسِّيَاسَةُ وَالْأَخْلَاقُ وَتَدْبِيرُ الْمَنْزِلِ. وَعَقْلِيَّةٌ: مَا عَدَا ذَلِكَ كَالْمَنْطِقِ وَالْجَدَلِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَالدِّينِ وَالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالطَّبِيعِيِّ وَالطِّبِّ وَالْمِيقَاتِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْكِيمْيَاءِ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ اهـ، ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
(قَوْلُهُ: أَنْ يَتَصَوَّرَهُ بِحَدِّهِ أَوْ رَسْمِهِ) الْحَدُّ: مَا كَانَ بِالذَّاتِيَّاتِ كَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ لِلْإِنْسَانِ، وَالرَّسْمُ مَا كَانَ بِالْعَرَضِيَّاتِ كَالضَّاحِكِ لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَسْمَاءِ الْعُلُومِ، فَقِيلَ إنَّهَا اسْمُ جِنْسٍ لِدُخُولِ أَلْ عَلَيْهَا، وَقِيلَ عِلْمُ جِنْسٍ وَاخْتَارَهُ السَّيِّدُ، وَقِيلَ عَلَمٌ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَهَلْ مُسَمَّى الْعِلْمِ إدْرَاكُ الْمَسَائِلِ أَوْ الْمَسَائِلُ نَفْسُهَا أَوْ الْمَلَكَةُ الاستحضارية. قَالَ السَّيِّدُ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ: الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلْعِلْمِ هُوَ الْإِدْرَاكُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى مُتَعَلِّقٌ هُوَ الْمَعْلُومُ، وَلَهُ تَابِعٌ فِي الْحُصُولِ يَكُونُ ذَلِكَ التَّابِعُ وَسِيلَةً إلَيْهِ فِي الْبَقَاءِ وَهُوَ الْمَلَكَةُ. وَقَدْ أُطْلِقَ الْعِلْمُ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا إمَّا حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً أَوْ اصْطِلَاحِيَّةً أَوْ مَجَازًا مَشْهُورًا. اهـ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّعْرِيفَ إمَّا حَقِيقِيٌّ كَتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَإِمَّا اسْمِيٌّ كَتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّاتِ الِاعْتِبَارِيَّةِ، وَهُوَ تَبْيِينُ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لِأَيِّ شَيْءٍ وُضِعَ، وَتَمَامُهُ فِي التَّوْضِيحِ لِصَدْرِ الشَّرِيعَةِ. وَذَكَرَ السَّيِّدُ فِي حَوَاشِي شَرْحِ
وَيَعْرِفَ مَوْضُوعَهُ وَغَايَتَهُ وَاسْتِمْدَادَهُ.
فَالْفِقْهُ لُغَةً: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ ثُمَّ خُصَّ بِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ، وَفَقِهَ بِالْكَسْرِ فِقْهًا عَلِمَ، وَفَقُهَ بِالضَّمِّ فَقَاهَةً صَارَ فَقِيهًا. وَاصْطِلَاحًا: عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ الْمُكْتَسَبُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ
ــ
[رد المحتار]
الشَّمْسِيَّةِ أَنَّ أَرْبَابَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْأُصُولِ يَسْتَعْمِلُونَ الْحَدَّ بِمَعْنَى الْمُعَرِّفِ، وَأَنَّ اللَّفْظَ إذَا وُضِعَ فِي اللُّغَةِ أَوْ الِاصْطِلَاحِ لِمَفْهُومٍ مُرَكَّبٍ، فَمَا كَانَ دَاخِلًا فِيهِ كَانَ ذَاتِيًّا لَهُ. وَمَا كَانَ خَارِجًا عَنْهُ كَانَ عَرَضِيًّا لَهُ، فَحُدُودُ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ وَرُسُومُهَا تُسَمَّى حُدُودًا وَرُسُومًا بِحَسَبِ الِاسْمِ، بِخِلَافِ الْحَقَائِقِ فَإِنَّ حُدُودَهَا وَرُسُومَهَا بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ. إذَا عَلِمْت ذَلِكَ ظَهَرَ لَك أَنَّ حَدَّ الْفِقْهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ حَدٌّ اسْمِيٌّ لِتَبْيِينِ مَا تَعَقَّلَهُ الْوَاضِعُ وَوَضَعَ الِاسْمَ بِإِزَائِهِ فَلِذَا جَعَلُوهُ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ كَوْنَهُ حَدًّا حَقِيقِيًّا، وَعَلَيْهِ فَقِيلَ لَا يَكُونُ مُقَدِّمَةً؛ لِأَنَّ الْحَدَّ الْحَقِيقِيَّ بِسَرْدِ الْعَقْلِ كُلُّ الْمَسَائِلِ: أَيْ بِتَصَوُّرِ جَمِيعِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الْمَحْدُودِ وَذَلِكَ هُوَ مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ نَفْسِهِ لَا مُقَدِّمَةِ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَقِيلَ يَجُوزُ أَخْذُ جِنْسٍ وَفَصْلٍ لَهُ بِلَا حَاجَةٍ إلَى سَرْدِ الْكُلِّ فَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِهِ مُقَدِّمَةً، وَجَعَلَ فِي التَّحْرِيرِ الْخِلَافَ لَفْظِيًّا وَتَمَامُ تَحْقِيقِهِ فِيهِ فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: وَيَعْرِفَ مَوْضُوعَهُ إلَخْ) اعْلَمْ أَنَّ مَبَادِئَ كُلِّ عِلْمٍ عَشَرَةٌ نَظَمَهَا ابْنُ ذِكْرِيٍّ فِي تَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ فَقَالَ:
فَأَوَّلُ الْأَبْوَابِ فِي الْمَبَادِي
…
وَتِلْكَ عَشْرَةٌ عَلَى الْمُرَادِ
الْحَدُّ وَالْمَوْضُوعُ ثُمَّ الْوَاضِعُ
…
وَالِاسْمُ وَاسْتِمْدَادُ حُكْمِ الشَّارِعِ
تَصَوُّرُ الْمَسَائِلِ الْفَضِيلَةُ
…
وَنِسْبَةٌ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ
بَيَّنَ الشَّارِحُ مِنْهَا أَرْبَعَةً وَبَقِيَ سِتَّةٌ.
فَوَاضِعُهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاسْمُهُ الْفِقْهُ. وَحُكْمُ الشَّارِعِ فِيهِ وُجُوبُ تَحْصِيلِ الْمُكَلَّفِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. وَمَسَائِلُهُ كُلُّ جُمْلَةٍ مَوْضُوعُهَا فِعْلُ الْمُكَلَّفِ. وَمَحْمُولُهَا أَحَدُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، نَحْوُ هَذَا الْفِعْلُ وَاجِبٌ. وَفَضِيلَتُهُ كَوْنُهُ أَفْضَلَ الْعُلُومِ سِوَى الْكَلَامِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ. وَنِسْبَتُهُ لِصَلَاحِ الظَّاهِرِ كَنِسْبَةِ الْعَقَائِدِ وَالتَّصَوُّفِ لِصَلَاحِ الْبَاطِنِ أَفَادَهُ ح.
(قَوْلُهُ: ثُمَّ خُصَّ بِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ) نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ ضِيَاءِ الْحُلُومِ.
(قَوْلُهُ: وَفَقِهَ إلَخْ) قَالَ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ كَلَامٍ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفِقْهَ اللُّغَوِيَّ مَكْسُورُ الْقَافِ فِي الْمَاضِي وَالِاصْطِلَاحِيَّ مَضْمُومُهَا فِيهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْكَرْمَانِيُّ. وَنَقَلَ الْعَلَّامَةُ الرَّمْلِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُقَالُ فَقِهَ بِكَسْرِ الْقَافِ. إذَا فَهِمَ، وَبِفَتْحِهَا: إذَا سَبَقَ غَيْرَهُ إلَى الْفَهْمِ، وَبِضَمِّهَا: إذَا صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً.
(قَوْلُهُ: اصْطِلَاحًا) الِاصْطِلَاحُ لُغَةً الِاتِّفَاقُ. وَاصْطِلَاحًا اتِّفَاقُ طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى إخْرَاجِ الشَّيْءِ عَنْ مَعْنَاهُ إلَى مَعْنًى آخَرَ رَمْلِيٌّ.
(قَوْلُهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ إلَخْ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقَ ابْنَ الْهُمَامِ أَبْدَلَ الْعِلْمَ بِالتَّصْدِيقِ وَهُوَ الْإِدْرَاكُ الْقَطْعِيُّ، سَوَاءٌ كَانَ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا صَوَابًا أَوْ خَطَأً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ كُلَّهُ قَطْعِيٌّ.
فَالظَّنُّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَكَذَا الْأَحْكَامُ الْمَظْنُونَةُ لَيْسَا مِنْ الْفِقْهِ، وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِالظَّنِّيَّةِ، فَيَخْرُجُ عَنْهُ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ قَطْعًا. وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهُ شَامِلًا لِلْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ. وَقَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ وَعَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ، وَتَمَامُهُ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ. فَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا الْإِدْرَاكُ الصَّادِقُ عَلَى الْيَقِينِ وَالظَّنِّ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْمَنْطِقِيِّ.
وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُقَابِلُ لِلظَّنِّ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْأُصُولِيِّ. قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي التَّوْضِيحِ: وَمَا قِيلَ إنَّ الْفِقْهَ ظَنِّيٌّ فَلِمَ أُطْلِقَ الْعِلْمُ عَلَيْهِ؟ فَجَوَابُهُ أَوَّلًا أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا فِقْهٌ وَهِيَ مَا قَدْ ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ وَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ قَطْعِيَّةٌ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: حِفْظُ الْفُرُوعِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثٌ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إنَّمَا الْفَقِيهُ الْمُعْرِضُ عَنْ الدُّنْيَا، الزَّاهِدُ فِي الْآخِرَةِ، الْبَصِيرُ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ
ــ
[رد المحتار]
وَثَانِيًا أَنَّ الْعِلْمَ يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّيَّاتِ وَتَمَامُهُ فِيهِ فَافْهَمْ. وَالْأَحْكَامُ جَمْعُ حُكْمٍ، قِيلَ هُوَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ. وَرَدَّهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ كَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ مَجَازًا كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ ثُمَّ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً. وَخَرَجَ بِهَا الْعِلْمُ بِالذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَالْمُرَادُ بِالشَّرْعِيَّةِ كَمَا فِي التَّوْضِيحِ مَا لَا يُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِطَابُ بِنَفْسِ الْحُكْمِ أَوْ بِنَظِيرِهِ الْمَقِيسِ هُوَ عَلَيْهِ كَالْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ، فَيَخْرُجُ عَنْهَا مِثْلَ وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَالْأَحْكَامِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْعَقْلِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ، أَوْ مِنْ الْحِسِّ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ النَّارَ مُحْرِقَةٌ، أَوْ مِنْ الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْفَاعِلَ مَرْفُوعٌ، وَالْمُرَادُ بِالْفَرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَسَائِلِ الْفُرُوعِ، فَخَرَجَ الْأَصْلِيَّةُ كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقِيَاسِ حُجَّةً. وَأَمَّا الِاعْتِقَادِيَّةُ كَكَوْنِ الْإِيمَانِ وَاجِبًا فَخَرَجَ بِالشَّرْعِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَافْهَمْ، وَقَوْلُهُ عَنْ أَدِلَّتِهَا أَيْ نَاشِئًا عَنْ أَدِلَّتِهَا حَالٌ مِنْ الْعِلْمِ: أَيْ أَدِلَّتُهَا الْأَرْبَعَةُ الْمَخْصُوصَةُ بِهَا وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، فَخَرَجَ عِلْمُ الْمُقَلِّدِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ دَلِيلًا لَهُ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَخَرَجَ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِالدَّلِيلِ كَعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِ جِبْرِيلَ عليه السلام. قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَاخْتُلِفَ فِي عِلْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحَاصِلِ عَنْ اجْتِهَادٍ، هَلْ يُسَمَّى فِقْهًا؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لِلْحُكْمِ لَا يُسَمَّى فِقْهًا، وَبِاعْتِبَارِ حُصُولِهِ عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يُسَمَّى فِقْهًا اصْطِلَاحًا. اهـ.
وَأَمَّا الْمَعْلُومُ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ مِثْلُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، فَقِيلَ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ، إذْ لَيْسَ حُصُولُهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَجَعَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ مِنْهُ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ وُصُولَهُ إلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ عَارِضٌ لِكَوْنِهِ صَارَ مِنْ شِعَارِ الدِّينِ، فَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ فِي الْأَصْلِ ثَابِتًا بِالدَّلِيلِ، إذْ لَيْسَ هُوَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ كَكَوْنِ الْكُلِّ أَعْظَمَ مِنْ الْجُزْءِ نَعَمْ يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ خَصَّ الْفِقْهَ بِالظَّنِّيِّ، وَقَوْلُهُ التَّفْصِيلِيَّةُ تَصْرِيحٌ بِلَازِمٍ كَمَا حَقَّقَهُ فِي التَّحْرِيرِ، وَغَلِطَ مَنْ جَعَلَهُ لِلِاحْتِرَازِ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَحْقِيقَاتٌ ذَكَرْتهَا فِي [مِنْحَةِ الْخَالِقِ فِيمَا عَلَّقْته عَلَى الْبَحْرِ الرَّائِقِ] .
(قَوْلُهُ: وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ إلَخْ) قَالَ فِي الْبَحْرِ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفِقْهَ فِي الْأُصُولِ عِلْمُ الْأَحْكَامِ مِنْ دَلَائِلِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَيْسَ الْفَقِيهُ إلَّا الْمُجْتَهِدُ عِنْدَهُمْ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُقَلِّدِ الْحَافِظِ لِلْمَسَائِلِ مَجَازٌ. وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ بِدَلِيلِ انْصِرَافِ الْوَقْتِ وَالْوَصِيَّةِ لِلْفُقَهَاءِ إلَيْهِمْ. وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ كَمَا فِي الْمُنْتَقَى. وَذَكَرَ فِي التَّحْرِيرِ أَنَّ الشَّائِعَ إطْلَاقُهُ عَلَى مَنْ يَحْفَظُ الْفُرُوعَ مُطْلَقًا يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَتْ بِدَلَائِلِهَا أَوْ لَا اهـ لَكِنْ سَيَذْكُرُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ أَنَّ الْفَقِيهَ مَنْ يُدَقِّقُ النَّظَرَ فِي الْمَسَائِلِ وَإِنْ عَلِمَ ثَلَاثَ مَسَائِلَ مَعَ أَدِلَّتِهَا، حَتَّى قِيلَ مَنْ حَفِظَ أُلُوفًا مِنْ الْمَسَائِلِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ. اهـ. لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا حَيْثُ لَا عُرْفَ وَإِلَّا فَالْعُرْفُ الْآنَ هُوَ مَا ذَكَرَ فِي التَّحْرِيرِ أَنَّهُ الشَّائِعُ. وَقَدْ صَرَّحَ الْأُصُولِيُّونَ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ، وَحِينَئِذٍ فَيَنْصَرِفُ فِي كَلَامِ الْوَاقِفِ وَالْمُوصِي إلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي زَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ الْعُرْفِيَّةُ فَتُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ الْأَصْلِيَّةُ.
(قَوْلُهُ: وَعِنْدَ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ) هُمْ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ الْمُوصِلَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَقِيقَةُ لُبُّ الشَّرِيعَةِ وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ.
(قَوْلُهُ: الزَّاهِدُ فِي الْآخِرَةِ) كَذَا فِي الْبَحْرِ. وَاَلَّذِي فِي الْغَزْنَوِيَّةِ الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. أَقُولُ: وَمِثْلُهُ فِي الْإِحْيَاءِ لِلْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ بِزِيَادَةٍ حَيْثُ قَالَ: سَأَلَ فَرْقَدٌ السِّنْجِيُّ الْحَسَنَ عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَهُ، فَقَالَ إنَّ الْفُقَهَاءَ يُخَالِفُونَك،
وَمَوْضُوعُهُ: فِعْلُ الْمُكَلَّفِ ثُبُوتًا أَوْ سَلْبًا. وَاسْتِمْدَادُهُ: مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ. وَغَايَتُهُ: الْفَوْزُ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.
وَأَمَّا فَضْلُهُ: فَكَثِيرٌ شَهِيرٌ، وَمِنْهُ مَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ
ــ
[رد المحتار]
فَقَالَ الْحَسَنُ: ثَكِلَتْك أُمُّك، وَهَلْ رَأَيْت فَقِيهًا بِعَيْنِك؟ إنَّمَا الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ، الْبَصِيرُ بِدِينِهِ الْمُدَاوِمُ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، الْوَرِعُ الْكَافُّ عَنْ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ، الْعَفِيفُ عَنْ أَمْوَالِهِمْ النَّاصِحُ لِجَمَاعَتِهِمْ.
(قَوْلُهُ: وَمَوْضُوعُهُ إلَخْ) . مَوْضُوعُ كُلِّ عِلْمٍ مَا يَبْحَثُ فِيهِ عَنْ عَوَارِضِهِ الذَّاتِيَّةِ. قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَأَمَّا مَوْضُوعُهُ فَفِعْلُ الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُكَلَّفٌ؛ لِأَنَّهُ يَبْحَثُ فِيهِ عَمَّا يَعْرِضُ لِفِعْلِهِ مِنْ حِلٍّ وَحُرْمَةٍ وَوُجُوبٍ وَنَدْبٍ، وَالْمُرَادُ بِالْمُكَلَّفِ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ، فَفِعْلُ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ لَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِهِ، وَضَمَانُ الْمُتْلَفَاتِ وَنَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ إنَّمَا الْمُخَاطَبُ بِهَا الْوَلِيُّ لَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ، كَمَا يُخَاطَبُ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِضَمَانِ مَا أَتْلَفَتْهُ حَيْثُ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا لِتَنْزِيلِ فِعْلِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِهِ.
وَأَمَّا صِحَّةُ عِبَادَةِ الصَّبِيِّ كَصَلَاتِهِ وَصَوْمِهِ الْمُثَابِ عَلَيْهَا فَهِيَ عَلَيْهَا عَقْلِيَّةٌ مِنْ بَابِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ، وَلِذَا لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِهَا بَلْ لِيَعْتَادَهَا فَلَا يَتْرُكُهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَيَّدْنَا بِحَيْثِيَّةِ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ لَا مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفُ لَيْسَ مَوْضُوعُهُ كَفِعْلِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَخْلُوقُ اللَّهِ تَعَالَى. اهـ.
(قَوْلُهُ: ثُبُوتًا أَوْ سَلْبًا) أَيْ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُ التَّكْلِيفِ بِهِ كَالْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ، أَوْ سَلْبُهُ كَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، وَقَصَدَ بِذَلِكَ دَفْعَ مَا قَدْ يُقَالُ إنَّ قَيْدَ الْحَيْثِيَّةِ مُرَاعًى، فَالْمُرَادُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُكَلَّفٌ كَمَا مَرَّ. فَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ الْمَنْدُوبِ أَوْ الْمُبَاحِ مِنْ مَوْضُوعِ الْفِقْهِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ فِيهِ لِجَوَازِ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْهُ فِي الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ سَلْبُ التَّكْلِيفِ بِهِ عَنْ طَرَفَيْ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ. مَطْلَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَالْحَاصِلِ بِالْمَصْدَرِ
[تَنْبِيهٌ] قَالَ فِي النَّهْرِ: اعْلَمْ أَنَّ الْفِعْلَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ وَصْفٌ لِلْفَاعِلِ مَوْجُودٌ كَالْهَيْئَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالصَّلَاةِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَحْوِهَا كَالْهَيْئَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالصَّوْمِ، وَهِيَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ بَيَاضَ النَّهَارِ، وَهَذَا يُقَالُ فِيهِ الْفِعْلُ بِالْمَعْنَى الْحَاصِلِ بِالْمَصْدَرِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ إيقَاعِ الْفَاعِلِ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُقَالُ فِيهِ الْفِعْلُ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ: أَيْ الَّذِي هُوَ أَحَدُ مَدْلُولَيْ الْفِعْلِ، وَمُتَعَلِّقُ التَّكْلِيفِ إنَّمَا هُوَ الْفِعْلُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي اعْتِبَارِيٌّ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، إذْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ لَهُ مَوْقِعٌ فَيَكُونُ لَهُ إيقَاعٌ وَهَكَذَا فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ الْمُحَالُ، فَأَحْكِمْ هَذَا فَإِنَّهُ يَنْفَعُك فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَحَالِّ اهـ.
(قَوْلُهُ: وَاسْتِمْدَادُهُ) أَيْ مَأْخَذُهُ.
(قَوْلُهُ: مِنْ الْكِتَابِ إلَخْ) وَأَمَّا شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا فَتَابِعَةٌ لِلْكِتَابِ. وَأَمَّا أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فَتَابِعَةٌ لِلسُّنَّةِ، وَأَمَّا تَعَامُلُ النَّاسِ فَتَابِعٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا التَّحَرِّي وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ فَتَابِعَانِ لِلْقِيَاسِ بَحْرٌ، وَبَيَانُ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
(قَوْلُهُ: وَغَايَتُهُ) أَيْ ثَمَرَتُهُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ: بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ) أَيْ دَارِ الدُّنْيَا بِنَقْلِ نَفْسِهِ مِنْ حَضِيضِ الْجَهْلِ إلَى ذُرْوَةِ الْعِلْمِ، وَبِبَيَانِ مَا لِلنَّاسِ وَمَا عَلَيْهِمْ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ وَدَارُ الْآخِرَةِ بِالنِّعَمِ الْفَاخِرَةِ
. (قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ) أَيْ مِنْ الْمُعَلِّمِ، وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ وَالْمُطَالَعَةُ وَهُوَ دُونَ السَّمَاعِ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ فَمَا بَالُك بِالسَّمَاعِ. اهـ. ح.
أَقُولُ: وَهَذَا إذَا كَانَ مَعَ الْفَهْمِ لِمَا فِي فُصُولِ الْعَلَامِيِّ: مَنْ لَهُ ذِهْنٌ يَفْهَمُ الزِّيَادَةَ أَيْ عَلَى مَا يَكْفِيهِ وَقَدَرَ أَنْ يُصَلِّيَ لَيْلًا وَيَنْظُرَ فِي الْعِلْمِ نَهَارًا فَنَظَرُهُ فِي الْعِلْمِ نَهَارًا وَلَيْلًا أَفْضَلُ اهـ.
(قَوْلُهُ: أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ) أَيْ بِالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ إنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى مَا يَحْتَاجُهُ: وَإِلَّا فَهُوَ فَرْضُ
وَتَعَلُّمُ الْفِقْهِ أَفْضَلُ مِنْ تَعَلُّمِ بَاقِي الْقُرْآنِ وَجَمِيعُ الْفِقْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ.
وَفِي الْمُلْتَقَطِ وَغَيْرِهِ مِنْ مُحَمَّدٍ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْرَفَ بِالشِّعْرِ وَالنَّحْوِ؛ لِأَنَّ آخِرَ أَمْرِهِ إلَى الْمَسْأَلَةِ وَتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ، وَلَا بِالْحِسَابِ لِأَنَّ آخِرَ أَمْرِهِ إلَى مِسَاحَةِ الْأَرَضِينَ، وَلَا بِالتَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ آخِرَ أَمْرِهِ إلَى التَّذْكِيرِ وَالْقَصَصِ بَلْ يَكُونُ عِلْمُهُ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْأَحْكَامِ، كَمَا قِيلَ:
إذَا مَا اعْتَزَّ ذُو عِلْمٍ بِعِلْمٍ
…
فَعِلْمُ الْفِقْهِ أَوْلَى بِاعْتِزَازِ
فَكَمْ طِيبٍ يَفُوحُ وَلَا كَمِسْكٍ
…
وَكَمْ طَيْرٍ يَطِيرُ وَلَا كَبَازِي
وَقَدْ مَدَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَسْمِيَتِهِ خَيْرًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]- وَقَدْ فَسَّرَ الْحِكْمَةَ زُمْرَةُ أَرْبَابِ التَّفْسِيرِ بِعِلْمِ الْفُرُوعِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ وَمِنْ هُنَا قِيلَ:
وَخَيْرُ عُلُومٍ عِلْمُ فِقْهٍ لِأَنَّهُ
…
يَكُونُ إلَى كُلِّ الْعُلُومِ تَوَسُّلَا
فَإِنَّ فَقِيهًا وَاحِدًا مُتَوَرِّعًا
…
عَلَى أَلْفِ ذِي زُهْدٍ تَفَضَّلَ وَاعْتَلَى
ــ
[رد المحتار]
عَيْنٍ.
(قَوْلُهُ: وَتَعَلُّمُ الْفِقْهِ إلَخْ) فِي الْبَزَّازِيَّةِ تَعَلَّمَ بَعْضَ الْقُرْآنِ وَوَجَدَ فَرَاغًا، فَالْأَفْضَلُ الِاشْتِغَالُ بِالْفِقْهِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَتَعَلُّمُ مَا لَا بُدَّ مِنْ الْفِقْهِ فَرْضُ عَيْنٍ. قَالَ فِي الْخِزَانَةِ: وَجَمِيعُ الْفِقْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ: قَالَ فِي الْمَنَاقِبِ: عَمِلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِائَتَيْ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حِفْظِهَا. اهـ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَجَمِيعُ الْفِقْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ أَنَّهُ كُلَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ، لَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِمَجْمُوعِ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يُفْرَضُ عَيْنًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَحْتَاجُهُ؛ لِأَنَّ تَعَلُّمَ الرَّجُلِ مَسَائِلَ الْحَيْضِ وَتَعَلُّمَ الْفَقِيرِ مَسَائِلَ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَمِثْلُهُ حِفْظُ مَا زَادَ عَلَى مَا يَكْفِيهِ لِلصَّلَاةِ، نَعَمْ قَدْ يُقَالُ تَعَلُّمُ بَاقِي الْفِقْهِ أَفْضَلُ مِنْ تَعَلُّمِ بَاقِي الْقُرْآنِ لِكَثْرَةِ حَاجَةِ الْعَامَّةِ إلَيْهِ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ وَقِلَّةِ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَفَظَةِ تَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: أَنْ يُعْرَفَ) أَيْ يُشْتَهَرَ بِهِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَنْ يَعْرِفَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعِينُهُ عَلَى الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ مَا عَدَا الْفِقْهِ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ عُمُرَهُ فِي غَيْرِ الْأَهَمِّ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ ابْنِ الْوَرْدِيِّ:
وَالْعُمُرُ عَنْ تَحْصِيلِ كُلِّ عِلْمٍ
…
يَقْصُرُ فَابْدَأْ مِنْهُ بِالْأَهَمِّ
وَذَلِكَ الْفِقْهُ فَإِنَّ مِنْهُ
…
مَا لَا غِنَى فِي كُلِّ حَالٍ عَنْهُ
(قَوْلُهُ: إلَى الْمَسْأَلَةِ) أَيْ سُؤَالِ النَّاسِ بِأَنْ يَمْدَحَهُمْ بِشِعْرِهِ فَيُعْطُونَهُ دَفْعًا لِشَرِّهِ وَخَوْفًا مِنْ هَجْوِهِ وَهَجْرِهِ، وَقَوْلُهُ وَتَعْلِيمُ الصِّبْيَانِ: أَيْ تَعْلِيمُهُمْ النَّحْوَ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ لِمَا اُشْتُهِرَ أَنَّ النَّحْوَ عِلْمُ الصِّبْيَانِ إذْ قَلَّمَا يَتَعَلَّمُهُ الْكَبِيرُ، وَفِي كَلَامِهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ.
(قَوْلُهُ: التَّذْكِيرِ) أَيْ الْوَعْظِ.
(قَوْلُهُ: وَالْقَصَصِ) الْأَنْسَبُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ لِيَكُونَ عَطْفُهُ عَلَى التَّذْكِيرِ عَطْفَ مَصْدَرٍ عَلَى مَصْدَرٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِهَا جَمْعُ قِصَّةٍ. اهـ. ح.
(قَوْلُهُ: بَلْ يَكُونُ عِلْمُهُ) أَيْ الَّذِي يُعْرَفُ وَيُشْتَهَرُ بِهِ.
(قَوْلُهُ: كَمَا قِيلَ) أَيْ أَقُولُ ذَلِكَ مُمَاثِلًا لِمَا قِيلَ أَوْ لِأَجْلِ مَا قِيلَ، فَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ أَوْ لِلتَّعْلِيلِ.
(قَوْلُهُ: بِاعْتِزَازٍ) أَيْ اعْتِزَازِ صَاحِبِهِ بِهِ.
(قَوْلُهُ: وَلَا كَمِسْكٍ) الْوَاوُ إمَّا لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ: أَيْ لَا كَعَنْبَرٍ وَلَا كَمِسْكٍ، وَنُكْتَةُ الْحَذْفِ الْمُبَالَغَةُ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ، أَوْ لِلْحَالِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ: أَيْ وَلَا يَفُوحُ كَمِسْكٍ.
(قَوْلُهُ: وَلَا كَبَازٍ) يُسْتَعْمَلُ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَ الزَّايِ وَبِدُونِهَا كَمَا فِي الْقَامُوسِ.
(قَوْلُهُ: زُمْرَةُ) بِالضَّمِّ: الْفَوْجُ وَالْجَمَاعَةُ فِي تَفْرِقَةِ قَامُوسٍ.
(قَوْلُهُ: وَمِنْ هُنَا) أَيْ مِنْ أَجْلِ مَا ذُكِرَ هُنَا مِنْ مَدْحِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ.
(قَوْلُهُ: إلَى كُلِّ الْعُلُومِ) كَذَا فِيمَا رَأَيْت مِنْ النُّسَخِ، وَكَأَنَّ نُسْخَةَ ط إلَى كُلِّ الْمَعَالِي حَيْثُ قَالَ مُتَعَلِّقٌ بِتَوَسُّلًا. وَالْمَعَالِي: الْمَرَاتِبُ الْعَالِيَةُ جَمْعُ مَعْلَاةٍ، مَحَلُّ الْعُلُوِّ. اهـ. وَالتَّوَسُّلُ: التَّقَرُّبُ أَيْ ذَا تَوَسُّلٍ إلَى الْمَعَالِي أَوْ إلَى
وَهُمَا مَأْخُوذَانِ مِمَّا قِيلَ لِلْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهِ:
تَفَقَّهْ فَإِنَّ الْفِقْهَ أَفْضَلُ قَائِدٍ
…
إلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَأَعْدَلُ قَاصِدِ
وَكُنْ مُسْتَفِيدًا كُلَّ يَوْمٍ زِيَادَةً
…
مِنْ الْفِقْهِ وَاسْبَحْ فِي بُحُورِ الْفَوَائِدِ
فَإِنَّ فَقِيهًا وَاحِدًا مُتَوَرِّعًا
…
أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدِ
وَمِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ رضي الله عنه:
ــ
[رد المحتار]
الْعُلُومِ؛ لِأَنَّ الْفِقْهَ الْمُثْمِرَ لِلتَّقْوَى وَالْوَرَعِ يُوصَلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْمَنَازِلِ الْمُرْتَفِعَةِ - {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]- وَالْحَدِيثُ «مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ عَلَّمَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» .
(قَوْلُهُ: فَإِنَّ فَقِيهًا إلَخْ) لِأَنَّ الْعَابِدَ إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا رُبَّمَا أَدْخَلَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ مَا يُفْسِدُ عِبَادَتَهُ، وَقَيَّدَ الْفَقِيهَ بِالْمُتَوَرِّعِ إشَارَةً إلَى ثَمَرَةِ الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ التَّقْوَى إذْ بِدُونِهَا يَكُونُ دُونَ الْعَابِدِ الْجَاهِلِ حَيْثُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِالْفِعْلِ. قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ. لِلْوَرَعِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: الْأُولَى مَا يُشْتَرَطُ فِي عَدَالَةِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْحَرَامِ الظَّاهِرِ. الثَّانِيَةُ وَرَعُ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ التَّوَقِّي مِنْ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَتَقَابَلُ فِيهَا الِاحْتِمَالَاتُ. الثَّالِثَةُ وَرَعُ الْمُتَّقِينَ، وَهُوَ تَرْكُ الْحَلَالِ الْمَحْضِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ أَدَاؤُهُ إلَى الْحَرَامِ. الرَّابِعَةُ وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى اهـ مُلَخَّصًا.
(قَوْلُهُ: عَلَى أَلْفِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ اعْتَلَى وَبِقَدْرِ نَظِيرِهِ التَّفَضُّلُ. اهـ. ط، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِهِ فِي الْمُتَقَدِّمِ.
(قَوْلُهُ: ذِي زُهْدٍ) صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ أَلْفِ شَخْصٍ صَاحِبِ زُهْدٍ. وَالزُّهْدُ فِي اللُّغَةِ: تَرْكُ الْمَيْلِ إلَى الشَّيْءِ. وَفِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ: هُوَ بُغْضُ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا. وَقِيلَ هُوَ تَرْكُ رَاحَةِ الدُّنْيَا طَلَبًا لِرَاحَةِ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَخْلُوَ قَلْبُك مِمَّا خَلَتْ مِنْهُ يَدُك اهـ سَيِّدٌ.
(قَوْلُهُ: تَفَضَّلَ وَاعْتَلَى) أَيْ زَادَ فِي الْفَضْلِ وَعُلُوِّ الرُّتْبَةِ.
(قَوْلُهُ: وَهُمَا مَأْخُوذَانِ) أَيْ هَذَانِ الْبَيْتَانِ مَأْخُوذٌ مَعْنَاهُمَا.
(قَوْلُهُ: مِمَّا قِيلَ) يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِمَّا نَسَبَ أَوْ مِمَّا أَنْشَدَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ الْأَبْيَاتُ لِلْإِمَامِ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى الثَّانِي لِغَيْرِهِ أَنْشَدَهَا لَهُ بَعْضُ أَشْيَاخِهِ.
(قَوْلُهُ: تَفَقَّهْ إلَخْ) أَيْ صِرْ فَقِيهًا وَالْقَائِدُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُوَصِّلِ. وَالْبِرُّ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الصِّلَةُ وَالْجَنَّةُ وَالْخَيْرُ وَالِاتِّسَاعُ فِي الْإِحْسَانِ اهـ. وَالتَّقْوَى قَالَ السَّيِّدُ: هِيَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ، وَهُوَ اتِّخَاذُ الْوِقَايَةِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ: الِاحْتِرَازُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عُقُوبَتِهِ، وَهُوَ صِيَانَةُ النَّفْسِ عَمَّا تَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ. وَالْقَاصِدُ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْقَرِيبُ: أَيْ وَأَعْدَلُ طَرِيقٍ قَرِيبٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنًى مَقْصُودٍ كَسَاحِلٍ بِمَعْنَى مَسْحُولٍ، وَالزِّيَادَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَقَوْلُهُ مِنْ الْفِقْهِ مُتَعَلِّقٌ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِمُسْتَفِيدٍ، أَوْ السَّبْحُ: قَطْعُ الْمَاءِ عَوْمًا شَبَّهَ بِهِ التَّفَقُّهَ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ، وَإِضَافَةُ الْبُحُورِ إلَى الْفَوَائِدِ مِنْ إضَافَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ إلَى الْمُشَبَّهِ. وَالْفَائِدَةُ: مَا اسْتَفَدْته مِنْ عِلْمٍ أَوْ مَالٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ، وَالشَّيْطَانُ: مَنْ شَاطَ بِمَعْنَى احْتَرَقَ، أَوْ مِنْ شَطَنَ بِمَعْنَى بَعُدَ لِبُعْدِ غَوْرِهِ فِي الضَّلَالِ، وَقَدْ عَقَدَ فِي الْبَيْتِ الْأَخِيرِ بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِحْيَاءِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّينِ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ وَعِمَادُ الدِّينِ الْفِقْهُ» .
(قَوْلُهُ: وَمِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ رضي الله عنه إلَخْ) عَزَا هَذِهِ الْأَبْيَاتِ لَهُ فِي الْإِحْيَاءِ أَيْضًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي دِيوَانِهِ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ، وَأَوَّلُهَا:
النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التِّمْثَالِ أَكْفَاءُ
…
أَبُوهُمُو آدَم وَالْأُمُّ حَوَّاءُ
وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ
…
مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْأَحْسَابِ آبَاءُ
إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمُو مِنْ أَصْلِهِمْ شَرَفٌ
…
يُفَاخِرُونَ بِهِ فَالطِّينُ وَالْمَاءُ
وَإِنْ أَتَيْت بِفَخْرٍ مِنْ ذَوِي نَسَبٍ
…
فَإِنَّ نِسْبَتَنَا جُودٌ وَعَلْيَاءُ
مَا الْفَضْلُ إلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ
…
عَلَى الْهُدَى لِمَنْ اسْتَهْدَى أَدِلَّاءُ
وَوَزْنُ كُلِّ امْرِئٍ مَا كَانَ يُحْسِنُهُ
…
وَالْجَاهِلُونَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءُ
فَفُزْ بِعِلْمٍ وَلَا تَجْهَلْ بِهِ أَبَدًا
…
النَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْيَاءُ
وَقَدْ قِيلَ: الْعِلْمُ وَسِيلَةٌ إلَى كُلِّ فَضِيلَةٍ، الْعِلْمُ يَرْفَعُ الْمَمْلُوكَ إلَى مَجَالِسِ الْمُلُوكِ، لَوْلَا الْعُلَمَاءُ لَهَلَكَ الْأُمَرَاءُ.
وَإِنَّمَا الْعِلْمُ لِأَرْبَابِهِ
…
وِلَايَةٌ لَيْسَ لَهَا عَزْلُ
ــ
[رد المحتار]
(قَوْلُهُ: مَا الْفَضْلُ) الَّذِي فِي الْإِحْيَاءِ مَا الْفَخْرُ، وَأَلْ فِي الْعِلْمِ لِلْعَهْدِ: أَيْ الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ الْمُوصِلُ إلَى الْآخِرَةِ.
(قَوْلُهُ: أَنَّهُمْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى حَذْفِ لَامِ الْعِلَّةِ: أَيْ لِأَنَّهُمْ. أَوْ بِالْكَسْرِ وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّعْلِيلُ ط.
(قَوْلُهُ: عَلَى الْهُدَى) أَيْ الرَّشَادِ قَامُوسٌ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ أَدِلَّاءُ جَمْعُ دَالٍّ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ دَلَّ، وَكَذَا قَوْلُهُ لِمَنْ اسْتَهْدَى: أَيْ طَلَبَ الْهِدَايَةَ.
(قَوْلُهُ: وَوَزْنُ) أَيْ قَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ. أَيْ حُسْنُهُ بِمَا كَانَ يُحْسِنُهُ أَفَادَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، فَقَدْرُ الصَّانِعِ عَلَى مِقْدَارِ صَنْعَتِهِ. وَمَنْ أَحْسَنَ عُلُومَ الْآدَابِ فَقَدْرُهُ عَلَى قَدْرِهَا. وَمَنْ أَحْسَنَ عِلْمَ الْفِقْهِ فَقَدْرُهُ عَظِيمٌ لِعِظَمِهِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ شَيْئًا فَمَقَامُهُ عَلَى قَدْرِهِ اهـ ط.
(قَوْلُهُ: وَالْجَاهِلُونَ) أَيْ بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ. فَيَشْمَلُ الْعَالَمِينَ بِغَيْرِهِ، بَلْ هُمْ أَشَدُّ عَدَاوَةً لِعُلَمَاءِ الدِّينِ مِنْ الْعَوَّامِ قَالَ ط: وَسَبَبُ الْعَدَاوَةِ مِنْ الْجَاهِلِ عَدَمُ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ إذَا أَفْتَى عَلَيْهِ أَوْ رَأَى مِنْهُ مَا يُخَالِفُ رَأْيَهُ وَرُؤْيَةُ إقْبَالِ النَّاسِ عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ: وَلَا تَجْهَلْ بِهِ أَبَدًا) الَّذِي فِي الْإِحْيَاءِ: وَلَا تَبْغِي بِهِ بَدَلًا.
(قَوْلُهُ: النَّاسُ مَوْتَى) أَيْ حُكْمًا لِعَدَمِ النَّفْعِ كَالْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ الَّتِي لَا تَنْبُتُ. قَالَ تَعَالَى - {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]- أَيْ جَاهِلًا فَعَلَّمْنَاهُ - {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122]- وَهُوَ الْعِلْمُ - {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122]- وَهُوَ الْجَاهِلُ الْغَارِقُ فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ أَوْ مَوْتَى الْقُلُوبِ. قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ وَقَالَ فَتْحٌ الْمُوصِلِيُّ: الْمَرِيضُ إذَا مُنِعَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالدَّوَاءَ أَلَيْسَ يَمُوتُ؟ قَالُوا بَلَى، قَالَ: كَذَلِكَ الْقَلْبُ إذَا مُنِعَ عَنْهُ الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَمُوتُ، وَلَقَدْ صَدَقَ فَإِنَّ غِذَاءَ الْقَلْبِ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ وَبِهِ حَيَاتُهُ، كَمَا أَنَّ غِذَاءَ الْجَسَدِ الطَّعَامُ. وَمَنْ فَقَدَ الْعِلْمَ فَقَلْبُهُ مَرِيضٌ وَمَوْتُهُ لَازِمٌ إلَخْ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَخُو الْعِلْمِ حَيٌّ خَالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ
…
وَأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ رَمِيمُ
وَذُو الْجَهْلِ مَيْتٌ وَهُوَ مَاشٍ عَلَى الثَّرَى
…
يُظَنُّ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَهُوَ عَدِيمُ
(قَوْلُهُ: الْعِلْمُ يَرْفَعُ الْمَمْلُوكَ إلَخْ) قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «إنَّ الْحِكْمَةَ تَزِيدُ الشَّرِيفَ شَرَفًا وَتَرْفَعُ الْمَمْلُوكَ حَتَّى تُجْلِسَهُ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ» وَقَدْ نَبَّهَ بِهَذَا عَلَى ثَمَرَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى. اهـ. ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: اشْتَرَانِي مَوْلَايَ بِثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَنِي، فَقُلْت: بِأَيِّ حِرْفَةٍ أَحْتَرِفُ؟ فَاحْتَرَفْت بِالْعِلْمِ، فَمَا تَمَّتْ لِي سَنَةٌ حَتَّى أَتَانِي أَمِيرُ الْمَدِينَةِ زَائِرًا فَلَمْ آذَنْ لَهُ.
(قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا الْعِلْمُ إلَخْ) هَذَا بَيْتٌ مِنْ بَحْرِ السَّرِيعِ، وَقَوْلُهُ لِأَرْبَابِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنْ وِلَايَةٍ؛ لِأَنَّ نَعْتَ النَّكِرَةِ إذَا قُدِّمَ عَلَيْهَا أُعْرِبَ حَالًا أَوْ صِفَةً لِلْعِلْمِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْزَلْ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّهُ وِلَايَةٌ إلَهِيَّةٌ لَا سَبِيلَ لِلْعِبَادِ إلَى عَزْلِهِ مِنْهَا: وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فِي قَوْله تَعَالَى - {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]- هُمْ الْعُلَمَاءُ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الشَّارِحُ آخِرَ الْكِتَابِ. وَفِي الْإِحْيَاءِ قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: لَيْسَ شَيْءٌ أَعَزُّ مِنْ الْعِلْمِ، الْمُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ، وَالْعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى الْمُلُوكِ. اهـ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إنَّ الْمُلُوكَ لَيَحْكُمُونَ عَلَى الْوَرَى
…
وَعَلَى الْمُلُوكِ لَتَحْكُمُ الْعُلَمَاءُ
إنَّ الْأَمِيرَ هُوَ الَّذِي
…
يَضْحَى أَمِيرًا عِنْدَ عَزْلِهْ
إنْ زَالَ سُلْطَانُ الْوِلَا
…
يَةِ كَانَ فِي سُلْطَانِ فَضْلِهْ
وَاعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّمَ الْعِلْمِ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ وَهُوَ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ لِدِينِهِ. وَفَرْضَ كِفَايَةٍ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِنَفْعِ غَيْرِهِ.
ــ
[رد المحتار]
(قَوْلُهُ: إنَّ الْأَمِيرَ إلَخْ) الْبَيْتَانِ مِنْ مَجْزُوءِ الْكَامِلِ الْمُرَفَّلِ، يَعْنِي أَنَّ الْأَمِيرَ الْكَامِلَ لَيْسَ هُوَ مَنْ إذَا عُزِلَ صَارَ مِنْ آحَادِ الرَّعِيَّةِ، بَلْ هُوَ الَّذِي إذَا عُزِلَ مِنْ إمَارَةِ الْوِلَايَةِ يَبْقَى مُتَّصِفًا بِإِمَارَةِ الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ
(قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّمَ الْعِلْمِ إلَخْ) أَيْ الْعِلْمُ الْمُوصِلُ إلَى الْآخِرَةِ أَوْ الْأَعَمُّ مِنْهُ. قَالَ الْعَلَامِيُّ فِي فُصُولِهِ: مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ تَعَلُّمُهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ فِي إقَامَةِ دِينِهِ وَإِخْلَاصِ عَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُعَاشَرَةِ عِبَادِهِ. وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَمُكَلَّفَةٍ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ عِلْمَ الدِّينِ وَالْهِدَايَةِ تَعَلُّمُ عِلْمِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَعِلْمِ الزَّكَاةِ لِمَنْ لَهُ نِصَابٌ، وَالْحَجِّ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَالْبُيُوعِ عَلَى التُّجَّارِ لِيَحْتَرِزُوا عَنْ الشُّبُهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ. وَكَذَا أَهْلُ الْحِرَفِ، وَكُلُّ مَنْ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ يُفْرَضُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ لِيَمْتَنِعَ عَنْ الْحَرَامِ فِيهِ اهـ. مَطْلَبٌ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَفَرْضِ الْعَيْنِ
وَفِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ: لَا شَكَّ فِي فَرْضِيَّةِ عِلْمِ الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ وَعِلْمِ الْإِخْلَاصِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْعَمَلِ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ وَعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَعِلْمِ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَابِدَ مَحْرُومٌ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِهِ بِالرِّيَاءِ، وَعِلْمِ الْحَسَدِ وَالْعُجْبِ إذْ هُمَا يَأْكُلَانِ الْعَمَلَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، وَعِلْمِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ لِمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَعِلْمِ الْأَلْفَاظِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ الْمُكَفِّرَةِ، وَلَعَمْرِي هَذَا مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ لِأَنَّك تَسْمَعُ كَثِيرًا مِنْ الْعَوَّامِ يَتَكَلَّمُونَ بِمَا يُكَفِّرُ وَهُمْ عَنْهَا غَافِلُونَ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يُجَدِّدَ الْجَاهِلُ إيمَانَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيُجَدِّدَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، إذْ الْخَطَأُ وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ الرَّجُلِ فَهُوَ مِنْ النِّسَاءِ كَثِيرٌ.
(قَوْلُهُ: وَفَرْضُ كِفَايَةٍ إلَخْ) عَرَّفَهُ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ بِالْمُتَحَتِّمِ الْمَقْصُودُ حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ بِالذَّاتِ إلَى فَاعِلِهِ. قَالَ: فَيَتَنَاوَلُ مَا هُوَ دِينِيٌّ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَدُنْيَوِيٌّ كَالصَّنَائِعِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا وَخَرَجَ الْمَسْنُونُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَحَتِّمٍ، وَفَرْضُ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَنْظُورٌ بِالذَّاتِ إلَى فَاعِلِهِ. اهـ. قَالَ فِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ: وَأَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ مِنْ الْعِلْمِ، فَهُوَ كُلُّ عِلْمٍ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي قِوَامِ أُمُورِ الدُّنْيَا كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْكَلَامِ وَالْقِرَاءَاتِ وَأَسَانِيدِ الْحَدِيثِ وَقِسْمَةِ الْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ وَالْكِتَابَةِ وَالْمَعَانِي وَالْبَدِيعِ وَالْبَيَانِ وَالْأُصُولِ وَمَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالنَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَكُلُّ هَذِهِ آلَةٌ لِعِلْمِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ، وَكَذَا عِلْمُ الْآثَارِ وَالْأَخْبَارِ وَالْعِلْمُ بِالرِّجَالِ وَأَسَامِيهِمْ وَأَسَامِي الصَّحَابَةِ وَصِفَاتِهِمْ، وَالْعِلْمُ بِالْعَدَالَةِ فِي الرِّوَايَةِ، وَالْعِلْمُ بِأَحْوَالِهِمْ لِتَمْيِيزِ الضَّعِيفِ مِنْ الْقَوِيِّ، وَالْعِلْمِ بِأَعْمَارِهِمْ وَأُصُولِ الصِّنَاعَاتِ وَالْفِلَاحَةِ كَالْحِيَاكَةِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْحِجَامَةِ. اهـ.
(قَوْلُهُ: وَهُوَ مَا زَادَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى قَدْرٍ يَحْتَاجُهُ لِدِينِهِ فِي الْحَالِ مَطْلَبُ فَرْضِ الْعَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ
[تَنْبِيهٌ] فَرْضُ الْعَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ حَقًّا لِلنَّفْسِ، فَهُوَ أَهَمُّ عِنْدَهَا وَأَكْثَرُ مَشَقَّةً، بِخِلَافِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ فَإِنَّهُ مَفْرُوضٌ حَقًّا لِلْكَافَّةِ وَالْكَافِرُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَالْأَمْرُ إذَا عَمَّ خَفَّ، وَإِذَا خَصَّ ثَقُلَ.
وَمَنْدُوبًا، وَهُوَ التَّبَحُّرُ فِي الْفِقْهِ وَعِلْمِ الْقَلْبِ. وَحَرَامًا، وَهُوَ عِلْمُ الْفَلْسَفَةِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالتَّنْجِيمِ
ــ
[رد المحتار]
وَقِيلَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مُسْقِطٌ لِلْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا، وَبِتَرْكِهِ يَعْصِي الْمُتَمَكِّنُونَ مِنْهُ كُلُّهُمْ، وَلَا شَكَّ فِي عِظَمِ وَقْعِ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ. اهـ. طَوَّاقِيٌّ، وَنَقَلَ ط أَنَّ الْمُعْتَمَدَ الْأَوَّلُ.
(قَوْلُهُ: وَهُوَ التَّبَحُّرُ فِي الْفِقْهِ) أَيْ التَّوَسُّعُ فِيهِ وَالِاطِّلَاعُ عَلَى غَوَامِضِهِ وَكَذَا غَيْرُهُ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَآلَاتِهَا.
(قَوْلُهُ: وَعِلْمِ الْقَلْبِ) أَيْ عِلْمِ الْأَخْلَاقِ، وَهُوَ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ أَنْوَاعُ الْفَضَائِلِ وَكَيْفِيَّةُ اكْتِسَابِهَا وَأَنْوَاعُ الرَّذَائِلِ وَكَيْفِيَّةُ اجْتِنَابِهَا. اهـ. ح وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِقْهِ لَا عَلَى التَّبَحُّرِ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ عِلْمَ الْإِخْلَاصِ وَالْعُجْبِ وَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَمِثْلُهَا غَيْرُهَا مِنْ آفَاتِ النُّفُوسِ: كَالْكِبْرِ وَالشُّحِّ وَالْحِقْدِ وَالْغِشِّ وَالْغَضَبِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالطَّمَعِ وَالْبُخْلِ وَالْبَطَرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْخِيَانَةِ وَالْمُدَاهَنَةِ وَالِاسْتِكْبَارِ عَنْ الْحَقِّ وَالْمَكْرِ وَالْمُخَادَعَةِ وَالْقَسْوَةِ وَطُولِ الْأَمَلِ وَنَحْوِهَا مِمَّا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي رُبُعِ الْمُهْلِكَاتِ مِنْ الْإِحْيَاءِ. قَالَ فِيهِ: وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهَا بَشَرٌ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهَا مَا يَرَى نَفْسَهُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ، وَإِزَالَتُهَا فَرْضُ عَيْنٍ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ حُدُودِهَا وَأَسْبَابِهَا وَعَلَامَاتِهَا وَعِلَاجِهَا، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرَّ يَقَعُ فِيهِ.
(قَوْلُهُ: الْفَلْسَفَةِ) هُوَ لَفْظٌ يُونَانِيٌّ، وَتَعْرِيبُهُ الْحِكَمُ الْمُمَوَّهَةُ: أَيْ مُزَيَّنَةُ الظَّاهِرِ فَاسِدَةُ الْبَاطِنِ، كَالْقَوْلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ ط. وَذَكَرَ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهَا لَيْسَتْ عِلْمًا بِرَأْسِهَا بَلْ هِيَ أَرْبَعَةُ أَجْزَاءٍ:
أَحَدُهَا: الْهَنْدَسَةُ وَالْحِسَابُ، وَهُمَا مُبَاحَانِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُمَا إلَّا مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمَا إلَى عُلُومٍ مَذْمُومَةٍ.
وَالثَّانِي: الْمَنْطِقُ، وَهُوَ بَحْثٌ عَنْ وَجْهِ الدَّلِيلِ وَشُرُوطِهِ وَوَجْهِ الْحَدِّ وَشُرُوطِهِ، وَهُمَا دَاخِلَانِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَالثَّالِثُ: الْإِلَهِيَّاتُ، وَهُوَ بَحْثٌ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، انْفَرَدُوا فِيهِ بِمَذَاهِبَ بَعْضُهَا كُفْرٌ وَبَعْضُهَا بِدْعَةٌ.
وَالرَّابِعُ: الطَّبِيعِيَّاتُ، وَبَعْضُهَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ، وَبَعْضُهَا بَحْثٌ عَنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَخَوَاصِّهَا وَكَيْفِيَّةِ اسْتِحَالَتِهَا وَتَغَيُّرِهَا، وَهُوَ شَبِيهٌ بِنَظَرِ الْأَطِبَّاءِ، إلَّا أَنَّ الطَّبِيبَ يَنْظُرُ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْخُصُوصِ مِنْ حَيْثُ يَمْرَضُ وَيَصِحُّ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ فِي جَمِيعِ الْأَجْسَامِ مِنْ حَيْثُ تَتَغَيَّرُ وَتَتَحَرَّكُ، وَلَكِنْ لِلطِّبِّ فَضْلٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ. وَأَمَّا عُلُومُهُمْ فِي الطَّبِيعِيَّاتِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا اهـ.
(قَوْلُهُ: وَالشَّعْبَذَةِ) الصَّوَابُ الشَّعْوَذَةُ، وَهِيَ كَمَا فِي الْقَامُوسِ خِفَّةٌ فِي الْيَدِ كَالسِّحْرِ تَرَى الشَّيْءَ بِغَيْرِ مَا عَلَيْهِ أَصْلُهُ. اهـ. حَمَوِيٌّ، لَكِنْ فِي الْمِصْبَاحِ شَعْوَذَ الرَّجُلُ شَعْوَذَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ شَعْبَذَ شَعْبَذَةً وَهُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَهِيَ لَعِبٌ يَرَى الْإِنْسَانُ مِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ كَالسِّحْرِ. اهـ. ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. وَأَفْتَى الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ فِي أَهْلِ الْحَقِّ فِي الطُّرُقَاتِ الَّذِينَ لَهُمْ أَشْيَاءُ غَرِيبَةٌ كَقَطْعِ رَأْسِ إنْسَانٍ وَإِعَادَتِهِ وَجَعْلِ نَحْوِ دَرَاهِمَ مِنْ التُّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى السَّحَرَةِ إنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَا لِأَحَدٍ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الَّذِي يَقْطَعُ يَدَ الرَّجُلِ أَوْ يُدْخِلُ السِّكِّينَ فِي جَوْفِهِ إنْ كَانَ سِحْرًا قُتِلَ وَإِلَّا عُوقِبَ. مَطْلَبٌ فِي التَّنْجِيمِ وَالرَّمْلِ.
(قَوْلُهُ: وَالتَّنْجِيمِ) هُوَ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ الِاسْتِدْلَال بِالتَّشَكُّلَاتِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ السُّفْلِيَّةِ. اهـ. ح. وَفِي مُخْتَارَاتِ النَّوَازِلِ لِصَاحِبِ الْهِدَايَةِ أَنَّ عِلْمَ النُّجُومِ فِي نَفْسِهِ حَسَنٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ، إذْ هُوَ قِسْمَانِ: حِسَابِيٌّ
وَالرَّمْلِ وَعُلُومِ الطَّبَائِعِيِّينَ وَالسِّحْرِ
ــ
[رد المحتار]
وَإِنَّهُ حَقٌّ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]- أَيْ سَيْرُهُمَا بِحِسَابٍ. وَاسْتِدْلَالِيٌّ بِسَيْرِ النُّجُومِ وَحَرَكَةِ الْأَفْلَاكِ عَلَى الْحَوَادِثِ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْرِهِ، وَهُوَ جَائِزٌ كَاسْتِدْلَالِ الطَّبِيبِ بِالنَّبْضِ مِنْ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ ادَّعَى الْغَيْبَ بِنَفْسِهِ يَكْفُرُ، ثُمَّ تَعَلُّمُ مِقْدَارِ مَا يُعْرَفُ بِهِ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ وَالْقِبْلَةُ لَا بَأْسَ بِهِ. اهـ. وَأَفَادَ أَنَّ تَعَلُّمَ الزَّائِدِ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ فِيهِ بَأْسٌ بَلْ صَرَّحَ فِي الْفُصُولِ بِحُرْمَتِهِ وَهُوَ مَا مَشَى عَلَيْهِ الشَّارِحُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقِسْمُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ؛ وَلِذَا قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: إنَّ عِلْمَ النُّجُومِ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَذْمُومٍ لِذَاتِهِ إذْ هُوَ قِسْمَانِ إلَخْ ثُمَّ قَالَ وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ فِي الشَّرْعِ. وَقَالَ عُمَرُ: تَعَلَّمُوا مِنْ النُّجُومِ مَا تَهْتَدُوا بِهِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ثُمَّ امْسِكُوا، وَإِنَّمَا زَجَرَ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُضِرٌّ بِأَكْثَرِ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ إذَا أَلْقَى إلَيْهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ تَحْدُثُ عَقِيبَ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّهَا الْمُؤَثِّرَةُ،
وَثَانِيهَا: أَنَّ أَحْكَامَ النُّجُومِ تَخْمِينٌ مَحْضٌ، وَلَقَدْ كَانَ مُعْجِزَةً لِإِدْرِيسَ عليه السلام فِيمَا يُحْكَى وَقَدْ انْدَرَسَ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَإِنَّ مَا قُدِّرَ كَائِنٌ وَالِاحْتِرَازُ مِنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ اهـ مُلَخَّصًا.
(قَوْلُهُ: وَالرَّمْلِ) هُوَ عِلْمٌ بِضُرُوبِ أَشْكَالٍ مِنْ الْخُطُوطِ وَالنُّقَطِ بِقَوَاعِدَ مَعْلُومَةٍ تَخْرُجُ حُرُوفًا تُجْمَعُ وَيُسْتَخْرَجُ جُمْلَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ حَرَامٌ قَطْعًا وَأَصْلُهُ لِإِدْرِيسَ عليه السلام ط أَيْ فَهُوَ شَرِيعَةٌ مَنْسُوخَةٌ. وَفِي فَتَاوَى ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ تَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إيهَامِ الْعَوَّامِ أَنَّ فَاعِلَهُ يُشَارِكُ اللَّهَ تَعَالَى فِي غَيْبِهِ.
(قَوْلُهُ: وَعُلُومِ الطَّبَائِعِيِّينَ) الْعِلْمُ الطَّبِيعِيُّ عِلْمٌ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ الْجِسْمِ الْمَحْسُوسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُعَرَّضٌ لِلتَّغَيُّرِ فِي الْأَحْوَالِ وَالثَّبَاتِ فِيهَا. اهـ. ح. وَفِي فَتَاوَى ابْنِ حَجَرٍ: مَا كَانَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْفَلَاسِفَةِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَفَاسِدَ كَاعْتِقَادِ قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَحْوِهِ وَحُرْمَتِهِ مُشَابَهَةً لِحُرْمَةِ التَّنْجِيمِ مِنْ حَيْثُ إفْضَاءُ كُلٍّ إلَى الْمَفْسَدَةِ. .
(قَوْلُهُ: وَالسِّحْرِ) هُوَ عِلْمٌ يُسْتَفَادُ مِنْهُ حُصُولُ مَلَكَةٍ نَفْسَانِيَّةٍ يُقْتَدَرُ بِهَا عَلَى أَفْعَالٍ غَرِيبَةٍ لِأَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ. اهـ. ح. وَفِي حَاشِيَةِ الْإِيضَاحِ لِبِيرِيٍّ زَادَهْ قَالَ الشُّمُنِّيُّ: تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ حَرَامٌ.
أَقُولُ: مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ وَلَوْ تَعَلَّمَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَفِي شَرْحِ الزَّعْفَرَانِيِّ: السِّحْرُ حَقٌّ عِنْدَنَا وُجُودُهُ وَتَصَوُّرُهُ وَأَثَرُهُ. وَفِي ذَخِيرَةِ النَّاظِرِ تَعَلُّمُهُ فَرْضٌ لِرَدِّ سَاحِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَحَرَامٌ لِيُفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا، وَجَائِزٌ لِيُوَفِّقَ بَيْنَهُمَا. اهـ. ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. قَالَ ط بَعْدَ نَقْلِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ عَنْ الْمُحِيطِ: وَفِيهِ أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ التُّوَلَةِ بِوَزْنِ عِنَبَةٍ: وَهِيَ مَا يُفْعَلُ لِيُحَبِّبَ الْمَرْأَةَ إلَى زَوْجِهَا. اهـ.
أَقُولُ: بَلْ نَصَّ عَلَى حُرْمَتِهَا فِي الْخَانِيَّةِ، وَعَلَّلَهُ ابْنُ وَهْبَانَ بِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ السِّحْرِ. قَالَ ابْنُ الشِّحْنَةِ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ كِتَابَةِ آيَاتٍ، بَلْ فِيهِ شَيْءٌ زَائِدٌ اهـ وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ قُبَيْلَ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ السَّاحِرِ وَالزِّنْدِيقِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ فَيَجِبُ قَتْلُ السَّاحِرِ وَلَا يُسْتَتَابُ بِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ لَا بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُ اهـ.
وَالْكِهَانَةِ، وَدَخَلَ فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَنْطِقُ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ عِلْمُ الْحَرْفِ
ــ
[رد المحتار]
وَذُكِرَ فِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ خَطَأٌ وَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ رَدُّ مَا لَزِمَ فِي شَرْطِ الْإِيمَانِ فَهُوَ كُفْرٌ وَإِلَّا فَلَا. اهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا هُوَ سِحْرٌ يَكْفُرُ بِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ بِمَا يَلْزَمُ مُرَاجَعَتُهُ مِنْ أَوَاخِرِ شَرْحِ اللَّقَانِيِّ الْكَبِيرِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ. وَمِنْ كِتَابِ [الْإِعْلَامِ فِي قَوَاطِعِ الْإِسْلَامِ] لِلْعَلَّامَةِ ابْنِ حَجَرٍ. مَطْلَبُ السِّحْرِ أَنْوَاعٌ
وَحَاصِلُهُ أَنَّ السِّحْرَ اسْمُ جِنْسٍ لِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ: السِّيمِيَاءُ، وَهِيَ مَا يُرَكَّبُ مِنْ خَوَاصَّ أَرْضِيَّةٍ كَدُهْنٍ خَاصٍّ أَوْ كَلِمَاتٍ خَاصَّةٍ تُوجِبُ إدْرَاكَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ أَوْ بَعْضِهَا بِمَا لَهُ وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ، أَوْ بِمَا هُوَ تَخَيُّلٌ صِرْفٌ مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْمُومٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.
الثَّانِي: الْهِيمْيَاءُ، وَهِيَ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ مُضَافًا لِآثَارٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا أَرْضِيَّةٍ.
الثَّالِثُ: بَعْضُ خَوَاصِّ الْحَقَائِقِ، كَمَا يُؤْخَذُ سَبْعُ أَحْجَارٍ يُرْمَى بِهَا نَوْعٌ مِنْ الْكِلَابِ إذَا رَمَى بِحَجَرٍ عَضَّهُ، فَإِذَا عَضَّهَا الْكَلْبُ وَطُرِحَتْ فِي مَاءٍ فَمَنْ شَرِبَهُ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ آثَارٌ خَاصَّةٌ فَهَذِهِ أَنْوَاعُ السِّحْرِ الثَّلَاثَةِ، قَدْ تَقَعُ بِمَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ لَفْظٍ أَوْ اعْتِقَادٍ أَوْ فِعْلٍ، وَقَدْ تَقَعُ بِغَيْرِهِ كَوَضْعِ الْأَحْجَارِ. وَلِلسِّحْرِ فُصُولٌ كَثِيرَةٌ فِي كُتُبِهِمْ. فَلَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى سِحْرًا كُفْرًا، إذْ لَيْسَ التَّكْفِيرُ بِهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ بَلْ لِمَا يَقَعُ بِهِ مِمَّا هُوَ كُفْرٌ كَاعْتِقَادِ انْفِرَادِ الْكَوَاكِبِ: بِالرُّبُوبِيَّةِ أَوْ إهَانَةِ قُرْآنٍ أَوْ كَلَامٍ مُكَفِّرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ اهـ مُلَخَّصًا، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِكَلَامِ إمَامِ الْهُدَى أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ، ثُمَّ إنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كُفْرِهِ مُطْلَقًا عَدَمُ قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ بِسَبَبِ سَعْيِهِ بِالْفَسَادِ كَمَا مَرَّ. فَإِذَا ثَبَتَ إضْرَارُهُ بِسِحْرِهِ وَلَوْ بِغَيْرِ مُكَفِّرٍ: يُقْتَلُ دَفْعًا لِشَرِّهِ كَالْخُنَّاقِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ. مَطْلَبٌ فِي الْكِهَانَةِ.
(قَوْلُهُ: وَالْكِهَانَةِ) وَهِيَ تَعَاطِي الْخَبَرِ عَنْ الْكَائِنَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَادِّعَاءُ مَعْرِفَةِ الْأَسْرَارِ. قَالَ فِي نِهَايَةِ الْحَدِيثِ: وَقَدْ كَانَ فِي الْعَرَبِ كَهَنَةٌ كَشِقٍّ وَسَطِيحٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ تَابِعًا يُلْقِي إلَيْهِ الْأَخْبَارَ عَنْ الْكَائِنَاتِ، وَمِنْهُمْ أَنَّهُ يَعْرِفُ الْأُمُورَ بِمُقَدِّمَاتٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مُوَافِقِهَا مِنْ كَلَامِ مَنْ يَسْأَلُهُ أَوْ حَالِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَهَذَا يَخُصُّونَهُ بِاسْمِ الْعَرَّافِ كَالْمُدَّعِي مَعْرِفَةَ الْمَسْرُوقِ وَنَحْوِهِ، وَحَدِيثُ " مَنْ أَتَى كَاهِنًا " يَشْمَلُ الْعَرَّافَ وَالْمُنَجِّمَ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ يَتَعَاطَى عِلْمًا دَقِيقًا كَاهِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْمُنَجِّمَ وَالطَّبِيبَ كَاهِنًا اهـ ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
(قَوْلُهُ: وَدَخَلَ فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَنْطِقُ) لِأَنَّهُ الْجُزْءُ الثَّانِي مِنْهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِهِمْ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ الْبَاطِلَةِ. أَمَّا مَنْطِقُ الْإِسْلَامِيِّينَ الَّذِي مُقَدِّمَاتُهُ قَوَاعِدُ إسْلَامِيَّةٌ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِحُرْمَتِهِ بَلْ سَمَّاهُ الْغَزَالِيُّ مِعْيَارَ الْعُلُومِ، وَقَدْ أَلَّفَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ وَمِنْهُمْ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ فَإِنَّهُ أَتَى مِنْهُ بِبَيَانِ مُعْظَمِ مَطَالِبِهِ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ التَّحْرِيرِ الْأُصُولِيِّ.
(قَوْلُهُ: عِلْمُ الْحَرْفِ) يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكَافُ الَّذِي هُوَ إشَارَةٌ إلَى الْكِيمْيَاءِ، وَلَا شَكَّ فِي حُرْمَتِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ ضَيَاعِ الْمَالِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يُفِيدُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَمْعُ حُرُوفٍ يَخْرُجُ مِنْهَا دَلَالَةٌ عَلَى حَرَكَاتٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ عِلْمُ أَسْرَارِ الْحُرُوفِ بِأَوْفَاقِ الِاسْتِخْدَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. اهـ. ط. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ الطَّلْسَمَاتُ، وَهِيَ كَمَا فِي شَرْحِ اللَّقَانِيِّ نَقْشُ أَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ عَلَى زَعْمِ أَهْلِ هَذَا الْعِلْمِ فِي أَجْسَامٍ مِنْ الْمَعَادِنِ أَوْ غَيْرِهَا تَحْدُثُ لَهَا خَاصَّةً رُبِطَتْ بِهَا فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ. اهـ.
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بَابِ الْأَنْجَاسِ مِنْ التُّحْفَةِ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي انْقِلَابِ الشَّيْءِ عَنْ حَقِيقَتِهِ
وَعِلْمُ الْمُوسِيقَى. وَمَكْرُوهًا وَهُوَ أَشْعَارُ الْمُوَلَّدِينَ مِنْ الْغَزَلِ وَالْبَطَالَةِ، وَمُبَاحًا كَأَشْعَارِهِمْ -
ــ
[رد المحتار]
كَالنُّحَاسِ إلَى الذَّهَبِ هَلْ هُوَ ثَابِتٌ؟ فَقِيلَ نَعَمْ لِانْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا حَقِيقَةً وَإِلَّا لَبَطَلَ الْإِعْجَازُ. وَقِيلَ لَا لِأَنَّ قَلْبَ الْحَقَائِقِ مُحَالٌ. وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ إلَى أَنْ قَالَ: تَنْبِيهٌ، كَثِيرًا مَا يُسْأَلُ عَنْ عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ وَتَعَلُّمُهُ هَلْ يَحِلُّ أَوْ لَا، وَلَمْ نَرَ لِأَحَدٍ كَلَامًا فِي ذَلِكَ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ مَنْ عَلَّمَ الْعِلْمَ الْمُوصِلَ لِذَلِكَ الْقَلْبِ عِلْمًا يَقِينِيًّا جَازَ لَهُ عِلْمُهُ وَتَعْلِيمُهُ إذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ بِوَجْهٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي أَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ وَكَانَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى الْغِشِّ فَالْوَجْهُ الْحُرْمَةُ اهـ مُلَخَّصًا.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا قُلْنَا بِإِثْبَاتِ قَلْبِ الْحَقَائِقِ وَهُوَ الْحَقُّ جَازَ الْعَمَلُ بِهِ وَتَعَلُّمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغِشٍّ لِأَنَّ النُّحَاسَ يَنْقَلِبُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً حَقِيقَةً. وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ غِشٌّ كَمَا لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ حَقِيقَةً لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ الْمَالِ أَوْ غِشِّ الْمُسْلِمِينَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَذْهَبَنَا ثُبُوتُ انْقِلَابِ الْحَقَائِقِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرُوهُ فِي انْقِلَابِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ. كَانْقِلَابِ الْخَمْرِ خَلًّا وَالدَّمِ مِسْكًا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ: وَعِلْمِ الْمُوسِيقِيِّ) بِكَسْرِ الْقَافِ: وَهُوَ عِلْمٌ رِيَاضِيٌّ يُعْرَفُ مِنْهُ أَحْوَالُ النَّغَمِ وَالْإِيقَاعَاتِ، وَكَيْفِيَّةُ تَأْلِيفِ اللُّحُونِ، وَإِيجَادُ الْآلَاتِ. وَمَوْضُوعُهُ الصَّوْتُ مِنْ جِهَةِ تَأْثِيرِهِ فِي النُّفُوسِ بِاعْتِبَارِ نِظَامِهِ فِي طَبَقَتِهِ وَزَمَانِهِ. وَثَمَرَتُهُ بَسْطُ الْأَرْوَاحِ وَتَعْدِيلُهَا وَتَفْوِيتُهَا وَقَبْضُهَا أَيْضًا. مَطْلَبٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى إنْشَادِ الشِّعْرِ.
(قَوْلُهُ: وَهُوَ أَشْعَارُ الْمُوَلَّدِينَ) أَيْ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ حَدَثُوا بَعْدَ شُعَرَاءِ الْعَرَبِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْمُوَلَّدَةُ الْمُحْدَثَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ الشُّعَرَاءِ لِحُدُوثِهِمْ. وَفِي آخِرِ الرَّيْحَانَةِ لِلشِّهَابِ الْخَفَاجِيِّ: بُلَغَاءُ الْعَرَبِ فِي الشِّعْرِ وَالْخُطَبِ عَلَى سِتِّ طَبَقَاتٍ: الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى مِنْ عَادٍ وَقَحْطَانَ. وَالْمُخَضْرَمُونَ. وَهُمْ مَنْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ. وَالْإِسْلَامِيُّونَ وَالْمُوَلَّدُونَ وَالْمُحْدَثُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ مِنْ الْعَصْرِيِّينَ، وَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ هُمْ مَا هُمْ فِي الْبَلَاغَةِ وَالْجَزَالَةِ. وَمَعْرِفَةُ شِعْرِهِمْ رِوَايَةً وَدِرَايَةً عِنْدَ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ بِهِ تَثْبُتُ قَوَاعِدُ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي بِهَا يُعْلَمُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى مَعْرِفَتِهِمَا الْأَحْكَامُ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا الْحَلَالُ مِنْ الْحَرَامِ. وَكَلَامُهُمْ وَإِنْ جَازَ فِيهِ الْخَطَأُ فِي الْمَعَانِي فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْخَطَأُ فِي الْأَلْفَاظِ وَتَرْكِيبِ الْمَبَانِي اهـ.
(قَوْلُهُ: عَنْ الْغَزَلِ) الْمُرَادُ بِهِ مَا فِيهِ وَصْفُ النِّسَاءِ وَالْغِلْمَانِ. وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ: اسْمٌ لِمُحَادَثَةِ النِّسَاءِ. وَعَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَالْبَطَالَةِ عَطْفُ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهَا. فَشَمِلَ وَصْفَ حَالِ الْمُحِبِّ مَعَ الْمَحْبُوبِ أَوْ مَعَ عُذَّالِهِ مِنْ الْوَصْلِ وَالْهَجْرِ وَاللَّوْعَةِ وَالْغَرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: الْبَطَالَةُ نَقِيضُ الْعِمَالَةِ. مِنْ بَطَلَ الْأَجِيرُ مِنْ الْعَمَلِ فَهُوَ بَطَّالٌ بَيِّنُ الْبَطَالَةِ بِالْفَتْحِ وَحُكِيَ بِالْكَسْرِ وَهُوَ أَفْصَحُ وَرُبَّمَا قِيلَ بِالضَّمِّ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ وَجَدَ بِهَامِشِ الْمِصْبَاحِ بِخَطِّ مُصَنِّفِهِ مَا حَاصِلُهُ: الْفَعَالَةُ بِالْفَتْحِ قَدْ يَكُونُ وَصْفًا لِلطَّبِيعَةِ كَالرَّزَانَةِ وَالْجَهَالَةِ. وَبِالْكَسْرِ لِلصِّنَاعَةِ كَالتِّجَارَةِ. وَبِالضَّمِّ لِمَا يُرْمَى كَالْقُلَامَةِ. وَقَدْ يُضَمَّنُ اللَّفْظُ الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ فَيَجُوزُ فِيهِ الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثَةُ، فَالْبَطَالَةُ بِالْفَتْحِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ ثَابِتٌ، وَبِالْكَسْرِ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الصِّنَاعَةَ لِلْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، وَبِالضَّمِّ لِأَنَّهَا مِمَّا يُرْفَضُ. اهـ.
أَقُولُ: وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمَكْرُوهَ مِنْهُ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ صِنَاعَةً لَهُ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ وَأَشْغَلَهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ. وَبِهِ فُسِّرَ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» ، فَالْيَسِيرُ مِنْ ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا قُصِدَ بِهِ إظْهَارُ النِّكَاتِ وَاللَّطَافَاتِ وَالتَّشَابِيهِ الْفَائِقَةِ وَالْمَعَانِي الرَّائِقَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي وَصْفِ الْخُدُودِ وَالْقُدُودِ، فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْبَدِيعِ قَدْ اسْتَشْهَدُوا مِنْ ذَلِكَ
الَّتِي لَا يَسْتَخِفُّ فِيهَا كَذَا فِي فَوَائِدَ شَتَّى مِنْ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ.
ثُمَّ نَقَلَ مَسْأَلَةَ الرُّبَاعِيَّاتِ، وَمَحَطُّهَا أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ ثَمَرَةُ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ ثَوَابُ الْفَقِيهِ أَقَلَّ مِنْ ثَوَابِ الْمُحَدِّثِ، وَفِيهَا كُلُّ إنْسَانٍ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَعْلَمُ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَبِهِ؛ لِأَنَّ إرَادَتَهُ تَعَالَى غَيْبٌ إلَّا الْفُقَهَاءَ فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا إرَادَتَهُ تَعَالَى بِهِمْ بِحَدِيثِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَفِيهَا: كُلُّ شَيْءٍ يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا الْعِلْمَ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ نَبِيِّهِ أَنْ يَطْلُبَ الزِّيَادَةَ مِنْهُ - {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]- فَكَيْفَ يَسْأَلُ عَنْهُ؟ .
ــ
[رد المحتار]
بِأَشْعَارِ الْمُوَلَّدِينَ وَغَيْرِهِمْ لِهَذَا الْقَصْدِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ فِي إشْهَادَاتِ فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهُ مَا كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا لَا يَحِلُّ كَصِفَةِ الذُّكُورِ وَالْمَرْأَةِ الْمُعَيَّنَةِ الْحَيَّةِ وَوَصْفِ الْخَمْرِ الْمُهَيِّجِ إلَيْهَا وَالْحَانَاتِ وَالْهِجَاءِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ إذَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ هِجَاءَهُ، لَا إذَا أَرَادَ إنْشَادَ الشِّعْرِ لِلِاسْتِشْهَادِ بِهِ أَوْ لِيُعْلِمَ فَصَاحَتَهُ وَبَلَاغَتَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَصْفَ الْمَرْأَةِ كَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ إنْشَادُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه لِذَلِكَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَمِمَّا يَقْطَعُ بِهِ فِي هَذَا قَوْلُ كَعْبٍ رضي الله عنه بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إذْ رَحَلُوا
…
إلَّا أَغَنُّ غَضِيضَ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ
…
كَأَنَّهُ مَنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ
وَكَثِيرٌ فِي شِعْرِ حَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ هَذَا كَقَوْلِهِ وَقَدْ سَمِعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
تَبَّلَتْ فُؤَادَك فِي الْمَنَامِ خَرِيدَةٌ
…
تَسْقِي الضَّجِيعَ بِبَارِدٍ بَسَّام
فَأَمَّا الزُّهْرِيَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ ذَلِكَ الْمُتَضَمِّنَةُ وَصْفَ الرَّيَاحِينِ وَالْأَزْهَارِ وَالْمِيَاهِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ نَعَمْ إذَا قِيلَ عَلَى الْمَلَاهِي امْتَنَعَ وَإِنْ كَانَ مَوَاعِظَ وَحِكَمًا اهـ مُلَخَّصًا.
وَفِي الذَّخِيرَةِ عَنْ النَّوَازِلِ قِرَاءَةُ شِعْرِ الْأَدَبِ إذَا كَانَ فِيهِ ذِكْرُ الْفِسْقِ وَالْخَمْرِ وَالْغُلَامِ يُكْرَهُ، وَالِاعْتِمَادُ فِي الْغُلَامِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرْأَةِ: أَيْ مِنْ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً حَيَّةً يُكْرَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً فَلَا. اهـ. وَسَيَأْتِي تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قُبَيْلَ بَابِ الْوِتْرِ وَالنَّوَافِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَوْلُهُ: الَّتِي لَا يُسْتَخَفُّ فِيهَا) أَيْ لَيْسَ فِيهَا اسْتِخْفَافٌ بِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَذِكْرِ عَوْرَاتِهِ وَالْأَخْذِ فِي عِرْضِهِ. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَشْبَاهِ لَا سُخْفَ فِيهَا: أَيْ لَا رِقَّةَ وَخِفَّةَ ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
(قَوْلُهُ: ثُمَّ فِي نَقْلِ) أَيْ فِي الْفَوَائِدِ آخِرَ الْفَنِّ الثَّالِثِ مِنْ الْأَشْبَاهِ عَنْ الْمَنَاقِبِ الْبَزَّازِيِّ وَذَكَرَ الْحَلَبِيُّ عِبَارَتَهُ بِتَمَامِهَا، وَاقْتَصَرَ الشَّارِحُ عَلَى مَحَطِّهَا: أَيْ الْمَقْصُودِ مِنْهَا.
(قَوْلُهُ: وَفِيهَا) أَيْ فِي الْأَشْبَاهِ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْبَهْجَةِ لِلْعِرَاقِيِّ.
(قَوْلُهُ: غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَالْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قَالَهُ سَيِّدِي عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابْلُسِيُّ فِي شَرْحِ هَدِيَّةِ ابْنِ الْعِمَادِ.
(قَوْلُهُ: لَهُ) أَيْ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ حَيْثُ أَرَادَ بِهِ تَعَالَى الْخَيْرَ.
(قَوْلُهُ: وَبِهِ) أَيْ وَلَا يَعْلَمُ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ.
(قَوْلُهُ: إلَّا الْفُقَهَاءَ) الْمُرَادُ بِهِمْ الْعَالِمُونَ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى اعْتِقَادًا وَعَمَلًا؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ عِلْمِ الْفُرُوعِ فِقْهًا تَسْمِيَةٌ حَادِثَةٌ، قَالَ سَيِّدِي عَبْدُ الْغَنِيِّ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إنَّمَا الْفَقِيهُ الْمُعْرِضُ عَنْ الدُّنْيَا الرَّاغِبِ فِي الْآخِرَةِ إلَخْ.
(قَوْلُهُ: وَفِيهَا كُلُّ شَيْءٍ إلَخْ) نَقَلَهُ فِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الْفُصُوصِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فُصُوصُ الْحُكْمِ لِلشَّيْخِ الْأَكْبَرِ قُدِّسَ سِرُّهُ الْأَنْوَارُ.
(قَوْلُهُ: إلَّا الْعِلْمَ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ الْحَمَوِيُّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُفِيدُ السُّؤَالَ عَنْ الْعِلْمِ، وَلَفْظُهُ «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ
وَفِيهَا إذَا سُئِلْنَا عَنْ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ مُخَالِفِنَا قُلْنَا وُجُوبًا: مَذْهَبُنَا صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَمَذْهَبُ مُخَالِفِنَا خَطَأٌ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ. وَإِذَا سُئِلْنَا عَنْ مُعْتَقَدِنَا
ــ
[رد المحتار]
فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ اكْتَسَبَهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا صَنَعَ بِهِ» . وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ إلَّا طَلَبَ الزِّيَادَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَبِهِ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ.
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ طَلَبِهِ هَلْ قَصَدَ بِهِ الرِّيَاءَ أَوْ الْجَاهَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ «وَلَكِنْ تَعَلَّمْت الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَدْ قِيلَ» إلَخْ.
أَقُولُ: الْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ النَّافِعُ الْمُوصِلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهُوَ الْمَقْرُونُ بِحُسْنِ النِّيَّةِ مَعَ الْعَمَلِ بِهِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْ آفَاتِ النَّفْسِ، فَلَا يُسْأَلُ عَنْهُ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مَحْضٌ. بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ صَاحِبُهُ عَنْهُ لِيُعَذِّبَهُ بِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَمَامُ الْحَدِيثِ السَّابِقِ: وَلِذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْعَثُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَبْعَثُ الْعُلَمَاءَ. ثُمَّ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ إلَّا لِعِلْمِي بِكُمْ، وَلَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ لِأُعَذِّبَكُمْ. اذْهَبُوا فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ» هَذَا مَا ظَهَرَ لِي. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
(قَوْلُهُ: وَفِيهَا) أَيْ فِي الْأَشْبَاهِ عَنْ آخِرِ الْمُصَفَّى لِلْإِمَامِ النَّسَفِيِّ.
(قَوْلُهُ: عَنْ مَذْهَبِنَا) أَيْ عَنْ صِفَتِهِ فَالْمَعْنَى إذَا سُئِلْنَا أَيُّ الْمَذَاهِبِ صَوَابٌ ط.
(قَوْلُهُ: مُخَالِفِنَا) أَيْ مَنْ خَالَفَنَا فِي الْفُرُوعِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ.
(قَوْلُهُ: قُلْنَا إلَخْ) لِأَنَّك لَوْ قَطَعْت الْقَوْلَ لَمَا صَحَّ قَوْلُنَا إنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ أَشْبَاهٌ: أَيْ فَلَا نَجْزِمُ بِأَنَّ مَذْهَبَنَا صَوَابٌ أَلْبَتَّةَ وَلَا بِأَنَّ مَذْهَبَ مُخَالِفِنَا خَطَأٌ أَلْبَتَّةَ، بِنَاءً عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ وَجَبَ طَلَبُهُ. فَمَنْ أَصَابَهُ فَهُوَ الْمُصِيبُ وَمَنْ لَا فَهُوَ الْمُخْطِئُ. وَنُقِلَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: ثُمَّ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُخْطِئَ مَأْجُورٌ كَمَا فِي التَّحْرِيرِ وَشَرْحِهِ. مَطْلَبٌ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي التَّحْرِيرِ وَشَرْحِهِ أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ. وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَطَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَجُوزُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا. كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، فَقِيلَ يَلْزَمُهُ، وَقِيلَ لَا وَهُوَ الْأَصَحُّ اهـ وَقَدْ شَاعَ أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا مَذْهَبَ لَهُ.
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ ظَهَرَ لَك أَنَّ مَا ذُكِرَ عَنْ النَّسَفِيِّ مِنْ وُجُوبِ اعْتِقَادِ أَنَّ مَذْهَبَهُ صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْتِزَامُ مَذْهَبِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْعَامِّيِّ.
وَقَدْ رَأَيْت فِي آخِرِ فَتَاوَى ابْنِ حَجَرٍ الْفِقْهِيَّةِ التَّصْرِيحَ بِبَعْضِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ عِبَارَةِ النَّسَفِيِّ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ حَرَّرَ أَنَّ قَوْلَ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ إنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّعِيفِ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْلِيدُ الْأَعْلَمِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فِي تَقْلِيدِ أَيٍّ شَاءَ وَلَوْ مَفْضُولًا وَإِنْ اعْتَقَدَهُ كَذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْطَعَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ عَلَى الصَّوَابِ، بَلْ عَلَى الْمُقَلِّدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ إمَامُهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ الْحَقُّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ رَأَيْت الْمُحَقِّقَ ابْنَ الْهُمَامِ صَرَّحَ بِمَا يُؤَيِّدُهُ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: إنْ أَخَذَ الْعَامِّيُّ بِمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ أَصْوَبُ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا اسْتَفْتَى مُجْتَهِدَيْنِ فَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ الْأَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِمَا يَمِيلُ إلَيْهِ قَلْبُهُ مِنْهُمَا. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِقَوْلِ الَّذِي لَا يَمِيلُ إلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّ مَيْلَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ وَقَدْ فَعَلَ. اهـ.
(قَوْلُهُ: عَنْ مُعْتَقَدِنَا) أَيْ عَمَّا نَعْتَقِدُ مِنْ غَيْرِ
وَمُعْتَقَدِ خُصُومِنَا. قُلْنَا وُجُوبًا الْحَقُّ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ وَالْبَاطِلُ مَا عَلَيْهِ خُصُومُنَا
وَفِيهَا: الْعُلُومُ ثَلَاثَةٌ: عِلْمٌ نَضِجَ وَمَا احْتَرَقَ، وَهُوَ عِلْمُ النَّحْوِ وَالْأُصُولِ. وَعِلْمٌ لَا نَضِجَ وَلَا احْتَرَقَ، وَهُوَ عِلْمُ الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ. وَعِلْمٌ نَضِجَ وَاحْتَرَقَ، وَهُوَ عِلْمُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ. وَقَدْ قَالُوا: الْفِقْهُ زَرَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَسَقَاهُ عَلْقَمَةُ، وَحَصَدَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ، وَدَاسَهُ حَمَّادٌ،
ــ
[رد المحتار]
الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِلَا تَقْلِيدٍ لِأَحَدٍ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمْ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ، وَهُمْ مُتَوَافِقُونَ إلَّا فِي مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ أَرْجَعَهَا بَعْضُهُمْ إلَى الْخِلَافِ اللَّفْظِيِّ كَمَا بُيِّنَ فِي مَحَلِّهِ.
(قَوْلُهُ: وَمُعْتَقَدِ خُصُومِنَا) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُكَفِّرَةِ وَغَيْرِهَا كَالْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ نَفْيِ الصَّانِعِ أَوْ عَدَمِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَالْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَعَدَمِ إرَادَتِهِ تَعَالَى الشَّرَّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: عِلْمٌ نَضِجَ وَمَا احْتَرَقَ) الْمُرَادُ بِنُضْجِ الْعِلْمِ تَقَرُّرُ قَوَاعِدِهِ وَتَفْرِيعُ فُرُوعِهَا وَتَوْضِيحُ مَسَائِلِهِ، وَالْمُرَادُ بِاحْتِرَاقِهِ بُلُوغُهُ النِّهَايَةَ فِي ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّحْوَ وَالْأُصُولَ لَمْ يَبْلُغَا النِّهَايَةَ فِي ذَلِكَ أَفَادَهُ ح. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُصُولِ أُصُولُ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ أُصُولَ الْعَقَائِدِ فِي غَايَةِ التَّحْرِيرِ وَالتَّنْقِيحِ تَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: وَهُوَ عِلْمُ الْبَيَانِ) الْمُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ الْعُلُومَ الثَّلَاثَةَ: الْمَعَانِيَ وَالْبَيَانَ وَالْبَدِيعَ؛ وَلِذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: إنَّ مَنْزِلَةَ عِلْمِ الْبَيَانِ مِنْ الْعُلُومِ مِثْلُ مَنْزِلَةِ السَّمَاءِ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ جَمِيعِهِ مِنْ بَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَنُكَتِهِ وَبَدِيعَاتِهِ، بَلْ عَلَى النَّزْرِ الْيَسِيرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]- وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبَلَاغَةِ ط.
(قَوْلُهُ: وَالتَّفْسِيرِ) أَيْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيّ فِي الْإِتْقَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ جَبَلٍ قَافٍ، وَكُلُّ آيَةٍ تَحْتَهَا مِنْ التَّفَاسِيرِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ط.
(قَوْلُهُ: عِلْمُ الْحَدِيثِ) لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ الْمُرَادُ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحَدِّثِينَ جَزَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى خَيْرًا وَضَعُوا كُتُبًا فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ وَنَسَبِهِمْ وَالْفَرْقِ بَيْنَ أَسْمَائِهِمْ، وَبَيَّنُوا سَيِّئَ الْحِفْظِ مِنْهُمْ وَفَاسِدَ الرِّوَايَةِ مِنْ صَحِيحِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ الْمِائَةَ أَلْفٍ وَالثَّلَثَمِائَةِ، وَحَصَرُوا مَنْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الصَّحَابَةِ، وَبَيَّنُوا الْأَحْكَامَ وَالْمُرَادَ مِنْهَا فَانْكَشَفَتْ حَقِيقَتُهُ ط.
(قَوْلُهُ: وَالْفِقْهُ) لِأَنَّ حَوَادِثَ الْخَلَائِقِ عَلَى اخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا وَتَشَتُّتَاتِهَا مَرْقُومَةٌ بِعَيْنِهَا أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، بَلْ قَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أُمُورٍ لَا تَقَعُ أَصْلًا أَوْ تَقَعُ نَادِرًا، وَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا فَنَادِرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْصُوصًا غَيْرَ أَنَّ النَّاظِرَ يَقْصُرُ عَنْ الْبَحْثِ عَنْ مَحَلِّهِ أَوْ عَنْ فَهْمِ مَا يُفِيدُهُ مِمَّا هُوَ مَنْصُوصٌ بِمَفْهُومٍ أَوْ مَنْطُوقٍ ط، أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ بِالْفِقْهِ مَا يَشْمَلُ مَذْهَبَنَا وَغَيْرَهُ فَإِنَّهُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ أَصْلًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إحْدَاثُ قَوْلٍ خَارِجٍ عَنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ قَالُوا الْفِقْهُ) أَيْ الْفِقْهُ الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ أَعَمَّ.
(قَوْلُهُ: زَرَعَهُ) أَيْ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِاسْتِنْبَاطِ فُرُوعِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ، أَحَدُ السَّابِقِينَ وَالْبَدْرِيِّينَ وَالْعُلَمَاءِ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ. أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: انْتَهَى عِلْمُ الصَّحَابَةِ إلَى سِتَّةٍ: عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيُّ وَزَيْدٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ انْتَهَى عِلْمُ السِّتَّةِ إلَى عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
(قَوْلُهُ: وَسَقَاهُ) أَيْ أَيَّدَهُ وَوَضَّحَهُ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ النَّخَعِيّ الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ، عَمُّ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَخَالُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ. وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ وَعُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ.
(قَوْلُهُ: وَحَصَدَهُ) أَيْ جَمَعَ مَا تَفَرَّقَ مِنْ فَوَائِدِهِ وَنَوَادِرِهِ وَهَيَّأَهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قَيْسِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَبُو عِمْرَانَ النَّخَعِيّ الْكُوفِيُّ، الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ الصَّالِحُ الزَّاهِدُ. رَوَى عَنْ الْأَعْمَشِ وَخَلَائِقَ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ.
(قَوْلُهُ: وَدَاسَهُ) أَيْ اجْتَهَدَ فِي تَنْقِيحِهِ وَتَوْضِيحِهِ حَمَّادُ بْنُ مُسْلِمٍ الْكُوفِيُّ شَيْخُ الْإِمَامِ وَبِهِ تَخَرَّجَ. وَأَخَذَ حَمَّادٌ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْهُ، قَالَ الْإِمَامُ مَا صَلَّيْت
وَطَحَنَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَعَجَنَهُ أَبُو يُوسُفَ وَخَبَزَهُ مُحَمَّدٌ، فَسَائِرُ النَّاسِ يَأْكُلُونَ مِنْ خُبْزِهِ، وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
الْفِقْهُ زَرْعُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلْقَمَةُ
…
حَصَادُهُ ثُمَّ إبْرَاهِيمُ دَوَّاسُ
نُعْمَانُ طَاحِنُهُ يَعْقُوبُ عَاجِنُهُ
…
مُحَمَّدٌ خَابِزٌ وَالْآكِلُ النَّاسُ
وَقَدْ ظَهَرَ عِلْمُهُ بِتَصَانِيفِهِ كَالْجَامِعَيْنِ وَالْمَبْسُوطِ وَالزِّيَادَاتِ وَالنَّوَادِرِ، حَتَّى قِيلَ إنَّهُ صَنَّفَ فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ كِتَابًا. وَمِنْ تَلَامِذَتِهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه. وَتَزَوَّجَ بِأُمِّ الشَّافِعِيِّ وَفَوَّضَ إلَيْهِ كُتُبَهُ وَمَالَهُ
ــ
[رد المحتار]
صَلَاةً إلَّا اسْتَغْفَرْت لَهُ مَعَ وَالِدَيَّ مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ.
(قَوْلُهُ: وَطَحَنَهُ) أَيْ أَكْثَرَ أُصُولَهُ وَفَرَّعَ فُرُوعَهُ وَأَوْضَحَ سُبُلَهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ وَسِرَاجُ الْأُمَّةِ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الْفِقْهَ وَرَتَّبَهُ أَبْوَابًا وَكُتُبًا عَلَى نَحْوِ مَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ، وَتَبِعَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُ إنَّمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَى حِفْظِهِمَا. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ كِتَابَ الْفَرَائِضِ وَكِتَابَ الشُّرُوطِ، كَذَا فِي الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ لِلْعَلَّامَةِ ابْنِ حَجَرٍ
(قَوْلُهُ: وَعَجَنَهُ) أَيْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي قَوَاعِدِ الْإِمَامِ وَأُصُولِهِ وَاجْتَهَدَ فِي زِيَادَةِ اسْتِنْبَاطِ الْفُرُوعِ مِنْهَا، وَالْأَحْكَامِ تِلْمِيذُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَاضِي الْقُضَاةِ، فَإِنَّهُ كَمَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْكُتُبَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمْلَى الْمَسَائِلَ وَنَشَرَهَا وَبَثَّ عِلْمَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَهُوَ أَفْقَهُ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ أَحَدٌ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ النِّهَايَةَ فِي الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ وَالرِّيَاسَةِ. وُلِدَ سَنَةَ (113) وَتُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ سَنَةَ (182) .
(قَوْلُهُ: وَخَبَزَهُ) أَيْ زَادَ فِي اسْتِنْبَاطِ الْفُرُوعِ وَتَنْقِيحِهَا وَتَهْذِيبِهَا وَتَحْرِيرِهَا بِحَيْثُ لَمْ تَحْتَجْ إلَى شَيْءٍ آخَرَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ تِلْمِيذُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مُحَرِّرِ الْمَذْهَبِ النُّعْمَانِيِّ، الْمُجْمَعِ عَلَى فَقَاهَتِهِ وَنَبَاهَتِهِ.
رُوِيَ أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلٌ الْمُزَنِيّ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ؟ فَقَالَ: سَيِّدُهُمْ، قَالَ: فَأَبُو يُوسُفَ؟ قَالَ: أَتْبَعُهُمْ لِلْحَدِيثِ، قَالَ: فَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ تَفْرِيعًا قَالَ: فَزُفَرُ؟ قَالَ أَحَدُّهُمْ قِيَاسًا، وُلِدَ سَنَةَ (132) وَتُوُفِّيَ بِالرَّيِّ سَنَةَ (189) .
(قَوْلُهُ: مِنْ خُبْزِهِ) بِالضَّمِّ أَيْ خُبْزِ مُحَمَّدٍ الَّذِي خَبَزَهُ مِنْ عَجِينِ أَبِي يُوسُفَ مِنْ طَحِينِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِذَا رَوَى الْخَطِيبُ عَنْ الرَّبِيعِ قَالَ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: النَّاسُ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ. كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ مِمَّنْ وُفِّقَ لَهُ الْفِقْهُ.
(قَوْلُهُ: فَقَالَ) أَيْ مِنْ بَحْرِ الْبَسِيطِ، وَتَرْتِيبُ هَذَا النَّظَرِ بِخِلَافِ التَّرْتِيبِ قَبْلَهُ وَسَقَطَ مِنْهُ حَمَّادٌ.
(قَوْلُهُ: عِلْمُهُ) أَيْ مُحَمَّدٍ.
(قَوْلُهُ: كَالْجَامِعَيْنِ) الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَقَدْ أُلِّفَتْ فِي الْمَذْهَبِ تَآلِيفُ سُمِّيَتْ بِالْجَامِعِ فَوْقَ مَا يَنُوفُ عَنْ أَرْبَعِينَ، وَكُلُّ تَأْلِيفٍ لِمُحَمَّدٍ وُصِفَ بِالصَّغِيرِ فَهُوَ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْإِمَامِ، وَمَا وُصِفَ بِالْكَبِيرِ فَرِوَايَتُهُ عَنْ الْإِمَامِ بِلَا وَاسِطَةٍ ط.
(قَوْلُهُ: وَالنَّوَادِرِ) الْأَوْلَى إبْدَالُهَا بِالسِّيَرِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ الْخَمْسَةَ هِيَ كُتُبُ مُحَمَّدٍ الْمُسَمَّاةُ بِالْأَصْلِ وَظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا رُوِيَتْ عَنْهُ بِرِوَايَةِ الثِّقَاتِ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ عَنْهُ مُتَوَاتِرَةٌ أَوْ مَشْهُورَةٌ، وَفِيهَا الْمَسَائِلُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ أَصْحَابِ الْمَذْهَبِ، وَهُمْ أَبُو ح وَأَبُو س وم. وَأَمَّا النَّوَادِرُ فَهِيَ مَسَائِلُ مَرْوِيَّةٌ عَنْهُمْ فِي كُتُبٍ أُخَرَ لِمُحَمَّدٍ كالكيسانيات والهارونيات والجرجانيات وَالرُّقَيَّاتِ وَهِيَ دُونُ الْأُولَى، وَبَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ مَسَائِلُ النَّوَازِلِ سُئِلَ عَنْهَا الْمَشَايِخُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْمَذْهَبِ وَلَمْ يَجِدُوا فِيهَا نَصًّا فَأَفْتَوْا فِيهَا تَخْرِيجًا، وَقَدْ نَظَمْت ذَلِكَ فَقُلْت:
وَكُتْبُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَتَتْ
…
سِتًّا لِكُلِّ ثَابِتٍ عَنْهُمْ حَوَتْ
صَنَّفَهَا مُحَمَّدٌ الشَّيْبَانِيُّ
…
حَرَّرَ فِيهَا الْمَذْهَبَ النُّعْمَانِيّ
الْجَامِعَ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ
…
وَالسِّيَرَ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ
ثُمَّ الزِّيَادَاتِ مَعَ الْمَبْسُوطِ
…
تَوَاتَرَتْ بِالسَّنَدِ الْمَضْبُوطِ
كَذَا لَهُ مَسَائِلُ النَّوَادِرِ
…
إسْنَادُهَا فِي الْكُتْبِ غَيْرُ ظَاهِرٍ
وَبَعْدَهَا مَسَائِلُ النَّوَازِلِ
…
خَرَّجَهَا الْأَشْيَاخُ بِالدَّلَائِلِ
فَبِسَبَبِهِ صَارَ الشَّافِعِيُّ فَقِيهًا.
وَلَقَدْ أَنْصَفَ الشَّافِعِيُّ حَيْثُ قَالَ: مَنْ أَرَادَ الْفِقْهَ فَلْيَلْزَمْ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ الْمَعَانِيَ قَدْ تَيَسَّرَتْ لَهُمْ، وَاَللَّهِ مَا صِرْت فَقِيهًا إلَّا بِكُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ: رَأَيْت مُحَمَّدًا فِي الْمَنَامِ فَقُلْت لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَرَدْت أَنْ أُعَذِّبَك مَا جَعَلْت هَذَا الْعِلْمَ فِيك، فَقُلْت لَهُ: فَأَيْنَ أَبُو يُوسُفَ؟ قَالَ: فَوْقَنَا بِدَرَجَتَيْنِ قُلْت: فَأَبُو حَنِيفَةَ؟ قَالَ: هَيْهَاتَ، ذَاكَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ. كَيْفَ وَقَدْ صَلَّى الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَحَجَّ خَمْسًا وَخَمْسِينَ حَجَّةً، وَرَأَى رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَلَهَا قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ. وَفِي حَجَّتِهِ الْأَخِيرَةِ اسْتَأْذَنَ حَجَبَةَ الْكَعْبَةِ بِالدُّخُولِ لَيْلًا فَقَامَ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى وَوَضَعَ الْيُسْرَى عَلَى ظَهْرِهَا حَتَّى خَتَمَ نِصْفَ الْقُرْآنِ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ
ــ
[رد المحتار]
وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ آخِرَ الْمُقَدِّمَةِ.
وَفِي طَبَقَاتِ التَّمِيمِيِّ عَنْ شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لِلسَّرَخْسِيِّ أَنَّ السِّيَرَ الْكَبِيرَ آخِرُ تَصْنِيفٍ صَنَّفَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْفِقْهِ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ السِّيَرَ الصَّغِيرَ وَقَعَ بِيَدِ الْأَوْزَاعِيِّ إمَامِ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ مَا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ وَالتَّصْنِيفِ فِي هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالسِّيَرِ، فَبَلَغَ مُحَمَّدًا فَصَنَّفَ الْكَبِيرَ، فَحَكَى أَنَّهُ لَمَّا نَظَرَ فِيهِ الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: لَوْلَا مَا ضَمَّنَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَقُلْت إنَّهُ يَضَعُ الْعِلْمَ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَيَّنَ جِهَةَ إصَابَةِ الْجَوَابِ فِي رَأْيِهِ، صَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]- ثُمَّ أَمَرَ مُحَمَّدٌ أَنْ يُكْتَبَ فِي سِتِّينَ دَفْتَرًا، وَأَنْ يُحْمَلَ إلَى الْخَلِيفَةِ فَأَعْجَبَهُ وَعَدَّهُ مِنْ مَفَاخِرِ أَيَّامِهِ اهـ مُلَخَّصًا.
(قَوْلُهُ: فَبِسَبَبِهِ صَارَ الشَّافِعِيُّ فَقِيهًا) أَيْ ازْدَادَ فَقَاهَةً، وَاطَّلَعَ عَلَى مَسَائِلَ لَمْ يَكُنْ مُطَّلِعًا عَلَيْهَا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَبْدَعَ فِي كَثْرَةِ اسْتِخْرَاجِ الْمَسَائِلِ، وَإِلَّا فَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقِيهٌ مُجْتَهِدٌ قَبْلَ وُرُودِهِ إلَى بَغْدَادَ، وَكَيْفَ يُسْتَفَادُ الِاجْتِهَادُ الْمُطْلَقُ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ أَفَادَهُ ح.
(قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ مَا صِرْت فَقِيهًا) الْكَلَامُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَيْضًا: حَمَلْت مِنْ عِلْمِ ابْنِ الْحَسَنِ وِقْرَ بَعِيرٍ كُتُبًا. وَقَالَ: أَمَنُّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي الْفِقْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
(قَوْلُهُ: هَيْهَاتَ) اسْمُ فِعْلٍ: أَيْ بَعُدَ مَكَانُهُ عَنِّي وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ ط.
(قَوْلُهُ: فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ) اسْمٌ لِأَعْلَى الْجَنَّةِ: أَيْ هُوَ فِي أَعْلَى مَكَان فِي الْجَنَّةِ أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا لَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّحَابَةَ أَرْفَعُ مِنْهُ دَرَجَةً قَطْعًا. وَأَمَّا الدُّعَاءُ بِنَحْوِ اجْعَلْنِي مَعَ النَّبِيِّينَ فَالْمُرَادُ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْمُؤَانَسَةِ لَا فِي الدَّرَجَةِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى - {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء: 69]- إلَخْ ط.
(قَوْلُهُ: كَيْفَ) اسْتِفْهَامٌ إنْكَارِيٌّ بِمَعْنَى النَّفْيِ: أَيْ كَيْفَ لَا يُعْطَى هَذَا الْمَكَانُ الْأَعْلَى ط.
(قَوْلُهُ: وَلَهَا) أَيْ لِرُؤْيَتِهِ رَبَّهُ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ ذَكَرَهَا الْحَافِظُ النَّجْمُ الْغَيْطِيُّ.
وَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْت رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ مَرَّةً فَقُلْت فِي نَفْسِي إنْ رَأَيْته تَمَامَ الْمِائَةِ لَأَسْأَلَنَّهُ: بِمَ يَنْجُو الْخَلَائِقُ مِنْ عَذَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَرَأَيْته سبحانه وتعالى فَقُلْت: يَا رَبِّ عَزَّ جَارُك وَجَلَّ ثَنَاؤُك وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُك، بِمَ يَنْجُو عِبَادُك يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَذَابِك؟ فَقَالَ سبحانه وتعالى: مَنْ قَالَ بَعْدَ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ: سُبْحَانَ الْأَبَدِيِّ الْأَبَدِ، سُبْحَانَ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، سُبْحَانَ الْفَرْدِ الصَّمَدِ، سُبْحَانَ رَافِعِ السَّمَاءِ بِلَا عَمَدْ، سُبْحَانَ مَنْ بَسَطَ الْأَرْضَ عَلَى مَاءٍ جَمَدْ، سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْخَلْقَ فَأَحْصَاهُمْ عَدَدْ، سُبْحَانَ مَنْ قَسَمَ الرِّزْقَ وَلَمْ يَنْسَ أَحَدْ، سُبْحَانَ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدْ، سُبْحَانَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدْ، نَجَا مِنْ عَذَابِي. اهـ. ط.
(قَوْلُهُ: عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى إلَخْ) فِيهِ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ. اهـ. ح أَيْ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ.
ثُمَّ قَامَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَوَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِهَا حَتَّى خَتَمَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَلَّمَ بَكَى وَنَاجَى رَبَّهُ وَقَالَ: إلَهِي مَا عَبَدَك هَذَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ حَقَّ عِبَادَتِك لَكِنْ عَرَفَك حَقَّ مَعْرِفَتِك، فَهَبْ نُقْصَانَ خِدْمَتِهِ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ، فَهَتَفَ هَاتِفٌ مِنْ جَانِبِ الْبَيْتِ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ عَرَفْتَنَا حَقَّ الْمَعْرِفَةِ وَخَدَمْتَنَا فَأَحْسَنْتَ الْخِدْمَةَ، قَدْ غَفَرْنَا لَك وَلِمَنْ اتَّبَعَك مِمَّنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِك إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَقِيلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ: بِمَ بَلَغْت مَا بَلَغْت؟ قَالَ: مَا بَخِلْتُ بِالْإِفَادَةِ، وَمَا اسْتَنْكَفْتُ عَنْ الِاسْتِفَادَةِ. قَالَ مُسَافِرُ بْنُ كِدَامٍ: مَنْ جَعَلَ أَبَا حَنِيفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ رَجَوْت أَنْ لَا يَخَافَ. وَقَالَ فِيهِ:
حَسْبِي مِنْ الْخَيْرَاتِ مَا أَعْدَدْته
…
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي رِضَا الرَّحْمَنِ
دِينُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْوَرَى
…
ثُمَّ اعْتِقَادِي مَذْهَبَ النُّعْمَانِ
وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّ آدَمَ افْتَخَرَ بِي وَأَنَا أَفْتَخِرُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي اسْمُهُ نُعْمَانُ وَكُنْيَتُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، هُوَ سِرَاجُ أُمَّتِي» وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ يَفْتَخِرُونَ بِي وَأَنَا أَفْتَخِرُ بِأَبِي حَنِيفَةَ، مَنْ أَحَبَّهُ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُ فَقَدْ أَبْغَضَنِي» كَذَا فِي التَّقْدُمَةِ شَرْحِ مُقَدِّمَةِ أَبِي اللَّيْثِ. قَالَ فِي الضِّيَاءِ الْمَعْنَوِيِّ:
ــ
[رد المحتار]
وَأَجَابَ الشُّرُنْبُلَالِيُّ بِحَمْلِهِ عَلَى التَّرَاوُحِ؛ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ نَصْبِ الْقَدَمَيْنِ، وَتَفْسِيرُ التَّرَاوُحِ: أَنْ يَعْتَمِدَ الْمُصَلِّي عَلَى قَدَمٍ مَرَّةً وَعَلَى الْأُخْرَى مَرَّةً أُخْرَى: أَيْ مَعَ وَضْعِ الْقَدَمَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ بِدُونِ رَفْعِ إحْدَاهُمَا لَكِنْ يُبْعِدُهُ قَوْلُهُ وَوَضَعَ الْيُسْرَى عَلَى ظَهْرِهَا إلَخْ. أَفَادَهُ ط. وَقَدْ يُقَالُ: لِلْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَقْصِدٌ حَسَنٌ فِي ذَلِكَ نَفْيُ الْكَرَاهَةِ عَنْهُ كَمَا قَالُوا يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ حَاسِرًا عَنْ رَأْسِهِ، لَكِنْ إذَا قَصَدَ التَّذَلُّلَ فَلَا كَرَاهَةَ. ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَجَابَ بِذَلِكَ فَقَالَ: إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مُجَاهَدَةً لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ غَرَضُ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ بِذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَخْتَلَّ مِنْهُ خُشُوعُهُ مَانِعًا لِلْكَرَاهَةِ. اهـ.
(قَوْلُهُ: حَقَّ عِبَادَتِك) مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ: أَيْ عِبَادَتَك الْحَقَّةَ الَّتِي تَلِيقُ بِجَلَالِك بَلْ هِيَ بِقَدْرِ مَا فِي وُسْعِهِ ط.
(قَوْلُهُ: لَكِنْ عَرَفَك) اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ عَدَمَ عِبَادَتِهِ حَقَّ الْعِبَادَةِ نَشَأَ مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ عَرَفَهُ بِصِفَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كِبْرِيَائِهِ وَمَجْدِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ دَوَامَ مُشَاهَدَتِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَعْرِفَةَ كُنْهِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُسْتَحِيلَاتِ ط.
(قَوْلُهُ: فَهَبْ) مِنْ الْهِبَةِ: وَهِيَ الْعَطِيَّةُ، يَقُولُ وَهَبْت لَهُ: أَيْ أَعْطِ نُقْصَانَ الْخِدْمَةِ لِكَمَالِ الْمَعْرِفَةِ أَيْ شَفَعَ هَذَا بِهَذَا كَمَا فِي هَبْ مُسِيئَنَا لِمُحْسِنِنَا.
(قَوْلُهُ: وَلِمَنْ اتَّبَعَك) أَيْ فِي الْخِدْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ أَوْ فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُك مِنْ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلَمْ يَزِغْ عَنْهَا لَا بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ.
(قَوْلُهُ: إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) مُتَعَلِّقٌ بِكَانَ التَّامَّةِ أَوْ بِاتَّبَعَك
(قَوْلُهُ: وَقِيلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ) ذَكَرَ فِي التَّعْلِيمِ هَذِهِ الْعِبَارَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ قَالَ: قِيلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: بِمَ أَدْرَكْت الْعِلْمَ؟ قَالَ: إنَّمَا أَدْرَكْت الْعِلْمَ بِالْجُهْدِ وَالشُّكْرِ، وَكُلَّمَا فَهِمْت وَوَقَفْت عَلَى فِقْهٍ وَحِكْمَةٍ قُلْت الْحَمْدُ لِلَّهِ فَازْدَادَ عِلْمِي ط.
(قَوْلُهُ: وَمَا اسْتَنْكَفْت) أَيْ أَنِفْت وَامْتَنَعْت.
(قَوْلُهُ: مُسَافِرُ بْنُ كِدَامٍ) الَّذِي رَأَيْته فِي مَوَاضِعَ كَتَعَدُّدِهِ: مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِمَا وَكِدَامٌ بِالدَّالِ.
(قَوْلُهُ: رَجَوْت أَنْ لَا يَخَافَ) لِأَنَّهُ قَلَّدَ إمَامًا عَالِمًا صَحِيحَ الِاجْتِهَادِ سَالِمَ الِاعْتِقَادِ، وَمَنْ قَلَّدَ عَالِمًا لَقَى اللَّهَ سَالِمًا، وَتَمَامُ كَلَامِ مِسْعَرٍ: وَأَنْ لَا يَكُونَ فَرَّطَ فِي الِاحْتِيَاطِ لِنَفْسِهِ.
(قَوْلُهُ: وَقَالَ) أَيْ مِسْعَرٌ، لَكِنْ ذَكَرَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْغَزْنَوِيَّةِ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَأَنَّهُ أَنْشَدَهُمَا أَبُو يُوسُفَ أَفَادَهُ ط.
(قَوْلُهُ: حَسْبِي) أَيْ كَافِي مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ مَا أَعْدَدْته: أَيْ هَيَّأْته، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقٌ بِحَسْبِي أَوْ بِأَعْدَدْته أَوْ بِرِضَا وَفِي لِلسَّبَبِيَّةِ وَدِينُ بَدَلٌ مِنْ مَا.
(قَوْلُهُ: وَأَنَا أَفْتَخِرُ إلَخْ) الْفَخْرُ وَالِافْتِخَارُ التَّمَدُّحُ بِالْخِصَالِ: أَيْ يَذْكُرُ مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ جَعَلَ مِنْ أَتْبَاعِهِ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي شَيَّدَ بُنْيَانَ الدِّينِ بَعْدَ انْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِ التَّابِعِينَ، وَتَبِعَهُ مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأُمَّةِ، وَسَبَقَ فِي الِاجْتِهَادِ وَتَدْوِينِ الْفِقْهِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَأَعَانَهُمْ بِأَصْحَابِهِ وَفَوَائِدِهِ الْجَمَّةِ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الْمُهِمَّةِ.
(قَوْلُهُ: الضِّيَاءِ الْمَعْنَوِيِّ)
وَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ إنَّهُ مَوْضُوعٌ تَعَصُّبٌ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَرَوَى الْجُرْجَانِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ بِسَنَدِهِ لِسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ " لَوْ كَانَ فِي أُمَّتَيْ مُوسَى وَعِيسَى مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَا تَهَوَّدُوا وَلَمَا تَنَصَّرُوا "
ــ
[رد المحتار]
هُوَ شَرْحُ مُقَدِّمَةِ الْغَزْنَوِيِّ لِلْقَاضِي أَبِي الْبَقَاءِ بْنِ الضِّيَاءِ الْمَكِّيِّ.
(قَوْلُهُ: وَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ) أَيْ نَاقِلًا عَنْ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ رُوِيَ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ) بَسَطَهَا الْعَلَّامَةُ طَاشْ كُبْرَى، فَيُشْعِرُ بِأَنَّ لَهُ أَصْلًا، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا فَيُقْبَلُ؛ إذْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ مَعْنَاهُ فِي الْإِمَامِ فَإِنَّهُ سِرَاجٌ يُسْتَضَاءُ بِنُورِ عِلْمِهِ وَيُهْتَدَى بِثَاقِبِ فَهْمِهِ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ قَدْ أَقَرَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى عَدِّهِ هَذِهِ الْأَخْبَارَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ وَالْحَافِظُ السُّيُوطِيّ وَالْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ وَالْحَافِظُ الَّذِينَ انْتَهَتْ إلَيْهِ رِئَاسَةُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي زَمَنِهِ الشَّيْخُ قَاسِمٌ الْحَنَفِيُّ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُورِدْ شَيْئًا مِنْهَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي مَنَاقِبِ هَذَا الْإِمَامِ كَالطَّحَاوِيِّ وَصَاحِبِ طَبَقَاتِ الْحَنَفِيَّةِ مُحْيِي الدِّينِ الْقُرَشِيِّ وَآخَرِينَ مُتْقِنِينَ ثِقَاتٍ أَثْبَاتٍ نُقَّادٍ لَهُمْ اطِّلَاعٌ كَثِيرٌ. اهـ.
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ فِي الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ: وَمَنْ اطَّلَعَ عَلَى مَا يَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ أَحْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَرَامَاتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَسِيرَتِهِ عَلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَى فَضْلِهِ بِخَبَرٍ مَوْضُوعٍ.
وَقَالَ: وَمِمَّا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عَظِيمِ شَأْنِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «تُرْفَعُ زِينَةُ الدُّنْيَا سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ» وَمِنْ ثَمَّ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْكُرْدِيُّ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُحْمَلٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ تِلْكَ السَّنَةِ. اهـ.
وَقَالَ أَيْضًا: وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ تُشِيرُ إلَى فَضْلِهِ: مِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ» وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالشِّيرَازِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بِلَفْظِ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَوْ كَانَ الْعِلْمُ مُعَلَّقًا عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ» وَلَفْظُ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ قَيْسٍ «لَا تَنَالُهُ الْعَرَبُ لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ» وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الدِّينُ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رَجُلٌ مِنْ فَارِسَ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِفَارِسَ الْبِلَادَ الْمَعْرُوفَةَ، بَلْ جِنْسٌ مِنْ الْعَجَمِ وَهُمْ الْفُرْسُ؛ لِخَبَرِ الدَّيْلَمِيِّ «خَيْرُ الْعَجَمِ فَارِسُ» وَقَدْ كَانَ جَدُّ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ فَارِسَ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ. قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ: هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَصْلٌ صَحِيحٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْإِشَارَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ وَبِهِ يُسْتَغْنَى عَمَّا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَنَاقِبِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ دِرَايَةٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ فِي سَنَدِهِ كَذَّابِينَ وَوَضَّاعِينَ اهـ مُلَخَّصًا.
وَفِي حَاشِيَةِ الشبراملسي عَلَى الْمَوَاهِبِ عَنْ الْعَلَّامَةِ الشَّامِيِّ تِلْمِيذِ الْحَافِظِ السُّيُوطِيّ قَالَ: مَا جَزَمَ بِهِ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ فِي الْعِلْمِ مَبْلَغَهُ أَحَدٌ. اهـ.
(قَوْلُهُ: التُّسْتَرِيِّ) إمَامٌ عَظِيمٌ رضي الله عنه، كَانَ يَقُولُ: إنِّي لَأَعْهَدُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ فِي عَالَمِ الذَّرِّ؛ وَإِنِّي لَأَرْعَى أَوْلَادِي مِنْ هَذَا الْوَقْتِ إلَى أَنْ أَخْرَجَهُمْ اللَّهُ مِنْ عِلْمِ الشُّهُودِ وَالظُّهُورِ.
(قَوْلُهُ: لَمَا تَهَوَّدُوا إلَخْ) أَيْ لَمَا دَامُوا عَلَى دِينِهِمْ الْبَاطِلِ وَاعْتِقَادِهِمْ الْعَاطِلِ؛ وَلَمْ يَقْبَلُوا مَا أَدْخَلَهُ عَلَيْهِمْ عُلَمَاؤُهُمْ مِنْ الدَّسَائِسِ فَأَعْمَوْهُمْ عَمَّا
وَمَنَاقِبُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَصَنَّفَ فِيهَا سَبْطُ بْنُ الْجَوْزِيِّ مُجَلَّدَيْنِ كَبِيرَيْنِ، وَسَمَّاهُ الِانْتِصَارَ لِإِمَامِ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ
ــ
[رد المحتار]
جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا مِنْ النَّفَائِسِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ إلَّا لِعَقْلِهِمْ الْفَاسِدِ، وَرَأْيِهِمْ الْكَاسِدِ، فَلَوْ كَانَ فِيهِمْ مِثْلُهُ غَزِيرَ الْعِلْمِ، ثَاقِبَ الْفَهْمِ، قَائِمًا بِالصِّدْقِ، عَارِفًا بِالْحَقِّ، لَرَدَّ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنْ الْمَهَالِكِ، قَبْلَ غُلُوِّهِمْ وَتَمَكُّنِ الشَّبَهِ فِي عُقُولِهِمْ، فَإِنَّ كَوْنَهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَكُونُ لِكَلَامِهِ أَقْبَلَ، فَإِنَّ الْجِنْسَ إلَى الْجِنْسِ أَمْيَلُ، فَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُهُ عَلَى نَبِيِّنَا الْمُكَرَّمِ صلى الله عليه وسلم، فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: وَمَنَاقِبُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى) هَذَا مِنْ مُشْكِلِ التَّرَاكِيبِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ تَفْضِيلُ الشَّيْءِ فِي الْأَكْثَرِيَّةِ عَلَى الْإِحْصَاءِ وَلَا مَعْنَى لَهُ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ قَلَّ مَنْ يَتَنَبَّهُ لِإِشْكَالِهَا، وَوُجِّهَ بِأَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ بَيَّنْتهَا فِي رِسَالَتِي الْمُسَمَّاةِ بِالْفَوَائِدِ الْعَجِيبَةِ فِي إعْرَابِ الْكَلِمَاتِ الْغَرِيبَةِ، أَحْسَنُهَا مَا ذَكَرَهُ الرَّضِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ التَّفْضِيلَ بَلْ الْمُرَادُ الْبُعْدُ عَنْ الْكَثْرَةِ، فَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ بِمَعْنَى تَجَاوَزَ وَبَايَنَ بِلَا تَفْضِيلٍ.
(قَوْلُهُ: سَبْطُ) قِيلَ الْأَسْبَاطُ الْأَوْلَادُ خَاصَّةً، وَقِيلَ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ، وَقِيلَ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ نِهَايَةُ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الثَّالِثِ.
(قَوْلُهُ: وَسَمَّاهُ الِانْتِصَارَ) إنَّمَا سَمَّاهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ رضي الله عنه لَمَّا شَاعَتْ فَضَائِلُهُ وَعَمَّتْ الْخَافِقِينَ فَوَاضِلُهُ، جَرَتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ الْقَدِيمَةُ مِنْ إطْلَاقِ أَلْسِنَةِ الْحَاسِدِينَ فِيهِ حَتَّى طَعَنُوا فِي اجْتِهَادِهِ وَعَقِيدَتِهِ بِمَا هُوَ مُبَرَّأٌ مِنْهُ قَطْعًا لِقَصْدِ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، كَمَا تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي مَالِكٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي الشَّافِعِيِّ، وَبَعْضُهُمْ فِي أَحْمَدَ، بَلْ قَدْ تَكَلَّمَتْ فِرْقَةٌ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَفِرْقَةٌ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَفِرْقَةٌ كَفَّرَتْ كُلَّ الصَّحَابَةِ:
وَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْجُو مِنْ النَّاسِ سَالِمًا
…
وَلِلنَّاسِ قَالٌ بِالظُّنُونِ وَقِيلُ
وَمِمَّنْ انْتَصَرَ لِلْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْعَلَّامَةُ السُّيُوطِيّ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ تَبْيِيضَ الصَّحِيفَةِ وَالْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ الْخَيْرَاتِ الْحِسَانَ وَالْعَلَّامَةُ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الْهَادِي الْحَنْبَلِيُّ فِي مُجَلَّدٍ كَبِيرٍ سَمَّاهُ تَنْوِيرَ الصَّحِيفَةِ، وَذَكَرَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا تَتَكَلَّمْ فِي أَبِي حَنِيفَةَ بِسُوءٍ وَلَا تُصَدِّقَنَّ أَحَدًا يُسِيءُ الْقَوْلَ فِيهِ، فَإِنِّي وَاَللَّهِ مَا رَأَيْت أَفْضَلَ وَلَا أَوْرَعَ وَلَا أَفْقَهَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَغْتَرُّ أَحَدٌ بِكَلَامِ الْخَطِيبِ، فَإِنَّ عِنْدَهُ الْعَصَبِيَّةَ الزَّائِدَةَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَتَحَامَلَ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَصَنَّفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ السَّهْمَ الْمُصِيبَ فِي كَيْدِ الْخَطِيبِ.
وَأَمَّا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَإِنَّهُ تَابَعَ الْخَطِيبَ وَقَدْ عَجِبَ سَبْطُهُ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ فِي مِرْآةِ الزَّمَانِ: وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْ الْخَطِيبِ فَإِنَّهُ طَعَنَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِنْ الْجَدِّ كَيْفَ سَلَكَ أُسْلُوبَهُ وَجَاءَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ. قَالَ: وَمِنْ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الدَّارَقُطْنِيّ وَأَبُو نُعَيْمٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْحِلْيَةِ وَذَكَرَ مَنْ دُونَهُ فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ اهـ.
وَمِمَّنْ انْتَصَرَ لَهُ الْعَارِفُ الشَّعْرَانِيُّ فِي الْمِيزَانِ بِمَا يَتَعَيَّنُ مُطَالَعَتُهُ قَالَ فِي الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ: وَبِفَرْضِ صِحَّةِ مَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ مِنْ الْقَدْحِ عَنْ قَائِلِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَقْرَانِ الْإِمَامِ فَهُوَ مُقَلِّدٌ لِمَا قَالَهُ أَوْ كَتَبَهُ أَعْدَاؤُهُ أَوْ مِنْ أَقْرَانِهِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْأَقْرَانِ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ غَيْرُ مَقْبُولٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الذَّهَبِيُّ وَالْعَسْقَلَانِيُّ قَالَا وَلَا سِيَّمَا إذَا لَاحَ أَنَّهُ لِعَدَاوَةٍ أَوْ لِمَذْهَبٍ؛ إذْ الْحَسَدُ لَا يَنْجُو مِنْهُ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَمَا عَلِمْت أَنَّ عَصْرًا سَلِمَ أَهْلُهُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا عَصْرَ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالصِّدِّيقِينَ. وَقَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ. يَنْبَغِي لَك أَيُّهَا الْمُسْتَرْشِدُ أَنْ تَسْلُكَ سَبِيلَ الْأَدَبِ مَعَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ وَلَا تَنْظُرَ إلَى كَلَامِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ إلَّا إذَا أَتَى بِبُرْهَانٍ وَاضِحٍ.
ثُمَّ إنْ قَدَرْت عَلَى التَّأْوِيلِ وَتَحْسِينِ الظَّنِّ فَدُونَك، وَإِلَّا فَاضْرِبْ صَفْحًا، فَإِيَّاكَ ثُمَّ إيَّاكَ أَنْ تُصْغِيَ إلَى مَا اتَّفَقَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ، أَوْ بَيْنَ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، أَوْ بَيْنَ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ وَالنَّسَائِيُّ، أَوْ بَيْنَ أَحْمَدَ
وَصَنَّفَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ النُّعْمَانَ مِنْ أَعْظَمِ مُعْجِزَاتِ الْمُصْطَفَى
ــ
[رد المحتار]
وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ، وَذَكَرَ كَلَامَ كَثِيرِينَ مِنْ نُظَرَاءِ مَالِكٍ فِيهِ، وَكَلَامَ ابْنِ مَعِينٍ فِي الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَمَا مِثْلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِمَا وَفِي نَظَائِرِهِمَا إلَّا كَمَا قَالَ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ:
يَا نَاطِحَ الْجَبَلِ الْعَالِي لِيُكْلِمَهُ
…
أَشْفِقْ عَلَى الرَّأْسِ لَا تُشْفِقْ عَلَى الْجَبَلِ
اهـ مُلَخَّصًا. وَقَدْ أَطَالَ فِي ذَلِكَ وَفِي ذِكْرِ مَنْ أَثْنَى عَلَى الْإِمَامِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَمَا نَقَلُوهُ مِنْ سِعَةِ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَعِبَادَتِهِ وَاحْتِيَاطِهِ وَخَوْفِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَدْعِي مُؤَلَّفَاتٍ، وَمَا يُنْسَبُ إلَى الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ يَرُدُّهُ مَا ذَكَرَهُ فِي إحْيَائِهِ الْمُتَوَاتِرُ عَنْهُ حَيْثُ تَرْجَمَ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ وَقَالَ: وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَقَدْ كَانَ أَيْضًا عَابِدًا زَاهِدًا عَارِفًا بِاَللَّهِ تَعَالَى، خَائِفًا مِنْهُ، مُرِيدًا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِعِلْمِهِ إلَخْ.
أَقُولُ: وَلَا عَجَبَ مِنْ تَكَلُّمِ السَّلَفِ فِي بَعْضِهِمْ كَمَا وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فَيُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْآخَرَ سِيَّمَا إذَا قَامَ عِنْدَهُ مَا يَدُلُّ لَهُ عَلَى خَطَأِ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ قَصْدُهُمْ إلَّا الِانْتِصَارُ لِلدِّينِ لَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ فِي زَمَانِنَا وَمَأْكَلُهُ وَمَشْرَبُهُ وَمَلْبَسُهُ وَعُقُودُهُ وَأَنْكِحَتُهُ وَكَثِيرٌ مِنْ تَعَبُّدَاتِهِ يُقَلِّدُ فِيهَا الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ ثُمَّ يَطْعَنُ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ، وَلَيْسَ مِثْلُهُ إلَّا كَمِثْلِ ذُبَابَةٍ وَقَعَتْ تَحْتَ ذَنَبِ جَوَادٍ فِي حَالَةِ كَرِّهِ وَفَرِّهِ وَلَيْتَ شِعْرِي لِأَيِّ شَيْءٍ يُصَدِّقُ مَا قِيلَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُصَدِّقُ مَا قِيلَ فِي إمَامِ مَذْهَبِهِ، وَلِمَ لَا يُقَلِّدُ إمَامَ مَذْهَبِهِ فِي أَدَبِهِ مَعَ هَذَا الْإِمَامِ الْجَلِيلِ؟ فَقَدْ نَقَلَ الْعُلَمَاءُ ثَنَاءَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَتَأَدُّبَهُمْ مَعَهُ وَلَا سِيَّمَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَالْكَامِلُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ إلَّا الْكَمَالُ، وَالنَّاقِصُ بِضِدِّهِ. وَيَكْفِي الْمُعْتَرِضَ حِرْمَانُهُ بَرَكَةَ مَنْ يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَدَامَنَا عَلَى حُبِّ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَجَمِيعِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ يَوْمَ الدِّينِ.
وَمِمَّا رُوِيَ مِنْ تَأَدُّبِهِ مَعَهُ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأَتَبَرَّكُ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَجِيءُ إلَى قَبْرِهِ، فَإِذَا عَرَضَتْ لِي حَاجَةٌ صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ وَسَأَلْت اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ قَبْرِهِ فَتُقْضَى سَرِيعًا. وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ كَتَبَ عَلَى الْمَنَاهِجِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ صَلَّى الصُّبْحَ عِنْدَ قَبْرِهِ فَلَمْ يَقْنُتْ، فَقِيلَ لَهُ لِمَ؟ قَالَ: تَأَدُّبًا مَعَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ. وَزَادَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْهَرْ بِالْبَسْمَلَةِ.
وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لِلسُّنَّةِ مَا يُرَجِّحُ تَرْكَهَا عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ كَرَغْمِ أَنْفِ حَاسِدٍ، وَتَعْلِيمِ جَاهِلٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ لَهُ حُسَّادٌ كَثِيرُونَ، وَالْبَيَانُ بِالْفِعْلِ أَظْهَرُ مِنْهُ بِالْقَوْلِ، فَمَا فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الْقُنُوتِ وَالْجَهْرِ.
أَقُولُ: وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ ذَلِكَ الطَّاعِنَ الْأَحْمَقَ طَاعِنٌ فِي إمَامِ مَذْهَبِهِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْمِيزَانِ: سَمِعْت سَيِّدِي عَلِيًّا الْخَوَاصَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِرَارًا يَقُولُ: يَتَعَيَّنُ عَلَى أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ أَنْ يُعَظِّمُوا كُلَّ مَنْ مَدَحَهُ إمَامُهُمْ؛ لِأَنَّ إمَامَ الْمَذْهَبِ إذَا مَدَحَ عَالِمًا وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ أَتْبَاعِهِ أَنْ يَمْدَحُوهُ تَقْلِيدًا لِإِمَامِهِمْ، وَأَنْ يُنَزِّهُوهُ عَنْ الْقَوْلِ فِي دِينِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ. وَقَالَ أَيْضًا لَوْ أَنْصَفَ الْمُقَلِّدُونَ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لَمْ يُضَعِّفْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَوْلًا مِنْ أَقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بَعْدَ أَنْ سَمِعُوا مَدْحَ أَئِمَّتِهِمْ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ التَّنْوِيهِ بِرِفْعَةِ مَقَامِهِ إلَّا كَوْنَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَرَكَ الْقُنُوتَ فِي الصُّبْحِ لَمَّا صَلَّى عِنْدَ قَبْرِهِ لَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ فِي لُزُومِ أَدَبِ مُقَلِّدِيهِ مَعَهُ. اهـ.
(قَوْلُهُ: وَصَنَّفَ غَيْرُهُ) كَالْإِمَامِ الطَّحَاوِيِّ وَالْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ وَالْكَرْدَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ قَدَّمْنَاهُمْ
(قَوْلُهُ: مِنْ أَعْظَمِ مُعْجِزَاتِ إلَخْ) لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم -
بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَحَسْبُك مِنْ مَنَاقِبِهِ اشْتِهَارُ مَذْهَبِهِ مَا قَالَ قَوْلًا إلَّا أَخَذَ بِهِ إمَامٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْحُكْمَ لِأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ زَمَنِهِ إلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ، إلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ عِيسَى عليه السلام،
ــ
[رد المحتار]
قَدْ أَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، فَإِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَيْهِ بِلَا شَكٍّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الشَّامِيِّ صَاحِبِ السِّيرَةِ وَشَيْخِهِ السُّيُوطِيّ، كَمَا حُمِلَ حَدِيثُ «لَا تَسُبُّوا قُرَيْشًا فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلَأُ الْأَرْضَ عِلْمًا» عَلَى الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، لَكِنْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَهُوَ حَقِيقٌ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، وَكَمَا حُمِلَ حَدِيثُ «يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَلَا يَجِدُونَ أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ» عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ، لَكِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ الْمُنْفَرِدِينَ فِي زَمَنِهِمْ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّهَا لَيْسَ لَهَا مَحْمَلٌ إلَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ كَمَا أَفَادَهُ ط.
وَأَمَّا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ حَيْثُ الصُّحْبَةُ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ وَنَشْرِ الدِّينِ وَتَدْوِينِ أَحْكَامِهِ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ يُوجَدُ فِي الْمَفْضُولِ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَدِّي فِي تَعْرِيفِ الْمُعْجِزَةِ هُوَ دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ طَلَبُ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُقَابَلَةِ، وَعَلَيْهِ فَذَلِكَ كَرَامَةٌ لَا مُعْجِزَةٌ، فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: بَعْدَ الْقُرْآنِ) مُتَعَلِّقٌ بِأَعْظَمَ، أَيْ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ دَائِمَةُ الْإِعْجَازِ وَقَيَّدَ بِذَلِكَ وَإِنْ عَبَّرَ بِمِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مُسَاوَاةُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ لِتِلْكَ، فَإِنَّ الْمُشَارَكَةَ فِي الْأَعْظَمِيَّةِ تَصْدُقُ بِالْمُسَاوَاةِ، فَتَدَبَّرْ.
(قَوْلُهُ: اشْتِهَارُ مَذْهَبِهِ) أَيْ فِي عَامَّةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، بَلْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَقَالِيمِ وَالْبِلَادِ لَا يُعْرَفُ إلَّا مَذْهَبُهُ، كَبِلَادِ الرُّومِ وَالْهِنْدِ وَالسِّنْدِ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَسَمَرْقَنْدَ.
وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ فِيهَا تُرْبَةَ الْمُحَمَّدِينَ، دُفِنَ فِيهَا نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ نَفْسٍ كُلٌّ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ، صَنَّفَ وَأَفْتَى وَأَخَذَ عَنْهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ. وَلَمَّا مَاتَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مَنَعُوا دَفْنَهُ بِهَا فَدُفِنَ بِقُرْبِهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ نَقَلَ مَذْهَبَهُ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ نَفَرٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ أَصْحَابٌ وَهَلُمَّ جَرَّا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَظْهَرْ لِأَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ مِثْلُ مَا ظَهَرَ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْأَصْحَابِ وَالتَّلَامِيذِ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ الْعُلَمَاءُ وَجَمِيعُ النَّاسِ بِمِثْلِ مَا انْتَفَعُوا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ، فِي تَفْسِيرِ الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَبِهَةِ، وَالْمَسَائِلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، وَالنَّوَازِلِ وَالْقَضَايَا وَالْأَحْكَامِ، جَزَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى الْخَيْرَ التَّامَّ. وَقَدْ ذَكَرَ مِنْهُمْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُحَدِّثِينَ فِي تَرْجَمَتِهِ ثَمَانَمِائَةٍ مَعَ ضَبْطِ أَسْمَائِهِمْ وَنَسَبِهِمْ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ. اهـ.
(قَوْلُهُ: قَوْلًا) أَيْ سَوَاءٌ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَوْ رَجَعَ عَنْهُ ط.
(قَوْلُهُ: إلَّا أَخَذَ بِهِ إمَامٌ) أَيْ مِنْ أَصْحَابِهِ تَبَعًا لَهُ، فَإِنَّ أَقْوَالَهُمْ مَرْوِيَّةٌ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُوَافَقَةً فِي اجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا أَفَادَهُ ط.
(قَوْلُهُ: مِنْ زَمَنِهِ إلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ) فَالدَّوْلَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُمْ مَذْهَبَ جَدِّهِمْ، فَأَكْثَرُ قُضَاتِهَا وَمَشَايِخِ إسْلَامِهَا حَنَفِيَّةٌ، يَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَنْ تَصَفَّحَ كُتُبَ التَّوَارِيخِ وَكَانَ مُدَّةُ مُلْكِهِمْ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ تَقْرِيبًا.
وَأَمَّا الْمُلُوكُ السَّلْجُوقِيُّونَ وَبَعْدَهُمْ الْخَوَارِزْمِيُّونَ فَكُلُّهُمْ حَنَفِيُّونَ وَقُضَاةُ مَمَالِكِهِمْ غَالِبُهَا حَنَفِيَّةٌ. وَأَمَّا مُلُوكُ زَمَانِنَا سَلَاطِينُ آلِ عُثْمَانَ، أَيَّدَ اللَّهُ تَعَالَى دَوْلَتَهُمْ مَا كَرَّ الْجَدِيدَانِ فَمِنْ تَارِيخِ تِسْعِمِائَةٍ إلَى يَوْمِنَا هَذَا لَا يُوَلُّونَ الْقَضَاءَ وَسَائِرَ مَنَاصِبِهِمْ إلَّا لِلْحَنَفِيَّةِ قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الشَّارِحِ ادِّعَاءُ التَّخْصِيصِ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ، حَتَّى يَرِدَ أَنَّ الْقَضَاءَ بِمِصْرَ كَانَ مُخْتَصًّا بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ إلَى زَمَنِ الظَّاهِرِ بِيبَرْسَ البندقداري فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: إلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ عِيسَى عليه السلام) تَبِعَ فِيهِ الْقُهُسْتَانِيَّ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ أَهْلُ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ اُخْتُصَّ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ الْعِظَامِ، كَيْفَ لَا وَهُوَ كَالصِّدِّيقِ رضي الله عنه، لَهُ أَجْرُهُ وَأَجْرُ
ــ
[رد المحتار]
الْكَشْفِ أَنَّ مَذْهَبَهُ آخِرُ الْمَذَاهِبِ انْقِطَاعًا فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّعْرَانِيُّ فِي الْمِيزَانِ مَا نَصُّهُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا مَنَّ عَلَيَّ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى عَيْنِ الشَّرِيعَةِ رَأَيْت الْمَذَاهِبَ كُلَّهَا مُتَّصِلَةً بِهَا، وَرَأَيْت مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ تَجْرِي جَدَاوِلُهَا كُلُّهَا، وَرَأَيْت جَمِيعَ الْمَذَاهِبِ الَّتِي انْدَرَسَتْ قَدْ اسْتَحَالَتْ حِجَارَةً، وَرَأَيْت أَطْوَلَ الْأَئِمَّةِ جَدْوَلًا الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ وَيَلِيهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ، وَيَلِيهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَيَلِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَقْصَرُهُمْ جَدْوَلًا الْإِمَامُ دَاوُد، وَقَدْ انْقَرَضَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ، فَأَوَّلْت ذَلِكَ بِطُولِ زَمَنِ الْعَمَلِ بِمَذَاهِبِهِمْ وَقِصَرِهِ فَكَمَا كَانَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلَ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ آخِرَهَا انْقِرَاضًا، وَبِذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْكَشْفِ اهـ لَكِنْ لَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحْكُمُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ مَوْجُودِينَ فِي زَمَنِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ فِي رِسَالَةٍ سَمَّاهَا الْإِعْلَامَ مَا حَاصِلُهُ: إنَّ مَا يُقَالُ إنَّهُ يَحْكُمُ بِمَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِنَبِيٍّ أَنَّهُ يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا مَعَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مِنْ آحَادِ هَذِهِ الْأَئِمَّةِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِالِاجْتِهَادِ، أَوْ بِمَا كَانَ يَعْلَمُهُ قَبْلُ مِنْ شَرِيعَتِنَا بِالْوَحْيِ، أَوْ بِمَا تَعَلَّمَهُ مِنْهَا وَهُوَ فِي السَّمَاءِ، أَوْ أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي الْقُرْآنِ فَيَفْهَمُ مِنْهُ كَمَا كَانَ يَفْهَمُ نَبِيُّنَا عليه الصلاة والسلام اهـ وَاقْتَصَرَ السُّبْكِيُّ عَلَى الْأَخِيرِ.
وَذَكَرَ مُنْلَا عَلِيِّ الْقَارِي أَنَّ الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيَّ سُئِلَ هَلْ يَنْزِلُ عِيسَى عليه السلام حَافِظًا لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَوْ يَتَلَقَّاهُمَا عَنْ عُلَمَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ؟ فَأَجَابَ: لَمْ يُنْقَلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ صَرِيحٌ، وَاَلَّذِي يَلِيقُ بِمَقَامِهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ يَتَلَقَّى ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَحْكُمُ فِي أُمَّتِهِ كَمَا تَلَقَّاهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ خَلِيفَةٌ عَنْهُ. اهـ. وَمَا يُقَالُ إنَّ الْإِمَامَ الْمَهْدِيَّ يُقَلِّدُ أَبَا حَنِيفَةَ، رَدَّهُ مُنْلَا عَلَى الْقَارِي فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْرَبُ الْوَرْدِيُّ فِي مَذْهَبِ الْمَهْدِيِّ وَقَرَّرَ فِيهَا أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ مُطْلَقٌ، وَرَدَّ فِيهَا مَا وَضَعَهُ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ مِنْ قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ. حَاصِلُهَا: أَنَّ الْخَضِرَ عليه السلام تَعَلَّمَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، ثُمَّ عَلَّمَهَا لِلْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ، وَأَنَّ الْقُشَيْرِيِّ صَنَّفَ فِيهَا كُتُبًا وَضَعَهَا فِي صُنْدُوقٍ، وَأَمَرَ بَعْضَ مُرِيدِيهِ بِإِلْقَائِهِ فِي جَيْحُونَ، وَأَنَّ عِيسَى عليه السلام بَعْدَ نُزُولِهِ يُخْرِجُهُ مِنْ جَيْحُونَ وَيَحْكُمُ بِمَا فِيهِ، وَهَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا تَجُوزُ حِكَايَتُهُ إلَّا لِرَدِّهِ كَمَا أَوْضَحَهُ ط وَأَطَالَ فِي رَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ فَرَاجِعْهُ.
(قَوْلُهُ: وَهَذَا) أَيْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَمِنْ كَثْرَةِ الْمَنَاقِبِ، وَمِنْ كَوْنِ الْحُكْمِ لِأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ ط.
(قَوْلُهُ: سَائِرِ) بِمَعْنَى بَاقِي أَوْ جَمِيعِ عَلَى خِلَافٍ بَسَطَهُ فِي دُرَّةِ الْغَوَّاصِ.
(قَوْلُهُ: كَيْفَ لَا) أَيْ كَيْفَ لَا يَخْتَصُّ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ.
(قَوْلُهُ: وَهُوَ كَالصِّدِّيقِ) وَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ابْتَدَأَ أَمْرًا لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ فَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه ابْتَدَأَ جَمْعَ الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَشُورَةِ عُمَرَ وَأَبُو حَنِيفَةَ ابْتَدَأَ تَدْوِينَ الْفِقْهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، أَوْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنْ الرِّجَالِ وَفَتَحَ بَابَ التَّصْدِيقِ كَذَا فِي حَوَاشِي الْأَشْبَاهِ. قَالَ شَيْخُنَا الْبَعْلِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَيْهَا: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ بِهِ أَتَمُّ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ الثَّانِي، هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بَعْدَمَا جُمِعَ لَا يُتَصَوَّرُ جَمْعُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَإِنَّهُ قَدْ جُمِعَ ثَانِيًا وَالْجَامِعُ لَهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِنَّ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يَجْمَعْهُ فِي الْمَصَاحِفِ وَجَمَعَهُ عُثْمَانُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ اهـ تَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: لَهُ) أَيْ لِلْإِمَامِ أَجْرُهُ: أَيْ أَجْرُ عَمَلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ تَدْوِينُ الْفِقْهِ وَاسْتِخْرَاجُ فُرُوعِهِ ط.
(قَوْلُهُ: وَأَجْرُ) أَيْ وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ دَوَّنَ الْفِقْهَ: أَيْ جَمَعَهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ التَّدْوِينِ: أَيْ جَعَلَهُ فِي الدِّيوَانِ، وَهُوَ بِكَسْرٍ وَفَتْحٍ اسْمٌ لِمَا يُكْتَبُ فِيهِ أَسْمَاءُ الْجَيْشِ لِلْعَطَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ عُمَرُ رضي الله عنه، ثُمَّ أُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ الْكُتُبِ مَجَازًا أَوْ مَنْقُولًا اصْطِلَاحِيًّا، وَقَوْلُهُ وَأَلَّفَهُ عَطْفٌ عَلَى دَوَّنَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. اهـ. بَعْلِيٌّ: أَيْ لِأَنَّ التَّأْلِيفَ جَمْعٌ عَلَى وَجْهِ الْأُلْفَةِ.
مَنْ دَوَّنَ الْفِقْهَ وَأَلَّفَهُ وَفَرَّعَ أَحْكَامَهُ عَلَى أُصُولِهِ الْعِظَامِ، إلَى يَوْمِ الْحَشْرِ وَالْقِيَامِ. وَقَدْ اتَّبَعَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الْكِرَامِ، مِمَّنْ اتَّصَفَ بِثَبَاتِ الْمُجَاهَدَةِ، وَرَكَضَ فِي مَيْدَانِ الْمُشَاهَدَةِ كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَشَقِيقٍ الْبَلْخِيّ وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ وَأَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ وَفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَدَاوُد الطَّائِيِّ،
ــ
[رد المحتار]
تَنْبِيهٌ]
وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ " لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ. الْحَدِيثَ " قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ ابْتَدَعَ شَيْئًا مِنْ الشَّرِّ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ فَعَمِلَ مِثْلَ عَمَلِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ مَنْ ابْتَدَعَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ كُلِّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتَمَامُهُ فِي آخِرِ عُمْدَةِ الْمُرِيدِ لِلَّقَانِيِّ.
(قَوْلُهُ: إلَى يَوْمِ الْحَشْرِ) تَنَازَعَ فِيهِ كُلُّ مَنْ دَوَّنَ وَأَلَّفَ وَفَرَّعَ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ اتَّبَعَهُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ كَالصِّدِّيقِ: أَيْ كَيْفَ لَا يَخْتَصُّ وَقَدْ اتَّبَعَهُ إلَخْ وَالْإِتْبَاعُ تَقْلِيدُهُ فِيمَا قَالَهُ ط.
(قَوْلُهُ: مِنْ الْأَوْلِيَاءِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ صِفَةٌ لِكَثِيرٍ لِلْبَيَانِ، وَالْوَلِيُّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، وَهُوَ مَنْ تَوَالَتْ طَاعَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا عِصْيَانٌ، وَبِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَهُوَ مَنْ يَتَوَالَى عَلَيْهِ إحْسَانُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِفْضَالُهُ تَعْرِيفَاتُ السَّيِّدِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْوَصْفَيْنِ حَتَّى يَكُونَ وَلِيًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ كَوْنُهُ مَحْفُوظًا كَمَا يُشْتَرَطُ فِي النَّبِيِّ كَوْنُهُ مَعْصُومًا كَمَا فِي رِسَالَةِ الْإِمَامِ الْقُشَيْرِيِّ.
(قَوْلُهُ: مِمَّنْ اتَّصَفَ) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ حَالٌ.
(قَوْلُهُ: بِثَبَاتِ الْمُجَاهَدَةِ) مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى مَوْصُوفِهَا: أَيْ الْمُجَاهَدَةِ الثَّابِتَةِ أَيْ الدَّائِمَةِ. وَالْمُجَاهَدَةُ لُغَةً: الْمُحَارَبَةُ. وَفِي الشَّرْعِ: مُحَارَبَةُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ بِتَحَمُّلِهَا مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الشَّرْعِ تَعْرِيفَاتٌ، وَقَدْ وَرَدَ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ الْأَكْبَرِ كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ جَابِرٍ، وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزَاةٍ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام «قَدِمْتُمْ خَيْرَ مَقْدَمٍ وَقَدِمْتُمْ مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، قَالُوا: وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ؟ قَالَ: مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ هَوَاهُ» . اهـ.
(قَوْلُهُ: الْمُشَاهَدَةِ) أَيْ مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ تَعَالَى بِآثَارِهِ.
(قَوْلُهُ: كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ) بْنِ مَنْصُورٍ الْبَلْخِيّ. كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، خَرَجَ مُتَصَيِّدًا فَهَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ: أَلِهَذَا خُلِقْت؟ فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَأَخَذَ جُبَّةَ رَاعٍ وَسَارَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ ثُمَّ أَتَى الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا كَذَا فِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ.
(قَوْلُهُ: وَشَقِيقٍ الْبَلْخِيّ) بْنِ إبْرَاهِيمَ الزَّاهِدِ الْعَابِدِ الْمَشْهُورِ. صَحِبَ أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ الصَّلَاةِ، ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَهُوَ أُسْتَاذُ حَاتِمٍ الْأَصَمِّ، وَصَحِبَ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ، مَاتَ شَهِيدًا سَنَةَ (194) تَمِيمِيٌّ.
(قَوْلُهُ: وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ) بْنِ فَيْرُوزَ، مِنْ الْمَشَايِخِ الْكِبَارِ، مُجَابِ الدَّعْوَةِ، يُسْتَسْقَى بِقَبْرِهِ وَهُوَ أُسْتَاذُ السِّرِّيِّ السَّقَطِيِّ مَاتَ سَنَةَ (200) .
(قَوْلُهُ: وَأَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ) شَيْخُ الْمَشَايِخِ، وَذُو الْقَدَمِ الرَّاسِخِ، وَاسْمُهُ طَيْفُورُ بْنُ عِيسَى. كَانَ جَدُّهُ مَجُوسِيًّا وَأَسْلَمَ، مَاتَ سَنَةَ (161) .
(قَوْلُهُ: وَفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ) الْخُرَاسَانِيِّ. رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَأَنَّهُ عَشِقَ جَارِيَةً وَارْتَقَى جِدَارًا لَهَا، فَسَمِعَ تَالِيًا يَتْلُو - {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16] فَتَابَ وَرَجَعَ، فَوَرَدَ مَكَّةَ وَجَاوَرَ بِهَا الْحَرَمَ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ (187) رِسَالَةُ الْقُشَيْرِيِّ. وَذَكَرَ الصَّيْمَرِيُّ أَنَّهُ أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرَوَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ، فَأَخَذَ عَنْ إمَامٍ عَظِيمٍ، وَأَخَذَ عَنْهُ إمَامٌ عَظِيمٌ. وَرَوَى لَهُ إمَامَانِ عَظِيمَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَتَرْجَمَهُ التَّمِيمِيُّ وَغَيْرُهُ بِتَرْجَمَةٍ حَافِلَةٍ.
(قَوْلُهُ: وَدَاوُد الطَّائِيِّ) هُوَ ابْنُ نَصْرِ بْنِ نُصَيْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْكُوفِيِّ الطَّائِيِّ، الْعَالِمُ الْعَامِلُ، الزَّاهِدُ الْعَابِدُ، أَحَدُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ، كَانَ مِمَّنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَدَرَسَ الْفِقْهَ وَغَيْرَهُ، ثُمَّ اخْتَارَ الْعُزْلَةَ وَلَزِمَ الْعِبَادَةَ. قَالَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ: لَوْ كَانَ دَاوُد فِي الْأُمَمِ
وَأَبِي حَامِدٍ اللَّفَّافِ وَخَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُحْصَى لِبُعْدِهِ أَنْ يُسْتَقْصَى، فَلَوْ وَجَدُوا فِيهِ شُبْهَةً مَا اتَّبَعُوهُ، وَلَا اقْتَدَوْا بِهِ وَلَا وَافَقُوهُ.
ــ
[رد المحتار]
الْمَاضِيَةِ لَقَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِ، قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: مَاتَ سَنَةَ (160) .
(قَوْلُهُ: وَأَبِي حَامِدٍ اللَّفَّافِ) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ خِضْرَوَيْهِ الْبَلْخِيّ، مِنْ كِبَارِ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ، مَاتَ سَنَةَ (240) رِسَالَةٌ.
(قَوْلُهُ: وَخَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ) مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، وَأَخَذَ الزُّهْدَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَصَحِبَهُ مُدَّةً: وَاخْتُلِفَ فِي وَفَاتِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ سَنَةَ (215) كَمَا ذَكَرَهُ التَّمِيمِيُّ: وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: صَارَ الْعِلْمُ مِنْ اللَّهِ إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَارَ إلَى الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، ثُمَّ صَارَ إلَى التَّابِعِينَ، ثُمَّ صَارَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَرْضَ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَسْخَطْ.
(قَوْلُهُ: وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ) الزَّاهِدُ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ، جَمَعَ الْفِقْهَ وَالْأَدَبَ وَالنَّحْوَ وَاللُّغَةَ وَالْفَصَاحَةَ وَالْوَرَعَ وَالْعِبَادَةَ، وَصَنَّفَ الْكُتُبَ الْكَثِيرَةَ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: هُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ وَالزُّهْدِ، وَأَحَدُ شُيُوخِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَخَذَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَدَحَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَشَهِدَ لَهُ الْأَئِمَّةُ، مَاتَ سَنَةَ (181) وَتَرْجَمَهُ التَّمِيمِيُّ بِتَرْجَمَةٍ حَافِلَةٍ، وَذَكَرَ مِنْ مَحَاسِنِ أَخْبَارِهِ مَا يَأْخُذُ بِمَجَامِعِ الْعَقْلِ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي فُرُوعِ الْمُذْهَبِ ذُكِرَتْ فِي الْمُطَوَّلَاتِ.
(قَوْلُهُ: وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ) بْنِ مَلِيحِ بْنِ عَدِيٍّ الْكُوفِيِّ، شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَأَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ: كَانَ وَكِيعٌ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَيَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: مَا رَأَيْت أَفْضَلَ مِنْهُ قِيلَ لَهُ: وَلَا ابْنَ الْمُبَارَكِ؟ قَالَ: كَانَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ فَضْلٌ، وَلَكِنْ مَا رَأَيْت أَفْضَلَ مِنْ وَكِيعٍ، كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَيُفْتِي بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا. قَالَ: وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ يُفْتِي بِقَوْلِهِ أَيْضًا، مَاتَ سَنَةَ (198) ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ تَمِيمِيٌّ.
(قَوْلُهُ: وَأَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقِ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو التِّرْمِذِيُّ. أَقَامَ بِبَلْخٍ، وَصَحِبَ أَحْمَدَ بْنَ خِضْرَوَيْهِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي الرِّيَاضَاتِ، رِسَالَةٌ. وَفِي طَبَقَاتِ التَّمِيمِيِّ: أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي جُمْلَةِ أَصْحَابِنَا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْكَرْخِيَّ، فَقَالَ: وَلَهُ مِنْ الْكُتُبِ شَرْحُ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ، وَذَكَرَ فِي الْقُنْيَةِ أَنَّهُ خَرَجَ حَاجًّا فَلَمَّا سَارَ مَرْحَلَةً قَالَ لِأَصْحَابِهِ رُدُّونِي، ارْتَكَبْت سَبْعَمِائَةِ كَبِيرَةٍ فِي مَرْحَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَرَدُّوهُ.
اهـ. (قَوْلُهُ: وَغَيْرِهِمْ) كَالْإِمَامِ الْعَارِفِ الْمَشْهُورِ بِالزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَالتَّقَشُّفِ وَالتَّقَلُّلِ حَاتِمٍ الْأَصَمِّ، أَحَدِ أَتْبَاعِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، لَهُ كَلَامٌ مُدَوَّنٌ فِي الزُّهْدِ وَالْحِكَمِ: سَأَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: أَخْبِرْنِي يَا حَاتِمُ فِيمَ التَّخَلُّصُ مِنْ النَّاسِ؟ فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ فِي ثَلَاثِ خِصَالٍ: أَنْ تُعْطِيَهُمْ مَالَك وَلَا تَأْخُذَ مِنْ مَالِهِمْ شَيْئًا، وَتَقْضِيَ حُقُوقَهُمْ وَلَا تَسْتَقْضِيَ أَحَدًا مِنْهُمْ حَقًّا لَك، وَتَحْتَمِلَ مَكْرُوهَهُمْ وَلَا تُكْرِهَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ، فَأَطْرَقَ أَحْمَدُ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: يَا حَاتِمُ إنَّهَا لَشَدِيدَةٌ، فَقَالَ لَهُ حَاتِمُ: وَلَيْتَك تَسْلَمُ.
وَمِنْهُمْ خَتْمُ دَائِرَةِ الْوِلَايَةِ قُطْبُ الْوُجُودِ سَيِّدِي مُحَمَّدٌ الشَّاذِلِيُّ الْبَكْرِيُّ الشَّهِيرُ بِالْحَنَفِيِّ، الْفَقِيهُ الْوَاعِظُ أَحَدُ مَنْ صَرَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَوْنِ، وَمَكَّنَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ، وَنَطَقَ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَخَرَقَ لَهُ الْعَوَائِدَ، وَقَلَبَ لَهُ الْأَعْيَانَ، وَتَرْجَمَهُ بَعْضُهُمْ فِي مُجَلَّدَيْنِ، فَقَالَ الْعَارِفُ الشَّعْرَانِيُّ: إنَّهُ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِمَقَامِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ بَعْضَ أُمُورٍ عَلَى طَرِيقِ أَرْبَابِ التَّوَارِيخِ تُوُفِّيَ سَنَةَ (847) .
(قَوْلُهُ: لِبُعْدِهِ) عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ لَا يُحْصَى، وَحُذِفَ مِنْ قَبْلُ قَوْلُهُ أَنْ يَسْتَقْصِيَ لِأَمْنِ اللَّبْسِ، وَهُوَ شَائِعٌ مُطَّرِدٌ: أَيْ لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهُ لِتَبَاعُدِهِ مِنْ طَلَبِ اسْتِقْصَائِهِ: أَيْ غَايَتِهِ وَمُنْتَهَاهُ وَالتَّعْبِيرُ
وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ مَعَ صَلَابَتِهِ فِي مَذْهَبِهِ وَتَقَدُّمِهِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: سَمِعْت الْأُسْتَاذَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ يَقُولُ: أَنَا أَخَذْت هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ النَّصْرَابَاذِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: أَنَا أَخَذْتهَا مِنْ الشِّبْلِيِّ، وَهُوَ أَخَذَهَا مِنْ السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ، وَهُوَ مِنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، وَهُوَ مِنْ دَاوُد الطَّائِيِّ. وَهُوَ أَخَذَ الْعِلْمَ وَالطَّرِيقَةَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ أَثْنَى عَلَيْهِ وَأَقَرَّ بِفَضْلِهِ. فَعَجَبًا لَك يَا أَخِي: أَلَمْ يَكُنْ لَك أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي هَؤُلَاءِ السَّادَاتِ الْكِبَارِ؟ أَكَانُوا مُتَّهَمِينَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ وَالِافْتِخَارِ، وَهُمْ أَئِمَّةُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَأَرْبَابُ الشَّرِيعَةِ وَالْحَقِيقَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ
ــ
[رد المحتار]
بِقَوْلِهِ لَا يُحْصَى أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِنَا لَا يُعَدُّ؛ لِأَنَّ الْعَدَّ أَنْ تَعُدَّ فَرْدًا فَرْدًا، وَالْإِحْصَاءُ يَكُونُ لِلْجُمَلِ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى - {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]- مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إنْ أَرَدْتُمْ عَدَّهَا فَلَا تَقْدِرُوا عَلَى إحْصَائِهَا، فَضْلًا عَنْ الْعَدِّ كَذَا أَفَادَهُ الْإِمَامُ النَّسَفِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى
(قَوْلُهُ: أَبُو الْقَاسِمِ) تِلْكَ كُنْيَتُهُ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ الْحَافِظُ الْمُفَسِّرُ الْفَقِيهُ، النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ الْأَدِيبُ الْكَاتِبُ الْقُشَيْرِيُّ، الشُّجَاعُ الْبَطَلُ، لَمْ يَرَ مِثْلَ نَفْسِهِ، وَلَا رَأَى الرَّاءُونَ مِثْلَهُ، وَأَنَّهُ الْجَامِعُ لِأَنْوَاعِ الْمَحَاسِنِ. وُلِدَ سَنَةَ (377) وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ. وَرَوَى عَنْهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، وَصَنَّفَ التَّصَانِيفَ الشَّهِيرَةَ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ (465) ط عَنْ الزَّرْقَانِيِّ عَلَى الْمَوَاهِبِ. (قَوْلُهُ: فِي رِسَالَتِهِ) أَيْ الَّتِي كَتَبَهَا إلَى جَمَاعَةِ الصُّوفِيَّةِ بِبُلْدَانِ الْإِسْلَامِ سَنَةَ (437) هـ، ذَكَرَ فِيهَا مَشَايِخَ الطَّرِيقَةِ وَفَسَّرَ أَلْفَاظًا تَدُورُ بَيْنَهُمْ بِعِبَارَاتٍ أَنِيقَةٍ. (قَوْلُهُ: مَعَ صَلَابَتِهِ) أَيْ قُوَّتِهِ وَتَمَكُّنِهِ ط. (قَوْلُهُ: فِي مَذْهَبِهِ) وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أَوْ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ ط.
(قَوْلُهُ: سَمِعْت إلَخْ) مَقُولُ الْقَوْلِ وَأَبُو عَلِيٍّ هُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ. وَأَبُو الْقَاسِمِ: هُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَاذِيُّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ شَيْخُ خُرَاسَانَ، جَاوَرَ بِمَكَّةَ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ (357) . وَالشِّبْلِيُّ هُوَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ دُلَفَ الشِّبْلِيُّ الْبَغْدَادِيُّ الْمَالِكِيُّ الْمَذْهَبِ، صَحِبَ الْجُنَيْدَ، مَاتَ سَنَةَ (334) وَالسِّرِّيُّ هُوَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مُغَلِّسٍ السَّقَطِيُّ خَالُ الْجُنَيْدِ وَأُسْتَاذُهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ (257) .
(قَوْلُهُ: مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ) هُوَ فَارِسُ هَذَا الْمَيْدَانِ، فَإِنَّ مَبْنَى عِلْمِ الْحَقِيقَةِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَتَصْفِيَةِ النَّفْسِ، وَقَدْ وَصَفَهُ بِذَلِكَ عَامَّةُ السَّلَفِ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي حَقِّهِ إنَّهُ كَانَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ وَالزُّهْدِ وَإِيثَارِ الْآخِرَةِ بِمَحَلٍّ لَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ ضُرِبَ بِالسِّيَاطِ لِيَلِيَ الْقَضَاءَ فَلَمْ يَفْعَلْ:
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: لَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ مِنْ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إمَامًا تَقِيًّا نَقِيًّا وَرِعًا عَالِمًا فَقِيهًا، كَشَفَ الْعِلْمَ كَشْفًا لَمْ يَكْشِفْهُ أَحَدٌ بِبَصَرٍ وَفَهْمٍ وَفِطْنَةٍ وَتُقًى:
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لِمَنْ قَالَ لَهُ جِئْت مِنْ عِنْدِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَقَدْ جِئْت مِنْ عِنْدِ أَعْبَدْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْأَثْبَاتِ.
(قَوْلُهُ: فَعَجَبًا) هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ: أَيْ فَأَعْجَبُ مِنْك عَجَبًا وَهَذَا الْخِطَابُ لِمَنْ أَنْكَرَ فَضْلَهُ أَوْ خَالَفَ قَوْلَهُ ط.
(قَوْلُهُ: أَلَمْ يَكُنْ) اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ بِمَا بَعْدَ النَّفْيِ، أَوْ هُوَ إنْكَارِيٌّ بِمَعْنَى النَّفْيِ كَاَلَّذِي بَعْدَهُ.
(قَوْلُهُ: أُسْوَةٌ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا: أَيْ قُدْوَةٌ.
(قَوْلُهُ: فِي هَؤُلَاءِ) مُتَعَلِّقٌ بِأُسْوَةٍ، وَفِي بِمَعْنَى الْبَاءِ أَوْ لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى - {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]-.
(قَوْلُهُ: وَهُمْ أَئِمَّةُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إلَخْ) فِي رِسَالَةِ الْفُتُوحَاتِ لِلْقَاضِي زَكَرِيَّا: الطَّرِيقَةُ سُلُوكُ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ، وَالشَّرِيعَةُ: أَعْمَالٌ شَرْعِيَّةٌ مَحْدُودَةٌ، وَهُمَا وَالْحَقِيقَةُ ثَلَاثَةٌ مُتَلَازِمَةٌ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إلَيْهِ تَعَالَى ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ فَظَاهِرُهَا الطَّرِيقَةُ وَالشَّرِيعَةُ، وَبَاطِنُهَا الْحَقِيقَةُ فَبُطُونُ الْحَقِيقَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالطَّرِيقَةِ كَبُطُونِ الزُّبْدِ فِي لَبَنِهِ، لَا يُظْفَرُ بِزُبْدِهِ بِدُونِ مَخْضِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الثَّلَاثَةِ إقَامَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُرَادِ مِنْ الْعَبْدِ اهـ ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
(قَوْلُهُ: وَمَنْ بَعْدَهُمْ) أَيْ مَنْ أَتَى بَعْدَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي الزَّمَانِ سَالِكًا فِي هَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ وَالْحَقِيقَةِ فَهُوَ تَابِعٌ لَهُمْ؛ إذْ هُمْ الْأَئِمَّةُ فِيهِ فَيَكُونُ فَخْرُهُ بِاتِّصَالِ
فِي هَذَا الْأَمْرِ فَلَهُمْ تَبَعٌ، وَكُلُّ مَا خَالَفَ مَا اعْتَمَدُوهُ مَرْدُودٌ وَمُبْتَدَعٌ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَعِبَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَفَهْمِهِ بِمُشَارَكٍ وَمِمَّا قَالَ فِيهِ ابْنُ الْمُبَارَكِ رضي الله عنه:
لَقَدْ زَانَ الْبِلَادَ وَمَنْ عَلَيْهَا
…
إمَامُ الْمُسْلِمِينَ أَبُو حَنِيفَهْ
بِأَحْكَامٍ وَآثَارٍ وَفِقْهٍ
…
كَآيَاتِ الزَّبُورِ عَلَى صَحِيفَهْ
ــ
[رد المحتار]
سَنَدِهِ بِهَذَا الْإِمَامِ كَمَا كَانَ ذَلِكَ فَخْرُ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِذَلِكَ وَتَبِعُوهُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَشْرَبِهِ، وَاقْتَدَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِطَرِيقَتِهِ وَمَذْهَبِهِ.
(قَوْلُهُ: فَلَهُمْ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَبِعَ، وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ بِمَعْنَى تَابِعٌ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ مَنْ، وَدَخَلَتْ عَلَيْهَا الْفَاءُ لِأَنَّ مَنْ فِيهَا مَعْنَى الْعُمُومِ فَأَشْبَهَتْ الشَّرْطِيَّةَ.
(قَوْلُهُ: وَكُلُّ مَا) أَيْ كُلُّ رَأْيٍ.
(قَوْلُهُ: مَا اعْتَمَدُوهُ) مِنْ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالِافْتِخَارِ بِهِ مِنْ حَيْثُ أَخْذُ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ عَنْهُ.
(قَوْلُهُ: وَمُبْتَدَعٌ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ: أَيْ مُحْدَثٌ لَمْ يُسْبَقْ بِنَظِيرٍ.
(قَوْلُهُ: وَبِالْجُمْلَةِ) أَيْ وَأَقُولُ قَوْلًا مُلْتَبِسًا بِالْجُمْلَةِ: أَيْ جُمْلَةَ مَا يُقَالُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
(قَوْلُهُ: لَقَدْ زَانَ الْبِلَادَ إلَخْ) مِنْ الزَّيْنِ: وَهُوَ ضِدُّ الشَّيْنِ، يُقَالُ زَانَهُ وَأَزَانَهُ وَزَيَّنَهُ وَأَزْيَنَهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْبِلَادُ: جَمْعُ بَلَدٍ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْ الْأَرْضِ مُسْتَحِيزَةٌ عَامِرَةٌ أَوْ غَامِرَةٌ قَامُوسٌ وَمَنْ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَقَوْلُهُ بِأَحْكَامٍ مُتَعَلِّقٌ بِزَانَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَدْوِينَهَا وَتَعْلِيمَهَا لِلنَّاسِ سَبَبٌ لِلْعَمَلِ بِهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ الِانْقِيَادَ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَعَمَلِ الْحُكَّامِ بِهَا وَالرَّعِيَّةِ زَيْنٌ لِلْبِلَادِ وَالْعِبَادِ يَنْتَظِمُ بِهِ أَمْرُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَبِضِدِّهِ الْجَهْلُ وَالْفَسَادُ، فَإِنَّهُ شَيْنٌ وَدَمَارٌ لِلدِّيَارِ وَالْأَعْمَارِ.
(قَوْلُهُ: وَآثَارٍ) جَمْعُ أَثَرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْأَثَرُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ يَعُمُّ الْمَرْفُوعَ وَالْمَوْقُوفَ كَالْخَبَرِ، وَالْمُخْتَارُ إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَرْوِيِّ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ عَنْ الصَّحَابِيِّ أَوْ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم وَخَصَّهُ فُقَهَاءُ خُرَاسَانَ بِالْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابِيِّ وَالْخَبَرِ بِالْمَرْفُوعِ.
وَلَقَدْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إمَامًا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَخَذَ الْحَدِيثَ عَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ شَيْخٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُ فِي طَبَقَاتِ الْحُفَّاظِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ، وَمَنْ زَعَمَ قِلَّةَ اعْتِنَائِهِ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ إمَّا لِتَسَاهُلِهِ أَوْ حَسَدِهِ إذْ كَيْفَ يَتَأَتَّى مِمَّنْ هُوَ كَذَلِكَ اسْتِنْبَاطُ مِثْلِ مَا اسْتَنْبَطَهُ مِنْ الْمَسَائِلِ مَعَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ اسْتَنْبَطَ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ الْمَعْرُوفِ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ، وَلِأَجْلِ اشْتِغَالِهِ بِهَذَا الْأَهَمِّ لَمْ يَظْهَرْ حَدِيثُهُ فِي الْخَارِجِ، كَمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما لَمَّا اشْتَغَلَا بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُمَا مِنْ رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ مِثْلُ مَا ظَهَرَ عَنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَكَذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُمَا مِثْلُ مَا ظَهَرَ عَمَّنْ تَفَرَّغَ لِلرِّوَايَةِ كَأَبِي زُرْعَةَ وَابْنِ مَعِينٍ لِاشْتِغَالِهِمَا بِذَلِكَ الِاسْتِنْبَاطِ، عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الرِّوَايَةِ بِدُونِ دِرَايَةٍ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ مَدْحٍ بَلْ عَقَدَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَابًا فِي ذَمِّهِ ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاءُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ ذَمُّ الْإِكْثَارِ مِنْ الْحَدِيثِ بِدُونِ تَفَقُّهٍ وَلَا تَدَبُّرٍ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: أَقْلِلْ الرِّوَايَةَ تَتَفَقَّهْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لِيَكُنْ الَّذِي تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْأَثَرَ وَخُذْ مِنْ الرَّأْيِ مَا يُفَسِّرُ لَك الْحَدِيثَ.
وَمِنْ أَعْذَارِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُحَدِّثَ مِنْ الْحَدِيثِ إلَّا بِمَا يَحْفَظُهُ يَوْمَ سَمِعَهُ إلَى يَوْمِ يُحَدِّثُ بِهِ، فَهُوَ لَا يَرَى الرِّوَايَةَ إلَّا لِمَنْ حَفِظَ. وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ إسْرَائِيلَ بْنِ يُونُسَ أَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ النُّعْمَانُ، مَا كَانَ أَحْفَظَهُ لِكُلِّ حَدِيثٍ فِيهِ فِقْهٌ وَأَشَدُّ فَحْصِهِ عَنْهُ، وَأَعْلَمُهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ، وَتَمَامُهُ فِي الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ لِابْنِ حَجَرٍ.
(قَوْلُهُ: وَفِقْهٍ) الْمُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ التَّوْحِيدَ، فَإِنَّ الْفِقْهَ كَمَا عَرَّفَهُ الْإِمَامُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا ط.
(قَوْلُهُ: كَآيَاتِ الزَّبُورِ) التَّشْبِيهُ فِي الْإِيضَاحِ
فَمَا فِي الْمَشْرِقَيْنِ لَهُ نَظِيرٌ
…
وَلَا فِي الْمَغْرِبَيْنِ وَلَا بِكُوفَهْ
يَبِيتُ مُشَمِّرًا سَهِرَ اللَّيَالِيَ
…
وَصَامَ نَهَارَهُ لِلَّهِ خِيفَهْ
فَمَنْ كَأَبِي حَنِيفَةَ فِي عُلَاهُ
…
إمَامٌ لِلْخَلِيفَةِ وَالْخَلِيقَهْ
رَأَيْت الْعَائِبِينَ لَهُ سَفَاهًا
…
خِلَافَ الْحَقِّ مَعَ حِجَجٍ ضَعِيفَهْ
وَكَيْفَ يَحِلُّ أَنْ يُؤْذَى فَقِيهٌ
…
لَهُ فِي الْأَرْضِ آثَارٌ شَرِيفَهْ
ــ
[رد المحتار]
وَالْبَيَانِ لَا فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ الزَّبُورَ مَوَاعِظُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ فِي الزِّينَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ زَانَ مَا ذُكِرَ كَمَا زَيَّنَتْ النُّقُوشُ الطُّرُوسَ ط.
(قَوْلُهُ: فَمَا فِي الْمَشْرِقَيْنِ إلَخْ) الْمَشْرِقُ مَحَلُّ الشُّرُوقِ: أَيْ الطُّلُوعُ وَالْمَغْرِبُ مَحَلُّ الْغُرُوبِ وَثَنَّاهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَاحِدٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17]- عَلَى إرَادَةِ مَشْرِقَيْ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَمَغْرِبَيْهِمَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَقِيلَ مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَالْفَجْرِ وَمَغْرِبُ الشَّمْسِ وَالشَّفَقِ، أَوْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغْرِبَيْهِمَا، وَجُمِعَا فِي قَوْله تَعَالَى - {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40]- بِاعْتِبَارِ الْأَقْطَارِ أَوْ الْأَيَّامِ أَوْ الْمَنَازِلِ أَفَادَهُ ط.
(قَوْلُهُ: وَلَا بِكُوفَةَ) خَصَّهَا بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ وَمَا بَيْنَهُمَا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، لِأَنَّهَا بَلَدُهُ، أَوْ لِأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ يَوْمَئِذٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْكُوفَةُ الرَّمْلَةُ الْحَمْرَةُ الْمُسْتَدِيرَةُ أَوْ كُلُّ رَمْلَةٍ يُخَالِطُهَا حَصْبَاءُ وَمَدِينَةُ الْعِرَاقِ الْكُبْرَى، وَقُبَّةُ الْإِسْلَامِ، وَدَارُ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، مَصَّرَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَكَانَتْ مَنْزِلَ نُوحٍ وَبَنَى مَسْجِدَهَا، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاسْتِدَارَتِهَا وَاجْتِمَاعِ النَّاسِ بِهَا، وَيُقَالُ لَهَا كَوْفَانُ وَيُفْتَحُ وَكُوفَةُ الْجُنْدِ؛ لِأَنَّهَا اُخْتُطَّتْ فِيهَا خُطَطُ الْعَرَبِ أَيَّامَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَطَّطَهَا السَّائِبُ بْنُ الْأَقْرَعِ الثَّقَفِيُّ إلَخْ.
(قَوْلُهُ: يَبِيتُ مُشَمِّرًا إلَخْ) التَّشْمِيرُ: الْجِدُّ وَالتَّهَيُّؤُ قَامُوسٌ، وَسَهِرَ فِعْلٌ مَاضٍ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ عَلَى إضْمَارِ قَدْ مِثْلُهَا فِي قَوْله تَعَالَى - {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90]- أَوْ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَالْأُولَى أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ، وَصَامَ وَلِلَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِصَامَ وَخِيفَهْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَزَادَ فِي تَنْوِيرِ الصَّحِيفَةِ بَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ بَيْتَيْنِ وَهُمَا:
وَصَانَ لِسَانَهُ عَنْ كُلِّ إفْكٍ
…
وَمَا زَالَتْ جَوَارِحُهُ عَفِيفَهْ
يَعِفُّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالْمَلَاهِي
…
وَمَرْضَاةُ الْإِلَهِ لَهُ وَظِيفَهْ
وَنَنْقُلُ نُبْذَةً يَسِيرَةً شَاهِدَةً لِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ. قَالَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ: قَدْ تَوَاتَرَ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ وَتَهَجُّدُهُ وَتَعَبُّدُهُ، أَيْ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ يُسَمَّى الْوَتَدَ لِكَثْرَةِ قِيَامِهِ بِاللَّيْلِ، بَلْ أَحْيَاهُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي رَكْعَةٍ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ يُسْمَعُ بُكَاؤُهُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يَرْحَمَهُ جِيرَانُهُ.
وَوَقَعَ رَجُلٌ فِيهِ عِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: وَيْحَك، أَتَقَعُ فِي رَجُلٍ صَلَّى خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً الْخَمْسَ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ يَجْمَعُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ، وَنَظَّمْت مَا عِنْدِي مِنْ الْفِقْهِ مِنْهُ. وَلَمَّا غَسَّلَهُ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: رَحِمَك اللَّهُ، وَغَفَرَ لَك، لَمْ تُفْطِرْ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقَدْ أَتْعَبْت مَنْ بَعْدَك، وَفَضَحْت الْقُرَّاءَ.
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ: كَانَ هَيُّوبًا، لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا جَوَابًا، وَلَا يَخُوضُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَلَا يَسْتَمِعُ إلَيْهِ. وَقِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ، فَانْتَفَضَ وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: يَا أَخِي جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا، مَا أَحْوَجَ أَهْلَ كُلِّ وَقْتٍ إلَى مَنْ يُذَكِّرُهُمْ اللَّهَ تَعَالَى.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: كَانَ شَدِيدَ الْوَرَعِ، هَائِبًا لِلْحَرَامِ، تَارِكًا لِكَثِيرٍ مِنْ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الشُّبْهَةِ، مَا رَأَيْت فَقِيهًا أَشَدَّ مِنْهُ صِيَانَةً لِنَفْسِهِ.
(قَوْلُهُ: رَأَيْت) أَيْ عَلِمْت أَوْ أَبْصَرْت، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْعَائِبِينَ مَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ
وَقَدْ قَالَ ابْنُ إدْرِيسِ مَقَالًا
…
صَحِيحَ النَّقْلِ فِي حِكَمٍ لَطِيفَهْ
بِأَنَّ النَّاسَ فِي فِقْهٍ عِيَالٌ
…
عَلَى فِقْهِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَهْ
فَلَعْنَةُ رَبِّنَا أَعْدَادَ رَمْلٍ
…
عَلَى مَنْ رَدَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَهْ
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ثَابِتًا وَالِدَ الْإِمَامِ أَدْرَكَ الْإِمَامَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَدَعَا لَهُ وَلِذُرِّيَّتِهِ بِالْبَرَكَةِ
وَصَحَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ سَبْعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا بُسِطَ فِي أَوَاخِرِ مُنْيَةِ الْمُفْتِي،
ــ
[رد المحتار]
جَمْعُ عَائِبٍ أُعِلَّتْ عَيْنُهُ بِالْهَمْزَةِ كَقَائِلٍ وَبَائِعٍ فَافْهَمْ، وَسَفَاهًا مَفْعُولُهُ الثَّانِي: قَالَ فِي الْقَامُوسِ: سَفِهَ كَفَرِحَ وَكَرُمَ عَلَيْنَا: جَهِلَ كَتَسَافَهَ فَهُوَ سَفِيهٌ جَمْعُهُ سُفَهَاءُ وَسِفَاهٌ وَخِلَافُ الْحَقِّ صِفَةٌ: أَيْ مُخَالِفِينَ، أَوْ ذَوِي خِلَافٍ: وَالْحُجَجُ: جَمْعُ حُجَّةٍ بِالضَّمِّ، وَهِيَ الْبُرْهَانُ، سَمَّاهَا بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْعَائِبِينَ وَإِلَّا فَهِيَ شُبَهٌ وَأَوْهَامٌ فَاسِدَةٌ.
(قَوْلُهُ: ابْنُ إدْرِيسِ) بِالتَّنْوِينِ لِلضَّرُورَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِمَامُ الرَّئِيسُ، ذُو الْعِلْمِ النَّفِيسِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ، الشَّافِعِيُّ الْقُرَشِيُّ، - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَنَفَعَنَا بِهِ فِي الدَّارَيْنِ آمِينَ، وَمَقَالًا مَصْدَرٌ قَالَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، وَصَحِيحُ النَّقْلِ نَعْتٌ لَهُ، وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُضَافَةٌ إلَى فَاعِلِهَا: أَيْ صَحَّ نَقْلُهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي الْفِقْهِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، إنَّهُ مِمَّنْ لَهُ الْفِقْهُ، هَذِهِ رِوَايَةُ حَرْمَلَةَ عَنْهُ، وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ عَنْهُ: النَّاسُ عِيَالٌ فِي الْفِقْهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، مَا رَأَيْت أَيْ مَا عَلِمْت أَحَدًا أَفْقَهَ مِنْهُ. وَجَاءَ عَنْهُ أَيْضًا: مَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي كُتُبِهِ لَمْ يَتَبَحَّرْ فِي الْعِلْمِ وَلَا يَتَفَقَّهُ. اهـ.
(قَوْلُهُ: فِي حِكَمٍ) أَيْ فِي ضِمْنِ حِكَمٍ لَطِيفَةٍ لَمْ يُصَرِّحْ بِهَا مِنْهَا تَرْغِيبُ النَّاسِ فِي مَذْهَبِهِ، وَالرَّدُّ عَلَى الْعَائِبِينَ لَهُ، وَبَيَانُ اعْتِقَادِهِ فِي هَذَا الْإِمَامِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْفَضْلِ لِلْمُتَقَدِّمِ.
(قَوْلُهُ: بِأَنَّ النَّاسَ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَوْ لِلتَّعْدِيَةِ لِتَضَمُّنِ قَالَ مَعْنَى صَرَّحَ وَنَحْوَهُ مِمَّا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، وَفِي فِقْهٍ مُتَعَلِّقٌ بِعِيَالٍ، مِنْ عَالَهُ: إذَا تَكَفَّلَ لَهُ بِالنَّفَقَةِ وَنَحْوِهَا.
(قَوْلُهُ: عَلَى مَنْ رَدَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ) أَيْ عَلَى مَنْ رَدَّ مَا قَالَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُحْتَقِرًا لَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِلطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ، لَا بِمُجَرَّدِ الطَّعْنِ فِي الِاسْتِدْلَالِ؛ لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ لَمْ تَزَلْ يَرُدُّ بَعْضُهُمْ قَوْلَ بَعْضٍ، وَلَا بِمُجَرَّدِ الطَّعْنِ فِي الْإِمَامِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ غَايَتَهُ الْحُرْمَةُ فَلَا يُوجِبُ اللَّعْنَ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ لَعْنُ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَهُوَ كَلَعْنِ الْكَاذِبِينَ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْعُصَاةِ فَافْهَمْ. وَفِي هَذَا الْبَيْتِ مِنْ عُيُوبِ الشِّعْرِ الْإِيطَاءُ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي تَنْوِيرِ الصَّحِيفَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ ثَبَتَ إلَخْ) فَفِي تَارِيخِ ابْنِ خِلِّكَانَ عَنْ الْخَطِيبِ أَنَّ حَفِيدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ مِنْ الْأَحْرَارِ، وَاَللَّهِ مَا وَقَعَ عَلَيْنَا رِقٌّ قَطُّ: وُلِدَ جَدِّي أَبُو حَنِيفَةَ سَنَةَ ثَمَانِينَ، وَذَهَبَ ثَابِتٌ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ صَغِيرٌ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِيهِ وَفِي ذُرِّيَّتِهِ، وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ اسْتَجَابَ لِعَلِيٍّ فِينَا؟ وَالنُّعْمَانُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ أَبُو ثَابِتٍ هُوَ الَّذِي أَهْدَى لِعَلِيٍّ الْفَالُوذَجَ فِي يَوْمِ مِهْرَجَانٍ فَقَالَ عَلِيٌّ مَهْرِجُونَا كُلَّ يَوْمٍ هَكَذَا. اهـ. وَبِهِ ظَهَرَ أَنَّ مَا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ مِنْ قَوْلِهِ: وَذَهَبَ ثَابِتٌ بِجَدِّي إلَى عَلِيٍّ إلَخْ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ كَمَا فِي أَلْفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَةَ بِجَدِّي مِنْ زِيَادَةِ النُّسَّاخِ أَوْ الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَأَصْلُهُ جَدِّي.
(قَوْلُهُ: وَصَحَّ إلَخْ) قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمُحَدِّثِينَ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ كِتَابًا حَافِلًا مَا حَاصِلُهُ: إنَّ أَصْحَابَهُ الْأَكَابِرَ كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَنْقُلُوا عَنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لَنَقَلُوهُ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَتَنَافَسُ فِيهِ الْمُحَدِّثُونَ وَيَعْظُمُ افْتِخَارُهُمْ، وَبَانَ كُلُّ سَنَدٍ فِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ صَحَابِيٍّ لَا يَخْلُو مِنْ كَذَّابٍ، فَأَمَّا رُؤْيَتُهُ لِأَنَسٍ وَإِدْرَاكُهُ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالسِّنِّ فَصَحِيحَانِ لَا شَكَّ فِيهِمَا، وَمَا وَقَعَ لِلْعَيْنِيِّ أَنَّهُ أَثْبَتَ سَمَاعَهُ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَدَّهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ الشَّيْخُ الْحَافِظُ قَاسِمٌ الْحَنَفِيُّ.
وَأَدْرَكَ بِالسِّنِّ نَحْوَ عِشْرِينَ صَحَابِيًّا كَمَا بُسِطَ فِي أَوَائِلِ الضِّيَاءِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ أَبُو النَّصْرِ بْنُ عَرَبِ شَاهْ الْأَنْصَارِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي مَنْظُومَتِهِ الْأَلْفِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِجَوَاهِرِ الْعَقَائِدِ وَدُرَرِ الْقَلَائِدِ ثَمَانِيَةً مِنْ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُمْ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَبُو حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ:
مُعْتَقِدًا مَذْهَبْ عَظِيمِ الشَّانِ
…
أَبِي حَنِيفَةَ الْفَتَى النُّعْمَانِ
التَّابِعِيُّ سَابِقُ الْأَئِّمَهْ
…
بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ سِرَاجِ الْأُمَّهْ
جَمْعًا مِنْ أَصْحَاب النَّبِيِّ أَدْرَكَا
…
أَثَرَهُمْ قَدْ اقْتَفَى وَسَلَكَا
طَرِيقَةً وَاضِحَةَ الْمِنْهَاجِ
…
سَالِمَةً مِنْ الضَّلَالِ الدَّاجِي
وَقَدْ رَوَى عَنْ أَنَسٍ. وَجَابِرٍ
…
وَابْنِ أَبِي أَوْفَى كَذَا عَنْ عَامِرٍ
أَعْنِي أَبَا الطُّفَيْلِ ذَا ابْنَ وَاثِلَهْ
…
وَابْنَ أُنَيْسٌ الْفَتَى وَوَاثِلَهْ
عَنْ ابْنِ جُزْءٍ قَدْ رَوَى الْإِمَامُ
…
وَبِنْتُ عَجْرَدٍ هِيَ التَّمَامُ
فَرَضِيَ اللَّهُ الْكَرِيمُ دَائِمًا
…
عَنْهُمْ وَعَنْ كُلِّ الصِّحَابِ الْعُظَمَا
ــ
[رد المحتار]
مَطْلَبٌ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ الْإِمَامِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ سَمَاعِهِ مِمَّنْ أَدْرَكَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَوَّلَ أَمْرِهِ اشْتَغَلَ بِالِاكْتِسَابِ حَتَّى أَرْشَدَهُ الشَّعْبِيُّ لَمَّا رَأَى مِنْ بَاهِرِ نَجَابَتِهِ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ، وَلَا يَسَعُ مَنْ لَهُ أَدْنَى إلْمَامٌ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ خِلَافُ مَا ذَكَرْته. اهـ. لَكِنْ يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْعَيْنِيُّ: قَاعِدَةُ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ رَاوِيَ الِاتِّصَالِ مُقَدَّمٌ عَلَى رَاوِي الْإِرْسَالِ أَوْ الِانْقِطَاعِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ، فَاحْفَظْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ كَذَا فِي عِقْدِ اللَّآلِئِ وَالْمَرْجَانِ لِلشَّيْخِ إسْمَاعِيلَ الْعَجْلُونِيِّ الْجِرَاحِيِّ. وَعَلَى كُلٍّ فَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِذَلِكَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ وَالْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: إنَّهُ أَدْرَكَ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مَوْلِدِهِ بِهَا سَنَةَ ثَمَانِينَ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِأَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُ كَالْأَوْزَاعِيِّ بِالشَّامِ، وَالْحَمَّادِينَ بِالْبَصْرَةِ وَالثَّوْرِيِّ بِالْكُوفَةِ وَمَالِكٍ بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِمِصْرَ.
(قَوْلُهُ: وَأَدْرَكَ بِالسِّنِّ) أَيْ وُجِدَ فِي زَمَنِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَرَهُمْ كُلَّهُمْ.
(قَوْلُهُ: كَمَا بُسِطَ فِي أَوَائِلِ الضِّيَاءِ) فَقَالَ: هُمْ ابْنُ نُفَيْلٍ وَوَاثِلَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى وَابْنُ جُزْءٍ وَعُتْبَةُ وَالْمِقْدَادُ وَابْنُ بُسْرٍ وَابْنُ ثَعْلَبَةَ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَنَسٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ وَمَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ وَمَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ وَأَبُو أُمَامَةَ وَأَبُو الطُّفَيْلِ فَهَؤُلَاءِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا، وَرُبَّمَا أَدْرَكَ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَمْ أَظْفَرْ بِهِ، اهـ مُلَخَّصًا. وَزَادَ فِي تَنْوِيرِ الصَّحِيفَةِ: عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ وَعَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَسَهْلَ بْنَ مُنَيْفٍ ثُمَّ قَالَ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَمَاثِلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -،. اهـ. ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
(قَوْلُهُ: مَذْهَبْ) بِسُكُونِ الْبَاءِ لِضَرُورَةِ النَّظْمِ وَهُوَ مُضَافٌ وَعَظِيمٌ مُضَافٌ إلَيْهِ. اهـ. ح.
(قَوْلُهُ: الْفَتَى) مِنْ الْفُتُوَّةِ: وَهِيَ السَّخَاءُ وَالْقُوَّةُ ط.
(قَوْلُهُ: سَابِقُ الْأَئِمَّةِ) أَيْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ بِالْعِلْمِ: أَيْ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَكُلِّ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بِتَدْوِينِهِ: فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ دَوَّنَهُ كَمَا مَرَّ.
(قَوْلُهُ: جَمْعًا) مَفْعُولُ أَدْرَكَ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: مِنْ أَصْحَابِ) بِدَرْجِ الْهَمْزَةِ لِنَقْلِ حَرَكَتِهَا إلَى النُّونِ قَبْلَهَا وَأَلِفُ أَدْرَكَا لِلْإِشْبَاعِ كَأَلِفِ سَلَكَا.
(قَوْلُهُ: إثْرَهُمْ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ مَعَ إشْبَاعِ الْمِيمِ: أَيْ بَعْدَهُمْ، فَهُوَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ أَوْ بِفَتْحَتَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ: أَيْ خَبَرَهُمْ فَهُوَ مَفْعُولُ اقْتَفَى، وَطَرِيقَةً مَفْعُولُ سَلَكَ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْحَالَةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. وَالْمِنْهَاجُ فِي الْأَصْلِ: الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، وَأَرَادَ بِهِ هُنَا مُطْلَقَ الطَّرِيقِ فَأَضَافَ وَاضِحَةً إلَيْهِ.
(قَوْلُهُ: الدَّاجِي) شَدِيدِ الظُّلْمَةِ قَامُوسٌ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ رَوَى عَنْ أَنَسٍ) هُوَ ابْنُ مَالِكٍ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ، خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[رد المحتار]
مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، وَقِيلَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَدْ صَحَّ كَمَا قَالَ الذَّهَبِيُّ إنَّهُ رَآهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: رَأَيْته مِرَارًا، وَكَانَ يُخَضِّبُ بِالْحُمْرَةِ. وَجَاءَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَحَادِيثَ ثَلَاثَةً، لَكِنْ قَالَ أَئِمَّةُ الْمُحَدِّثِينَ مَدَارُهَا عَلَى مَنْ اتَّهَمَهُ الْأَئِمَّةُ بِوَضْعِ الْأَحَادِيثِ. اهـ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَقَدْ أَطَالَ الْعَلَّامَةُ طَاشْ كُبْرَى فِي سَرْدِ النُّقُولِ الصَّحِيحَةِ فِي إثْبَاتِ سَمَاعِهِ مِنْهُ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي.
(قَوْلُهُ: وَجَابِرٍ) أَيْ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ (79) قَبْلَ وِلَادَةِ الْإِمَامِ بِسَنَةٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مَنْ لَمْ يُرْزَقْ وَلَدًا بِكَثْرَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ فَفَعَلَ فَوُلِدَ لَهُ تِسْعَةُ ذُكُورٍ إنَّهُ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ. ابْنُ حَجَرٍ: لَكِنْ نَقَلَ ط عَنْ شَرْحِ الْخُوَارِزْمِيِّ عَلَى مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَنَّ الْإِمَامَ قَالَ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ: سَمِعْت وَفِي رِوَايَتِهِ عَنْ جَابِرٍ مَا قَالَ سَمِعْت، وَإِنَّمَا قَالَ عَنْ جَابِرٍ كَمَا هُوَ عَادَةُ التَّابِعِينَ فِي إرْسَالِ الْأَحَادِيثِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَتَمَشَّى عَلَى الْقَوْلِ بِوِلَادَةِ الْإِمَامِ سَنَةَ (70) أهـ.
أَقُولُ: وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ إنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ فَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَأَمَّا الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ فَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ حُجَّةٌ ثَبْتٌ لَا يَضَعُ وَلَا يَرْوِي عَنْ وَضَّاعٍ.
(قَوْلُهُ: وَابْنِ أَبِي أَوْفَى) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ (86) ، وَقِيلَ سَنَةَ (87)، وَقِيلَ سَنَةَ (88) سُيُوطِيٌّ فِي شَرْحِ التَّقْرِيبِ: قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَى عَنْهُ الْإِمَامُ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُتَوَاتِرَ «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» .
(قَوْلُهُ: أَعْنِي أَبَا الطُّفَيْلِ) أَيْ أَقْصِدُ بِعَامِرٍ الْمَذْكُورِ أَبَا الطُّفَيْلِ بْنَ وَاثِلَةَ بِكَسْرِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ اللَّيْثِيَّ، وَهُوَ آخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا عَلَى الْإِطْلَاقِ. تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ، وَقِيلَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ مِائَةٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْعِرَاقِيُّ وَغَيْرُهُ تَبَعًا لِمُسْلِمٍ، وَصَحَّحَ الذَّهَبِيُّ أَنَّهُ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.
(قَوْلُهُ: وَابْنَ أُنَيْسٌ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ. أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ بِسَنَدِهِ إلَى الْإِمَامِ أَنَّهُ قَالَ: وُلِدْت سَنَةَ ثَمَانِينَ، وَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٌ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكُوفَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، وَرَأَيْته وَسَمِعْت مِنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» . وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِي سَنَدِهِ مَجْهُولِينَ، وَبِأَنَّ ابْنَ أُنَيْسٌ مَاتَ سَنَةَ (54) . وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لِخَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ غَيْرُ الْجُهَنِيِّ. وَرُدَّ بِأَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَدْخُلْ الْكُوفَةَ.
(قَوْلُهُ: وَوَاثِلَهْ) هُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْضًا كَمَا فِي الْقَامُوسِ ابْنِ الْأَسْقَعِ بِالْقَافِ؟ مَاتَ بِالشَّامِ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سُيُوطِيٌّ. وَرَوَى الْإِمَامُ عَنْهُ حَدِيثَيْنِ «لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيك فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَك» «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَالْأَوَّلُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَحَسَّنَهُ، وَالثَّانِي جَاءَ مِنْ رِوَايَةِ جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَصَحَّحَهُ الْأَئِمَّةُ ابْنُ حَجَرٍ.
(قَوْلُهُ: عَنْ ابْنِ جُزْءٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَبِالْهَمْزَةِ الزُّبَيْدِيُّ بِضَمِّ الزَّايِ مُصَغَّرًا. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ (86) بِمِصْرَ بِسَقْطِ أَبِي تُرَابٍ: قَرْيَةٌ مِنْ الْغَرْبِيَّةِ قُرْبَ سَمَنُّودَ وَالْمَحَلَّةِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِهَا. وَأَمَّا مَا جَاءَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ حَجَّ مَعَ أَبِيهِ سَنَةَ (96) وَأَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يُدَرِّسُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسَمِعَ مِنْهُ حَدِيثًا، فَرَدَّهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ قَاسِمٌ الْحَنَفِيُّ، بِأَنَّ سَنَدَ ذَلِكَ فِيهِ قَلْبٌ وَتَحْرِيفٌ، وَفِيهِ كَذَّابٌ بِاتِّفَاقٍ، وَبِأَنَّ ابْنَ جُزْءٍ مَاتَ بِمِصْرَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ سِتُّ سِنِينَ، وَبِأَنَّ ابْنَ جُزْءٍ لَمْ يَدْخُلْ الْكُوفَةَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ابْنُ حَجَرٍ.
(قَوْلُهُ: وَبِنْتُ عَجْرَدٍ) اسْمُهَا عَائِشَةُ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ حَاصِلَ كَلَامِ الذَّهَبِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ أَنَّ هَذِهِ لَا صُحْبَةَ
وَتُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ قِيلَ فِي السِّجْنِ لِيَلِيَ الْقَضَاءَ وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً بِتَارِيخِ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، قِيلَ وَيَوْمَ تُوُفِّيَ وُلِدَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فَعُدَّ مِنْ مَنَاقِبِهِ. وَقَدْ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي مُخَالَفَةِ تَلَامِذَتِهِ لَهُ أَنَّهُ رَأَى صَبِيًّا يَلْعَبُ فِي الطِّينِ فَحَذَّرَهُ مِنْ السُّقُوطِ،
ــ
[رد المحتار]
لَهَا، وَأَنَّهَا لَا تَكَادُ تُعْرَفُ، وَبِذَلِكَ رُدَّ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَوَى عَنْهَا هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ «أَكْثَرُ جُنْدِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ الْجَرَادُ، لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ» ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ، وَزَادَ عَلَى مَنْ ذَكَرَ هُنَا مِمَّنْ رَوَى عَنْهُمْ الْإِمَامُ فَقَالَ: وَمِنْهُمْ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَوَفَاتُهُ سَنَةَ (88) وَقِيلَ بَعْدَهَا. وَمِنْهُمْ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سَعِيدٍ، وَوَفَاتُهُ سَنَةَ إحْدَى أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ. وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ، وَوَفَاتُهُ سَنَةَ (96) وَمِنْهُمْ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَوَفَاتُهُ سَنَةَ (99) .
(قَوْلُهُ: رَضِيَ اللَّهُ) الْأَصْوَبُ فَرَضِيَ بِالْفَاءِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ لِيَتِمَّ الْوَزْنُ وَيَسْلَمَ مِنْ ادِّعَاءِ دُخُولِ الْخَزْلِ فِيهِ.
(قَوْلُهُ: لِيَلِيَ الْقَضَاءَ) أَيْ قَضَاءَ الْقُضَاةِ لِتَكُونَ قُضَاةُ الْإِسْلَامِ مِنْ تَحْتِ أَمْرِهِ، وَالطَّالِبُ لَهُ هُوَ الْمَنْصُورُ فَامْتَنَعَ فَحَبَسَهُ، وَكَانَ يُخْرَجُ كُلَّ يَوْمٍ فَيُضْرَبُ عَشْرَةَ أَسْوَاطٍ وَيُنَادَى عَلَيْهِ فِي الْأَسْوَاقِ، ثُمَّ ضُرِبَ ضَرْبًا مُوجِعًا حَتَّى سَالَ الدَّمُ عَلَى عَقِبِهِ وَنُودِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، ثُمَّ ضُيِّقَ عَلَيْهِ تَضْيِيقًا شَدِيدًا حَتَّى فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ، فَبَكَى وَأَكَّدَ الدُّعَاءَ، فَتُوُفِّيَ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ. وَرَوَى جَمَاعَةٌ أَنَّهُ دُفِعَ إلَيْهِ قَدَحٌ فِيهِ سُمٌّ فَامْتَنَعَ وَقَالَ: لَا أَعِينُ عَلَى قَتْلِ نَفْسِي، فَصُبَّ فِي فِيهِ قَهْرًا، قِيلَ إنَّ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْمَنْصُورِ. وَصَحَّ أَنَّهُ لَمَّا أَحَسَّ بِالْمَوْتِ سَجَدَ فَمَاتَ وَهُوَ سَاجِدٌ.
قِيلَ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ أَعْدَائِهِ دَسَّ إلَى الْمَنْصُورِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَثَارَ إبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهم الْخَارِجَ عَلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ، فَطَلَبَ مِنْهُ الْقَضَاءَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ لِيَتَوَصَّلَ إلَى قَتْلِهِ اهـ مُلَخَّصًا مِنْ [الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ] لِابْنِ حَجَرٍ.
وَذَكَرَ التَّمِيمِيُّ أَنَّ الْخَطِيبَ رَوَى بِسَنَدِهِ أَنَّ أَبَا هُبَيْرَةَ كَانَ عَامِلَ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ فَكَلَّمَ أَبَا حَنِيفَةَ أَنْ يَلِيَ قَضَاءَ الْكُوفَةِ فَأَبَى فَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَعَشْرَةَ أَسْوَاطٍ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إذَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَكَى وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، خُصُوصًا بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ هُوَ أَيْضًا اهـ. فَالظَّاهِرُ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ وَبَنُو مَرْوَانَ قَبْلَ الْمَنْصُورِ فَإِنَّهُ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، فَقِصَّةُ أَبِي هُبَيْرَةَ كَانَتْ أَوَّلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ: وَلَهُ) أَيْ مِنْ الْعُمُرِ.
(قَوْلُهُ: بِتَارِيخِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تُوُفِّيَ، فَمَا قَبْلَهُ بَيَانُ الْمَكَانِ وَهَذَا بَيَانُ الزَّمَانِ. مَطْلَبٌ فِي مَوْلِدِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَوَفَاتِهِمْ وَمُدَّةِ حَيَاتِهِمْ [فَائِدَةٌ]
قَدْ عَلِمْت أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وُلِدَ سَنَةَ (80) وَمَاتَ سَنَةَ (150) وَعَاشَ (70) سَنَةً. وَقَدْ وُلِدَ الْإِمَامُ مَالِكٌ سَنَةَ (90) وَمَاتَ سَنَةَ (179) وَعَاشَ (89) سَنَةً. وَالشَّافِعِيُّ وُلِدَ سَنَةَ (150) وَمَاتَ سَنَةَ (204) وَعَاشَ (54) سَنَةً. وَأَحْمَدُ وُلِدَ سَنَةَ (164) وَمَاتَ سَنَةَ (241) وَعَاشَ (77) سَنَةً، وَقَدْ نَظَمَ جَمِيعَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ مُشِيرًا إلَيْهِ بِحُرُوفِ الْجُمَلِ، لِكُلِّ إمَامٍ مِنْهُمْ ثَلَاثُ كَلِمَاتٍ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فَقَالَ:
تَارِيخُ نُعْمَانَ يَكُنْ سَيْفٌ سَطَا
…
وَمَالِكُ فِي قَطْعِ جَوْف ضُبِطَا
وَالشَّافِعِيُّ صَيِّنٌ بِبِرْنَدٌ
…
وَأَحْمَدُ بِسَبْقِ أَمْرٍ جُعِّدَ
فَاحْسُبْ عَلَى تَرْتِيبِ نَظْمِ الشِّعْرِ
…
مِيلَادَهُمْ فَمَوْتُهُمْ كَالْعُمُرِ
فَأَجَابَهُ بِأَنْ: احْذَرْ أَنْتَ السُّقُوطَ، فَإِنَّ فِي سُقُوطِ الْعَالِمِ سُقُوطُ الْعَالَمِ، فَحِينَئِذٍ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إنْ تَوَجَّهَ لَكُمْ دَلِيلٌ فَقُولُوا بِهِ، فَكَانَ كُلٌّ يَأْخُذُ بِرِوَايَةٍ عَنْهُ وَيُرَجِّحُهَا، وَهَذَا مِنْ غَايَةِ احْتِيَاطِهِ وَوَرَعِهِ
-
ــ
[رد المحتار]
(قَوْلُهُ: فَأَجَابَهُ إلَخْ) لِلَّهِ دَرُّ هَذَا الصَّبِيِّ مَا أَحْكَمَهُ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّ سُقُوطَهُ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ جَسَدُهُ وَحْدَهُ لَكِنَّهُ لَا يَضُرُّ فِي الدِّينِ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِسُقُوطٍ، بِخِلَافِ سُقُوطِ الْعَالِمِ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَبْلَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي نَيْلِ الْمَقْصُودِ يَلْزَمُ مِنْهُ سُقُوطُ غَيْرِهِ مِمَّنْ اتَّبَعَهُ أَيْضًا، فَيَعُودُ ضَرَرُهُمْ عَلَيْهِ وَذَلِكَ ضَرَرٌ فِي الدِّينِ، عَلَى حَدٍّ قَوْله تَعَالَى - {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} [الحج: 46]- الْآيَةَ: أَيْ الْعَمَى الضَّارُّ لَيْسَ عَمَى الْأَبْصَارِ وَإِنَّمَا عَمَى الْقُلُوبِ.
(قَوْلُهُ: فَحِينَئِذٍ إلَخْ) رَوَى الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الشِّيرَامَاذِيُّ عَنْ شَقِيقٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَوْرَعِ النَّاسِ، وَأَعْبَدْ النَّاسِ، وَأَكْرَمِ النَّاسِ، وَأَكْثَرِهِمْ احْتِيَاطًا فِي الدِّينِ، وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ فِي دِينِ اللَّهِ عز وجل، وَكَانَ لَا يَضَعُ مَسْأَلَةً فِي الْعِلْمِ حَتَّى يَجْمَعَ أَصْحَابَهُ عَلَيْهَا وَيَعْقِدَ عَلَيْهَا مَجْلِسًا، فَإِذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ عَلَى مُوَافَقَتِهَا لِلشَّرِيعَةِ قَالَ لِأَبِي يُوسُفَ أَوْ غَيْرِهِ ضَعْهَا فِي الْبَابِ الْفُلَانِيِّ. اهـ. كَذَا فِي الْمِيزَانِ لِلْإِمَامِ الشَّعْرَانِيِّ قُدِّسَ سِرُّهُ. وَنَقَلَ ط عَنْ مُسْنَدِ الْخُوَارِزْمِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ اجْتَمَعَ مَعَهُ أَلْفٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَجَلُّهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ أَرْبَعُونَ قَدْ بَلَغُوا حَدَّ الِاجْتِهَادِ، فَقَرَّبَهُمْ وَأَدْنَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّى أَلْجَمْت هَذَا الْفِقْهَ وَأَسْرَجْته لَكُمْ فَأَعِينُونِي، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ جَعَلُونِي جِسْرًا عَلَى النَّارِ، فَإِنَّ الْمُنْتَهَى لِغَيْرِي، وَاللَّعِبَ عَلَى ظَهْرِي، فَكَانَ إذَا وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ شَاوَرَهُمْ وَنَاظَرَهُمْ وَحَاوَرَهُمْ وَسَأَلَهُمْ فَيَسْمَعُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ وَيَقُولُ مَا عِنْدَهُ وَيُنَاظِرُهُمْ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى يَسْتَقِرَّ آخِرُ الْأَقْوَالِ فَيُثْبِتَهُ أَبُو يُوسُفَ، حَتَّى أَثْبَتَ الْأُصُولَ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ، شُورَى، لَا أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ. اهـ.
(قَوْلُهُ: إنْ تَوَجَّهَ لَكُمْ دَلِيلٌ) أَيْ ظَهَرَ لَكُمْ فِي مَسْأَلَةٍ وَجْهُ الدَّلِيلِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقُولُ ط.
(قَوْلُهُ: فَقُولُوا بِهِ) وَكَانَ كَذَلِكَ، فَحَصَلَ الْمُخَالَفَةُ مِنْ الصَّاحِبَيْنِ فِي نَحْوِ ثُلُثِ الْمَذْهَبِ، وَلَكِنْ الْأَكْثَرُ فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ ط.
(قَوْلُهُ: فَكَانَ كُلٌّ يَأْخُذُ بِرِوَايَةٍ عَنْهُ) أَيْ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ أَقْوَالِهِ؛ وَلِذَا قَالَ فِي الْوَلْوَالِجيَّةِ مِنْ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا قُلْت قَوْلًا خَالَفْت فِيهِ أَبَا حَنِيفَةَ إلَّا قَوْلًا قَدْ كَانَ قَالَهُ. وَرَوَى عَنْ زُفَرُ أَنَّهُ قَالَ: مَا خَالَفْت أَبَا حَنِيفَةَ فِي شَيْءٍ إلَّا قَدْ قَالَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُمْ مَا سَلَكُوا طَرِيقَ الْخِلَافِ، بَلْ قَالُوا مَا قَالُوا عَنْ اجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ اتِّبَاعًا لِمَا قَالَهُ أُسْتَاذُهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ. اهـ.
وَفِي آخِرِ الْحَاوِي الْقُدْسِيِّ: وَإِذَا أَخَذَ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ يَكُونُ بِهِ آخِذًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْكِبَارِ كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلًا إلَّا وَهُوَ رِوَايَتُنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَقْسَمُوا عَلَيْهِ أَيْمَانًا غِلَاظًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ إذًا فِي الْفِقْهِ جَوَابٌ وَلَا مَذْهَبٌ إلَّا لَهُ كَيْفَمَا كَانَ، وَمَا نُسِبَ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِلْمُوَافَقَةِ. اهـ.
فَإِنْ قُلْت: إذَا رَجَعَ الْمُجْتَهِدُ عَنْ قَوْلٍ لَمْ يَبْقَ قَوْلًا لَهُ، بَلْ صَرَّحَ فِي قَضَاءِ الْبَحْرِ بِأَنَّ مَا خَرَجَ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَهُوَ مَرْجُوعٌ عَنْهُ وَأَنَّ الْمَرْجُوعَ عَنْهُ لَيْسَ قَوْلًا لَهُ. اهـ. وَفِيهِ عَنْ التَّوْشِيحِ أَنَّ مَا رَجَعَ عَنْهُ الْمُجْتَهِدُ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا قَالَهُ أَصْحَابُهُ مُخَالِفِينَ لَهُ فِيهِ لَيْسَ مَذْهَبَهُ، فَحِينَئِذٍ صَارَتْ أَقْوَالُهُمْ مَذَاهِبَ لَهُمْ، مَعَ أَنَّا الْتَزَمْنَا تَقْلِيدَ مَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ غَيْرِهِ، وَلِذَا نَقُولُ إنَّ مَذْهَبَنَا حَنَفِيٌّ لَا يُوسُفِيٌّ وَنَحْوُهُ. مَطْلَبُ صَحَّ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي
قُلْت: قَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَقْوَالِهِ بِمَا يُتَّجَهُ لَهُمْ مِنْهَا عَلَيْهِ الدَّلِيلُ صَارَ مَا قَالُوهُ قَوْلًا لَهُ لِابْتِنَائِهِ عَلَى قَوَاعِدِهِ الَّتِي أَسَّسَهَا لَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ مَرْجُوعًا عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَيَكُونُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَيْضًا، وَنَظِيرُ هَذَا مَا نَقَلَهُ الْعَلَّامَةُ بِيرِيّ فِي أَوَّلِ شَرْحِهِ عَلَى الْأَشْبَاهِ عَنْ شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الشِّحْنَةِ، وَنَصُّهُ: إذَا صَحَّ
وَعَلِمَ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ، فَمَهْمَا كَانَ الِاخْتِلَافُ أَكْثَرَ كَانَتْ الرَّحْمَةُ أَوْفَرَ، لِمَا قَالُوا:
ــ
[رد المحتار]
الْحَدِيثُ وَكَانَ عَلَى خِلَافِ الْمَذْهَبِ عُمِلَ بِالْحَدِيثِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ وَلَا يَخْرُجُ مُقَلِّدُهُ عَنْ كَوْنِهِ حَنَفِيًّا بِالْعَمَلِ بِهِ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي. وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ. اهـ. وَنَقَلَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ الشَّعْرَانِيُّ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ فِي النُّصُوصِ وَمَعْرِفَةِ مُحْكَمِهَا مِنْ مَنْسُوخِهَا، فَإِذَا نَظَرَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ فِي الدَّلِيلِ وَعَمِلُوا بِهِ صَحَّ نِسْبَتُهُ إلَى الْمَذْهَبِ لِكَوْنِهِ صَادِرًا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ ضَعْفَ دَلِيلِهِ رَجَعَ عَنْهُ وَاتَّبَعَ الدَّلِيلَ الْأَقْوَى؛ وَلِذَا رَدَّ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ عَلَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ حَيْثُ أَفْتَوْا بِقَوْلِ الْإِمَامَيْنِ بِأَنَّهُ لَا يُعْدَلُ عَنْ قَوْلِ الْإِمَامِ إلَّا لِضَعْفِ دَلِيلِهِ
(قَوْلُهُ: وَعُلِمَ) خَبَرٌ آخَرُ عَنْ قَوْلِهِ وَهَذَا: أَيْ وَهَذَا الْقَوْلُ عُلِمَ مِنْهُ: أَيْ دَلِيلُ عِلْمِهِ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إلَخْ ط. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَعَلِمَهُ بِالضَّمِيرِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ.
(قَوْلُهُ: بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ) أَيْ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ لَا مُطْلَقِ الِاخْتِلَافِ. مَطْلَبٌ فِي حَدِيثِ «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» .
(قَوْلُهُ: مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ) فَإِنَّ اخْتِلَافَ أَئِمَّةِ الْهُدَى تَوْسِعَةٌ لِلنَّاسِ كَمَا فِي أَوَّلِ التَّتَارْخَانِيَّة، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ، وَهُوَ «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» قَالَ فِي الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - بِلَفْظِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَهْمَا أُوتِيتُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَالْعَمَلُ بِهِ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَسُنَّةٌ مِنِّي مَاضِيَةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ سُنَّةٌ مِنِّي فَمَا قَالَ أَصْحَابِي، إنَّ أَصْحَابِي بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، فَأَيُّمَا أَخَذْتُمْ بِهِ اهْتَدَيْتُمْ، وَاخْتِلَافُ أَصْحَابِي لَكُمْ رَحْمَةٌ» وَأَوْرَدَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْمُخْتَصَرِ بِلَفْظِ «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ لِلنَّاسِ» وَقَالَ مُنْلَا عَلِيِّ الْقَارِي: إنَّ السُّيُوطِيّ قَالَ: أَخْرَجَهُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيَّ فِي الْحُجَّةِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الرِّسَالَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ بِغَيْرِ سَنَدٍ، وَرَوَاهُ الْحَلِيمِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمْ، وَلَعَلَّهُ خَرَجَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحُفَّاظِ الَّتِي لَمْ تَصِلْ إلَيْنَا. وَنَقَلَ السُّيُوطِيّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا سَرَّنِي لَوْ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَخْتَلِفُوا؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَخْتَلِفُوا لَمْ تَكُنْ رُخْصَةً. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ قَالَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ نَكْتُبُ هَذِهِ الْكُتُبَ يَعْنِي مُؤَلَّفَاتِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَنُفَرِّقُهَا فِي آفَاقِ الْإِسْلَامِ لِنَحْمِلَ عَلَيْهَا الْأُمَّةَ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، كُلٌّ يَتْبَعُ مَا صَحَّ عِنْدَهُ، وَكُلُّهُمْ عَلَى هُدًى، وَكُلٌّ يُرِيدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَتَمَامُهُ فِي [كَشْفِ الْخَفَاءِ وَمُزِيلِ الْإِلْبَاسِ] لِشَيْخِ مَشَايِخِنَا الشَّيْخِ إسْمَاعِيلَ الْجِرَاحِيِّ.
(قَوْلُهُ: كَانَتْ الرَّحْمَةُ أَوْفَرَ) أَيْ الْإِنْعَامُ أَزْيَدَ ط.
(قَوْلُهُ: لَمَا قَالُوا) بِاللَّامِ: أَيْ لَمَا رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ فِي شَأْنِ ذَلِكَ، وَهُوَ الْحَدِيثُ السَّابِقُ وَغَيْرُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَافٌ مُعَلَّقَةٌ حَرَّفَهَا النُّسَّاخُ أَيْ كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ جُمْلَةَ قَوْلِهِ رَسْمَ الْمُفْتِي مَقُولُ الْقَوْلِ وَمَحَطُّ التَّعْلِيلِ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي الْإِفْتَاءِ بِالْقَوْلَيْنِ الْمُصَحَّحَيْنِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رَحْمَةً وَتَوْسِعَةً ط.
رَسْمُ الْمُفْتِي أَنَّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ يُفْتَى بِهِ قَطْعًا.
ــ
[رد المحتار]
مَطْلَبُ رَسْمِ الْمُفْتِي.
(قَوْلُهُ: رَسْمُ الْمُفْتِي) أَيْ الْعَلَامَةُ الَّتِي تَدُلُّ الْمُفْتِيَ عَلَى مَا يُفْتِي بِهِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ أَنَّ إلَخْ خَبَرُهُ. قَالَ فِي [فَتْحِ الْقَدِيرِ] : وَقَدْ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِمَّنْ يَحْفَظُ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ بِمُفْتٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إذَا سُئِلَ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ كَالْإِمَامِ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ، فَعُرِفَ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا مِنْ فَتْوَى الْمَوْجُودِينَ لَيْسَ بِفَتْوَى، بَلْ هُوَ نَقْلُ كَلَامِ الْمُفْتِي لِيَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَفْتِي. وَطَرِيقُ نَقْلِهِ لِذَلِكَ عَنْ الْمُجْتَهِدِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَنَدٌ فِيهِ، أَوْ يَأْخُذَهُ مِنْ كِتَابٍ مَعْرُوفٍ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي نَحْوُ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَوْ الْمَشْهُورِ انْتَهَى ط.
(قَوْلُهُ: فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ) اعْلَمْ أَنَّ مَسَائِلَ أَصْحَابِنَا الْحَنَفِيَّةِ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ أَشَرْت إلَيْهَا سَابِقًا مُلَخَّصَةً وَنَظَّمْتهَا:
الْأُولَى مَسَائِلُ الْأُصُولِ، وَتُسَمَّى ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَيْضًا، وَهِيَ مَسَائِلُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَصْحَابِ الْمَذْهَبِ، وَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَيَلْحَقُ بِهِمْ زُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ أَخَذَ عَنْ الْإِمَامِ، لَكِنَّ الْغَالِبَ الشَّائِعَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الثَّلَاثَةِ وَكُتُبُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، كُتُبُ مُحَمَّدٍ السِّتَّةُ الْمَبْسُوطُ وَالزِّيَادَاتُ وَالْجَامِعُ الصَّغِيرُ وَالسِّيَرُ الصَّغِيرُ وَالْجَامِعُ الْكَبِيرُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا رُوِيَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ بِرِوَايَاتِ الثِّقَاتِ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ عَنْهُ إمَّا مُتَوَاتِرَةً أَوْ مَشْهُورَةً عَنْهُ.
الثَّانِيَةُ مَسَائِلُ النَّوَادِرِ، وَهِيَ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ أَصْحَابِنَا الْمَذْكُورِينَ لَكِنْ لَا فِي الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ إمَّا فِي كُتُبٍ أُخَرَ لِمُحَمَّدٍ كالكيسانيات والهارونيات والجرجانيات وَالرُّقَيَّاتِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُرْوَ عَنْ مُحَمَّدٍ بِرِوَايَاتٍ ظَاهِرَةٍ ثَابِتَةٍ صَحِيحَةٍ كَالْكُتُبِ الْأُولَى، وَإِمَّا فِي كُتُبِ مُحَمَّدٍ كَالْمُحَرَّرِ لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَغَيْرِهِ وَمِنْهَا كُتُبُ الْأَمَالِي الْمَرْوِيَّةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَالْأَمَالِي: جَمْعُ إمْلَاءٍ، وَهُوَ مَا يَقُولُهُ الْعَالِمُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ وَيَكْتُبُهُ التَّلَامِذَةُ وَكَانَ ذَلِكَ عَادَةَ السَّلَفِ، وَإِمَّا بِرِوَايَةٍ مُفْرَدَةٍ كَرِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ وَالْمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِهِمَا فِي مَسَائِلَ مُعَيَّنَةٍ.
الثَّالِثَةُ الْوَاقِعَاتُ، وَهِيَ مَسَائِلُ اسْتَنْبَطَهَا الْمُجْتَهِدُونَ الْمُتَأَخِّرُونَ لَمَّا سُئِلُوا عَنْهَا وَلَمْ يَجِدُوا فِيهَا رِوَايَةً، وَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابُ أَصْحَابِهِمَا، وَهَلُمَّ جَرَّا، وَهُمْ كَثِيرُونَ، فَمِنْ أَصْحَابِهِمَا مِثْلُ عِصَامِ بْنِ يُوسُفَ وَابْنِ رُسْتُمَ وَمُحَمَّدِ بْنُ سِمَاعَةَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الْجُرْجَانِيِّ وَأَبِي حَفْصٍ الْبُخَارِيِّ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ وَنُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى وَأَبِي النَّصْرِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ. وَقَدْ يَتَّفِقُ لَهُمْ أَنْ يُخَالِفُوا أَصْحَابَ الْمَذْهَبِ لِدَلَائِلَ وَأَسْبَابٍ ظَهَرَتْ لَهُمْ، وَأَوَّلُ كِتَابِ جَمْعٍ فِي فَتْوَاهُمْ فِيمَا بَلَغَنَا كِتَابُ النَّوَازِلِ لِلْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، ثُمَّ جَمَعَ الْمَشَايِخُ بَعْدَهُ كُتُبًا أُخَرَ كَمَجْمُوعِ النَّوَازِلِ وَالْوَاقِعَاتِ لِلنَّاطِفِيِّ وَالْوَاقِعَاتِ لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُتَأَخِّرُونَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مُخْتَلِطَةً غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَمَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَمَيَّزَ بَعْضُهُمْ كَمَا فِي كِتَابِ الْمُحِيطِ لِرَضِيِّ الدِّينِ السَّرَخْسِيِّ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا مَسَائِلَ الْأُصُولِ ثُمَّ النَّوَادِرَ ثُمَّ الْفَتَاوَى وَنِعْمَ مَا فَعَلَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ كُتُبِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ كِتَابُ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ، وَهُوَ كِتَابٌ مُعْتَمَدٌ فِي نَقْلِ الْمَذْهَبِ، شَرَحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ، مِنْهُمْ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ بِمَبْسُوطِ السَّرَخْسِيِّ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الطَّرَسُوسِيُّ:
وَاخْتُلِفَ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْأَصَحُّ كَمَا فِي السِّرَاجِيَّةِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ يُفْتِي بِقَوْلِ الْإِمَامِ
ــ
[رد المحتار]
مَبْسُوطُ السَّرَخْسِيِّ لَا يُعْمَلُ بِمَا يُخَالِفُهُ، وَلَا يُرْكَنُ إلَّا إلَيْهِ، وَلَا يُفْتَى وَلَا يُعَوَّلُ إلَّا عَلَيْهِ، وَمِنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ أَيْضًا الْمُنْتَقَى لَهُ أَيْضًا إلَّا أَنَّ فِيهِ بَعْضَ النَّوَادِرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ نُسَخَ الْمَبْسُوطِ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ مُتَعَدِّدَةٌ، وَأَظْهَرُهَا مَبْسُوطُ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ. وَشَرَحَ الْمَبْسُوطَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بَكْرٌ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهُ وَيُسَمَّى الْمَبْسُوطَ الْكَبِيرَ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَمَبْسُوطَاتُهُمْ شُرُوحٌ فِي الْحَقِيقَةِ ذَكَرُوهَا مُخْتَلِطَةً بِمَبْسُوطِ مُحَمَّدٍ كَمَا فَعَلَ شُرَّاحُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِثْلُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَقَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِمْ، فَيُقَالُ ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمُرَادُ شَرْحُهُ وَكَذَا فِي غَيْرِهِ اهـ مُلَخَّصًا مِنْ شَرْحِ الْبِيرِيِّ عَلَى الْأَشْبَاهِ وَشَرْحِ الشَّيْخِ إسْمَاعِيلَ النَّابُلُسِيِّ عَلَى شَرْحِ الدُّرَرِ فَاحْفَظْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ كَحِفْظِ طَبَقَاتِ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ، وَسَنَذْكُرُهَا قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. مَطْلَبٌ فِي طَبَقَاتِ الْمَسَائِلِ وَكُتُبِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَفِي كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ الْبَحْرِ أَنَّ كَافِيَ الْحَاكِمِ هُوَ جَمْعُ كَلَامِ مُحَمَّدٍ فِي كُتُبِهِ السِّتَّةِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَفَسَّرَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ قُبَيْلَ بَابِ الْإِحْصَارِ الْأَصْلَ بِالْمَبْسُوطِ، وَفِي بَابِ الْعِيدَيْنِ مِنْ الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ أَنَّ الْجَامِعَ الصَّغِيرَ صَنَّفَهُ مُحَمَّدٌ بَعْدَ الْأَصْلِ، فَمَا فِيهِ هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ فِي النَّهْرِ: سُمِّيَ الْأَصْلُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ صُنِّفَ أَوَّلًا، ثُمَّ الْجَامِعُ الصَّغِيرُ، ثُمَّ الْكَبِيرُ، ثُمَّ الزِّيَادَاتُ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. اهـ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي أَوَّلِ شَرْحِهِ عَلَى السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ السِّيَرَ الْكَبِيرَ هُوَ آخِرُ تَصْنِيفٍ صَنَّفَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْفِقْهِ.
وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ لِابْنِ أَمِيرِ الْحَاجِّ الْحَلَبِيِّ فِي بَحْثِ التَّسْمِيعِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَرَأَ أَكْثَرَ الْكُتُبِ عَلَى أَبِي يُوسُفَ إلَّا مَا كَانَ فِيهِ اسْمُ الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ: كَالْمُضَارَبَةِ الْكَبِيرِ وَالْمُزَارَعَةِ الْكَبِيرِ وَالْمَأْذُونِ الْكَبِيرِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَالسِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَتَمَامُ هَذِهِ الْأَبْحَاثِ فِي مَنْظُومَتِنَا فِي رَسْمِ الْمُفْتِي وَفِي شَرْحِهَا. [تَتِمَّةٌ]
قَدَّمْنَا عَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ كَيْفِيَّةَ الْإِفْتَاءِ مِمَّا فِي الْكُتُبِ، فَلَا يَجُوزُ الْإِفْتَاءُ مِمَّا فِي الْكُتُبِ الْغَرِيبَةِ. وَفِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ لِشَيْخِنَا الْمُحَقِّقِ هِبَةِ اللَّهِ الْبَعْلِيِّ، قَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ صَالِحُ الْجُنَيْنِيُّ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِفْتَاءُ مِنْ الْكُتُبِ الْمُخْتَصَرَةِ كَالنَّهْرِ وَشَرْحِ الْكَنْزِ لِلْعَيْنِيِّ وَالدُّرِّ الْمُحْتَارِ شَرْحِ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ، أَوْ لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى حَالِ مُؤَلِّفِيهَا كَشَرْحِ الْكَنْزِ لِمُنْلَا مِسْكِينٍ وَشَرْحِ النُّقَايَةِ لِلْقُهُسْتَانِيِّ، أَوْ لِنَقْلِ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ فِيهَا كَالْقُنْيَةِ لِلزَّاهِدِيِّ، فَلَا يَجُوزُ الْإِفْتَاءُ مِنْ هَذِهِ إلَّا إذَا عَلِمَ الْمَنْقُولَ عَنْهُ وَأَخْذَهُ مِنْهُ، هَكَذَا سَمِعْته مِنْهُ وَهُوَ عَلَّامَةٌ فِي الْفِقْهِ مَشْهُورٌ وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ. اهـ.
أَقُولُ: وَيَنْبَغِي إلْحَاقُ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ بِهَا، فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْإِيجَازِ فِي التَّعْبِيرِ مَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ إلَّا بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَأْخَذِهِ، بَلْ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ الْإِيجَازُ الْمُخِلُّ، يَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَنْ مَارَسَ مُطَالَعَتَهَا مَعَ الْحَوَاشِي فَلَا يَأْمَنُ الْمُفْتِي مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْغَلَطِ إذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَاجَعَةِ مَا كُتِبَ عَلَيْهَا مِنْ الْحَوَاشِي أَوْ غَيْرِهَا. وَرَأَيْت فِي حَاشِيَةِ أَبِي السُّعُودِ الْأَزْهَرِيِّ عَلَى شَرْحِ مُنْلَا مِسْكِينٍ أَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى فَتَاوَى ابْنِ نُجَيْمٍ وَلَا عَلَى فَتَاوَى الطُّورِيِّ. مَطْلَبُ إذَا تَعَارَضَ التَّصْحِيحُ.
(قَوْلُهُ: وَالْأَصَحُّ كَمَا فِي السِّرَاجِيَّةِ) أَقُولُ: عِبَارَتُهَا ثُمَّ الْفَتْوَى عَلَى الْإِطْلَاقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ قَوْلِ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ. وَقِيلَ إذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي جَانِبٍ وَصَاحِبَاهُ فِي جَانِبٍ فَالْمُفْتِي بِالْخِيَارِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُفْتِي مُجْتَهِدًا اهـ فَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي كَلَامِ الشَّارِحِ فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: بِقَوْلِ الْإِمَامِ)
عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ بِقَوْلِ الثَّانِي، ثُمَّ بِقَوْلِ الثَّالِثِ، ثُمَّ بِقَوْلِ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، وَصَحَّحَ فِي الْحَاوِي الْقُدْسِيِّ قُوَّةَ الْمُدْرَكِ
وَفِي وَقْفِ الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ: مَتَى كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مُصَحَّحَانِ جَازَ الْقَضَاءُ وَالْإِفْتَاءُ بِأَحَدِهِمَا. وَفِي أَوَّلِ
ــ
[رد المحتار]
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ لِأَنَّهُ رَأَى الصَّحَابَةَ وَزَاحَمَ التَّابِعِينَ فِي الْفَتْوَى، فَقَوْلُهُ أَشَدُّ وَأَقْوَى مَا لَمْ يَكُنْ اخْتِلَافَ عَصْرٍ وَزَمَانٍ كَذَا فِي تَصْحِيحِ الْعَلَّامَةِ قَاسِمٍ.
(قَوْلُهُ: عَلَى الْإِطْلَاقِ) أَيْ سَوَاءٌ انْفَرَدَ وَحْدَهُ فِي جَانِبٍ أَوْ لَا كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ السِّرَاجِيَّةِ مِنْ مُقَابَلَتِهِ بِالْقَوْلِ الثَّانِي الْمُفَصَّلِ فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: ثُمَّ بِقَوْلِ الثَّانِي) أَيْ ثُمَّ إذَا لَمْ يُوجَدْ لِلْإِمَامِ رِوَايَةٌ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَبُو يُوسُفَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ رِوَايَةٌ أَيْضًا فَيُؤْخَذُ بِقَوْلِ الثَّالِثِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ إلَخْ.
(قَوْلُهُ: وَصَحَّحَ فِي الْحَاوِي الْقُدْسِيِّ قُوَّةَ الْمُدْرِكِ) أَيْ الدَّلِيلَ وَبِهِ عَبَّرَ فِي الْحَاوِي. قَالَ ح: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِي التَّوْفِيقِ أَيْ بَيْنَ مَا فِي الْحَاوِي وَمَا فِي السِّرَاجِيَّةِ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ قُوَّةُ إدْرَاكٍ لِقُوَّةِ الْمُدْرِكِ يُفْتِي بِالْقَوْلِ الْقَوِيِّ الْمُدْرَكِ وَإِلَّا فَالتَّرْتِيبُ. اهـ.
أَقُولُ: يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ السِّرَاجِيَّةِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُفْتِي مُجْتَهِدًا، فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَعْنِي مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ يَتْبَعُ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا كَانَ دَلِيلًا وَإِلَّا فَاتَّبَعَ التَّرْتِيبَ السَّابِقَ، وَمِنْ هَذَا تَرَاهُمْ قَدْ يُرَجِّحُونَ قَوْلَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَلَى قَوْلِهِ كَمَا رَجَّحُوا قَوْلَ زُفَرَ وَحْدَهُ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً، فَنَتْبَعُ مَا رَجَّحُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ الْإِمَامِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ عَنْهُ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ رِوَايَةٌ أَصْلًا، فَفِي الْأَوَّلِ يُؤْخَذُ بِأَقْوَاهَا حُجَّةً كَمَا فِي الْحَاوِي، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْحَادِثَةِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَوَابٌ ظَاهِرٌ وَتَكَلَّمَ فِيهِ الْمَشَايِخُ الْمُتَأَخِّرُونَ قَوْلًا وَاحِدًا يُؤْخَذُ بِهِ، فَإِنْ اخْتَلَفُوا يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ ثُمَّ الْأَكْثَرِينَ مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْكِبَارُ الْمَعْرُوفُونَ مِنْهُمْ كَأَبِي حَفْصٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي اللَّيْثِ وَالطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ جَوَابٌ أَلْبَتَّةَ نَصًّا يَنْظُرُ الْمُفْتِي فِيهَا نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَتَدَبُّرٍ وَاجْتِهَادٍ لِيَجِدَ فِيهَا مَا يُقَرِّبُ إلَى الْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا جُزَافًا، وَيَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى وَيُرَاقِبُهُ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ إلَّا كُلُّ جَاهِلٍ شَقِيٍّ. اهـ. [تَتِمَّةٌ]
قَدْ جَعَلَ الْعُلَمَاءُ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فِي الْعِبَادَاتِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْوَاقِعُ بِالِاسْتِقْرَاءِ، مَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ رِوَايَةٌ كَقَوْلِ الْمُخَالِفِ كَمَا فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَالتَّيَمُّمِ فَقَطْ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِ نَبِيذِ التَّمْرِ كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ الْكَبِيرِ لِلْحَلَبِيِّ فِي بَحْثِ التَّيَمُّمِ.
وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَفِي قَضَاءِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ: الْفَتْوَى: عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ كَمَا فِي الْقُنْيَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ اهـ أَيْ لِحُصُولِ زِيَادَةِ الْعِلْمِ لَهُ بِهِ بِالتَّجْرِبَةِ، وَلِذَا رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ لَمَّا حَجَّ وَعَرَفَ مَشَقَّتَهُ. وَفِي شَرْحِ الْبِيرِيِّ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا فِي الشَّهَادَاتِ. وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً حَرَّرْتهَا فِي رِسَالَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا عِنْدَ عَدَمِ ذِكْرِ أَهْلِ الْمُتُونِ لِلتَّصْحِيحِ، وَإِلَّا فَالْحُكْمُ بِمَا فِي الْمُتُونِ كَمَا لَا يَخْفَى؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُتَوَاتِرَةً اهـ: وَإِذَا كَانَ فِي مَسْأَلَةٍ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ فَالْعَمَلُ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ إلَّا فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ مَشْهُورَةٍ.
وَفِي بَابِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ مِنْ الْبَحْرِ: الْمَسْأَلَةُ إذَا لَمْ تُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَثَبَتَتْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى تَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا. اهـ. وَفِي آخِرِ الْمُسْتَصْفَى لِلْإِمَامِ النَّسَفِيِّ: إذَا ذُكِرَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ أَقْوَالٍ فَالرَّاجِحُ هُوَ الْأَوَّلُ أَوْ الْأَخِيرُ لَا الْوَسَطُ. اهـ. وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ عَنْ الدِّرَايَةِ إذَا وَافَقَتْهَا رِوَايَةٌ. اهـ. ذَكَرَهُ فِي وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ فِي مَعْرِضِ تَرْجِيحِ رِوَايَةِ وُجُوبِ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِلْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ مَعَ أَنَّهَا خِلَافُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ الْإِمَامِ.
(قَوْلُهُ: وَفِي وَقْفِ الْبَحْرِ إلَى آخِرِهِ) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَفْظُ التَّصْحِيحِ فِي أَحَدِهِمَا آكَدَ مِنْ الْآخَرِ كَمَا أَفَادَهُ ح: أَيْ فَلَا يُخَيَّرُ بَلْ يَتْبَعُ الْآكَدَ كَمَا سَيَأْتِي.
الْمُضْمَرَاتِ: أَمَّا الْعَلَامَاتُ لِلْإِفْتَاءِ فَقَوْلُهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَبِهِ يُفْتَى، وَبِهِ نَأْخُذُ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْيَوْمِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْأُمَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَوْ الْأَصَحُّ، أَوْ الْأَظْهَرُ، أَوْ الْأَشْبَهُ، أَوْ الْأَوْجَهُ، أَوْ الْمُخْتَارُ، وَنَحْوُهَا مِمَّا ذُكِرَ فِي حَاشِيَةِ الْبَزْدَوِيِّ اهـ
وَقَالَ شَيْخُنَا الرَّمْلِيُّ فِي فَتَاوِيهِ: وَبَعْضُ الْأَلْفَاظِ آكَدُ مِنْ بَعْضٍ،
ــ
[رد المحتار]
أَقُولُ: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ التَّخْيِيرِ أَيْضًا بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُتُونِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا عَنْ الْبِيرِيِّ، وَلِمَا فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ مِنْ الْبَحْرِ، مِنْ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ التَّصْحِيحُ وَالْفَتْوَى فَالْعَمَلُ بِمَا وَافَقَ الْمُتُونَ أَوْلَى. اهـ. وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي الشُّرُوحِ وَالْآخَرُ فِي الْفَتَاوَى لِمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّ مَا فِي الْمُتُونِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا فِي الشُّرُوحِ، وَمَا فِي الشُّرُوحِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا فِي الْفَتَاوَى، لَكِنْ هَذَا عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِتَصْحِيحِ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَوْ عَدَمِ التَّصْرِيحِ أَصْلًا. أَمَّا لَوْ ذَكَرْت مَسْأَلَةَ الْمُتُونِ وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِتَصْحِيحِهَا بَلْ صَرَّحُوا بِتَصْحِيحِ مُقَابِلِهَا فَقَدْ أَفَادَ الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ تَرْجِيحَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ تَصْحِيحٌ صَرِيحٌ، وَمَا فِي الْمُتُونِ تَصْحِيحٌ الْتِزَامِيٌّ، وَالتَّصْحِيحُ الصَّرِيحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّصْحِيحِ الِالْتِزَامِيِّ: أَيْ الْتِزَامُ الْمُتُونِ ذِكْرُ مَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَذَا لَا تَخْيِيرَ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَوْلَ الْإِمَامِ وَالْآخَرُ قَوْلَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ التَّصْحِيحَانِ تَسَاقَطَا فَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ تَقْدِيمُ قَوْلِ الْإِمَامِ، بَلْ فِي شَهَادَاتِ الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ: الْمُقَرَّرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُفْتِي وَيَعْمَلُ إلَّا بِقَوْلِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى قَوْلِهِمَا أَوْ قَوْلِ أَحَدِهِمَا أَوْ غَيْرِهِمَا إلَّا لِضَرُورَةٍ كَمَسْأَلَةِ الْمُزَارَعَةِ وَإِنْ صَرَّحَ الْمَشَايِخُ بِأَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ وَالْإِمَامُ الْمُقَدَّمُ اهـ وَمِثْلُهُ فِي الْبَحْرِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ: يَحِلُّ الْإِفْتَاءُ بِقَوْلِ الْإِمَامِ بَلْ يَجِبُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ قَالَ. اهـ. وَكَذَا لَوْ عَلَّلُوا أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ كَانَ التَّعْلِيقُ تَرْجِيحًا لِلْمُعَلَّلِ كَمَا أَفَادَهُ الرَّمْلِيُّ فِي فَتَاوَاهُ مِنْ كِتَابِ الْغَصْبِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا اسْتِحْسَانًا وَالْآخَرُ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَقْدِيمُ الِاسْتِحْسَانِ إلَّا فِيمَا اسْتَثْنَى كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ وَبِهِ صَرَّحَ فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ مِنْ الْبَحْرِ حَيْثُ قَالَ: الْفَتْوَى إذَا اخْتَلَفَتْ كَانَ التَّرْجِيحُ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِيهِ مِنْ بَابِ الْمَصْرِفِ: إذَا اخْتَلَفَ التَّصْحِيحُ وَجَبَ الْفَحْصُ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَالرُّجُوعُ إلَيْهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَنْفَعَ لِلْوَقْفِ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْوَقْفِ وَالْإِجَارَاتِ أَنَّهُ يُفْتِي بِكُلِّ مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْوَقْفِ فِيمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَوْلَ الْأَكْثَرِينَ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْحَاوِي.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مُرَجِّحٌ عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ صَحَّحَ الْمَشَايِخُ كُلًّا مِنْ الْقَوْلَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ بِهِ مَا كَانَ لَهُ مُرَجِّحٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُرَجِّحَ لَمْ يَزُلْ بَعْدَ التَّصْحِيحِ، فَيَبْقَى فِيهِ زِيَادَةُ قُوَّةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي الْآخَرِ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي مِنْ فَيْضِ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ.
(قَوْلُهُ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُفْتِي وَهُوَ الشَّابُّ الْقَوِيُّ، وَسُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ يُقَوِّي السَّائِلَ بِجَوَابِ حَادِثَتِهِ ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ شَرْحِ الْمَجْمَعِ لِلْعَيْنِيِّ، وَالْمُرَادُ بِالِاشْتِقَاقِ فِيهَا مُلَاحَظَةُ مَا أَنْبَأَ عَنْهُ الْفَتَى مِنْ الْقُوَّةِ وَالْحُدُوثِ لَا حَقِيقَتُهُ كَذَا قِيلَ.
(قَوْلُهُ: وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْيَوْمِ) الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ مُطْلَقُ الزَّمَانِ، وَأَلْ فِيهِ لِلْحُضُورِ، وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى فِي، وَهِيَ مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى زَمَانِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ: أَيْ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْحَاضِرِ.
(قَوْلُهُ: أَوْ الْأَشْبَهُ) قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ: مَعْنَاهُ الْأَشْبَهُ بِالْمَنْصُوصِ رِوَايَةً وَالرَّاجِحُ دِرَايَةً فَيَكُونُ عَلَيْهِ الْفَتْوَى. اهـ. وَالدِّرَايَةُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الدَّلِيلِ كَمَا فِي الْمُسْتَصْفَى.
(قَوْلُهُ: أَوْ الْأَوْجَهُ) أَيْ الْأَظْهَرُ وَجْهًا مِنْ حَيْثُ إنَّ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مُتَّجِهَةٌ ظَاهِرَةٌ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ.
(قَوْلُهُ: وَنَحْوِهَا) كَقَوْلِهِمْ: وَبِهِ جَرَى الْعُرْفُ، وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا ط.
(قَوْلُهُ: وَقَالَ شَيْخُنَا) الْمُرَادُ بِهِ حَيْثُ أَطْلَقَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ خَيْرُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ.
(قَوْلُهُ: فِي فَتَاوِيهِ) جَمْعُ فَتْوَى وَيُجْمَعُ عَلَى فَتَاوَى بِالْأَلِفِ أَيْضًا، وَهِيَ هُنَا اسْمٌ لِفَتَاوَى شَيْخِهِ الْمَشْهُورَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ لِنَفْعِ الْبَرِّيَّةِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي آخِرِهَا فِي مَسَائِلَ شَتَّى.
(قَوْلُهُ: آكَدُ مِنْ بَعْضٍ) أَيْ أَقْوَى فَتُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهَا،
فَلَفْظُ الْفَتْوَى آكَدُ مِنْ لَفْظِ الصَّحِيحِ، وَالْأَصَحِّ وَالْأَشْبَهِ وَغَيْرِهَا، وَلَفْظُ وَبِهِ يُفْتَى آكَدُ مِنْ الْفَتْوَى عَلَيْهِ، وَالْأَصَحُّ آكَدُ مِنْ الصَّحِيحِ، وَالْأَحْوَطُ آكَدُ مِنْ الِاحْتِيَاطِ انْتَهَى.
قُلْت: لَكِنْ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ لِلْحَلَبِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَا يَجُوزُ مَسُّ مُصْحَفٍ إلَّا بِغِلَافِهِ إذَا تَعَارَضَ إمَامَانِ مُعْتَبَرَانِ عَبَّرَ أَحَدُهُمَا بِالصَّحِيحِ وَالْآخَرُ بِالْأَصَحِّ، فَالْأَخْذُ بِالصَّحِيحِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَالْأَخْذُ بِالْمُتَّفَقِ أَوْفَقُ فَلْيُحْفَظْ.
ثُمَّ رَأَيْت فِي رِسَالَةِ آدَابِ الْمُفْتِي: إذَا ذُيِّلَتْ رِوَايَةٌ فِي كِتَابٍ يُعْتَمَدُ بِالْأَصَحِّ أَوْ الْأَوْلَى، أَوْ الْأَوْفَقِ أَوْ نَحْوِهَا، فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهَا وَبِمُخَالِفِهَا أَيْضًا أَيًّا شَاءَ، وَإِذَا ذُيِّلَتْ بِالصَّحِيحِ أَوْ الْمَأْخُوذِ بِهِ، أَوْ وَبِهِ يُفْتَى، أَوْ عَلَيْهِ الْفَتْوَى -
ــ
[رد المحتار]
وَهَذَا التَّقْدِيمُ رَاجِحٌ لَا وَاجِبٌ كَمَا يُفِيدُهُ مَا يَأْتِي عَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ.
(قَوْلُهُ: فَلَفْظُ الْفَتْوَى) أَيْ اللَّفْظُ الَّذِي فِيهِ حُرُوفُ الْفَتْوَى الْأَصْلِيَّةِ بِأَيِّ صِيغَةٍ عَبَّرَ بِهَا ط.
(قَوْلُهُ: آكَدُ مِنْ لَفْظِ الصَّحِيحِ إلَخْ) لِأَنَّ مُقَابِلَ الصَّحِيحِ أَوْ الْأَصَحِّ وَنَحْوَهُ قَدْ يَكُونُ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ لِكَوْنِهِ هُوَ الْأَحْوَطُ أَوْ الْأَرْفَقُ بِالنَّاسِ أَوْ الْمُوَافِقُ لِتَعَامُلِهِمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَرَاهُ الْمُرَجِّحُونَ فِي الْمَذْهَبِ دَاعِيًا إلَى الْإِفْتَاءِ بِهِ، فَإِذَا صَرَّحُوا بِلَفْظِ الْفَتْوَى فِي قَوْلٍ عُلِمَ أَنَّهُ الْمَأْخُوذُ بِهِ وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ لَفْظَ وَبِهِ نَأْخُذُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ مُسَاوٍ لِلَفْظِ الْفَتْوَى وَكَذَا بِالْأَوْلَى لَفْظُ عَلَيْهِ عَمَلُ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ تَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: وَغَيْرُهَا) كَالْأَحْوَطِ وَالْأَظْهَرِ ط. وَفِي الضِّيَاءِ الْمَعْنَوِيِّ فِي مُسْتَحَبَّاتِ الصَّلَاةِ: لَفْظَةُ الْفَتْوَى آكَدُ وَأَبْلَغُ مِنْ لَفْظَةِ الْمُخْتَارِ.
(قَوْلُهُ: آكَدُ مِنْ الْفَتْوَى عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْفَتْوَى لَا تَكُونُ إلَّا بِذَلِكَ، الثَّانِي يُفِيدُ الْأَصَحِّيَّةَ. اهـ. ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
(قَوْلُهُ: وَالْأَصَحُّ آكَدُ مِنْ الصَّحِيحِ) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْأَصَحَّ مُقَابِلٌ لِلصَّحِيحِ، وَهُوَ: أَيْ الصَّحِيحُ مُقَابِلٌ لِلضَّعِيفِ، لَكِنْ فِي حَوَاشِي الْأَشْبَاهِ لِبِيرِيٍّ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ ذَلِكَ بِالْغَالِبِ؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا مُقَابِلَ الْأَصَحِّ الرِّوَايَةَ الشَّاذَّةَ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ. اهـ. ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
(قَوْلُهُ: وَالْأَحْوَطُ إلَخْ) الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا عَبَّرَ فِيهِ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ ط، وَالِاحْتِيَاطُ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ كَمَا فِي النَّهْرِ.
(قَوْلُهُ: قُلْت لَكِنْ إلَخْ) اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الرَّمْلِيِّ حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ آكَدُ مِنْ بَعْضٍ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ مُرَادَهُ تَقْدِيمُ الْآكَدِ عَلَى غَيْرِهِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَقْدِيمُ الْأَصَحِّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ. وَأَمَّا كَوْنُ مُرَادِهِ مُجَرَّدَ بَيَانٍ أَنَّ الْأَصَحَّ آكَدُ بِمُقْتَضَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي تَقْدِيمَ الصَّحِيحِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ، فَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي لَفْظِ الْفَتْوَى مَعَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ آكَدَ، وَلَا مَعْنَى لِآكَدِيَّتِهِ إلَّا تَقْدِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا لَا يَخْفَى فَافْهَمْ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا مَا قَالَهُ فِي الْخَيْرِيَّةِ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ بَعْدَ كَلَامٍ. قُلْت: وَقَوْلُهُ وَالصَّحِيحُ لَا يُدْفَعُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمُحِيطِ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. اهـ.
(قَوْلُهُ: إمَامَانِ مُعْتَبَرَانِ) أَيْ مِنْ أَئِمَّةِ التَّرْجِيحِ ط.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا إلَخْ) أَيْ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا يُجْعَلُ الْآخَرُ أَصَحُّ. قُلْت: وَالْعِلَّةُ لَا تَخُصُّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، بَلْ كَذَلِكَ الْوَجِيهُ وَالْأَوْجَهُ وَالِاحْتِيَاطُ وَالْأَحْوَطُ أَفَادَهُ ط.
(قَوْلُهُ: إذَا ذُيِّلَتْ رِوَايَةٌ إلَخْ) أَيْ جُعِلَ ذَيْلُهَا: أَيْ فِي آخِرِهَا، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ التَّذْيِيلَ بِالتَّصْحِيحِ وَقَعَ لِرِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ دُونَ مُخَالَفَتِهَا فَلَيْسَ فِيهِ تَعَارُضُ التَّصْحِيحِ، لَكِنْ إذَا كَانَ التَّصْحِيحُ بِصِيغَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَفَادَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُخَالِفَةَ صَحِيحَةٌ أَيْضًا، فَلَهُ الْإِفْتَاءُ بِأَيٍّ شَاءَ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَ الْأُولَى لِزِيَادَةِ الصِّحَّةِ فِيهَا، وَسَكَتَ عَنْهُ لِظُهُورِهِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ التَّصْحِيحُ بِصِيغَةٍ تَقْتَضِي قَصْرِ الصِّحَّةِ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ فَقَطْ كَالصَّحِيحِ وَالْمَأْخُوذِ بِهِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُفِيدُ ضَعْفَ الرِّوَايَةِ الْمُخَالِفَةِ لَمْ يَجُزْ الْإِفْتَاءُ بِمُخَالِفِهَا، لِمَا سَيَأْتِي أَنَّ الْفُتْيَا بِالْمَرْجُوحِ جَهْلٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا
لَمْ يُفْتِ بِمُخَالِفِهِ إلَّا إذَا كَانَ فِي الْهِدَايَةِ مَثَلًا هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي الْكَافِي بِمُخَالِفِهِ هُوَ الصَّحِيحُ فَيُخَيَّرُ فَيَخْتَارُ الْأَقْوَى عِنْدَهُ وَالْأَلْيَقَ وَالْأَصْلَحَ اهـ فَلْيُحْفَظْ
وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ قَاسِمٌ فِي تَصْحِيحِهِ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُفْتِي وَالْقَاضِي إلَّا أَنَّ الْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ عَنْ الْحُكْمِ وَالْقَاضِيَ مُلْزِمٌ بِهِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ وَالْفُتْيَا بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ جَهْلٌ وَخَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ،
ــ
[رد المحتار]
وَجَدَ التَّصْحِيحَ فِي كِتَابٍ آخَرَ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ الْأَوْلَى تَقْدِيمُ الْآكَدِ مِنْهُمَا أَوْ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلَى الْخِلَافِ الْمَارِّ، وَبِهِ ظَهَرَ أَنَّ هَذَا تَفْصِيلٌ آخَرُ زَائِدٌ عَلَى مَا مَرَّ غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُ فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: إلَّا إذَا كَانَ إلَخْ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ التَّصْحِيحُ مِنْ كِلَا الطَّرَفَيْنِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِيمَا إذَا لَمْ يُذَيَّلْ مُخَالِفُهُ بِشَيْءٍ كَمَا مَرَّ. وَفَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَوْضِيحُ مَا مَرَّ عَنْ وَقْفِ الْبَحْرِ وَبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ التَّخْيِيرِ، فَلَيْسَ فِيهِ تَكْرِيرٌ فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: وَفِي الْكَافِي) يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَافِي الْحَاكِمِ أَوْ كَافِي النَّسَفِيِّ الَّذِي شَرَحَ بِهِ كِتَابَهُ الْوَافِيَ أَصْلَ الْكَنْزِ وَالظَّاهِرُ الثَّانِي.
(قَوْلُهُ: فَيَخْتَارُ الْأَقْوَى) أَيْ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ أَوْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تَنْسَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ بَقِيَّةِ قُيُودِ التَّخْيِيرِ.
(قَوْلُهُ: وَالْأَلْيَقُ) أَيْ لِزَمَانِهِ وَالْأَصْلَحُ الَّذِي يَرَاهُ مُنَاسِبًا فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ.
(قَوْلُهُ: فَلْيُحْفَظْ) أَيْ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْحُكْمَ إنْ اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا يُفْتَى بِهِ قَطْعًا، وَإِلَّا فَإِمَّا أَنْ يُصَحِّحَ الْمَشَايِخُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ أَوْ كُلًّا مِنْهُمَا، أَوَّلًا وَإِلَّا فَفِي الثَّالِثِ يُعْتَبَرُ التَّرْتِيبُ، بِأَنْ يُفْتَى بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إلَخْ، أَوْ يُعْتَبَرُ قُوَّةُ الدَّلِيلِ، وَقَدْ مَرَّ التَّوْفِيقُ، وَفِي الْأَوَّلِ إنْ كَانَ التَّصْحِيحُ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ خُيِّرَ الْمُفْتِي، وَإِلَّا فَلَا، بَلْ يُفْتَى بِالْمُصَحَّحِ فَقَطْ، وَهَذَا مَا نَقَلَهُ عَنْ الرِّسَالَةِ. وَفِي الثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَوْ لَا. فَفِي الْأَوَّلِ قِيلَ يُفْتَى بِالْأَصَحِّ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الْخَيْرِيَّةِ وَقِيلَ بِالصَّحِيحِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ، وَفِي الثَّانِي يُخَيَّرُ الْمُفْتِي وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ وَقْفِ الْبَحْرِ وَالرِّسَالَةِ أَفَادَهُ ح.
(قَوْلُهُ: فِي تَصْحِيحِهِ) أَيْ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالتَّصْحِيحِ، وَالتَّرْجِيحِ الْمَوْضُوعِ عَلَى مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ.
(قَوْلُهُ: لَا فَرْقَ إلَخْ) أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِالتَّشَهِّي، بَلْ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا رَجَّحُوهُ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ وَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي مُخْبِرًا وَالْقَاضِي مُلْزِمًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْحُكْمَ وَالْفُتْيَا إلَخْ) وَكَذَا الْعَمَلُ بِهِ لِنَفْسِهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ فِي رِسَالَتِهِ [الْعِقْد الْفَرِيدِ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ] : مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كَمَا قَالَهُ السُّبْكِيُّ مَنْعُ الْعَمَلِ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ فِي الْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ دُونَ الْعَمَلِ لِنَفْسِهِ. مَطْلَبُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالضَّعِيفِ حَتَّى لِنَفْسِهِ عِنْدَنَا
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ الْمَنْعُ عَنْ الْمَرْجُوحِ حَتَّى لِنَفْسِهِ لِكَوْنِ الْمَرْجُوعِ صَارَ مَنْسُوخًا اهـ فَلْيُحْفَظْ، وَقَيَّدَهُ الْبِيرِيُّ بِالْعَامِّيِّ أَيْ الَّذِي لَا رَأْيَ لَهُ يَعْرِفُ بِهِ مَعْنَى النُّصُوصِ حَيْثُ قَالَ: هَلْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ الْعَمَلُ بِالضَّعِيفِ مِنْ الرِّوَايَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، نَعَمْ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ، أَمَّا إذَا كَانَ عَامِّيًّا فَلَمْ أَرَهُ، لَكِنْ مُقْتَضَى تَقْيِيدِهِ بِذِي الرَّأْيِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ ذَلِكَ. قَالَ فِي خِزَانَةِ الرِّوَايَاتِ: الْعَالِمُ الَّذِي يَعْرِفُ مَعْنَى النُّصُوصِ وَالْأَخْبَارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الدِّرَايَةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ اهـ.
قُلْت: لَكِنْ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ فِي حَيْضِ الْبَحْرِ فِي بَحْثِ أَلْوَانِ الدِّمَاءِ أَقْوَالًا ضَعِيفَةً، ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْمِعْرَاجِ عَنْ فَخْرِ الْأَئِمَّةِ: لَوْ أَفْتَى مُفْتٍ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ طَلَبًا لِلتَّيْسِيرِ كَانَ حَسَنًا. اهـ. وَكَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَنِيِّ إذَا خَرَجَ بَعْدَ فُتُورِ الشَّهْوَةِ لَا يَجِبُ بِهِ الْغَسْلُ ضَعِيفٌ، وَأَجَازُوا الْعَمَلَ بِهِ لِلْمُسَافِرِ أَوْ الضَّيْفِ الَّذِي خَافَ الرِّيبَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَحَلِّهِ وَذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ.
(قَوْلُهُ: بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ) كَقَوْلِ
وَأَنَّ الْحُكْمَ الْمُلَفَّقَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ التَّقْلِيدِ بَعْدَ الْعَمَلِ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ فِي الْمَذْهَبِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ خَاصٌّ بِالْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ أَصْلًا كَمَا فِي الْقُنْيَةِ.
ــ
[رد المحتار]
مُحَمَّدٍ مَعَ وُجُودِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إذَا لَمْ يُصَحَّحْ أَوْ يَقْوَ وَجْهُهُ، وَأَوْلَى مِنْ هَذَا بِالْبُطْلَانِ الْإِفْتَاءُ بِخِلَافِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إذَا لَمْ يُصَحَّحْ وَالْإِفْتَاءُ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ عَنْهُ. اهـ. ح.
(قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْحُكْمَ الْمُلَفَّقَ) الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ كَالصِّحَّةِ.
مِثَالُهُ: مُتَوَضِّئٌ سَالَ مِنْ بَدَنِهِ دَمٌ وَلَمَسَ امْرَأَةً ثُمَّ صَلَّى فَإِنَّ صِحَّةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مُلَفَّقَةٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيِّ وَالتَّلْفِيقُ بَاطِلٌ، فَصِحَّتُهُ مُنْتَفِيَةٌ. اهـ. ح. مَطْلَبٌ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ.
(قَوْلُهُ: وَأَنَّ الرُّجُوعَ إلَخْ) صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ فِي تَحْرِيرِهِ، وَمِثْلُهُ فِي أُصُولِ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَجَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَالرَّمْلِيُّ فِي شَرْحَيْهِمَا عَلَى الْمِنْهَاجِ وَابْنُ قَاسِمٍ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى مَا إذَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْفِعْلِ السَّابِقِ أَثَرٌ يُؤَدِّي إلَى تَلْفِيقِ الْعَمَلِ بِشَيْءٍ لَا يَقُولُ بِهِ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ، كَتَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَمَالِكٍ فِي طَهَارَةِ الْكَلْبِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَمَا لَوْ أَفْتَى بِبَيْنُونَةِ زَوْجَتِهِ بِطَلَاقِهَا مُكْرَهًا ثُمَّ نَكَحَ أُخْتَهَا مُقَلِّدًا لِلْحَنَفِيِّ بِطَلَاقِ الْمُكْرَهِ ثُمَّ أَفْتَاهُ شَافِعِيٌّ بِعَدَمِ الْحِنْثِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَ الْأُولَى مُقَلِّدًا لِلشَّافِعِيِّ وَالثَّانِيَةَ مُقَلِّدًا لِلْحَنَفِيِّ، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْعِ التَّقْلِيدِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا لَا مِثْلِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ السُّبْكِيُّ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ صَلَّى ظُهْرًا بِمَسْحِ رُبُعِ الرَّأْسِ مُقَلِّدًا لِلْحَنَفِيِّ فَلَيْسَ لَهُ إبْطَالُهَا بِاعْتِقَادِ لُزُومِ مَسْحِ الْكُلِّ مُقَلِّدًا لِلْمَالِكِيِّ. وَأَمَّا لَوْ صَلَّى يَوْمًا عَلَى مَذْهَبٍ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ يَوْمًا آخَرَ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، عَلَى أَنَّ فِي دَعْوَى الِاتِّفَاقِ نَظَرًا، فَقَدْ حُكِيَ الْخِلَافُ، فَيَجُوزُ اتِّبَاعُ الْقَائِلِ بِالْجَوَازِ كَذَا أَفَادَهُ الْعَلَّامَةُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ فِي الْعِقْدِ الْفَرِيدِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ فُرُوعٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ صَرِيحَةٍ بِالْجَوَازِ وَكَلَامٍ طَوِيلٍ: فَتَحَصَّلَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِمَا يُخَالِفُ مَا عَمِلَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ مُقَلِّدًا فِيهِ غَيْرَ إمَامِهِ مُسْتَجْمِعًا شُرُوطَهُ وَيَعْمَلُ بِأَمْرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فِي حَادِثَتَيْنِ لَا تَعَلُّقَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى، وَلَيْسَ لَهُ إبْطَالُ عَيْنِ مَا فَعَلَهُ بِتَقْلِيدِ إمَامٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ إمْضَاءَ الْفِعْلِ كَإِمْضَاءِ الْقَاضِي لَا يُنْقَضُ. وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ لَهُ التَّقْلِيدَ بَعْدَ الْعَمَلِ كَمَا إذَا صَلَّى ظَانًّا صِحَّتَهَا عَلَى مَذْهَبِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهَا فِي مَذْهَبِهِ وَصِحَّتُهَا عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ فَلَهُ تَقْلِيدُهُ، وَيَجْتَزِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ عَلَى مَا قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ: إنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ صَلَّى الْجُمُعَةَ مُغْتَسِلًا مِنْ الْحَمَّامِ ثُمَّ أُخْبِرَ بِفَأْرَةٍ مَيِّتَةٍ فِي بِئْرِ الْحَمَّامِ فَقَالَ نَأْخُذُ بِقَوْلِ إخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» . اهـ.
(قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْخِلَافَ) أَيْ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِيمَا إذَا قَضَى بِغَيْرِ رَأْيِهِ عَمْدًا هَلْ يَنْفُذُ فَعِنْدَهُ، نَعَمْ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا كَمَا فِي التَّحْرِيرِ. وَقَالَ شَارِحُهُ: نَصَّ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمُحِيطِ عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا بِعَدَمِ النَّفَاذِ فِي الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَالْخَانِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ إجْمَاعًا وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى ظَنِّهِ. اهـ.
وَقَدْ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، عَلَى قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا اجْتَهَدَ فِي وَاقِعَةٍ بِحُكْمٍ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فِيهَا اتِّفَاقًا، وَالْخِلَافُ فِي تَقْلِيدِهِ قَبْلَ اجْتِهَادِهِ فِيهَا، وَالْأَكْثَرُ عَلَى الْمَنْعِ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُبْطِلُ دَعْوَى الِاتِّفَاقِ وَأَجَابَ فِي التَّحْرِيرِ بِأَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ بِالنَّفَاذِ لَا يُوجِبُ حَمْلَ الْإِقْدَامِ عَلَى هَذَا الْقَضَاءِ، نَعَمْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي الْحِلِّ وَيَجِبُ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ عَدَمِهِ. اهـ. وَحِينَئِذٍ فَلَا إشْكَالَ فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ إلَخْ) نَقَلَهُ
قُلْت: وَلَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَنُصُّ فِي مَنْشُورِهِ عَلَى نَهْيِهِ عَنْ الْقَضَاءِ بِالْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ، فَكَيْفَ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ فَيَكُونُ مَعْزُولًا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُعْتَمَدِ مِنْ مَذْهَبِهِ، فَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِيهِ وَيُنْقَضُ كَمَا بُسِطَ فِي قَضَاءِ الْفَتْحِ وَالْبَحْرِ وَالنَّهْرِ وَغَيْرِهَا. قَالَ فِي الْبُرْهَانِ: وَهَذَا صَرِيحُ الْحَقِّ الَّذِي يُعَضُّ عَلَيْهِ بِالنَّوَاجِذِ، نَعَمْ أَمْرُ الْأَمِيرِ مَتَى صَادَفَ فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ نَفَذَ أَمْرُهُ، كَمَا فِي سِيَرِ التَّتَارْخَانِيَّة وَشَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ فَلْيُحْفَظْ.
ــ
[رد المحتار]
فِي الْقُنْيَةِ عَنْ الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمُحَقِّقُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَتِلْمِيذُهُ الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ، وَادَّعَى فِي الْبَحْرِ أَنَّ الْمُقَلِّدَ إذَا قَضَى بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ أَوْ بِرِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ أَوْ بِقَوْلٍ ضَعِيفٍ نَفَذَ. وَأَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ مَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ عَنْ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي مُجْتَهِدًا وَقَضَى بِالْفَتْوَى ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ نَفَذَ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ، وَلَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ كَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ الثَّانِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ أَيْضًا اهـ قَالَ فِي النَّهْرِ: وَمَا فِي الْفَتْحِ يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَذْهَبِ وَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْهُمَا، إذْ قُصَارَى الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ النَّاسِي لِمَذْهَبِهِ، وَقَدْ مَرَّ عَنْهُمَا فِي الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ فَالْمُقَلِّدُ أَوْلَى اهـ.
(قَوْلُهُ: فِي مَنْشُورِهِ) الْمَنْشُورُ: مَا كَانَ غَيْرَ مَخْتُومٍ مِنْ كُتُبِ السُّلْطَانِ قَامُوسٌ.
(قَوْلُهُ: فَكَيْفَ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ) أَيْ فَكَيْفَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَهَاهُ عَنْ الْقَضَاءِ بِالْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ فِي مَذْهَبِهِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِيهَا فَبِخِلَافِ مَذْهَبِهِ بِالْأَوْلَى، وَمَبْنَى ذَلِكَ عَلَى مَا قَالُوا إنَّ تَوْلِيَةَ الْقَضَاءِ تَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالشَّخْصِ، فَلَوْ وَلَّاهُ السُّلْطَانُ الْقَضَاءَ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَان مَخْصُوصٍ أَوْ عَلَى جَمَاعَةٍ مَخْصُوصِينَ تَعَيَّنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ، وَلَوْ نَهَاهُ عَنْ سَمَاعِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ فِيهَا، كَمَا إذَا نَهَاهُ عَنْ سَمَاعِ حَادِثَةٍ مَضَى عَلَيْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بِلَا مَانِعٍ شَرْعِيٍّ وَالْخَصْمُ مُنْكِرٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَمَوِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْأَشْبَاهِ أَنَّ عَادَةَ سَلَاطِينِ زَمَانِنَا إذَا تَوَلَّى أَحَدُهُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ قَانُونُ مَنْ قَبْلَهُ وَأُمِرَ بِاتِّبَاعِهِ.
(قَوْلُهُ: وَيَنْقُضُ) لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْزُولًا بِالنِّسْبَةِ لِمَا ذُكِرَ لَا يَصِحُّ لَهُ قَضَاءٌ حَتَّى يَنْقُضَ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا يَكُونُ لِلثَّابِتِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَضَاءٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ ط.
(قَوْلُهُ: قَالَ فِي الْبُرْهَانِ) هُوَ شَرْحُ مَوَاهِبِ الرَّحْمَنِ كِلَاهُمَا لِلْعَلَّامَةِ إبْرَاهِيمِ الطَّرَابُلُسِيِّ صَاحِبِ الْإِسْعَافِ فِي الْأَوْقَافِ.
(قَوْلُهُ: بِالنَّوَاجِذِ) هِيَ أَضْرَاسُ الْحُلُمِ كَمَا فِي الْمُغْرِبِ، وَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ التَّمَسُّكِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الضَّحِكِ وَإِلَّا فَلَا تَبْدُو بِالضَّحِكِ عَادَةً كَمَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ الزَّمَخْشَرِيّ.
(قَوْلُهُ: نَعَمْ أَمْرُ الْأَمِيرِ إلَخْ) تَصْدِيقٌ لِمَا مَرَّ وَاسْتِدْرَاكٌ بِأَمْرِ آخَرَ كَالِاسْتِثْنَاءِ مِمَّا قَبْلَهُ، هَكَذَا عُرْفُ الْمُصَنِّفِينَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ.
(قَوْلُهُ: نَفَذَ أَمْرُهُ) إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الطَّلَبَ بِلَا قَضَاءٍ فَظَاهِرٌ، وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِالنَّفَاذِ وُجُوبُ الِامْتِثَالِ، وَهَذَا الَّذِي رَأَيْته فِي سِيَرِ التَّتَارْخَانِيَّة فِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ طَاعَةُ الْأَمِيرِ وَمَا لَا يَجِبُ، وَنَصُّهُ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَإِذَا أَمَرَ الْأَمِيرُ الْعَسْكَرَ بِشَيْءٍ كَانَ عَلَى الْعَسْكَرِ أَنْ يُطِيعُوهُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَعْصِيَةً بِيَقِينٍ. اهـ. وَلَكِنْ لَا مَحَلَّ لِذِكْرِ هَذَا هُنَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَضَاءَ إلَّا بِتَفْوِيضٍ مِنْ الْإِمَامِ. قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: يَجُوزُ قَضَاءُ الْأَمِيرِ الَّذِي يُولِي الْقَضَاءَ وَكَذَلِكَ كِتَابُهُ إلَى الْقَاضِي إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ، فَقَضَاءُ الْأَمِيرِ لَا يَجُوزُ كَذَا فِي الْمُلْتَقَطِ. وَقَدْ أَفْتَيْت بِأَنَّ تَوْلِيَةَ بَاشَا مِصْرَ قَاضِيًا لِيَحْكُمَ فِي قُبَّةٍ بِمِصْرَ مَعَ وُجُودِ قَاضِيهَا الْمُوَلَّى مِنْ السُّلْطَانِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ ذَلِكَ اهـ فَتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: سِيَرِ) جَمْعُ سِيرَةٍ: وَهِيَ الطَّرِيقَةُ فِي الْأُمُورِ. وَفِي الشَّرْعِ تَخْتَصُّ بِسِيَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَغَازِيهِ هِدَايَةٌ.
(قَوْلُهُ: السِّيَرِ الْكَبِيرِ) لِلْإِمَامِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ ط. وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: وَقَالُوا السِّيَرُ الْكَبِيرُ فَوَصَفُوهَا بِصِفَةِ الْمُذَكَّرِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْمُضَافِ الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ، كَقَوْلِهِمْ: صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَسِيَرُ الْكَبِيرِ خَطَأٌ كَجَامِعِ الصَّغِيرِ وَجَامِعِ الْكَبِيرِ. اهـ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُطْلَقَ قَدْ فُقِدَ، وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَعَلَى سَبْعِ مَرَاتِبَ مَشْهُورَةٍ. وَأَمَّا نَحْنُ فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُ مَا رَجَّحُوهُ وَمَا صَحَّحُوهُ كَمَا لَوْ أَفْتَوْا فِي حَيَاتِهِمْ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ يَحْكُونَ أَقْوَالًا بِلَا تَرْجِيحٍ، وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي الصَّحِيحِ. قُلْت: يُعْمَلُ بِمِثْلِ مَا عَمِلُوا مِنْ اعْتِبَارِ
ــ
[رد المحتار]
مَطْلَبٌ فِي طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ إلَخْ) فِيهِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُطْلَقَ أَحَدُ السَّبْعَةِ. الثَّانِي، أَنَّ بَعْضَ السَّبْعَةِ لَيْسُوا مُجْتَهِدِينَ خُصُوصًا السَّابِعَةَ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ وَالْفُقَهَاءُ عَلَى سَبْعِ مَرَاتِبَ، وَقَدْ أَوْضَحَهَا الْمُحَقِّقُ ابْنُ كَمَالٍ بَاشَا فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ فَقَالَ: لَا بُدَّ لِلْمُفْتِي أَنْ يَعْلَمَ حَالَ مَنْ يُفْتِي بِقَوْلِهِ، وَلَا يَكْفِيهِ مَعْرِفَتُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فِي الرِّوَايَةِ، وَدَرَجَتِهِ فِي الدِّرَايَةِ، وَطَبَقَتِهِ مِنْ طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ، لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ الْمُتَخَالِفِينَ وَقُدْرَةٍ كَافِيَةٍ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ.
الْأُولَى: طَبَقَةُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الشَّرْعِ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رضي الله عنهم وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ فِي تَأْسِيسِ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ، وَبِهِ يَمْتَازُونَ عَنْ غَيْرِهِ.
الثَّانِيَةُ: طَبَقَةُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَذْهَبِ كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَسَائِرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، الْقَادِرِينَ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الَّتِي قَرَّرَهَا أُسْتَاذُهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْأَحْكَامِ وَإِنْ خَالَفُوهُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ، لَكِنْ يُقَلِّدُونَهُ فِي قَوَاعِدِ الْأُصُولِ، وَبِهِ يَمْتَازُونَ عَنْ الْمُعَارِضِينَ فِي الْمَذْهَبِ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ غَيْرِ مُقَلِّدِينَ لَهُ فِي الْأُصُولِ.
الثَّالِثَةُ: طَبَقَةُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ كَالْخَصَّافِ وَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيِّ وَفَخْرِ الدِّينِ قَاضِي خَانْ وَأَمْثَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ لَكِنَّهُمْ يَسْتَنْبِطُونَ الْأَحْكَامَ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا عَلَى حَسَبِ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ.
الرَّابِعَةُ: طَبَقَةُ أَصْحَابِ التَّخْرِيجِ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ كَالرَّازِيِّ وَأَضْرَابِهِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاجْتِهَادِ أَصْلًا، لَكِنَّهُمْ لِإِحَاطَتِهِمْ بِالْأُصُولِ وَضَبْطِهِمْ لِلْمَآخِذِ يَقْدِرُونَ عَلَى تَفْصِيلِ قَوْلٍ مُجْمَلٍ ذِي وَجْهَيْنِ، وَحُكْمٍ مُبْهَمٍ مُحْتَمِلٍ لِأَمْرَيْنِ، مَنْقُولٍ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِرَأْيِهِمْ وَنَظَرِهِمْ فِي الْأُصُولِ وَالْمُقَايَسَةِ عَلَى أَمْثَالِهِ وَنَظَائِرِهِ مِنْ الْفُرُوعِ. وَمَا فِي الْهِدَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ كَذَا فِي تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ وَتَخْرِيجِ الرَّازِيّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
الْخَامِسَةُ: طَبَقَةُ أَصْحَابِ التَّرْجِيحِ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ كَأَبِي الْحَسَنِ الْقُدُورِيِّ، وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَأَمْثَالِهِمْ، وَشَأْنُهُمْ تَفْضِيلُ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِمْ هَذَا أَوْلَى، وَهَذَا أَصَحُّ رِوَايَةً، وَهَذَا أَوْفَقُ لِلنَّاسِ.
وَالسَّادِسَةُ: طَبَقَةُ الْمُقَلِّدِينَ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَقْوَى وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ وَظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَالرِّوَايَةِ النَّادِرَةِ، كَأَصْحَابِ الْمُتُونِ الْمُعْتَبَرَةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِثْلُ صَاحِبِ الْكَنْزِ، وَصَاحِبِ الْمُخْتَارِ، وَصَاحِبِ الْوِقَايَةِ، وَصَاحِبِ الْمَجْمَعِ، وَشَأْنُهُمْ أَنْ لَا يَنْقُلُوا الْأَقْوَالَ الْمَرْدُودَةَ وَالرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةَ.
وَالسَّابِعَةُ: طَبَقَةُ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ اهـ بِنَوْعِ اخْتِصَارٍ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا نَحْنُ) يَعْنِي أَهْلَ الطَّبَقَةِ السَّابِعَةِ، وَهَذَا مَعَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مَأْخُوذٌ مِنْ تَصْحِيحِ الشَّيْخِ قَاسِمٍ.
(قَوْلُهُ: كَمَا لَوْ أَفْتَوْا فِي حَيَاتِهِمْ) أَيْ كَمَا نَتْبَعُهُمْ لَوْ كَانُوا أَحْيَاءً وَأَفْتَوْنَا بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُنَا مُخَالَفَتُهُمْ.
(قَوْلُهُ: بِلَا تَرْجِيحٍ)
تَغَيُّرِ الْعُرْفِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ، وَمَا هُوَ الْأَوْفَقُ وَمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ التَّعَامُلُ وَمَا قَوِيَ وَجْهُهُ، وَلَا يَخْلُو الْوُجُودُ عَمَّنْ يُمَيِّزُ هَذَا حَقِيقَةً لَا ظَنًّا، وَعَلَى مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ أَنْ يَرْجِعَ لِمَنْ يُمَيِّزُ لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى التَّوْفِيقَ وَالْقَبُولَ، بِجَاهِ الرَّسُولِ، كَيْفَ لَا وَقَدْ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءَ تَبْيِيضِهِ فِي الرَّوْضَةِ الْمَحْرُوسَةِ، وَالْبُقْعَةِ الْمَأْنُوسَةِ، تُجَاهَ وَجْهِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ، وَحَائِزِ الْكَمَالِ وَالْبَسَالَةِ، وَضَجِيعَيْهِ الْجَلِيلَيْنِ الضِّرْغَامَيْنِ الْكَامِلَيْنِ رضي الله عنهما، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَوَالِدِينَا وَمُقَلِّدِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ، ثُمَّ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ الشَّرِيفَةِ تَحْتَ الْمِيزَابِ، وَفِي الْحَطِيمِ وَالْمَقَامِ، وَاَللَّهُ الْمُيَسِّرُ لِلتَّمَامِ.
ــ
[رد المحتار]
أَيْ صَرِيحٍ أَوْ ضِمْنِيٍّ: فَالصَّرِيحُ ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرَهُ سَابِقًا. وَالضِّمْنِيُّ مَا نَبَّهْنَاك عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَفِي وَقْفِ الْبَحْرِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ وَالْآخَرُ غَيْرَهَا فَقَدْ صَرَّحُوا إجْمَالًا بِأَنَّهُ لَا يَعْدِلُ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَهُوَ تَرْجِيحٌ ضِمْنِيٌّ لِكُلِّ مَا كَانَ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ بِلَا تَرْجِيحٍ صَرِيحٍ لِمُقَابِلِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُتُونِ أَوْ الشُّرُوحِ، أَوْ كَانَ قَوْلَ الْإِمَامِ، أَوْ كَانَ هُوَ الِاسْتِحْسَانُ فِي غَيْرِ مَا اسْتَثْنَى، أَوْ كَانَ أَنْفَعَ الْوَقْفِ.
(قَوْلُهُ: وَمَا قَوِيَ وَجْهُهُ) أَيْ دَلِيلُهُ الْمَنْقُولُ الْحَاصِلُ لَا الْمُسْتَحْصِلُ؛ لِأَنَّهُ رُتْبَةُ الْمُجْتَهِدِ.
(قَوْلُهُ: وَلَا يَخْلُو الْوُجُودُ) أَيْ الْمَوْجُودُونَ أَوْ الزَّمَانُ.
(قَوْلُهُ: حَقِيقَةً) الظَّاهِرُ رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِهِ وَلَا يَخْلُو، وَأَرَادَ بِالْحَقِيقَةِ الْيَقِينَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَقِّ الْأَمْرِ إذَا ثَبَتَ وَالْيَقِينُ ثَابِتٌ، وَلِذَا عَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ لَا ظَنًّا، وَجَزَمَ بِذَلِكَ أَخْذًا مِمَّا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى تَأْتِيَ السَّاعَةُ» .
(قَوْلُهُ: وَعَلَى مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ) أَيْ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ كَأَكْثَرِ الْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ فِي زَمَانِنَا الْآخِذِينَ الْمَنَاصِبَ بِالْمَالِ وَالْمَرَاتِبِ، وَعَبَّرَ بِعَلَى الْمُفِيدَةِ لِلْوُجُوبِ لِلْأَمْرِ بِهِ فِي قَوْلِهِ - {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]-.
(قَوْلُهُ: فَنَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ) أَيْ إلَى اتِّبَاعِ الرَّاجِحِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ وَمَا يُوصِلُ إلَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَقَامَ أَصْعَبُ مَا يَكُونُ عَلَى مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ أَوْ الْإِفْتَاءِ. وَالتَّوْفِيقُ خَلْقُ قُدْرَةِ الطَّاعَةِ فِي الْعَبْدِ مَعَ الدَّاعِيَةِ إلَيْهَا.
(قَوْلُهُ: وَالْقَبُولَ) أَيْ قَبُولَ سَعْيِنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، بِأَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، لِيَحْصُلَ بِهِ النَّفْعُ الْعَمِيمُ وَالثَّوَابُ الْعَظِيمُ.
(قَوْلُهُ: بِجَاهِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ نَسْأَلُ: أَيْ نَسْأَلُهُ مُتَوَسَّلِينَ فَلَيْسَتْ الْبَاءُ لِلْقَسَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ. وَالْجَاهُ الْقَدْرُ وَالْمَنْزِلَةُ قَامُوسٌ.
(قَوْلُهُ: كَيْفَ لَا) أَيْ كَيْفَ لَا نَسْأَلُهُ الْقَبُولَ وَقَدْ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُفِيدُ الظَّنَّ بِحُصُولِهِ.
(قَوْلُهُ: فِي الرَّوْضَةِ) هِيَ مَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ الشَّرِيفِ، وَتُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَيْهِ يَظْهَرُ قَوْلُهُ تُجَاهَ وَجْهِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا تُمْكِنُ مُوَاجِهَةُ الْوَجْهِ الشَّرِيفِ.
(قَوْلُهُ: وَالْبَسَالَةِ) أَيْ الشَّجَاعَةِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ.
(قَوْلُهُ: الضِّرْغَامَيْنِ) تَثْنِيَةُ ضِرْغَامٍ كَجِرْيَالٍ وَهُوَ الْأَسَدُ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا ضَرْغَمٌ كَجَعْفَرٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَتَثْنِيَةُ الثَّانِي ضَرْغَمَيْنِ كَجَعْفَرَيْنِ، فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: ثُمَّ تُجَاهَ) عَطْفٌ عَلَى تُجَاهٍ الْأَوَّلِ، فَالِابْتِدَاءُ الْحَقِيقِيُّ تُجَاهَ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ صلى الله عليه وسلم، وَالْإِضَافِيُّ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ ط.
(قَوْلُهُ: وَفِي الْحَطِيمِ) أَيْ الْمَحْطُومِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ حُطِّمَ مِنْ الْبَيْتِ وَأُخْرِجَ، أَوْ الْحَاطِمُ لِأَنَّهُ يُحَطِّمُ الذُّنُوبَ ط.
(قَوْلُهُ: وَالْمَقَامِ) أَيْ مَقَامِ الْخَلِيلِ، وَهُوَ حَجَرٌ كَانَ يَقُومُ عَلَيْهِ الْخَلِيلُ عليه الصلاة والسلام حَالَ بِنَاءِ الْبَيْتِ الشَّرِيفِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ط.
(قَوْلُهُ: الْمُيَسِّرُ) أَيْ الْمُسَهِّلُ، وَيَتَوَقَّفُ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ تَعَالَى عَلَى التَّوْقِيفِ وَإِنْ صَحَّ مَعْنَاهُ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
(قَوْلُهُ: لِلتَّمَامِ) مَصْدَرُ تَمَّ يَتِمُّ وَاسْمٌ لِمَا يَتِمُّ بِهِ الشَّيْءُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَعَلَى الثَّانِي فَالْمُرَادُ بُلُوغُ التَّمَامِ، وَكَذَا يَقُولُ أَسِيرُ الذُّنُوبِ جَامِعُ هَذِهِ الْأَوْرَاقِ رَاجِيًا مِنْ مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ، مُتَوَسِّلًا بِنَبِيِّهِ الْعَظِيمِ وَبِكُلِّ ذِي جَاهٍ عِنْدَهُ تَعَالَى أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ كَرَمًا وَفَضْلًا بِقَبُولِ هَذَا السَّعْيِ وَالنَّفْعِ بِهِ لِلْعِبَادِ، فِي عَامَّةِ الْبِلَادِ، وَبُلُوغِ الْمَرَامِ، بِحُسْنِ الْخِتَامِ، وَالِاخْتِتَامِ، آمِينَ.