الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو المقمر.
[التشبيه الملفوف والمفروق]:
(وأيضا) تقسيم آخر للتشبيه باعتبار الطرفين؛ وهو أنه (إن تعدد طرفاه فإما ملفوف) وهو أن يؤتى أوّلا
…
===
شابه زهر الربا أى: الهيئة المنتزعة من ذلك
(قوله: وهو المقمر) أى: الليل المقمر، قال فى المطول: ولا يخلو التمثيل بهذا المثال لتشبيه المركب بالمفرد عن تسامح؛ لأن قوله مقمر:
بتقدير ليل مقمر، وحينئذ ففى المشبه به تعدد وشائبة تركب، والجواب: أن الوصف والإضافة لا تمنع الإفراد، لما سبق أن المراد بالمركب الهيئة الحاصلة من عدة أشياء، والمشبه به هنا ليس كذلك بل مفرد مقيد بقيد، وحينئذ فلا تسمح على أن صاحب القاموس ذكر أن المقمر، والمقمر: ليلة فيها قمر فليس فى الكلام تقدير الموصوف حتى يرد الاعتراض.
(قوله: وأيضا) أى: ونعود أيضا إلى تقسيم آخر لمطلق التشبيه (وقوله: باعتبار الطرفين) أى: باعتبار وجود التعدد فيهما أو فى أحدهما.
واعلم أن هذا التقسيم لا يناسب التقسيمات الأخر؛ لأنها كانت تقسيمات لتشبيه واحد وهذا تقسيم للتشبيهات المتعددة، إذ لا يتعدد طرفا تشبيه واحد ولم يعدّ تشبيه المتعدد بالمتعدد قسما من الأقسام السابقة فى قوله وهو باعتبار طرفيه إما تشبيه مفرد بمفرد .. إلخ، بأن يقال: وإما تشبيه متعدد بمتعدد؛ لأنه تشبيه المفرد بالمفرد حقيقة فلا معنى لجعله قسيما له، وأيضا هذه الأمور المنقسم إليها التشبيه- أعنى: اللف والتفريق والجمع والتسوية- الأقرب فيها أنها من البديع؛ لأنها من أفراد اللف والنشر الذى هو من الصنائع البديعة، وكأن وجه التعرض لها وسياقها فى التشبيه تكميل أقسامه مع أن بعضها وهو الملفوف يشبه تشبيه المركب بالمركب، وبعضها وهو التسوية يشبه تشبيه المركب بالمفرد وبعضها وهو الجمع يشبه تشبيه المفرد بالمركب وإن كان لا إلباس فيها ولا يخفى أن المفروق والملفوف لا يخص بالطرف بل يجرى فى الوجه أيضا- فتأمله.
(قوله: إن تعدد طرفاه) أى: كلّ منهما بحيث صار تشبيهات لا تشبيها واحدا
(قوله: فإما ملفوف) سمّى بذلك للفّ المشبهات فيه- أى: ضم بعضها إلى بعض- وكذلك
بالمشبهات على طريق العطف أو غيره، ثم المشبه به كذلك (كقوله) فى صفة العقاب بكثرة اصطياد الطيور (1):
(كأنّ قلوب الطير رطبا) بعضها (ويابسا) بعضها
…
===
المشبهات بها
(قوله: بالمشبهات) أراد بالجمع ما فوق الواحد
(قوله: على طريق العطف) أى: الفارق بين الأشياء كما فى البيت الآتى (وقوله: أو غيره) كأنه أراد به مثل قولنا:
كالقمرين زيد وعمرو إذا أريد تشبيه أحدهما بالشمس والآخر بالقمر- اه أطول.
(قوله: ثم بالمشبه به) أراد الجنس أى: المشبهين أو المشبهات (وقوله: كذلك) أى: على طريق العطف أو غيره.
(قوله: كقوله) أى: قول الشاعر وهو امرئ القيس
(قوله: فى صفة) أى: فى وصف. والعقاب مؤنثة، ولذا يجمع فى القلة على أعقب؛ لأن أفعل يختص به جمع الإناث نحو: عناق وأعنق، وذراع وأذرع، ووجه كون البيت وصفا للعقاب بكثرة اصطياد الطير أنه يلزم من كون قلوب الطير عند وكرها بعضها رطبا وبعضها يابسا كثرة اصطياده، وهذا البيت من قصيدته التى أوّلها:
ألا عم صباحا أيها الطّلل البالى
…
وهل يعمن من كان فى العصر الخالى (2)
(قوله: قلوب) القلوب هو المشبه، ولما قسمه إلى قسمين كان متعددا، فلذا عدّ من التشبيه المتعدد لا من الواحد (وقوله: العناب والحشف البالى) مشبه به وهو متعدد أيضا، والطير:
اسم جمع لطائر، وأل فيه للجنس الصادق بالكثير بدليل جمع القلوب
(قوله: رطبا ويابسا) حالان من القلوب، والعامل فيهما كأن لتضمنها معنى التشبيه أى: أشبه قلوب الطير حال كونها رطبا ويابسا، ويردّ عليهما أن الحال يجب مطابقتها لصاحبها فى التذكير والتأنيث، وقد انعدمت المطابقة هنا حيث لم يقل رطبة ويابسة، وأشار الشارح لدفع ذلك بقوله: رطبا بعضها ويابسا بعضها، وحاصل ذلك الدفع: أن الضمير فى" رطبا" ويابسا" راجع للقلوب باعتبار بعضها؛ لأن بعض القلوب قلوب فلذا ذكر رطبا ويابسا
(1) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص 38، والإشارات ص 182، وعقود الجمان 2/ 26.
(2)
البيت هو مطلع قصيدة لامرئ القيس فى ديوانه ص 122.
(لدى وكرها العنّاب والحشف) هو أردأ التمر (البالى) شبه الرطب الطرى من قلوب الطير بالعناب، واليابس العتيق منها بالحشف البالى؛
…
===
وليس الضمير فيهما راجعا للقلوب باعتبار كلها حتى يرد الإشكال، ولا ضرر فى عود الضمير على الأمر العام باعتبار بعضه، إذ عموم المرجع لا يقتضى عموم الراجع كما فى قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ (1) بعد قوله: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
…
إلخ الشامل للرجعيات وغيرهن، وعلى هذا فقول الشارح:" بعضها" بعد" رطبا ويابسا" بدل من الضمير المستتر فيهما أو تفسير له على حذف، أى: لا أنه فاعل برطبا ويابسا؛ لأن حذف الفاعل وإبقاء رافعه لا يجيزه البصريون ولا بعض الكوفيين، والحاصل: أن الرطوبة واليبوسة لما كانا لا يجتمعان فى محلّ واحد علم أن كل واحد منهما وصف لغير ما ثبت له الآخر فلزم كونهما حالين على التوزيع، فالضمير فى كلّ منهما يعود إلى موصوفه وهو البعض المشمول للقلوب، فلذا فسر الشارح الضميرين بأن قال: رطبا بعضها ويابسا بعضها ولم يرد أن لفظ البعض فيهما هو الفاعل حتى يلزم حذف الفاعل الظاهر وهو غير موجود فى فصيح الكلام
(قوله: لدى وكرها) أى: العقاب والوكر عش الطائر وإن لم يكن فيه، ثم إن الظرف يحتمل أن يكون حالا من قلوب ولا يصح أن يكون حالا من رطبا ويابسا؛ لأن الحال لا يجىء من الحال. نعم يمكن أن يكون حالا من الضمير المستتر فيهما، ويحتمل أن يكون حالا من العنّاب والحشف مقدّما عليهما، ويحتمل أن يكون صفة لرطبا ويابسا عملا بقاعدة أن الظرف بعد النكرة صفة لها- قاله فى الأطول.
(قوله: العنّاب) بزنة رمّان وهو حبّ أحمر مائل للكدرة قدر قلوب الطير ثمر السدر البستانى، وهذا هو الأول من المشبه بهما وهو المقابل للقلب الرطب؛ لأنه يشاكله فى اللون والقدر والشكل
(قوله: والحشف) بزنة فرس وهذا هو الثانى من المشبه بهما وهو المقابل للقلب اليابس الذى لا يشاكله فى اللون والشكل والقدر والتكاميش، ووصفه بالبالى تأكيد؛ لأنه وصف كاشف.
(1) البقرة: 228.
إذ ليس لاجتماعهما هيئة مخصوصة يعتدّ بها ويقصد تشبيهها، إلا أنه ذكر أوّلا المشبهين، ثم المشبه بهما على الترتيب.
(أو مفروق) وهو أن يؤتى بمشبه ومشبه به، ثم آخر وآخر
…
===
(قوله: إذ ليس .. إلخ) علّة لمحذوف أى: وليس هذا من المركب المتعدد، وحاصل ما ذكره: أنه إنما جعل من تشبيه المفرد المتعدد ولم يجعل من تشبيه المركب بالمركب؛ لأنه ليس لانضمام الرطب من القلوب إلى اليابس منها هيئة يقصد ذكرها، ولا لاجتماع العناب مع الحشف البالى هيئة حتى يكون من تشبيه المركب؛ ولذا لو فرق التشبيه وقيل:
كأن الرطب من القلوب عناب وكأن اليابس منها حشف لم يكن أحد التشبيهين موقوفا فى الفائدة على الآخر، فالتشبيه على هذا الوجه إنما يستحق الفضيلة من حيث الاختصار فقط بحذف أداة التشبيه من أحد التشبيهين
(قوله: يعتدّ بها) أى: من حيث استحسان الذوق لها أو استطراف السامع لها
(قوله: إلا أنه .. إلخ) هذا قد فهم من قوله سابقا وهو أن يؤتى، لكن ذكره هنا بمنزلة أن يقال بعد تقرير الكلام، والحاصل: أنه ..
إلخ وقرر بعضهم أن الأقرب أنه راجع لقوله شبه الرطب .. إلخ
(قوله: وهو أن يؤتى ..
إلخ) سمّى مفروقا؛ لأنه فرق بين المشبهات بالمشبهات بها وفرق بين المشبهات بها بالمشبهات
(قوله: كقوله) أى: كقول المرقش الأكبر فى وصف نسوة، والمرقش من الترقيش: وهو التزيين والتحسين، يقال: إنما لقب بالمرقش لهذا البيت، واسمه: عمرو أو عوف بن سعد من بنى سدوس، واحترز بالأكبر عن المرقش الأصغر وهو من بنى سعد- قاله الفنرى، وفى شرح الشواهد أن الأصغر ابن أخى الأكبر، واسمه: ربيعة أو عمرو وهو عمّ طرفة بن العبد، وذكر فيه أيضا أن هذا البيت من مرثية عمّ له أولها:
هل (1) بالدّيار أن تجيب صمم
…
لو أنّ حيّا ناطقا كلّم
الدار وحش والرسوم كما
…
رقّش فى ظهر الأديم قلم
ديار أسماء التى سلبت
…
قلبى فعينى ماؤها يسجم
(1) الأبيات للمرقش فى ديوانه ص 587، 586، 585، ملهم: قرية لبنى يشكر وأخلاط من بنى بكر توصف بكثرة النخل وهى من قرى اليمامة.
(كقوله (1):
النشر) أى: الطيب والرائحة
(مسك والوجوه دنا
…
نير وأطراف الأكفّ)
===
أضحت خلاء نبتها تئد
…
نوّر فيها زهره فاعتم
بل هل شجتك الظّعن باكرة
…
كأنهنّ النّخل من ملهم
وبعده البيت، ومنها:
لسنا كأقوام خلائقهم
…
نثّ الحديث ونهكة المحرم
إن يخصبوا يعيوا بخصبهم
…
أو يجدبوا فهم به ألأم
وهى قصيدة طويلة ليست بصحيحة الوزن، ولا حسنة الروى، ولا متخيرة اللفظ، ولا لطيفة المعنى.
قال ابن قتيبة: ولا أعلم فيها شيئا يستحسن إلا قوله النشر مسك
…
البيت، ويستجاد منها قوله أيضا:
ليس على طول الحياة ندم
…
ومن وراء المرء ما يعلم
(قوله: النشر مسك) أى: النشر من هؤلاء النسوة نشر مسك أى: رائحتهن الذاتية كرائحة المسك فى الاستطابة، فالمشبه الرائحة الذاتية للنساء والمشبه به رائحة المسك على حذف مضاف كما علمت
(قوله: الطيب والرائحة) فى القاموس: النشر: الريح الطيبة أو أعم أو ريح فم المرأة والكل مناسب للمقام، وأما تفسير الشارح له بالطيب فإن أراد به أن الطيب الذى تستعمله تلك النساء مسك فلا تشبيه فيه، وإن أراد أن طيب تلك النساء غير المسك كالمسك فمع كونه بعيدا ليس فيه كبير مدح، فالصواب حذف لفظ الطيب والاقتصار على الرائحة- قاله عبد الحكيم.
(قوله: والوجوه) أى: منهن (وقوله: دنانير) أى: كالدنانير فى الاستدارة والاستنارة مع مخالطة الصفرة؛ لأن الصفرة مما يستحسن فى ألوان النساء، والدنانير فى البيت مصروفة للضرورة
(قوله: وأطراف الأكفّ) أى: منهن، وأراد بأطراف الأكفّ
(1) البيت للمرقش الأكبر ربيعة بن سعد بن مالك، وفى الإشارات ص 182 والأسرار ص 123 وعقود الجمان 2/ 26.
وروى: أطراف البنان (عنم) هو شجر أحمر لين.
(وإن تعدد طرفه الأول) يعنى: المشبه دون الثانى (فتشبيه التسوية كقوله:
صدغ الحبيب وحالى
…
كلاهما كالليالى
===
الأصابع
(قوله: أطراف البنان) على هذه الرواية الإضافة بيانية
(قوله: عنم) أى: كعنم يقرأ بالسكون لما علمت من أن روى القصيدة ساكن، والحاصل: أن فى هذا البيت ثلاثة تشبيهات كلّ منها مستقلّ بنفسه ليس بينها امتزاج يحصل منه شىء واحد؛ لأنه شبه نشرهن برائحة المسك فى الاستطابة، ووجوههن بالدنانير فى الاستدارة والاستتارة، وأطراف الأكفّ- وهى الأصابع- بالعنم الذى هو شجر لين الأغصان أحمر يشبه أصابع الجوارى المخضبة
(قوله: وإن تعدد طرفه الأول) أى: بعطف أو بغيره
(قوله: فتشبيه التسوية) سمى بذلك؛ لأن المتكلم سوى بين شيئين أو أكثر بواحد فى التشبيه
(قوله: كقوله) قال فى شرح الشواهد: هذا البيت من المجتثّ، ولا أعلم قائله
(قوله: صدغ الحبيب)(1) بضم الصاد وهو ما بين الأذن والعين، ويطلق على الشعر المتدلّى من رأسه على هذا الموضع، وهو المراد هنا
(قوله: كلاهما كالليالى) أى: كلّ منهما كالليالى فى السواد، إلا أن السواد فى حاله تخييلى، فقد تعدد المشبه وهو شعر صدغه وحاله واتحد المشبه به وهو الليالى، وإنما كان المشبه به متحدا؛ لأن المراد بالتعدد هنا وجود معنيين مختلفى المفهوم والمصدوق لا وجود أجزاء لشىء مع تساويها كالليالى، وفى بعض الحواشى أنه أراد بالحال الجنس المتحقق فى متعدد أى: وأحوالى، وحينئذ فيصح جعلها هى والصدغ كالليالى فكلّ من صدغيه كليل وكل حال كليل، وبعد البيت المذكور:
وثغره فى صفاء
…
وأدمعى كاللآلى
أى: وثغره وأدمعى كاللآلى فى الصفاء، ففيه شاهد أيضا حيث شبه ثغره- أى: مقدم أسنانه- ودموعه باللآلى- أى: الدرر- فى الصفاء والإشراق.
(1) البيت بلا نسبة فى عقود الجمان 2/ 26.
وإن تعدد طرفه الثانى) يعنى: المشبه به دون الأول (فتشبيه الجمع كقوله)
بات نديما لى حتّى الصباح
…
أغيد مجدول مكان الوشاح
(كأنما يبسم) ذلك الأغيد؛
…
===
قال فى الأطول: ووصف دمعه بالصفاء ينبئ عن كثرة بكائه؛ لأنه إذا كثر ماء المنبع يصفو عن الكدر؛ لأنه يغسل المنبع ويدفع عنه الكدرات التى تمتزج بالماء بخلاف ما إذا جرى أحيانا فإنه يكون مكدّرا بكدرات المنبع
(قوله: فتشبيه الجمع) سمّى بذلك؛ لأن المتكلم جمع فيه للمشبه وجوه شبه، أو لأنه جمع له أمورا مشبها بها
(قوله: كقوله) أى: البحترى من قصيدة من السريع يمدح بها أبا نوح عيسى بن إبراهيم أوّلها: بات نديما لى حتى الصباح
…
،
وبعد البيتين:
تحسبه نشوان إمّا رنا
…
للفتر من أجفانه وهو صاح
بتّ أفدّيه ولا أرعوى
…
لنهى ناه عنه أو لحى لاح
أمزج كاسى بجنى ريقه
…
وإنما أمزج راحا براح
يساقط الورد علينا وقد
…
تبلّج الصّبح نسيم الرياح
أغضيت عن بعض الذى يتّقى
…
من حرج فى حبّه أو جناح
سحر العيون النّجل مستهلك
…
لبّى وتوريد الخدود الملاح
(قوله: نديما) خبر بات، والنديم وهو المنادم حالة شرب الراح، ولكن المراد هنا المؤانس بالليل، وحتى: غائية بمعنى إلى وأغيد: اسم بات (وقوله: مجدول) مكان الوشاح بإضافة مجدول لما بعده، والمجدول فى الأصل المطوى المدمج أى: المدخل بعضه فى بعض غير المسترخى، والمراد هنا لازمه أى: ضامر الحاضرتين والبطن؛ لأن ذلك موضع الوشاح وهو جلد عريض يرصّع بالجواهر وما يشبهها يشدّ فى الوسط أو يجعل على المنكب الأيسر معقود تحت الإبط الأيمن للتزيّن.
(قوله: كأنما يبسم)(1) بكسر السين من باب ضرب وحكى بعضهم ضمها أى: كأن ذلك الأغيد متبسم، ولما اتصلت ما الكافة بكأن صلحت للدخول على الفعل،
(1) البيت للبحترى فى ديوانه: " كأنما يضحك" بدلا من" كأنما يبسم" والبيت من قصيدة يمدح بها عيسى بن إبراهيم، ديوانه 1/ 435 والإشارات ص 183.
أى: الناعم البدن (عن لؤلؤ منضد) منظم (أو برد) هو حب الغمام (أو أقاح) جمع أقحوان، وهو ورد له نور؛ شبه ثغره بثلاثة أشياء.
===
والتبسم أقل الضحك وأحسنه، وضمن يبسم معنى يكشف فعداه بعن
(قوله: أى الناعم البدن) فى الصحاح يقال: امرأة غيداء وغادة: أيضا ناعمة، ورجل أغيد، وسنان مائل الرأس من النعاس وهو مخالف لتفسير الشارح وأنسب بقوله بات نديما لى حتى الصباح- تأمل.
(قوله: أو برد) الظاهر أن أو للتنويع، والبرد بفتح الراء ولم يصفه بالمنضد لانسياق الذهن إليه من وصف اللؤلؤ- قاله فى الأطول.
(قوله: حب الغمام) أى: الحب النازل من الغمام أى: السحاب مع المطر كالملح
(قوله: أو أقاح) بفتح الهمزة وكسرها لحن وهو البابونج كما فى الأطول. وهو نور ينفتح كالورد، وأوراقه فى شكلها أشبه شىء بالأسنان فى اعتدالها ومنه أبيض الأوراق وهو المراد هنا ومنه الأصفر، وتلك الأوراق البيض المشكلة بشكل الأسنان المعتدلة هى المعتبرة فى التشبيه ولا عبرة بما أحاطت به من الصفرة؛ لأن المراد تشبيه الأسنان لا مجموع الثغر حتى يقال مما يستقبح كون منبت الأسنان أصفر الذى هو هيئة الأقحوان؛ لأن الأوراق فيه نابتة فى صفرة فلا يحسن التشبيه به- فافهم- اه يعقوبى.
(قوله: أقحوان) بضم الهمزة، وقوله: وهو ورد له نور، لعلّ الأولى وهو نور ينفتح كالورد كما عبّر به ابن يعقوب، وإلا فظاهره أن نوره غيره
(قوله: شبه ثغره بثلاثة أشياء) قال يس: الثغر هو مقدم الأسنان وفى كلام غيره أن الثغر هو الفم بتمامه، وحينئذ ففى كلام الشارح حذف مضاف أى: شبه سن ثغره، أو أنه مجاز من إطلاق اسم الكل على الجزء، وفى جعل هذا البيت من باب التشبيه نظر؛ لأن المشبه- أعنى الثغر- غير مذكور لا لفظا ولا تقديرا، وحينئذ فهو من باب الاستعارة لا من باب التشبيه الذى كلامنا فيه، وقد يجاب بأنه تشبيه ضمنىّ لا صريح؛ وذلك لأن أصل اللفظ كأنما يبسم تبسما كتبسم المذكورات مجازا، وتشبيه التبسم بالبتسم يستلزم تشبيه الثغر بالمذكورات، ويدل على أن المقصود التشبيه وجود كأن؛ لأن المجاز يجب أن لا يشمّ فيه رائحة التشبيه لفظا ولا تقديرا، ولولا لفظ كأن لأمكن أن يكون مجازا.
(وباعتبار وجهه) عطف على قوله: [باعتبار الطرفين]:
(إما تمثيل: وهو ما) أى: التشبيه الذى (وجهه) وصف (منتزع من متعدد) أى: أمرين، أو أمور (كما مر) من تشبيه الثريّا، وتشبيه مثار النقع مع الأسياف،
…
===
بقى شىء آخر: وهو أن الظاهر من تعبيره بأو: أنه شبه الثغر بواحد دائر بين الثلاثة إلا أن يقال: إن" أو" فى البيت بمعنى الواو أو أنه لما لم يعين واحدا بخصوصه بل هو دائر بين الثلاثة كان كأنه شبهه بالثلاثة- كذا كتب شيخنا الحفنى، وفى الأطول: شبه ثغره بثلاثة أشياء إلا أنه أورد كلمة" أو" تنبيها على أن كلّا مشبه به على حدة وكلمة" أو" للتسوية لا للإيهام حتى يرد أنه ينبغى الواو، فيوجه بأن" أو" بمعنى الواو، وكيف تجعل أو بمعنى الواو مع أنها أحسن من الواو لخلوّه عن وصمة إيهام جعل المجموع مشبها به؟
(قوله: وباعتبار وجهه .. إلخ) يعنى أنه باعتبار وجهه له ثلاث تقسيمات أوليات- الأوّل تقسيمه إلى التمثيل وغير التمثيل. والثانى: تقسيمه إلى مجمل ومفصل.
والثالث: تقسيمه لقريب وبعيد
(قوله: إما تمثيل وإما غير تمثيل) اعترضه العصام بأن تقسيم التشبيه للتمثيل وغيره من تقسيم الشىء إلى نفسه وإلى غيره؛ لأن التمثيل يرادف التشبيه كما يشهد لذلك كلام الكشاف حيث يستعمله استعمال التشبيه، وأجيب بأن التمثيل مشترك بين مطلق التشبيه وبين ما هو أخص منه فما هو مقسم المعنى الأعم والقسم وهو المعنى الأخص، وحينئذ فلا إشكال
(قوله: وصف منتزع) أى: هيئة مأخوذة من متعدد سواء كان الطرفان مفردين أو مركبين أو كان أحدهما مفردا والآخر مركبا، وسواء كان ذلك الوصف المنتزع حسيّا بأن كان منتزعا من حسى أو عقليّا أو اعتباريّا وهميّا- هذا مذهب الجمهور، وتسميتهم التشبيه الذى وجهه ما ذكر تمثيلا تسمية اصطلاحية
(قوله: أمرين أو أمور) فيه إشارة إلى نكتة اختيار متعدد دون أمور
(قوله: كما مرّ من تشبيه الثريّا) أى: بعنقود الملّاحية المنور فالطرفان مفردان
(قوله: وتشبيه مثار النقع مع الأسياف) أى: بالليل الذى تتهاوى كواكبه من سائر الجهات، فالطرفان فى هذا مركبان.
وتشبيه الشمس بالمرآة فى كفّ الأشلّ، وغير ذلك (وقيّده) أى: المنتزع من متعدد (السكاكى بكونه غير حقيقى) حيث قال: التشبيه متى كان وجهه وصفا غير حقيقى، وكان منتزعا من عدة أمور خص باسم التمثيل (كما فى تشبيه مثل اليهود بمثل الحمار) فإن وجه التشبيه هو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع الكدّ والتعب فى استصحابه؛ فهو وصف مركب من متعدد، وليس بحقيقى، بل هو عائد إلى التوهم.
===
(قوله: وتشبيه الشمس بالمرآة فى كفّ الأشلّ) فالمشبه مفرد والمشبه به مركب
(قوله: وغير ذلك) أى: كتشبيه المرآة فى كف الأشل بالشمس، فالمشبه مركب والمشبه به مفرد ووجه الشبه فى الجميع هيئة منتزعة من عدة أمور، والمراد بالمتعدد ما له تعدد فى الجملة سواء كان ذلك التعدد متعلقا بأجزاء الشىء الواحد أو لا فدخل فيه على هذا أربعة (الأقسام المذكورة) أعنى ما كان طرفاه مفردين أو مركبين أو الأول مفردا، والثانى مركبا أو بالعكس، وقد علمت أمثلتها فى الشارح على هذا الترتيب
(قوله: بكونه) أى: الوصف المنتزع من متعدد
(قوله: غير حقيقى) أى: غير متحقق حسّا ولا عقلا بل كان اعتباريّا وهميّا، فينحصر التمثيل عنده فى التشبيه الذى وجهه مركب اعتبارىّ وهمىّ كحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع الكد، فالتمثيل عند السكاكى أخصّ منه بتفسير الجمهور، وذهب صاحب الكشاف إلى ترادف التشبيه والتمثيل، فكل تشبيه عنده تمثيل حتى لو كان وجه الشبه مفردا، وذهب الشيخ عبد القاهر إلى أنه يشترط فى التمثيل أن لا يكون الوجه المركب حسيّا بأن كان عقليّا أو اعتباريّا وهميّا، وأعمّ هذه المذاهب الأربعة مذهب صاحب الكشاف، ويليه فى العموم مذهب الجمهور، ويليه مذهب الشيخ، واعلم أن الهيئة من حيث إنها هيئة اعتبارية فجعلها حسية أو عقلية أو وهمية إنما هو باعتبار الأمور المنتزعة منها
(قوله: كما فى تشبيه مثل اليهود بمثل الحمار) أى: فى قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ (1) الآية
(قوله: من متعدد) لأنه مأخوذ من الحمار واليهود والحمل وكون المحمول أوعية العلوم وكون الحامل جاهلا أى: غير منتفع بما فيها
(قوله: عائد إلى التوهم) أى: الاعتبار قال سم: وفى قوله عائد إلى التوهم دلالة على أنه أراد بكونه ليس بحقيقى الاعتبارى لا غير الموجود فى الخارج.
(1) الجمعة: (5).
(وإما غير تمثيل: وهو بخلافه) أى: بخلاف التمثيل، يعنى: ما لا يكون وجهه منتزعا من متعدد. وعند السكاكى: ما لا يكون منتزعا من متعدد، أو لا يكون وهميّا واعتباريّا، يل يكون حقيقيّا، فتشبيه الثريا بالعنقود المنور تمثيل عند الجمهور دون السكاكى.
(وأيضا) تقسيم آخر للتشبيه باعتبار وجهه، وهو أنه (إما مجمل وهو ما لم يذكر وجهه؛ فمنه) أى: فمن المجمل ما هو (ظاهر) وجهه، أو فمن الوجه الغير المذكور ما هو ظاهر
…
===
(قوله: ما لا يكون وجهه منتزعا من متعدد) أى: بل كان مفردا
(قوله: وعند السكاكى .. إلخ) قال فى الأطول: ظاهره أن قول المصنف وهو بخلافه بيان لغير التمثيل على المذهبين وليس بمتعيّن، بل يمكن أن يقال: إنه بيان له على مذهب الجمهور، ويعلم منه غير التمثيل على مذهب السكّاكى وهو ما كان وجه الشبه فيه ليس منتزعا من متعدد أو كان منتزعا ولكنه وصف حقيقىّ أى: حسىّ أو عقلىّ
(قوله: ما لا يكون منتزعا من متعدد) أى: بأن كان مفردا (وقوله: أو لا يكون .. إلخ) أى: أو كان منتزعا من متعدد لكنه ليس وهميّا ولا اعتباريّا، بل كان وصفا حقيقيّا بأن كان حسيّا أو عقليّا وتقدم أن كونه حسيّا أو عقليّا باعتبار مادته المنتزع منها، وإلا فالهيئة الانتزاعية أمر اعتبارى لا وجود له
(قوله: واعتباريّا) عطف تفسير
(قوله: تمثيل عند الجمهور) أى:
لأن وجه الشبه منتزع من متعدد ولا يشترط كون الوجه غير حقيقى
(قوله: دون السكاكى) أى: لأن وجه الشبه وإن كان منتزعا من متعدد إلا أنه حسى فكل تمثيل عند السكاكى تمثيل عند الجمهور، وليس كل تمثيل عند الجمهور تمثيلا عند السكاكى فبين المذهبين عموم وخصوص مطلق باعتبار الصدق
(قوله: إما مجمل) سيأتى مقابله وهو المفصل بعد ذكر أقسام المجمل وكان المناسب أن يقدم المفصل؛ لأن مفهومه وجودىّ ولأجل أن يندفع طول الفصل بين المجمل ومقابله بتقديمه
(قوله: وهو ما لم يذكر وجهه) أى: ولا ما يستتبعه، ولا بدّ من هذا لما سيأتى أن المفصل من جملة أقسامه ما لا يذكر وجهه استغناء عنه بذكر ما يستتبعه، فلو لم يقيد هنا بما قلنا لكان
(يفهمه كل أحد) ممن له مدخل فى ذلك (نحو: زيد كالأسد. ومنه خفىّ لا يدركه إلا الخاصّة، كقول بعضهم) ذكر الشيخ عبد القاهر أنه قول من وصف بنى المهلب للحجاج
…
===
تعريف المجمل غير مانع من دخول بعض أفراد المفصل، وفى تعريف المجمل بما ذكر إشارة إلى أنه ليس المراد بالمجمل هنا المجمل عند الأصوليين وهو ما لم تتضح دلالته و" ما" فى كلام المصنف واقعة على تشبيه (وقوله: ما هو ظاهر) أى: تشبيه ظاهر هو أى: التشبيه أى: وجهه ففى العبارة حذف مضاف، أو أن وجهه بدل من الضمير فى ظاهر؛ لأن المتصف بالظهور وجه الشبه لا نفس التشبيه وليس مراد الشارح أن وجهه فاعل بظاهر؛ لأن هذا ليس من المواضع التى يحذف فيها الفاعل، وحاصل ما فى المقام:
أن الضمير فى منه إن كان راجعا للمجمل، ففى إسناد الظهور إليه تسامح إذ المتصف بالظهور وجهه، لكن يؤيد هذا الاحتمال أن سياق الكلام فى تقسيم المجمل وإن كان ضمير" منه" راجعا للوجه فلا تسامح فى إسناد الظهور إليه لكنه خروج عن سوق الكلام، ولكون كلّ من الاحتمالين مشتملا على خلاف الظاهر من وجه سوّى الشارح بينهما
(قوله: يفهمه كل أحد) أى: يفهم ذلك الوجه كل أحد، وهذا تفسير لقوله: ظاهر (وقوله: ممن له مدخل فى ذلك) أى: فى استعمال التشبيه لا مطلق أحد كما هو ظاهر المصنف
(قوله: نحو زيد كالأسد) أى: فإنه يظهر لكل أحد أن وجه الشبه الشجاعة فى كلّ
(قوله: لا يدركه) أى: لا يدرك وجهه
(قوله: إلا الخاصّة) أى:
فإنهم يدركونه بالبديهة أو بالتأمل، والمراد بهم من أعطوا ذهنا يدركون به الدقائق والأسرار
(قوله: ذكر الشيخ .. إلخ) قصد بذلك بيان ذلك البعض
(قوله: من وصف) أى: قول الشخص الذى وصف بنى المهلب وهو كعب بن معدان الأشعرى كما قال المبرد فى الكامل، فإنه ذكر أنه لما ورد على الحجاج قال له: كيف تركت جماعة الناس؟
فقال له كعب: تركتهم بخير أدركوا ما أملوا وأمنوا مما خافوا.
فقال له: فكيف بنو المهلب فيهم؟ فقال: حماة السرج نهارا وإذا أليلوا ففرسان البيات، ومعنى أليلوا: دخلوا فى الليل: كأصبحوا دخلوا فى الصباح، ثم قال فأيهم كان أنجد؟
لما سأل عنهم، وذكر جار الله أنه قول الأنمارية: فاطمة بنت الخرشب، وذلك أنها سئلت عن بنيها: أيهم أفضل؟ فقالت: عمارة، لا بل فلان لا بل فلان، ثم قالت:
ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل
…
===
فقال هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها؟
(قوله: لما سأل عنهم) أى: حين سأل الحجاج عنهم ذلك الواصف بقوله: أيهم أنجد؟ أى: أشجع
(قوله: وذكر جار الله) أى:
جار بيت الله، والمراد به العلامة محمود الزمخشرى، ولقب بجار الله؛ لأنه كان مجاورا فى بيت الله الحرام، ولا تنافى بين القولين لاجتماعهما على الصدق بطريق أخذ المتأخر عن المتقدم، أو أن ذلك من توافق الآراء
(قوله: الأنمارية) نسبة لأنمار: قبيلة
(قوله: فاطمة) بدل أو عطف بيان من الأنمارية، والخرشب- بضم الخاء والشين وبينهما راء ساكنة- وفاطمة هذه كانت من جملة الأنصار
(قوله: وذلك) أى: وسبب ذلك القول
(قوله: عن بنيها) أى: الأربعة الذين رزقت بهم من زوجها زيادة العبسى- بكسر الزاى وتخفيف الياء- وهم ربيع الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحفاظ، وأنس الفوارس، وعمارة بكسر العين كما ضبطه شيخنا الحفنى فى نسخته بالقلم، وسمعته من شيخنا العدوى بضمها، والحفاظ بضم الحاء وتشديد الفاء كما سمعته من شيخنا العدوى، وسمعته من شيخنا الشيخ عطية الأجهورى بكسر الحاء وتخفيف الفاء (قوله عمارة لا) لما ذكرت أوّلا عمارة معتقدة أنه أفضلهم، ثم ظهر لها أنه ليس أفضل أضربت عنه، وهكذا يقال فيما بعد، ولمّا لم يعلم عين الذى أتت به ثانيا وثالثا قال الشارح: فلان وكان المناسب لكون الأولاد أربعة أن يزيد الشارح" لا بل فلان" ثالثا كما عبّر به العلامة اليعقوبى.
(قوله: ثم قالت) أى: فى الجواب
(قوله: ثكلتهم) بفتح المثلثة وكسر الكاف أى: فقدتهم بالموت
(قوله: إن كنت أعلم أيّهم أفضل) يحتمل أن" أيّا" استفهامية معربة مبتدأ وأفضل خبر والمعنى إن كنت أعلم جواب هذا الاستفهام وهى معلقة لأعلم عن العمل فى الجزأين وجملة أيهم أفضل فى محل نصب سادة مسد المفعولين، ويحتمل أن تكون موصولة مبنية على الضم فى محل نصب مفعول أول وأفضل خبر لمبتدأ محذوف،
(هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها؟ أى: هم متناسبون فى الشرف) يمتنع تعيين بعضهم فاضلا وبعضهم أفضل منه (كما أنها) أى: الحلقة المفرغة (متناسبة الأجزاء فى الصورة) يمتنع تعيين بعضها طرفا، وبعضها وسطا؛ لكونها مفرغة مصمتة الجوانب كالدائرة.
===
والجملة صلة لأى، والمفعول الثانى محذوف أى: إن كنت أعلم الذى هو أفضل كائنا منهم، ولكن المناسب الأوّل لأجل التطابق بين السؤال والجواب؛ لأن السؤال لها بلفظ أيهم الاستفهامية فيناسب أن تكون الواقعة فى جوابها كذلك
(قوله: المفرغة) هى التى أذيب أصلها من ذهب أو فضة أو نحاس أو نحو ذلك، وأفرغت فى القالب فلا يظهر لها طرف بل تكون مصمتة الجوانب أى: لا انفراج فيها، ثم إنه لا يلزم من نفى الانفراج نفى التربيع والتثليث مثلا، ولكن المراد ما كان كالدائرة ليتحقق التناسب فى الشكل والوضع فتصير بذلك ذات إحاطة نهاية واحدة كالدائرة، وبهذا تعلم أنه ليس المراد بكونها مصمتة كونها لا جوف لها، وإنما قيد الحلقة بكونها مفرغة؛ لأن المضروبة يعلم طرفاها بالابتداء والانتهاء، ولأنها تتفاوت فلا تتناسب أجزاؤها
(قوله: لا يدرى أين طرفاها؟ ) فيه أن هذا يقتضى أن الدائرة المفرغة لها طرفان لكن لا يعلمان فى أى محل مع أنه لا طرف لها أصلا؟ ، وأجيب بأنا لا نسلم أن نفى دراية طرفيها يستلزم وجود الطرفين؛ لأن السالبة لا تقتضى وجود الموضوع
(قوله: أى هم متناسبون فى الشرف) هذا إشارة للوصف المتضمن لوجه الشبه الكائن فى الطرفين؛ وذلك لأن وجه الشبه المشترك بين الطرفين التناسب الكلى الخالى عن التفاوت، وإن كان ذلك التناسب فى المشبه تناسبا فى الشرف وفى المشبه به تناسبا فى صورة الأجزاء، وما ذكره المصنف من التناسب فى الشرف مختصّ بالمشبه به، ولكنه يتضمن وصف كلّ منهما بالتناسب الخالى عن التفاوت بواسطة الانتقال من تناسبهم فى الشرف إلى تناسب أجزاء الحلقة، ولا يخفى أن هذا الوجه الذى بين الطرفين فى غاية الدقة لا يدركه إلا الخواصّ
(قوله: مصمتة الجوانب) أى: لا انفراج فيها بل متصلة من كل جانب
(قوله: كالدائرة) فيه أن الحلقة من أفراد الدائرة فكيف تشبه بها؟ وأجيب بأن المراد كالدائرة التى ليست حلقة بل المتداولة فى الأشكال عند الحكماء.
(وأيضا منه) أى: من المجمل، وقوله: منه دون أن يقول: وأيضا إما كذا، وإما كذا إشعار بأن هذا من تقسيمات المجمل، لا من تقسيمات مطلق التشبيه، أى: ومن المجمل (ما لم يذكر فيه وصف أحد الطرفين) يعنى: الوصف الذى يكون فيه إيماء إلى وجه الشبه، نحو: زيد أسد (ومنه) أى: المجمل (ما ذكر فيه وصف المشبه به وحده) أى: الوصف المشعر بوجه الشبه،
…
===
(قوله: وأيضا منه ما لم يذكر .. إلخ) هذا عطف على قوله: منه ظاهر ومنه خفىّ، وأيضا معمول لمحذوف، والجملة معترضة بين العاطف والمعطوف أى: ومنه أى:
المجمل تئيض وترجع لتقسيمه أيضا، وفائدة ذكر أيضا إفادة أنه استئناف تقسيم للمجمل وليس تقسيما للخفىّ، إذ ذكر الوصف المشعر بوجه الشبه أنسب بالخفىّ، وبهذا التقرير تعلم أن الجملة المعترضة تقع بين العاطف والمعطوف- قاله فى الأطول.
(قوله: دون أن يقول وأيضا إما كذا) أى: ويحذف منه
(قوله: إشعار .. إلخ) أى:
ويقوى هذا الإشعار تأخير مقابل إما مجمل عن قوله: وأيضا منه .. إلخ، فلو كان تقسيما لمطلق التشبيه لأخّره عن قوله: الآتى وإما مفصل الذى هو مقابل لقوله: إما مجمل
(قوله: من تقسيمات المجمل) أى: تقسيمه أولا إلى ظاهر وخفىّ، وهذا تقسيم ثان له، والحاصل:
أنه لو حذف أيضا لتوهم أن هذا تقسيم للخفى ولو حذف منه لتوهم أنه تقسيم لمطلق التشبيه فجمع بينهما للإشعار بأن هذا تقسيم للمجمل لا للخفى ولا لمطلق التشبيه
(قوله: ما لم يذكر فيه وصف أحد الطرفين) أى: لم يذكر فيه وصف المشبه ولا وصف المشبه به
(قوله: نحو زيد أسد) هذا تمثيل لما لم يذكر .. إلخ أى: ونحو: زيد الفاضل أسد، فإن الظاهر أن وجه الشبه فيهما الشجاعة ولم يذكر فى كلّ من التشبيهين وصف أحد من الطرفين المومئ إلى وجه الشبه المذكور؛ لأن الفاضل فى التشبيه الثانى لا إشعار له بالشجاعة أى: لا دلالة له عليها بخصوصها، إذ لا دلالة للعامّ على الخاصّ، وإنما أتى الشارح بالعناية إشارة إلى أنه ليس المراد مطلق الوصف كما هو ظاهره وقد فهم بعض الشراح كلام المصنف على ظاهره
(قوله: ومنه) أى: من المجمل ما ذكر .. إلخ. اعترض بأن ذكر الوصف يشمل المجمل والمفصل فلا وجه لتخصيصه بالمجمل.
كقولها: هم كالحلقة المفرغة؛ لا يدرى أين طرفاها.
(ومنه ما ذكر فيه وصفهما) أى: المشبه والمشبه به كليهما (كقوله:
صدفت عنه) أى: أعرضت عنه (ولم تصدف مواهبه عنى
…
===
وأجيب بأن له وجها، إذ لا يذكر الوصف المذكور أى: المشعر فى التشبيه المفصل؛ لأن وجه الشبه فيه مذكور فلو ذكر الوصف المشعر به كان تكرارا وهو مستقبح فى نظر البلغاء
(قوله: كقولها) أى: فاطمة الأنمارية" هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها"؟ فإن مضمون قولها:
لا يدرى أين طرفاها وصف للمشبه به وهو نفى دراية الطرفين وهو يستلزم التناسب الخالى عن التفاوت الذى هو وجه الشبه كما تقدم، وأما وصف الحلقة بالإفراغ فلتحقق المشبه به؛ لأن الحلقة المفرغة لا مطلق الحلقة، وحينئذ فلا دخل له فى الإيماء لوجه الشبه
(قوله: ومنه ما ذكر فيه وصفهما) ترك المصنف ما ذكر فيه وصف المشبه فقط، ولعله لعدم الظفر له بمثال فى كلامهم، ومثاله: فلان كثرت أياديه لدىّ ووصلت مواهبه إلىّ طلبت منه أو لم أطلب كالغيث، وكما فى قولك: إن الشمس التى إذا طلعت لم يبد كوكب مثلك.
(قوله: كقوله) أى: قول أبى تمام يمدح الحسن بن سهل- كذا فى المطول، وفى شرح الشواهد: الحسن بن رجاء بن الضحاك، والبيتان من قصيدة من البسيط مطلعها:
أبدت أسى أن رأتنى مخلس القصب (*)
…
وآل ما كان من عجب إلى عجب
إلى أن قال:
ستصبح العيس بى والليل عند فتى
…
كثير ذكر الرّضا فى ساعة الغضب (1)
صدفت عنه
…
إلخ، وقوله: والليل أى: وسير الليل، ومعنى البيت: ستدخلنى الإبل والسير فى الليل صباحا عند فتى يعفو عند الغضب
(قوله: أعرضت عنه) أى: تجربيا لشأنه أو خطأ منى وقلة وفاء بحقه
(قوله: ولم تصدف مواهبه) أى: ولم تعرض بمعنى تنقطع عطاياه وتصدف بالتاء الفوقية المفتوحة ومواهبه فاعل، أو بالياء التحتية ومواهبه
(*) الذى فى المطبوع: مجلس الغضب، وما أثبت كما فى شرح الديوان ط دار الكتب العلمية ص 24، وعيون الأخبار لابن قتيبة، ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص لعبد الرحيم العباسى.
(1)
الأبيات لأبى تمام يمدح الحسن بن سهل فى ديوانه ص 24. وهى فى عقود الجمان 2/ 28.
وعاوده ظنى فلم يخب كالغيث إن جئته وافاك) أى: أتاك (ريقه) يقال: فعله فى روق شبابه وريقه، أى: أوّله، وأصابه ريق المطر، وريق كل شىء: أفضله (وإن ترحّلت عنه لجّ فى الطلب).
وصف المشبه- أعنى: الممدوح- بأن عطاياه فائضة عليه أعرض أو لم يعرض، وكذا وصف المشبه به- أعنى الغيث- بأنه
…
===
مفعول؛ لأن صدف يأتى لازما ومتعديا وبابه ضرب
(قوله: وعاوده ظنى) أى: بعد ما صدفت عنه عاوده ظنى أى: رجائى وحقيقة هذا الكلام عاودت لمواصلته طلبا لإغداقه ظنّا منّى أنى أجد فيه المراد، وحينئذ فنسبة المعاودة إلى الظن تجوّز
(قوله: فلم يخب) أى:
ظنى فيه بل وجدت عند معاودته لطلب الإحسان كما أظن وكيف يخيب الظن فيه وهو يهب عند الإعراض فيهب عند الإقبال من باب أولى فهو فى إفاضته فى الإقبال والإدبار كالغيث إن جئته أى: قصدته لشرب ونحوه حال إقباله عليك وافاك ريقه أى:
جاءك ولاقاك أحسنه وإن ترحّلت عنه وفررت منه لجّ وبالغ فى طلبك وإدراكك مع فرارك منه
(قوله: كالغيث) هو المطر الواسع المقبل الذى يرتجيه أهل الأرض
(قوله: إن جئته .. إلخ) هذا فى مقابلة قوله: وعاوده ظنى (وقوله: وإن ترحلت .. إلخ) فى مقابلة قوله صدفت عنه .. إلخ، ففيه لف ونشر مشوش
(قوله: ريقه) أصله ريوق من الروق، (وقوله: يقال) أى: لغة
(قوله: أى أوله) تفسير للأمرين قبله وهو: روق الشباب وريقه.
(قوله: وريق كل شىء أفضله) إشارة إلى أنه يتسع فى الريق، ويستعمل بمعنى الأفضل لعلاقة اللزوم كما هنا فروق الشباب وريقه أفضله وأحسنه؛ لأنه يلزم من كون الشىء أوّلا أن يكون أفضل وأحسن فى الغالب.
قال العلامة اليعقوبى: وجعل أول المطر أحسنه للأمن معه من الفساد، وإنما يخشى الفساد بدوامه
(قوله: وإن ترحّلت عنه) أى: ارتحلت وفررت وتباعدت عن الغيث
(قوله: لجّ) بالجيم من اللجاج وهو الخصومة، أو بالحاء المهملة من الإلحاح وهو فى الأصل كثرة الكلام أريد به هنا مجرد الكثرة، والمعنى على كل حال بالغ.
(قوله: أعرض) هو معنى صدفت عنه، (وقوله، وأو لم يعرض) هو معنى قوله:
وعاوده ظنى
(قوله: أعنى الغيث) من ذلك يعلم أن الضمير فى قوله فى البيت: إن جئته
يصيبك جئته أو ترحّلت عنه، والوصفان مشعران بوجه الشبه، أعنى: الإفاضة فى حالتى الطلب وعدمه، وحالتى الإقبال عليه والإعراض عنه.
(وإما مفصل) عطف على: مجمل (وهو ما ذكر وجهه، كقوله:
وثغره فى صفاء
…
وأدمعى كاللآلى
===
راجع للغيث
(قوله: يصيبك) هو معنى قوله: وافاك
(قوله: والوصفان) أى: الخاصّان وهما كون عطايا الممدوح فائضة أعرضت عنه أو لا، وكون الغيث يصيبك جئته أو ترحّلت عنه
(قوله: بوجه الشبه) أى: الذى هو معنى يشتركان فيه
(قوله: أعنى) أى:
بوجه الشبه
(قوله: الإفاضة فى حالتى الطلب وعدمه) هذا بالنسبة للغيث المشبه به، (وقوله: وحالتى الإقبال عليه والإعراض عنه) هذا بالنسبة للممدوح المشبه، وبهذا ظهر أن ما ذكره ليس وجه شبه فكان الصواب أن يقول: أعنى: مطلق الإفاضة فى الحالين، لكن المراد بالحالين فى المشبه به الطلب وعدمه، وفى المشبه الإقبال عليه والإعراض عنه، إلا أن يقال: أن قوله: وحالتى الإقبال عليه والإعراض عنه تفسير لما قبله من الإفاضة حالتى الطلب وعدمه، أو أن قوله: أعنى أى: بالوصفين لا بوجه الشبه- كذا قرر شيخا العدوى.
(قوله: عطف) أى معطوف على مجمل، والعاطف له هو إما، وقيل العاطف له الواو، و" إما" لمجرد التفصيل
(قوله: وهو ما ذكر وجهه) أعمّ من أن يكون المذكور وجه الشبه حقيقة وذلك كما فى البيت الذى ذكره، أو يكون المذكور ملزوم وجه الشبه فيطلق على ذلك الملزوم أنه وجه الشبه تسامحا وإن كان وجه الشبه حقيقة هو اللازم الذى لم يذكر، كما أشار لذلك بقوله: وقد يتسامح .. إلخ، وهذا غير ما تقدم أنه يذكر وصف الطرفين أو أحدهما المشعر بوجه الشبه؛ لأن ما هنا فيما إذا ذكر الوصف فى مكان وجه الشبه وعلى طريقة ذكره بخلاف ما هناك
(قوله: وثغره) أى: وأسنان ثغره أى: فمه وهو مبتدأ و" أدمعى" عطف عليه (وقوله: كاللآلى) خبر (وقوله: فى صفاء) هو وجه الشبه، وقد مثّل بهذا فيما تقدم لتشبيه التسوية باعتبار تعدد الطرف الأول وهو المشبه، ومثّل به هنا للتشبيه المفصل باعتبار التصريح بوجه الشبه، فناسب المحلين بالاعتبارين
وقد يتسامح بذكر ما يستتبعه مكانه) أى: بأن يذكر مكان وجه الشبه ما يستلزمه، أى: يكون وجه الشبه تابعا له، لازما فى الجملة (كقولهم للكلام الفصيح: هو كالعسل فى الحلاوة؛ فإن الجمع فيه لازمها) أى: وجه الشبه فى هذا التشبيه: لازم الحلاوة (وهو ميل الطبع) لأنه المشترك بين العسل والكلام،
===
ووصف الدموع بالصفاء إشعارا بكثرتها لاقتضاء الكثرة غسل المنبع وتنقيته من الأوساخ التى تتمزج بالماء، بخلاف ما إذا جرى أحيانا فإنه يكون بكدرات المنبع، فسقط قول بعضهم: إن الدمع الصافى لا يدلّ على الحزن، والمتمدح به الدمع المشوب بالدم
(قوله: وقد يتسامح) أى: يتساهل فى ذكر وجه الشبه، فيستغنى عنه بسبب ذكر ملزوم يستتبعه أى: يستلزمه
(قوله: بأن يذكر مكان .. إلخ) أشار بهذا إلى أن مكانه ظرف لغو متعلق بذكر لا أنه ظرف مستقرّ حال من ما وأن الاستتباع معناه الاستلزام، وأشار بقوله أى:
يكون .. إلخ إلى أن الضمير المستتر فى يستتبع عائد إلى ما، والبارز عائد على وجه الشبه أى: قد يتسامح ويذكر فى مكان وجه الشبه أمر يستلزم ذلك الأمر وجه الشبه ومعنى ذكره فى مكانه أن يؤتى به على طريقته من إدخال فى عليه ليخرج بذلك ذكر الوصف المشعر بالوجه لأحد الطرفين أو لكليهما كما تقدم، فإنه لا يذكر على طريقة وجه الشبه بأن يقال: كذا مثل كذا فى كذا بخلاف المستتبع هنا، فإنه يذكر على هذا الطريق
(قوله: فى الجملة) أى: ولو فى الجملة بأن يكون التلازم عاديّا ولا يشترط أن يكون عقليّا، وحاصل ما أشار إليه الشارح: أن المراد بالاستلزام هنا مجرد الحصول مع الحصول، سواء كان عاديّا أو عقليّا، ولا يشترط خصوص التلازم العقلى الذى لا يتخلف أصلا لجواز التخلف هنا، ألا ترى للحلاوة فى المثال الآتى فإنها لا تستلزم ميل الطبع للشىء الحلو، إذ قد تكون موجبة لنفرة الطبع من الشىء الحلو كما فى بعض الطباع المنحرفة لمرض ونحوه
(قوله: للكلام) أى: فى شأن الكلام (وقوله: الفصيح) أى: أو البليغ وهو الأنسب لأنه الأحقّ بالتشبيه بالعسل
(قوله: فإنه الجامع فيه) أى: فإن وجه الشبه فى ذلك التشبيه
(قوله: لازم الحلاوة) أى: فالمذكور فى العبارة كالحلاوة لازم له كما هو ظاهر
(قوله: وهو) أى: لازمها ميل الطبع أى: محبته واستحسانه
(قوله: لأنه)
لا الحلاوة التى هى من خواصّ المطعومات.
(وأيضا) تقسيم ثالث للتشبيه باعتبار وجهه، وهو أنه: (إما قريب مبتذل، وهو ما ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير تدقيق نظر؛
…
===
أى: ميل الطبع
(قوله: لا الحلاوة) عطف على لازم الحلاوة
(قوله: التى هى من خواصّ المطعومات) أى: وحينئذ فلا تكون موجودة فى الكلام؛ لأنه ليس من المطعومات ولا بد فى الجامع أن يكون متحققا فى الطرفين هذا وما ذكره فى هذا المثال من أن المذكور ملزوم لوجه الشبه لا أنه نفسه هو المتبادر بحسب الظاهر، ويحتمل أن يكون المذكور فى هذا المثال وهو الحلاوة هى وجه الشبه نفسها ويكون وجودها فى الكلام على وجه التخييل كما فى تشبيه السّنّة بالنجم والبدعة بالظلمة، وهذا هو الأقرب، فإن الوجه الأوّل يرد عليه أن يقال: إن كان ذكر الحلاوة مثلا من التعبير عن اللازم بالملزوم كما هو ظاهر كلامه كان من المجاز ولا تسامح فيه؛ لأنه قد ذكر الوجه غاية الأمر أنه عبّر عنه بلفظ ملزومه وإن كان ذكر الحلاوة لغير ذلك فهو خطأ، إذ لا واسطة بين الحقيقة والمجاز إلا الخطأ ولا ينبغى حمل الكلام الفصيح على الخطأ- فافهم- اه يعقوبى.
(قوله: وهو أنه) أى: التشبيه
(قوله: إما قريب) أى: مستعمل للعامة ولغيرهم، (وقوله: مبتذل) أى: متداول بين الناس تفسير لقوله: قريب، والابتذال فى الأصل:
الامتهان، أطلق وأريد به التداول وكثرة الاستعمال من باب إطلاق اسم اللازم وإرادة الملزوم؛ لأن الشىء المتداول بين الناس يكون ممتهنا.
(قوله: وهو ما) أى: التشبيه الذى ينتقل .. إلخ لما كان التشبيه مسوقا لبيان حال المشبه وجعله كالمشبه به كان فيه انتقال الذهن من المشبه إلى المشبه به فإن كان ذلك الانتقال حاصلا من غير تدقيق نظر بأن كان كون أحدهما مشبها والآخر مشبها به ظاهرا لظهور وجه الشبه فيهما كان التشبيه مبتذلا نحو: زيد كالفحم؛ فإن الفحم أعرف شىء بالسواد، وإن كان ذلك الانتقال بعد تأمل وتدقيق نظر لعدم ظهور وجه الشبه فيهما كان التشبيه بعيدا
(قوله: ينتقل فيه من المشبه) أى: ينتقل مريد التشبيه من المشبه إلى المشبه به لأجل بيان حال المشبه
(قوله: من غير تدقيق نظر) أى: من غير نظر
لظهور وجهه فى بادى الرأى) أى: فى ظاهره إذا جعلته من بدا الأمر يبدو، أى:
ظهر، وإن جعلته مهموزا من [بدأ] فمعناه: فى أول الرأى. وظهور وجهه فى بادى الرأى يكون لأمرين (إما لكونه أمرا جمليّا) لا تفصيل فيه (فإن الجملة أسبق إلى النفس) من التفصيل. ألا ترى أن إدراك الإنسان
…
===
وفكر دقيق
(قوله: لظهور .. إلخ) علّة للانتقال من غير تدقيق نظر
(قوله: أى فى ظاهره) وعلى هذا فالمعنى: لظهور وجه الشبه حالة كونه من جملة المرئيات البادية أى: الظاهرة، وذكر بعضهم: أن قوله فى بادى الرأى على حذف مضافين أى: فى وقت حدوث بادى الرأى، أو أنه ظرف تنزيلى
(قوله: مهموزا) أى: فى الحال، أو بحسب الأصل بأن تكون الهمزة قلبت ياء لانكسار ما قبلها
(قوله: فى أول الرأى) وعلى هذا فالمعنى: لظهور وجه الشبه حالة كونه من جملة المرئيات أولا
(قوله: وظهور وجهه) أى: الشبه فى بادى الرأى .. إلخ، أشار بهذا إلى أن
(قوله: إما لكونه) علّة لظهور وجه الشبه فهو علّة للعلة
(قوله: أمرا جمليّا) بسكون الميم نسبة إلى الجملة أى: لكونه أمرا مجملا والمجمل يطلق على ما لم يتضح معناه وعلى المركب وعلى ما لا تفصيل فيه، وأشار الشارح بقوله: لا تفصيل فيه إلى أنه ليس المراد بالمجمل هنا ما لم يتضح معناه ولا المركب بل الأمر الذى لا تفصيل فيه سواء كان أمرا واحدا لا تركيب فيه كقولك: زيد كعمرو فى الناطقية أو زيد كالفحم فى السواد، أو مركبا لم ينظر فيه إلى أجزائه نحو: زيد كعمرو فى الإنسانية
(قوله: فإن الجملة) علّة للعلّة أى: وإنما كان الأمر الجملى أظهر من التفصيلى؛ لأن الجملة أى: لأن الأمر المجمل أسبق للنفس من التفصيل أى: من ذى التفصيل أو من المفصل (وقوله: أسبق إلى النفس) أى: من حيث الحصول فيها أو أن فى الكلام حذف مضاف أى: إلى إدراك النفس، وإنما كان المجمل أسبق إلى النفس من المفصل؛ لأن المجمل يحتاج إلى ملاحظة واحدة بخلاف المفصل فإنه يحتاج إلى ملاحظات متعددة، فكلّما كثرت التفاصيل كثرت الملاحظات والاعتبارات وكلما كثرت الاعتبارات فى الشىء زادته خصوصا وكلّما كثر التخصيص فى الشىء قلّت أفراده فتقلّ ملابسة وجوده فيكون غريبا لبعده عن الجملة التى تسبق إلى النفس لعمومها وكثرة أفرادها،
من حيث إنه شىء أو جسم، أو حيوان- أسهل وأقدم من إدراكه من حيث إنه جسم نام، حساس، متحرك بالإرادة، ناطق.
(أو) لكون وجه الشبه (قليل التفصيل مع غلبة حضور المشبه به فى الذهن عند حضور المشبه لقرب المناسبة) بين المشبه والمشبه به؛ إذ لا يخفى أن الشىء مع ما يناسبه أسهل حضورا منه مع ما لا يناسبه
…
===
ولذا كان العامّ أعرف من الخاصّ ووجب تقديمه عليه فى التعريفات الكاملة وهى المركبة من الجنس والفصل، وكان التعريف بالأخصّ تعريفا بالأخفى
(قوله: من حيث إنه شىء) هو أعمّ من جسم وجسم أعمّ من حيوان فهذه الثلاثة كلها مجملة لكنها متفاوتة الرتب فى الإجمال
(قوله: أسهل وأقدم) أما كونه أسهل فإنه إدراك من وجه واحد بخلاف ذلك، وأما كونه أقدم- أى: أسبق- فلأن التفصيل بتحليل أمر مجمل فالجملة أسبق منه
(قوله: حسّاس) أى: مدرك بالحواسّ واحترز به عن الجماد
(قوله: ناطق) أى: مدرك للكليات، وإذا علمت أن الجملة أسبق إلى النفس من التفصيل فوجه الشبه إذا كان أمرا جمليّا كان أمرا ظاهرا سهل التناول فيلزم أن يكون التشبيه مبتذلا على ما تقدم، فإذا فرض أن إنسانا شبه زيدا بعمرو فى الإنسانية، وآخر شبهه به فى الإنسانية الموصوفة بشرف الحسب وكرم الطبع وحسن العشرة ودقة النظر فى الأمور، فإن نظر الثانى أخفى من نظر الأول، وبهذا تعلم أن التشبيه الواحد يكون مبتذلا بما اعتبر فيه من جملة الوجه وغير مبتذل بما اعتبر فيه من تفصيله.
(قوله: أو لكون وجه الشبه قليل التفصيل) هذا معطوف على قوله إما لكونه أمرا جمليّا وهو العلّة الثانية لظهور الوجه يعنى: أن ظهور الوجه إما لكونه أمرا جمليّا وإما لكونه ليس جمليّا بل فيه تفصيل ولكنه قليل
(قوله: مع غلبة .. إلخ) أى: حالة كون قلّة التفصيل مصاحبة لغلبة .. إلخ وهذا مصبّ العلّة
(قوله: عند حضور المشبه) ظرف لغلبة حضور المشبه به
(قوله: لقرب المناسبة) علّة لغلبة حضور المشبه به عند حضور المشبه
(قوله: إذ لا يخفى .. إلخ) علّة للعلية أى: إنما كان قرب المناسبة موجبا لغلبة حضور المشبه به عند حضور المشبه؛ لأنه لا يخفى .. إلخ (وقوله: أن الشىء) أى: المشبه به (وقوله: مع ما
(كتشبيه الجرّة الصغيرة بالكوز فى المقدار والشكل) فإنه قد اعتبر فى وجه الشبه تفصيل ما، أعنى: المقدار والشكل، إلا أن الكوز غالب الحضور عند حضور الجرة (أو مطلقا)
…
===
يناسبه) أى: مع المشبه الذى يناسبه بأن كانا من واد واحد كالأوانى والأزهار (وقوله:
أسهل حضورا منه) أى: من نفسه مع المشبه الذى لا يناسبه؛ لأنهما إذا كانا متناسبين اقترنا فى الخيال، فيسهل الانتقال فى التشبيه لظهور الوجه غالبا مما يحضر كثيرا مع غيره، وهذا التفاوت الذى أوجبه كثرة الاجتماع فى الوجود هو الجامع الخيالى كما تقدم.
(قوله: كتشبيه الجرّة) أى: أن التشبيه المبتذل لظهور وجه الشبه لكون وجه الشبه قليل التفصيل مع غلبة حضور المشبه به فى الذهن عند حضور المشبه: كتشبيه الجرّة الصغيرة بالكوز فى المقدار والشكل، وكذلك تشبيه الإجاصة بالسفرجلة فى اللون والشكل والطعم فى بعض الأحيان، وتشبيه العنبة الكبيرة بالبرقوقة فى الشكل واللون والطعم، فإن وجه الشبه فى هذه الأشياء فيه تفصيل أى: اعتبار أشياء، لكن تلك الأشياء ظاهرة تتكرر موصوفاتها على الحس عند إحضار ما يراد تشبيهه بها فيلزم ظهور أوصافها، ثم إن مراد المصنف بالجرة المشبهة بالكوز. الجرة الصغيرة التى فى حلقها اتساع ولها أذنان، إذ هى المشابهة للكوز فى الشكل والمقدار وليس مراد المصنف الجرة الكبيرة التى ليس فى حلقها اتساع، فاندفع ما قيل: أنه لا مناسبة بين الجرة والكوز فى الشكل، ولا حاجة للجواب بأن المراد مطلق الشكل مع مطلق التجويف والانفتاح لجهة مخصوصة
(قوله: والشكل) أى: فإن شكل كلّ منهما كرى مع استطالة
(قوله: إلا أن الكوز غالب الحضور) أى: فى الذهن عند حضور الجرة- هذا عند من يشرب بالكوز من الجرة كما هو عادة بعض الناس يفرغون من الجرة فى الكوز ويشربون- فإذا حضرت الجرة فى الذهن حضر الكوز فيه، واعترض بأن الكوز متكرر على الحس، وحينئذ فهو غالب الحضور فى الذهن حضرت الجرة فيه أو لا، وحينئذ فلا يصح التمثيل بهذا المثال لوجه الشبه القليل التفصيل المصاحب لغلبة حضور المشبه به فى الذهن عن حضور المشبه، وأجيب بأن فى الكوز غلبة الحضور مع الجرة وغلبة الحضور على الإطلاق فمثل
عطف على قوله: عند حضور المشبه، ثم غلبة حضور المشبه به فى الذهن مطلقا تكون (لتكرره) أى: المشبه به (على الحس) فإن المتكرر على الحس كصورة القمر غير منخسف أسهل حضورا مما لا يتكرر على الحس كصورة القمر منخسفا (كالشمس) أى: كتشبيه الشمس (بالمرآة المجلوة فى الاستدارة والاستنارة) فإن فى وجه الشبه
…
===
به هنا بالاعتبار الأوّل، والحاصل: أن الكوز والمرآة المجلوة فى المثال الآتى كلّ منهما مما يغلب حضوره عند حضور المشبه كالجرة فى المثال الأول والشمس فى المثال الثانى، ومطلقا لتكرر كلّ على الحسّ، فيصح التمثيل بأيّهما لغلبة حضور المشبه به عند حضور المشبه، وكذلك يصح التمثيل بأيهما لغلبة حضور المشبه به مطلقا فتمثيل كل قسم بأحدهما خاصّة على سبيل الاتفاق
(قوله: عطف على قوله عند حضور المشبه) أى:
والمعنى حينئذ: أو لكون وجه الشبه قليل التفصيل مصاحبا لغلبة حضور المشبه به فى الذهن غلبة مطلقة أى: غير مقيدة بحضور المشبه، واعترض على المصنف بأن هذه المقابلة لا تحسن؛ لأن غلبة حضور المشبه به عند حضور المشبه تجامع غلبة حضور المشبه به مطلقا، وأجيب بأن" أو" لمنع الخلو لا لمنع الجمع كما أفاد ذلك العصام
(قوله: لتكرره على الحس) علّة لغلبة حضور المشبه به مطلقا كما أشار لذلك الشارح بقوله: ثم غلبة ..
إلخ (وقوله: على الحس) أى: على أى حسّ من الحواسّ الخمس، والمراد بالحس القوة الحاسّة (وقوله: لتكرره على الحس) أى: أو لكونه لازما لما يتكرر على الحس
(قوله: كصورة القمر غير منخسف) أى: فإنها تتكرر على الحس؛ لأن الإنسان كثيرا ما يراه غير منخسف، وأما صورته منخسفا فإنه لا يراها الإنسان إلا بعد كل حين، وحينئذ عند سماع لفظ القمر كما فى قولك: وجه زيد كالقمر تحضر فى الذهن صورته غير منخسف لا منخسفا، مع أن لفظ قمر: اسم لذلك الجرم فى حالتيه، وكذلك صورة المرآة عند سماع لفظها تحضر فى الذهن مجلوة لا غير؛ وذلك لأن المتكرر على صورة الحس يغلب حضوره مطلقا وإذا غلب حضوره مطلقا تحققت سرعة الانتقال إليه عند سماع لفظه وظهور وجه الشبه ولزم ابتذال التشبيه
(قوله: فى الاستدارة) يرجع إلى الشكل
تفصيلا ما، لكن المشبه به- أعنى: المرآة- غالب الحضور فى الذهن مطلقا (لمعارضة كلّ من القرب والتكرار التفصيل) أى: وإنما كانت قلّة التفصيل فى وجه الشبه مع غلبة حضور المشبه به بسبب قرب المناسبة، أو التكرار على الحس سببا لظهوره المؤدى إلى الابتذال،
…
===
والاستنارة ترجع إلى الكيف
(قوله: تفصيلا ما) أى: لاعتبار شيئين فيه وهما الشكل والاستنارة
(قوله: غالب الحضور فى الذهن مطلقا) أى: لكثرة شهود المرآة وتكررها على الحسّ.
(قوله: لمعارضة كلّ من القرب .. إلخ) أى: لمعارضة مقتضى كلّ من قرب المناسبة الذى هو سبب للغلبة المقيدة بحضور المشبه والتكرر على الحس الذى هو سبب للغلبة مطلقا لمقتضى التفصيل؛ وذلك لأن مقتضى قرب المناسبة والتكرر على الحس ظهور وجه الشبه وابتذاله لسرعة الانتقال معهما من المشبه إلى المشبه به، ومقتضى التفصيل عدم ظهور وجه الشبه للاحتياج معه إلى التأمل، (فقول المصنف: من القرب) أى: من مقتضى قرب المناسبة كما فى الجرة والكوز (وقوله: التكرار) أى: تكرار المشبه به على الحس كما فى الشمس والمرآة المجلوة.
(وقوله: التفصيل) معمول لمعارضة وفيه حذف مضاف أى: مقتضى التفصيل
(قوله: أى: وإنما كان .. إلخ) أشار الشارح بهذا إلى أن قول المصنف لمعارضة .. إلخ: علّة لمحذوف وهو جواب عما يقال: كيف جعل التفصيل القليل علة لظهور وجه الشبه مع أن التفصيل فى ذاته يقتضى عدم الظهور؟ وحاصل الجواب: أن مقتضى التفصيل قد عورض بما يقتضى الظهور وهو قرب المناسبة فى الصورة الأولى والتكرار على الحس فى الصورة الثانية، فكأن التفصيل غير موجود فعلم من هذا أن قرب المناسبة والتكرار إذا تعارض واحد منهما مع التفصيل القليل بأن وجد معه فى محل واحد فإنه يسقط مقتضاه، وأن التفصيل القليل عند انتفاء قرب المناسبة والتكرار العارضين له يكون من أسباب الغرابة
(قوله: بسبب) متعلق بغلبة (وقوله: قرب المناسبة) أى: فى التشبيه الأول، (وقوله:
أو التكرار) أى: فى التشبيه الثانى
(قوله: سببا) خبر كان، (وقوله: لظهوره) أى:
مع أن التفصيل من أسباب الغرابة؛ لأن قرب المناسبة فى الصورة الأولى، والتكرار على الحس فى الثانية يعارض كل منهما التفصيل بواسطة اقتضائهما سرعة الانتقال من المشبه إلى المشبه به؛ فيصير وجه الشبه كأنه أمر جملى لا تفصيل فيه؛ فيصير سببا للابتذال.
(وإما بعيد غريب) عطف على قوله: إما قريب مبتذل (وهو بخلافه) أى: ما لا ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به إلا بعد فكر وتدقيق نظر (لعدم الظهور) أى: لخفاء وجهه فى بادى الرأى، وذلك- أعنى: عدم الظهور- (إما لكثرة التفصيل، كقوله:
والشمس كالمرآة فى كفّ الأشلّ)
فإن وجه الشبه فيه من التفصيل ما قد سبق؛
…
===
وجه الشبه
(قوله: مع أن التفصيل) أى: مطلقا ولو كان قليلا
(قوله: فى الصورة الأولى) أى: وهى غلبة حضور المشبه به فى الذهن عند حضور المشبه
(قوله: فى الثانية) أى: وهى غلبة حضور المشبه به فى الذهن مطلقا حضر المشبه أم لا
(قوله: يعارض) خبر أن
(قوله: وإما بعيد) مقابل لقوله سابقا: إما قريب (وقوله: غريب) تفسير لما قبله لا للإخراج وهو فى مقابلة قوله سابقا: مبتذل
(قوله: عطف .. إلخ) أى: والعاطف الواو على الصحيح لا" إما" كما هو مبيّن فى النحو
(قوله: وهو بخلافه) أى: بخلاف القريب أى: ملتبس بمخالفته فى المفهوم، فالباء للملابسة متعلق بمحذوف كما علمت، أو أن المعنى وهو يعرف بخلاف ما تقدم، فقوله بخلافه متعلق بيعرف المفهوم من المقام
(قوله: لعدم الظهور) أى: فى وجه الشبه وهذا علّة لمخالفته للقريب
(قوله: - أعنى: عدم الظهور- إمّا .. إلخ) أى: أن عدم الظهور يكون لأمرين:
إما لكثرة التفصيل أى: فى أجزاء وجه الشبه، وظاهره ولو مع الغلبة، وإما لندور حضور المشبه به فى الذهن، والأول: وهو كثرة التفصيل محترز عدم التفصيل وقلّة التفصيل المعارضة بالمناسبة والتكرر على الحس المعلل بهما ظهور وجه الشبه فى المبتذل، وأشار الشارح بقوله: وذلك إلى أن قوله: إما لكثرة .. إلخ: علّة للعلّة
(قوله: من التفصيل) بيان لما سبق مقدم عليه، وفيه خبر مقدم، وما قد
ولذلك لا يقع فى نفس الرائى للمرآة الدائمة الاضطراب إلا بعد أن يستأنف تأمّلا، ويكون فى نظره متمهّلا.
(أو ندور) أى: أو لندور (حضور المشبه به؛ إما عند حضور المشبه لبعد المناسبة كما مرّ) فى تشبيه البنفسج بنار الكبريت (وإما مطلقا).
وندور حضور المشبه به مطلقا يكون (لكونه وهميّا) كأنياب الأغوال
===
سبق مبتدأ مؤخر، والذى سبق هو الهيئة الحاصلة من الحركة السريعة مع الإشراق فكأنه يهم .. إلخ فهو هيئة مشتملة على كثرة التفصيل
(قوله: ولذلك) أى: لأجل كثرة التفصيل فى وجه تشبيه الشمس بالمرآة (قوله لا يقع) أى: لا يحصل ذلك الوجه وهو الهيئة المعتبر فيها التفصيل المذكور فيما سبق
(قوله: الدائمة الاضطراب) إنما قيد؛ بذلك لأن وجه الشبه المذكور سابقا لا يتأتى إلا مع دوام الحركة (وقوله: إلا بعد أن يستأنف) أى: يحدث، ولو قال: إلا بعد أن يتأمّل لا بمجرد نظره إليها كان أوضح
(قوله: أى: أو لندور .. إلخ) أشار بذلك إلى أن قوله: أو ندور عطف على كثرة أى: أو لقلة التفصيل مع ندور حضور المشبه به، وهذا محترز الغلبة فيما تقدم
(قوله: إما عند حضور المشبه) أى: فقط (وقوله: لبعد المناسبة) أى: بين المشبه والمشبه به، وحينئذ فلا يحصل الانتقال بسرعة، وهذا علّة للعلّة أى: وإنما ندر حضور المشبه به عند حضور المشبه لبعد المناسبة بينهما (قوله فى تشبيه البنفسج بنار الكبريت) أى: فإن نار الكبريت فى ذاتها غير نادرة الحضور فى الذهن لكنها تندر عند حضور البنفسج، فإن قلت: يمكن أن الشاعر حضر عنده حال التشبيه فلا يكون الانتقال غير سريع فيكون التشبيه غير غريب بالنسبة إليه. قلت: المراد ببعد الانتقال الموجب للغرابة أن يكون الشأن فى ذلك الشىء، ولو اتفق الانتقال بسرعة لعارض فيمدح التشبيه لذلك؛ لأنه لا يتضح الانتقال فيه ممن يعرض له ذلك العارض إلا برويّة وبصيرة
(قوله: وإما مطلقا) أى: وإما أن يكون ندوره مطلقا أى: سواء كان المشبه حاضرا فى الذهن أو غير حاضر فيه.
(قوله: لكونه) أى: المشبه به أمرا وهميّا أى: يدركه الإنسان بوهمه لا بإحدى الحواس الظاهرة لكونه هو ومادته غير موجودين فى الخارج، وإذا كان المشبه به أمرا
(أو مركبا خياليّا) كأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد (أو) مركبا (عقليّا) كمثل الحمار يحمل أسفارا، وقوله (كما مرّ) إشارة إلى الأمثلة التى ذكرناها آنفا (أو لقلة تكرره) أى: المشبه به (على الحس، كقوله: والشمس كالمرآة) فى كفّ الأشلّ؛ فإن الرجل ربما ينقضى عمره ولا يتفق له أن يرى مرآة فى يد الأشل (فالغرابة فيه) أى: فى تشبيه الشمس بالمرآة فى كفّ الأشلّ (من وجهين) أحدهما: كثرة التفصيل فى وجه الشبه، والثانى: قلة التكرر على الحس.
فإن قلت: كيف تكون ندرة حضور المشبه به
…
===
وهميّا فلا يدركه ليشبه به إلا المتسع فى المدارك فيستحضره فى بعض الأحيان فيكون إدراك تعلق وجه الشبه نادرا غير مألوف، وكذا القول فى المركب الخيالى (قوله خياليّا) وهو المعدوم الذى فرض مجتمعا من أمور كل واحد منها يدرك بالحس
(قوله: كأنياب الأغوال) أى: فى تشبيه السهام المسنونة الزرق بها
(قوله: كمثل الحمار .. إلخ) أى: فإن المراد بالمثل الصفة كما تقدم، والصفة اعتبر فيها- كما تقدم- كون الحمار حاملا لشىء وكون المحمول أبلغ ما ينتفع به وكونه مع ذلك محروم الانتفاع به وكون الحمل بمشقة وتعب، وهذه الاعتبارات المدلولة للصفة عقلية وإن كان متعلقها حسيّا، وإنما ندر حضور المركب مطلقا؛ لأن الاعتبارات المشار إليها فيه لا يكاد يستحضرها مجموعة إلا الخواص فلا تحصل سرعة الانتقال إلا نادرا فيكون التشبيه غريبا
(قوله: آنفا) أى: قريبا والآنف: هو الوقت القريب من وقتك
(قوله: أو لقلة تكرره) أى: أو لكونه حسيّا ولكن كان قليل التكرر على الحس فهو عطف على قوله: لكونه أمرا وهميّا أى: من أسباب ندور حضور المشبه به فى الذهن قلّة تكرره على الحس أى: على القوة الحاسة وأولى عدم تعلق الحس به كالعرش والكرسى ودار الثواب والعقاب، ويمكن إدخاله فى قليل التكرر بأن يراد عدم كثرته الصادق بعدم الإحساس به- قاله فى الأطول.
(قوله: كقوله) أى: كندرة حضور المشبه به فى التشبيه الواقع فى قوله: والشمس ..
إلخ
(قوله: أن يرى مرآة .. إلخ) أى: وعلى تقدير رؤيتها فى كفه فلا يتكرر، وعلى تقدير التكرر فلا يكثر، فالمحقق هو قلة التكرار
(قوله: فإن قلت .. إلخ) حاصله: أن
سببا لعدم ظهور وجه الشبه؟ قلت: لأنه فرع الطرفين، والجامع المشترك الذى بينهما إنما يطلب بعد حضور الطرفين، فإذا ندر حضورهما ندر التفات الذهن إلى ما يجمعهما، ويصلح سببا للتشبيه بينهما (والمراد بالتفصيل أن ينظر
…
===
وجه الشبه يغاير المشبه به فندور أحدهما لا يقتضى ندور الآخر، وكذا ظهور أحدهما لا يقتضى ظهور الآخر (قوله سببا لعدم ظهور وجه الشبه) أى: مع أنهما متغايران فلا يلزم من ندرة أحدهما ندرة الآخر
(قوله: قلت .. إلخ) حاصله: أن وجه الشبه من حيث إنه وجد بين الطرفين فرع عنهما فلا يتعقل إلا بعد تعقلهما ومنهما ينتقل إليه لكونه المشترك والجامع بينهما، فلا بد وأن يخطر الطرفان أوّلا ثم يطلب ما يشتركان فيه، وإذا كان أحد الطرفين نادرا كان الوجه نادرا، وكونه فرعا عن الطرفين من حيث إنه وجد بينهما لا ينافى أنه من حيث ذاته قد يوجد مع غيرهما فلا يتوقف تعقله على تعقل المشبه به حتى تكون ندرة المشبه به سببا لخفاء وجه الشبه؛ لأن ذلك لا من حيث إن وجه الشبه جامع بين هذين الطرفين، فإن قلت: لم لم يعلّلوا عدم ظهور وجه الشبه بندور حضور المشبه كما علّلوه بندور حضور المشبه به مع أن مقتضى ما تقدم من الجواب أن ندرة كل من المشبه والمشبه به تقتضى عدم ظهور وجه الشبه؟ قلت: لأن المشبه به عمدة التشبيه الحاصل بين الطرفين فظهور وجه الشبه وعدمه إنما يسند إليه- فتأمل.
(قوله: إنما يطلب بعد حضور الطرفين) أى: فتعلقه بعد تعلقهما
(قوله: فإذا ندر حضورهما) أى: أو حضور المشبه به بل هو المدعى، وأما ندور حضور الطرفين فأمر زائد على المدعى، وقد يقال: المراد: وإذا ندر حضورهما أى: حضور مجموعهما.
(قوله: والمراد بالتفصيل) أى: فى وجه الشبه الذى هو سبب فى غرابة التشبيه فأل للعهد الذكرى
(قوله: أن ينظر) أى: أن يعتبر أكثر من وصف واحد إما من جهة وجود الكل أو من جهة عدم الكل أو من جهة وجود البعض وعدم البعض كانت تلك الأوصاف ثابتة لموصوف واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر فالصور اثنتا عشرة صورة، ولذا قال المصنف فيما يأتى ويقع التفصيل على وجوه كثيرة- أى: اثنى عشر- أعرفها- أى: أشدها قبولا عند أولى العرفان- أن يعتبر وجود البعض وعدم البعض أو يعتبر وجود
فى أكثر من وصف) واحد لشىء واحد أو أكثر، بمعنى: أن يعتبر فى الأوصاف وجودها أو عدمها، أو وجود البعض وعدم البعض، كلّ من ذلك فى أمر واحد، أو أمرين، أو ثلاثة، أو أكثر؛ فلذا قال:(ويقع) أى: التفصيل (على وجوه) كثيرة
…
===
الجميع، فهاتان صورتان كلّ منهما مضروب فى أحوال الموصوف الأربع تكون صور الأعرف ثمانية، وحينئذ فغير الأعرف أربعة وهى أن تعتبر جميع الأوصاف من حيث عدمها كان الموصوف بتلك الأمور واحدا أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر
(قوله: فى أكثر من وصف واحد) فيه أن الواحد ليس فيه كثرة كما يقتضيه أفعل التفضيل
(قوله: لشىء واحد) أى: أن الأكثر من وصف واحد إما أن يكون ثابتا لشىء واحد- أى: لموصوف واحد- كما فى تشبيه المفرد بالمفرد، أو ثابتا لأكثر كما فى غير تشبيه المفرد بالمفرد، ودخل تحت الأكثر ثلاث صور ما إذا كان الأكثر من وصف ثابتا لموصوفين أو لثلاثة أو لأكثر
(قوله: بمعنى: أن يعتبر فى الأوصاف وجودها) أى: وجودها كلها كتشبيه الثريّا بعنقود الملّاحية المنور، فإنه قد اعتبر فى وجه الشبه وجود أوصاف وهى التضامّ وتشكل الأجزاء واللون ومقدار المجموع
(قوله: أو عدمها) أى: أو يعتبر عدم الأوصاف كلها كتشبيه الشخص العديم النفع بالعدم فى نفى كل وصف نافع
(قوله: أو وجود البعض وعدم البعض) أى: بأن يعتبر فى وجه الشبه التركيب من وجود بعض أوصاف وعدم بعض أوصاف: كتشبيه سنان الرماح بسنا لهب كما يأتى
(قوله: كلّ من ذلك) أى: المذكور من الأحوال الثلاثة السابقة
(قوله: فى أمر واحد) أى: فى موصوف واحد كما فى تشبيه مفرد بمفرد مقيدين، أو غير مقيدين كتشبيه الثريّا بعنقود الملّاحية المنور
(قوله: أو أمرين أو ثلاثة) أى: كما فى تشبيه مركب بمركب كما فى تشبيه مثار النقع مع الأسياف بالليل الذى تهاوى كواكبه، وكالتشبيه الواقع فى قوله تعالى إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ
…
(1) إلخ، أو مركب بمفرد أو مفرد بمركب.
(قوله: أو أكثر) أى: فالجملة اثنتا عشرة صورة، وهى المراد بالوجوه الآتية فى كلامه
(قوله: فلذا قال) أى: ولأجل الاعتبار المذكور.
(1) يونس: (24).
(أعرفها: أن تأخذ بعضا) من الأوصاف (وتدع بعضا) أى: تعتبر وجود بعضها، وعدم بعضها (كما فى قوله: حملت ردينيّا) يعنى: رمحا منسوبا إلى ردينة (كأن سنانه سنا لهب لم يتّصل بدخان).
فاعتبر فى اللهب الشكل، واللون، واللمعان، وترك الاتصال بالدخان ونفاه
…
===
(قوله أعرفها) أى: أعرف الوجوه التى يقع التفصيل عليها بمعنى أشدها قبولا عند أهل المعرفة لحسنه
(قوله: وعدم بعضها) أى: وتعتبر عدم بعضها وهذا تفسير لقول المصنف: وتدع بعضا إشارة إلى أن المراد بترك بعضها اعتبار عدم البعض لا عدم اعتباره وإن كان كلام المصنف صادقا بذلك؛ لأن عدم اعتبار الأوصاف لا يعتبر فى تشبيه من التشبيهات.
(قوله: إلى ردينة) هى امرأة كانت بخط هجر تقوّم الرماح أى: تعدّلها وتحسّن صنعتها وهى امرأة السّمهر- بفتح السين وسكون الميم وبعدها هاء مفتوحة فراء مهملة- كان أيضا يحسن صنع الرماح
(قوله: كأن سنانه) أى: حديدته التى فى طرفه
(قوله: سنا لهب) أى: ضوء لهب أى لهب مضىء ومشرق فهو من إضافة الصفة للموصوف كما يؤخذ من كلام الشارح، واللهب: النار، والمعنى: كأن سنانه نار مضيئة مشرقة (وقوله: لم يتصل) أى: ذلك اللهب بدخان، وإذا كان كذلك كان شديد اللمعان.
(قوله: فاعتبر فى اللهب) أى: وهو موصوف واحد، وأشار بذلك إلى أن المشبه به هو اللهب كما أن المشبه سنان الرمح، وحينئذ فقوله: سنا لهب بمعنى لهب ذو سنا فإضافة سنا للهب من إضافة الصفة للموصوف كما قلناه، والتشبيه المذكور باعتبار الشكل واللون وعدم الاتصال بالسواد، ولو كان المقصود تشبيه سنان الرمح بسنا اللهب فات اعتبار هذه الأوصاف إلا أن تكون تبعا، ومع ذلك يحتاج إلى تقدير المضاف أى: كأن إشراق سنانه سنا لهب
(قوله: والشكل) أى: المخروطى الذى طرفه دقيق
(قوله: واللون) أى: الزرقة الصافية
(قوله: ونفاه) عطف على تركه ولما كان الترك صادقا بالترك قصدا وبالترك بدون قصد، بيّن أن المراد الترك قصدا بقوله: ونفاه، فهو
(وأن تعتبر الجميع، كما مرّ من تشبيه الثريّا) بعنقود الملّاحية المنورة باعتبار اللون، والشكل، وغير ذلك (وكلّما كان التركيب) خياليّا كان أو عقليّا
…
===
عطف تفسير أى: اعتبر عدمه؛ لأن اعتباره يقدح فى التشبيه المقصود ولا يتم التشبيه بدون اعتبار عدمه، ثم إن ظاهر كلام المصنف: أنه متى اعتبر فى الوجه عدم بعض الأوصاف كان أعرف حتى إذا قيل مثلا: زيد كعمرو فى مجموع الجبن وعدم الكرم كان من جملة الأعرف وليس كذلك، بل إنما يكون أعرف إن كان فيما قصده الشاعر دقة تحتاج إلى مزيد تنبّه كما مرّ فى البيت، وحينئذ يكون معنى الكلام: أن التفصيل المعتبر يزداد حسنا واعتبارا عند تدقيق النظر فى إسقاط بعض الأوصاف؛ لأن الأقرب مناسبة اجتماع وجودات لا اجتماع وجود وعدم- فليتأمل- اه يعقوبى.
(قوله: وأن تعتبر الجميع) أى: وجود جميع الأوصاف وهو عطف على قوله:
أن تأخذ بعضا .. إلخ، فهذا من جملة الأعرف، إن قلت: إن جميع أوصاف الشىء ظاهرة وباطنة لا يطّلع عليها أحد حتى يتأتّى أن يعتبرها فى التشبيه، قلت: ليس المراد باعتبار جميع الأوصاف اعتبار جميع الأوصاف الموجودة فى المشبه به بحيث لا يشذّ منها شىء، بل المراد اعتبار جميع الأوصاف الملحوظة فى وجه الشبه من حيث الوجود والإثبات
(قوله: وغير ذلك) أى: كاجتماعهما على مسافة مخصوصة من القرب، وكالوضع لأجزائها من كون المجموع على مقدار مخصوص- كما تقدم
(قوله: وكلّما كان التركيب) ما مصدرية ظرفية أى: كل وقت من أوقات كون التركيب فى وجه الشبه، (وقوله: خياليّا كان .. إلخ) خياليّا خبر لكان مقدم عليها، وذلك بأن كان هيئة معدومة مفروضا اجتماعها من أمور كل واحد منها يدرك بالحس كقوله:(وكأن محمر الشقيق)(1) .. إلخ (وقوله: أو عقليّا) وهو المركب المعدوم هو ومادته كما فى قوله:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال، ولم يقل: أو حسيّا؛ لأن المقسم التركيب لا المركب، والظاهر أنه لا يكون حسيّا- قاله يس.
(1) البيت للصنوبرى والمصباح ص 116، وأسرار البلاغة ص 158، والطراز 1/ 275، وفى شرح عقود الجمان بلا نسبة 2/ 15، وفى الإشارات والتنبيهات ص 175 بلا نسبة كذلك.
(من أمور أكثر كان التشبيه أبعد) لكون تفاصيله أكثر (و) التشبيه (البليغ
…
===
قال العلامة عبد الحكيم: إنما قابل الخيالى بالعقلى مع أن المقابل للعقلى إنما هو الحسى؛ لأن التركيب لا يكون حسيا
(قوله: من أمور) خبر كان
(قوله: أبعد) أى: عن الابتذال
(قوله: لكون تفاصيله أكثر) فيبعد تناوله لمطلق الناس، وإنما يتناوله حينئذ الأذكياء وذلك كما فى قوله تعالى إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ
…
الآية، فإنها عشر جمل مرتبط بعضها ببعض قد انتزع وجه الشبه من مجموعها، وبيان ذلك يظهر بتلاوة الآية: قال الله تعالى: (1) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ فالمشبه به مركب من عشر جمل بعدّ" وظن أهلها" جملة، " وأنهم قادرون عليها" جملة أخرى، تداخلت تلك الجمل حتى صارت كأنها جملة واحدة، ومعنى فاختلط به نبات الأرض:
فاشتبك به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام من الزرع والبقول، وقوله: حتى إذا أخذت الأرض زخرفها أى: حتى إذا تزّينت بزخرفها، والزخرف فى الأصل: الذهب، وقوله: وازّيّنت أى: تزيّنت تفسير لما قبله، وقوله: وظن أهلها أى: أهل النبات وأنث ضميره لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه، وقوله: قادرون عليها أى: على حصدها ورفع غلّتها، وقوله: فجعلناها أى: النبات حصيدا أى: شبيها بما حصد، وقوله: كأن لم تغن بالأمس أى: كأنها لم تنبت ولم تكن قبل ذاك من زمان قريب غاية القرب، يقال غنى بالمكان: أقام به، فقد شبّه فى الآية مثل الحياة الدنيا أى: حالتها العجيبة الشأن وهى تقضيها بسرعة وانقراض نعمها بغتة بالكلية بعد ظهور قوتها، واغترار الناس بها واعتمادهم عليها- بزوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما لم يبق له أثر أصلا بعد ما كان غضّا طريّا قد التفّ بعضه ببعض وزيّن الأرض بأنواره وطراوته وتقوّيه بعد ضعفه، بحيث طمع الناس فيه وظنّوا سلامته من الجوائح، ووجه الشبه: هيئة منتزعة من
(1) يونس: 24.
ما كان من هذا الضرب) أى: من البعيد الغريب دون القريب المبتذل (لغرابته) أى: لكون هذا الضرب غريبا غير مبتذل (ولأن نيل الشىء بعد طلبه ألذّ)
…
===
تلك الأمور وهى حصول شىء يترتب عليه المنافع، فيحصل السرور به وتنسى عاقبة أمره، ثم يذهب ذلك الأمر بسرعة.
(قوله: ما كان من هذا الضرب) لم يقل منه؛ لأن المتبادر من الضمير عوده إلى خصوص ما كان التركيب فيه من أمور كثيرة، فلذا أظهر، والحاصل: أن بلاغة التشبيه منظور فيها إلى كونه بعيدا غريبا سواء كان وجه الشبه فيه تركّب من أمور كثيرة أو لا وسواء ذكرت الأداة أو حذفت، وحينئذ فإطلاق البليغ على التشبيه الذى حذفت أداته إطلاقا شائعا طريقة لبعضهم، وإلّا فهو يسمى مؤكّدا كما يأتى.
وقول المصنف: ما كان من هذا الضرب: ليس المراد أنه من أفراد هذا الضرب، بل المراد أنه نفس هذا الضرب كما علمت، وحينئذ فالأوضح أن يقول: والتشبيه البليغ هو هذا الضرب، ثم إن المراد بالبليغ هنا: الواصل لدرجة القبول فهو من البلوغ بمعنى الوصول، أو اللطيف الحسن مأخوذ من البلاغة بمعنى اللطف والحسن مجازا لا من البلاغة المصطلح عليها؛ لأنه إنما يوصف بها الكلام والمتكلم لا التشبيه، ولا يقال: يصح إرادة المصطلح عليها باعتبار الكلام الذى فيه التشبيه؛ لأنا نقول بلاغته حينئذ باعتبار المطابقة لمقتضى الحال، ولا وجه لاختصاص الغريب بالبليغ حينئذ، إذ ربما كان القريب المبتذل مطابقا لمقتضى الحال كما إذا كان الخطاب مع شخص يقتضى حاله تشبيها مبتذلا لبلادته وسوء فهمه، فلا يكون الغريب بليغا بل القريب المبتذل- كذا قرر شيخنا العدوى.
(قوله: لغرابته) علّة لتسمية هذا الضرب بليغا، فالغرابة موجبة للبلاغة فكل ما كان غريبا كان بليغا، إذ لا يخفى أن المعانى الغريبة أبلغ وأحسن من المعانى المبتذلة
(قوله: ولأن نيل الشىء) أى: حصوله بعد طلبه ألذّ أى: والغريب المذكور لا ينال إلا بعد التأمل والطلب، وهذا عطف على قوله لغرابته
(قوله: ألذّ) أى: من حصوله بلا طلب، ثم إن هذا لا ينافى ما تقدم فى باب حذف المسند من أن حصول النعمة الغير المترقبة ألذ لكونه رزقا من حيث لا يحتسب؛ لأن الطلب لا ينافى؛ الحصول الغير المترقب، لأنه يمكن
وموقعه فى النفس ألطف، وإنما يكون البعيد الغريب بليغا حسنا إذا كان سببه لطف المعنى ودقته، أو ترتيب (بعض المعانى على بعض، وبناء ثان على أول، وردّ تال إلى سابق فيحتاج إلى نظر وتأمل (وقد يتصرف فى) التشبيه (القريب) المبتذل
===
حصول المطلوب قبل وقت ترقبه أو من غير موضع يطلب منه ويترقب فيه، فإذا اجتمع الطلب وعدم الترقب فقد بلغ المرتبة العليا من اللذة.
(قوله: وموقعه فى النفس) أى: ووقوعه عند النفس
(قوله: وإنما يكون .. إلخ) جواب عما يقال: إن الغرابة تقتضى عدم الظهور وخفاء المراد لاقتضائها قلة الوجود المقتضية لعدم إدراك كل أحد فيحتاج إلى مزيد التأمل والنظر، ولا شكّ أن عدم الظهور وخفاء المراد يوجب التعقيد وقد تقدم أول الكتاب أنه مخلّ بالفصاحة والإخلال بالفصاحة يخلّ بالبلاغة، وحينئذ فلا تكون الغرابة موجبة لبلاغة التشبيه، فبطل قول المصنف والتشبيه البليغ ما كان من هذا الضرب، وحاصل الجواب: أن الخفاء وعدم الظهور تارة ينشأ عن لطف المعنى ودقته، وهذا محقق للبلاغة وهو المراد هنا، وتارة ينشأ عن سوء تركيب الألفاظ وعن اختلال الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثانى، وهذا هو المحقق للتعقيد المخلّ بالفصاحة
(قوله: إذا كان سببه لطف المعنى) أى: لا إن كان سببه سوء ترتيب الألفاظ كما فى قوله:
وما مثله فى النّاس إلا مملّكا
…
أبو أمّه حىّ أبوه يقاربه (1)
أو كان سببه اختلال الانتقال من المعنى المذكور إلى المعنى المقصود كما فى قوله:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا
…
وتسكب عيناى الدّموع لتجمدا (2)
على ما تقدم تقريره (وقوله: ودقته) عطف تفسير، والغريب الذى سبب غرابته لطف المعنى ودقته كما فى تشبيه البنفسج بأوائل النار فى أطراف كبريت (وقوله: أو ترتيب
(1) البيت للفرزدق فى لسان العرب (ملك) ومعاهد التنصيص 1/ 43، وبلا نسبة فى الخصائص 1/ 146، 329، 393.
(2)
البيت للعباس بن الأحنف الشاعر الغزلى المشهور، وهو فى ديوانه 106 ودلائل الإعجاز 268 والإشارات والتنبيهات ص 12.
(بما يجعله غريبا) ويخرجه عن الابتذال (كقوله:
لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا
…
إلا بوجه ليس فيه حياء)
فتشبيه الوجه بالشمس مبتذل
…
===
بعض المعانى على بعض) أى: كالترتيب فى وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ (1) الآية، فإن خضرة النبات مرتبة على الماء واليبس مرتب على الخضرة (وقوله:
وبناء ثان .. إلخ) عطف على ترتيب بعض المعانى على بعض عطف تفسير أو لازم على ملزوم، وكذا
(قوله: وردّ تال إلى سابق)(وقوله: وتأمل) تفسير لنظر.
(قوله: بما يجعله) أى: بتصرف يجعله غريبا، وذلك بأن يشترط فى تمام التشبيه وجود وصف لم يكن موجودا أو انتفاء وصف موجود ولو بحسب الادّعاء
(قوله: ويخرجه عن الابتذال) أى: إلى الغرابة، وهذا عطف لازم على ملزوم
(قوله: كقوله) أى: قول القائل وهو أبو الطيب المتنبى من قصيدة من الكامل يمدح فيها هارون بن عبد العزيز الأوراجى، وأولها
أمن ازديارك فى الدّجى الرّقباء
…
إذ حيث كنت من الظلام ضياء (2)
(قوله: لم تلق هذا الوجه .. إلخ)(3) هذا الوجه: مفعول، وشمس نهارنا فاعل، والمراد بهذا الوجه وجه الممدوح أى: لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا فى حال من الأحوال إلا ملتبسة بوجه لا حياء فيه (فقوله: إلا بوجه) استثناء مفرغ من الحال يعنى:
أن الشمس دائما وأبدا فى حياء وخجل من الممدوح لما أن نور وجهه أتم من النور والإشراق الذى فيها، فلا يمكن أن تلاقى وجهه إلا إذا انتفى عنها الحياء، أما عند وجوده كما هو حق الأدب منها فلا يمكن أن تلقاه، ويصح رفع الوجه على الفاعلية ونصب شمس نهارنا على المفعولية، والمعنى: أن الشمس لا يمكن أن يلقاها وجه الممدوح إلا إذا كانت متجردة عن الحياء الذى ينبغى لها أن لا ترتكبه، إذ لو كان فيها حياء لامتنعت من أن يلقاها وجه الممدوح لكونه أعظم منها
(قوله: فتشبيه الوجه) أى: وجه
(1) الكهف: (45).
(2)
البيت من مطلع قصيدة لأبى الطيب المتنبى فى ديوانه 1/ 169، يمدح أبا على هارون بن عبد العزيز الأوراجى الكاتب، ووقعت فى المطبوع الأدراجى والبيت فيه" ازديادك" مكان ازديارك والتصويب من شرح الديوان وغيره كمعاهد التنصيص، والوساطة بين المتنبى وخصومه.
(3)
البيت للمتنبى فى عقود الجمان 2/ 30، والإيضاح ص 238 والتلخيص ص 71.
إلا أن حديث الحياء، وما فيه من الدقة والخفاء أخرجه إلى الغرابة، وقوله: لم تلق إن كان من: لقيته، بمعنى: أبصرته فالتشبيه مكنّى غير مصرّح به، وإن كان من لقيته، بمعنى: قابلته
…
===
الممدوح بالشمس مبتذل أى: كثير العروض للأسماع؛ لجريان العادة به، فإن قلت: إن المفاد من البيت أن الوجه أعظم منها فى الإشراق والضياء فملاقاتها له وظهورها عند وجوده إنما هو من قلّة حيائها ومن قلّة أدبها، وحينئذ فلا تشبيه فى البيت لا مصرّح به ولا مقدّر.
قلت: إن التشبيه فى البيت ضمنىّ كما أشار فى الوجه الأول فى" لم تلق"؛ وذلك لأن وجه الممدوح إذا كان أعظم من الشمس فى الإشراق والضياء يستلزم اشتراكهما فى أصل الإشراق فيثبت التشبيه ضمنا، فكأنه يقول: هذا الوجه كالشمس فى أصل الحسن فقط، ثم إن جعل الشارح الوجه مشبها بالنظر لمقصود الشاعر وإن كان المفاد من البيت بعد جعل التشبيه ضمنيا أن المشبه الشمس بسبب ذكر عدم الحياء؛ لأن الوجه أتم فى وجه الشبه فيكون هو المشبه به، والحاصل: أن المفاد من البيت قلب التشبيه ولكن المقصود للشاعر تشبيه الوجه بالشمس كما قال الشارح- فتأمل- كذا قرر شيخنا العدوى.
(قوله: إلا أن حديث الحياء) أى: ذكر نفى الحياء عن وجه الشمس فى لقيّها وجه المحبوب
(قوله: وما فيه من الدقة) أى: من حيث إفادة المبالغة فى الممدوح وأن وجهه أعظم إشراقا وضياء من الشمس
(قوله: والخفاء) عطف تفسير
(قوله: أخرجه إلى الغرابة) خبر أنّ أى: أخرج التشبيه المذكور من الابتذال إلى الغرابة والحسن؛ لأن إدراك وجه المحبوب فى غاية الإشراق والضياء عن وجه الشمس فيه غرابة
(قوله: بمعنى أبصرته) أى: والمعنى لم تبصر هذا الوجه شمس نهارنا والإسناد حينئذ مجازىّ؛ لأن الشمس لا تبصر حقيقة
(قوله: مكنّى) أى: لأن قوله ليس فيه حياء يدل على أن وجه الممدوح أعظم منها إشراقا وضياء، وهذا يستلزم اشتراكهما فى أصل الإشراق والضياء، فيثبت التشبيه ضمنا لا صريحا، (فقول الشارح: غير مصرّح) به تفسير لمكنّى، وليس المراد الكناية
وعارضته فهو فعل ينبئ عن التشبيه، أى: لم تقابله فى الحسن والبهاء إلا بوجه ليس فيه حياء.
(وقوله: عزماته مثل النجوم ثواقبا) أى: لوامعا (لو لم يكن للثاقبات أفول).
===
بالمعنى المشهور؛ لأن المذكور فى البيت ملزوم التشبيه وهو نفى الحياء المستلزم لكون الوجه أعظم إشراقا- كذا فى يس- تأمله.
(قوله: وعارضته) أى: ماثلته وهو مرادف لقابلته
(قوله: فهو فعل ينبئ عن التشبيه) أى: يدل على التشبيه الواقع بعد أداة الاستثناء؛ لأن المعنى لم تقابله إلا بوجه ليس فيه حياء فتقابله وتماثله، فالتشبيه حينئذ مأخوذ من الفعل المنفى المصرّح به فيكون مصرحا به على هذا، بخلاف الأول فإنه ليس فيه لفظ ينبئ عن التشبيه.
(قوله: أى لم تقابله) أى: لم تماثله فى الحسن والبهاء إلا بوجه لا حياء فيه.
(قوله: وقوله) أى: قول رشيد الدين الوطواط بفتح الواوين
(قوله: (1) عزماته) أى: إراداته المتعلقة بمعالى الأمور فهو جمع عزمة وهى المرة من العزم وهى إرادة الفعل مع القطع
(قوله: ثواقبا) حال من النجوم؛ لأن مثل النجوم فى معنى مماثلة للنجوم، فصح مجىء الحال من المضاف إليه، والثواقب: النوافذ فى الظلمات بإشراقها مأخوذة من الثقوب وهو النفوذ. سمى لمعان النجوم ثقوبا لظهورها به من وراء الظلمة فكأنها ثقبتها؛ ولذلك فسّر الشارح الثواقب باللوامع
(قوله: أى: لوامعا) بالصرف محاكاة لثواقبا المفسر الواقع فى البيت مصروفا للضرورة
(قوله: لو لم يكن .. إلخ) جواب لو محذوف أى: لتمّ التشبيه لكن لها أفول، فلم يتم التشبيه لكون المشبه به أنقص.
(قوله: أفول) أى: غروب وغيبة
(قوله: فتشبيه العزم) أى: الإرادة بالنجم أى:
فى الثقوب وهو النفوذ الذى هو فى كليهما تخييلى؛ لأنه فى العزم بلوغه المراد وفى النجم نفوذه فى الظلمات بإشراقها أمر مشهور ومعلوم لظهور وجه الشبه وعدم توقفه على نظر وفكر دقيق، ولكن ادعى أن مع ثقوب الإرادة وصفا زائدا وهو عدم الأفول أى:
(1) البيت للوطواط فى الإشارات ص 198.