الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فى الثلاثة)
التشبيه
، والمجاز، والكناية.
التشبيه:
أى: هذا باب التشبيه الاصطلاحى المبنى عليه الاستعارة (التشبيه) أى:
مطلق التشبيه
===
تلك الثلاثة من تعريف العلم وما يبحث عنه وضبط أبوابه إلى غير ذلك- قال:
وينحصر المقصود من علم البيان فى التشبيه والمجاز والكناية
(قوله: فى الثلاثة) أورد على الحصر فيها الاستعارة بالكناية على مذهب المصنف؛ فإنها لا تدخل فى المراد بالتشبيه هنا وليست مجازا ولا كناية، وقول بعضهم: إنها داخلة فى التشبيه وإن أفردها عنه للاختلاف فى حقيقتها واشتمالها على لطائف ودقائق، يرده قول المصنف فيما يأتى والمراد بالتشبيه هنا إلخ
(قوله: والمجاز)" أل" للعهد الذكرى، والمجاز المعهود فى الذكر هو المرسل والاستعارة التى تنبنى على التشبيه، والله أعلم.
التشبيه
(قوله: أى هذا باب التشبيه) أشار الشارح إلى أن الترجمة خبر لمبتدأ محذوف على حذف مضاف، وأشار الشارح بقوله:" الاصطلاحى" إلى أن" أل" فى التشبيه للعهد الذكرى؛ لأنه تقدم له ذكر، والمراد بالتشبيه الاصطلاحى الذى هو أحد أقسام المقصود الثلاثة ما كان خاليا عن الاستعارة والتجريد بأن كان مشتملا على الطرفين والأداة لفظا أو تقديرا
(قوله: المبنى عليه الاستعارة) الضمير المجرور عائد على" أل"، أى: الذى تبنى عليه الاستعارة؛ وذلك لأن استعارة اللفظ إنما تكون بعد المبالغة فى التشبيه وإدخال المشبه فى جنس المشبه به كما مر، واعلم أن البحث عن التشبيه الاصطلاحى فى هذا الباب من جهة طرفيه وهما المشبه والمشبه به، ومن جهة أدائه وهى الكاف وشبهها، ومن جهة وجهه، وهو المعنى المشترك بين الطرفين الجامع لهما، ومن جهة الغرض منه وهو الأمر الحامل على إيجاده، ومن جهة أقسامه، وسيأتى تحقيق ذلك فى محاله إن شاء الله تعالى،
(قوله: أى مطلق التشبيه) أى: وأل فى التشبيه هنا للجنس، إذ هو المناسب لمقام التعريف، ومطلق التشبيه: هو التشبيه اللغوى، وحينئذ ففى كلام المصنف شبه استخدام حيث ذكر التشبيه أولا بمعنى، ثم ذكره ثانيا بمعنى آخر، وإنما تعرض لتعريف
أعم من أن يكون على وجه الاستعارة، أو على وجه تنبنى عليه الاستعارة، أو غير ذلك. فلم يأت بالضمير؛ لئلا يعود إلى التشبيه المذكور الذى هو أخص،
…
===
مطلق التشبيه الذى هو التشبيه اللغوى مع أن الذى من مقاصد علم البيان إنما هو الاصطلاحى، لينجر الكلام منه إلى تحقيق المصطلح عليه فتتم الفائدة بالعلم بالمنقول عنه والمناسبة بينهما.
(قوله: أعم من أن يكون على وجه الاستعارة) أى: بالفعل بأن حذفت منه الأداة والمشبه، كما فى قولك:" رأيت أسدا فى الحمام، أو رأيت أسدا يرمى"
(قوله: أو على وجه تنبنى عليه الاستعارة) أى: بالقوة وهو التشبيه المذكور فيه الطرفان والأداة، نحو:" زيد كالأسد، وكأن زيدا أسد"، وهذا هو المقصود، ووجه بنائها عليه أنه إذا حذف المشبه وأداة التشبيه، وأقيمت قرينة على المراد صار استعارة بالفعل، فظهر لك أن هذا مغاير لما قبله كما قاله السيرامى، خلافا لما قاله سم، من أن هذا تنويع فى التعبير وأن المعنى واحد يعبر عنه بهاتين العبارتين،
(قوله: أو غير ذلك) بأن كان التشبيه ضمنيّا كما فى بعض صور التجريد، نحو:" لقيت من زيد أسدا"، فأنت فى الأصل شبهت زيدا بالأسد، ثم بالغت فى زيد حتى انتزعت منه الأسد، وإنما كان هنا تشبيه ضمنىّ لذكر الطرفين فى هذا الكلام فيمكن التحويل فى الطرفين إلى هيئة التشبيه الحقيقى.
(قوله: لئلا يعود إلخ) إن كان المراد لئلا يلزم العود إلخ، فهو ممنوع؛ إذ الضمير قد يعود إلى بعض أفراد العام، وقد يعود إلى المطلق فى ضمن المقيد، وفى باب الاستخدام يعود إلى أحد المعنيين، وإن أراد بقوله:" لئلا يعود" أى: على وجه الظهور والتبادر فإعادة المعرف كذلك؛ فلا فرق بينهما، ويمكن أن يقال: مراده لئلا يعود إلى ما ذكر كما هو الظاهر المتبادر، وعوده إلى المطلق الذى فى ضمن المقيد خلاف الأصل، والحاصل أنه لو أتى بالضمير لكان المتبادر التشبيه المبوب له بخلاف الإظهار؛ فإنه فى صحة إرادة خلاف المتقدم أقوى من الإضمار، وإن كان يصح فى الإضمار إرادة الخلاف- أيضا- بأن يكون على طريق الاستخدام، ويصح فى الإظهار إرادة نفس المتقدم، لكن إرادة الخلاف فى الإظهار أقوى من إرادته فى الإضمار،
(قوله: الذى هو الأخص) أى: مطلق التشبيه وهو
وما يقال: إن المعرفة إذا أعيدت كانت عين الأول فليس على إطلاقه؛ يعنى: أن
===
اللغوى، ثم لا يخفى أن كون التشبيه الاصطلاحى من مقاصد علم البيان الباحث عن أحوال اللفظ العربى من حيث وضوح الدلالة يقتضى أن يكون عبارة عن اشتراك شيئين فى معنى الذى هو مدلول الكلام، أو الكلام الدال على اشتراك شيئين فى معنى، والتشبيه اللغوى كما يأتى عبارة عن فعل المتكلم؛ فبينهما مباينة، فأين الأخصية؟ وقد يجاب بأن المصنف لما فسر التشبيه الاصطلاحى- أيضا- بفعل المتكلم- حيث جعل جنسه التشبيه اللغوى- كان أخص منه، وحينئذ فمعنى كونه من مقاصد علم البيان، أن البحث عمّا يتعلق به من الطرفين- ووجه الشبه، وأداته، والغرض منه- من مقاصده، وإنما فسره بفعل المتكلم؛ لأنه المعنى الحقيقى عندهم، وإن كان التشبيه قد يطلق على الكلام الدال على المشاركة، وإنما كان فعل المتكلم معنى حقيقيّا لهذا اللفظ؛ لإطلاقه عليه إطلاقا شائعا، ويشتقون منه المشبه لفاعله والمشبه والمشبه به للطرفين ووجه شبه والغرض منه وأداته، ولا يصح شىء من ذلك إذا أريد به الكلام الدال،
(قوله: وما يقال
…
إلخ) هذا جواب عن سؤال تقديره: إن الظاهر كالضمير فى العود إلى المذكور؛ لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة؛ كانت عين الأولى، وحينئذ فلا يتم ما ذكر من التوجيه، فقول الشارح:" وما يقال" أى: اعتراضا على ما تقدم،
(قوله: إذا أعيدت معرفة) أى:
بلفظها الأول قال يس، وانظر هل الإعادة بالمرادف كذلك،
(قوله: فليس على إطلاقه) أى: وكذا ما يقال: إن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، ألا ترى قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ (1) مع امتناع المغايرة هاهنا، وقوله:(فليس على إطلاقه) أى: بل أكثرى لا كلى؛ وذلك لأنه مقيد بما إذا لم تقم قرينة على المغايرة كما هنا، فإن القرينة هنا على المغايرة، قوله: والمراد إلخ، ثم إن ظاهره أن عود الضمير إلى ما قبله كلىّ وفيه بحث؛ لأنه يمكن حمل الضمير على الاستخدام، نعم الغالب فى المضمر إرادة المعنى الأول؛ فاستوى مع إعادة الظاهر- فتأمل اه يس.
(1) الزخرف: 84.
معنى التشبيه فى اللغة (الدلالة) هو مصدر قولك: " دللت فلانا على كذا" إذا هديته له (على مشاركة أمر لأمر فى معنى) وهذا شامل لمثل: " قاتل زيد عمرا، وجاءنى زيد وعمرو"(والمراد) بالتشبيه
…
===
(قوله: معنى التشبيه) أى: الذى هو مصدر شبه، بدليل تفسير الشارح الدلالة بما ذكر،
(قوله: مصدر
…
إلخ) أفاد الشارح أن الدلالة المرادة هنا صفة للمتكلم، كما أن التشبيه كذلك، إذ المعنى التشبيه هو أن يدل المتكلم على مشاركة إلخ لا صفة الدال أعنى انفهام المعنى منه إذ لا يصح حملها بهذا المعنى على التشبيه الذى هو فعل المتكلم، وسيأتى أن التشبيه قد يطلق وصفا للكلام، ولو أراد المصنف ذلك لقال: هو مجموع الطرفين والأداة والمعنى، وبما ذكره الشارح من أن الدلالة هنا مصدر دللت .. إلخ، المفيد أنها صفة للمتكلم يندفع ما يقال التشبيه فعل المتكلم فهو وصف له، والدلالة وصف للدال، وحينئذ فلا يصح حملها عليه
(قوله: على مشاركة) أى: اشتراك، فالمفاعلة بمعنى الفعل: كسافرت وواعدت بمعنى سفرت ووعدت، والمراد بالأمر الأول: المشبه، وبالثانى: المشبه به
(قوله: فى معنى) أى: فى وصف وهو وجه الشبه المشترك بين الطرفين الجامع بينهما، وأما الدال والمشبه بالكسر فهو المتكلم، واحترز بقوله: فى معنى، عن المشاركة فى عين نحو:" شارك زيد عمرا فى الدار"؛ فلا يسمى تشبيها.
(قوله: وهذا) أى: تعريف التشبيه اللغوى أى: مما ذكر شامل لمثل: " قاتل زيد عمرا"؛ فإنه يدل على مشاركة زيد لعمرو فى المقاتلة، و" جاءنى زيد وعمرو" فإنه يدل على مشاركتهما فى المجىء، ومثلهما:" زيد أفضل من عمرو"؛ فإنه يدل على اشتراكهما فى الفضل، أى: مع أن هذا كله ليس تشبيها لغويّا، فكان الواجب أن يزيد بالكاف ونحوها لفظا أو تقديرا لإخراج مثل هذا، وإدخال" زيد أسد ونحوه"، فقد اتضح لك أن مقصود الشارح الاعتراض على تعريف التشبيه اللغوى، كما هو مفاد كلام العلامة السيد، خلافا لما قاله بعضهم: من أن مراد الشارح بيان الواقع لا الاعتراض على التعريف، وقد يجاب بأن ما عرف به المصنف من باب التعريف بالأعمّ، وهو شائع عند أهل اللغة، أو يقال: مراد المصنف الدلالة الصريحة فخرج ما ذكر؛ فإن الدلالة فيهما على المشاركة
المصطلح عليه (هاهنا) أى: فى علم البيان (ما لم تكن) أى: الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى بحيث لا تكون (على وجه الاستعارة التحقيقية) نحو: رأيت أسدا فى الحمام، (و) لا على وجه (الاستعارة بالكناية) نحو: أنشبت المنية أظفارها،
===
غير صريحة؛ وذلك لأن مدلول الأول صراحة وجود المقاتلة من زيد وتعلقها بعمرو، ويلزم ذلك مشاركتهما فيها، ومدلول الثانى صراحة ثبوت المجىء لزيد، ووجوده لعمرو، ويلزم ذلك- أيضا- مشاركتهما فيه، ومن البين أنه قد يقصد وقوع المقاتلة من زيد وتعلقها بعمرو غافلا عن مشاركتهما فيها، وقد يقصد المجىء من كل واحد منهما غافلا عن المشاركة فيه أيضا، ولو كانت المشاركة لازمة لكل من مدلولى التركيبين، فباشتراط كون الدلالة صريحة لا يشملها التعريف، وبالجملة فمنشأ الاعتراض على التعريف المذكور عدم الفرق بين ثبوت حكم لشيئين وبين مشاركة أحدهما للآخر فيه، والحق أنهما مفهومان متغايران متلازمان، فليس دلالة اللفظ على أحدهما عين دلالته على الآخر وإن استلزمهما، وليس دلالة المتكلم على أحدهما مستلزمة لدلالته على الآخر؛ إذ ربما لا يكون الآخر مقصودا عنده أصلا
(قوله: المصطلح عليه) أى: وهو الذى ترجم له هنا
(قوله: أى الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى) هذا تفسير لما، وقوله:(بحيث لا تكون) تفسير لقوله: (لم تكن)، وقد حمل على أنها موصوله، وتقدير عبارته أى: الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى التى بحيث لا تكون إلخ، إلا إنه أسقط التى ولو قال أى: تشبيه لم يكن إلخ كما قال فى المطول كان أخصر وأحسن
(قوله: بحيث لا تكون) أى: الدلالة المفادة بالكلام على وجه الاستعارة التحقيقية، أى: فإن كانت تلك الدلالة على وجه الاستعارة المذكورة بأن طوى ذكر المشبه وذكر لفظ المشبه به مع قرينة دلت على إرادة المشبه، فذلك اللفظ لم يكن تشبيها فى الاصطلاح، (وقوله: نحو رأيت أسدا فى الحمام) إن كان مثالا للمنفى وهو الاستعارة التحقيقية، فالمعنى نحو: أسد فى رأيت إلخ، وإن كان مثالا للتشبيه، فالمعنى نحو:
التشبيه المدلول عليه بقولك: " رأيت أسدا فى الحمام"، وكذا يقال فيما بعد.
(قوله: ولا على وجه الاستعارة بالكناية) سيأتى أنها عند المصنف التشبيه المضمر فى النفس المدلول عليه بلفظ يدل عليه، وعند السكاكى نفس لفظ المشبه المستعمل
(و) لا على وجه (التجريد) الذى يذكر فى علم البديع من نحو: " لقيت بزيد أسدا، أو" لقينى منه أسد"، فإن فى هذا الثلاثة دلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى
…
===
فى المشبه به ادعاء، وعند القوم لفظ المشبه به المطوى من الكلام المرموز إليه بذكر لازمه، وعلى الأول يكون التمثيل لها بقول القائل:" أنشبت المنية أظفارها بفلان" تمثيلا لما تستفاد منه، وعلى الثانى والثالث تمثيلا لما وجدت فيه، فقول الشارح:(نحو أنشبت إلخ) أى: نحو التشبيه المضمر فى النفس المستفاد من قولنا: أنشبت إلخ
(قوله: ولا على وجه التجريد) كان المناسب للمصنف أن يقول بعد ذلك: بالكاف ونحوها؛ ليخرج نحو: " قاتل زيد عمرا، وجاءنى زيد وعمرو"، إلا أن يقال: أراد بالدلالة الواقعة فى التعريف الدلالة الصريحة المقصودة، فخرج ما ذكر من المثالين؛ لأن الدلالة على المشاركة فيهما ليست صريحة فى ذلك
(قوله: الذى يذكر فى علم البديع) وهو ما كان المجرد غير المجرد منه كما مثل الشارح، وأما ما كان المجرد هو نفس المجرد منه، فليس داخلا فى الدلالة حتى يخرج، وتوضيح ذلك أن التجريد قسمان: -
الأول: أن ينتزع من الشىء شىء آخر مساو له فى صفاته للمبالغة فى ذلك الشىء حتى صار بحيث ينتزع منه شىء آخر مساو له فى صفاته، كقوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ (1) فإنه لانتزاع دار الخلد من جهنم وهى عين دار الخلد لا شبيهة بها، وهذا ليس فيه مشاركة أمر لأمر آخر حتى يحتاج لإخراجه. والثانى: أن ينتزع المشبه به من المشبه للمبالغة فى التشبيه حتى صار المشبه بحيث يكون أصلا ينتزع منه المشبه به، نحو:
" لقيت بزيد أسدا"، فإنه لتجريد" أسد" من" زيد"، و" أسد" مشبه به لزيد لا عينه فيه تشبيه مضمر فى النفس، وهذا هو المحترز عنه، وإخراج التجريد المذكور إنما هو بناء على أنه لا يسمى تشبيها اصطلاحا وهو الأقرب؛ إذ لم يذكر فيه الطرفان على وجه ينبىء عن التشبيه، وقيل إنه تشبيه حقيقة لذكر الطرفين فيمكن التحويل فيهما إلى هيئة التشبيه لولا قصد التجريد، وعليه فلا يحتاج لإخراجه
(قوله: لقيت بزيد أسدا) أى: لقيت من
(1) فصلت: 28.
مع أن شيئا منها لا يسمى تشبيها اصطلاحا، وإنما قيد الاستعارة بالتحقيقية، والكناية؛ لأن الاستعارة التخييلية كإثبات الأظفار للمنية فى المثال المذكور ليس فى شىء من الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى على رأى المصنف؛
…
===
زيد أسدا، أصله: لقيت زيدا المماثل للأسد، ثم بولغ فى تشبيهه به حتى إنه جرد من زيد ذات الأسد، وجعلت منتزعة منه، وكذا يقال فى المثال الذى بعده.
(قوله: مع أن شيئا منها
…
إلخ) أى: مع أنه لا يسمى شىء منها تشبيها اصطلاحا، فقدم معمول يسمى عليها، ولو أخره ليكون فى حيز النفى لكان أوضح، وإنما لم يسم شىء من هذه تشبيها اصطلاحيّا؛ لأن التشبيه بالاصطلاح ما كان بالكاف ونحوها لفظا أو تقديرا، وعدم تسمية واحد من هذه تشبيها مذهب المصنف، وخالفه السكاكى فى التجريد فإنه صرح بأن نحو:" لقيت بزيد أسدا، ولقينى منه أسد" من قبيل التشبيه، وقد يقال: إن الخلاف لفظىّ راجع إلى الاصطلاح، قاله الخلخالى.
(قوله: لا يسمى تشبيها اصطلاحا) أى: وإن وجد فيها معنى التشبيه، نعم هو تشبيه لغوى، وهو أعم من الاصطلاحى، فكل اصطلاحى لغوى ولا عكس، فيجتمعان فى" زيد أسد"، وينفرد اللغوى فى الاستعارة والتجريد،
(قوله: وإنما قيد
…
إلخ) حاصله أنه إنما قيد الاستعارة بالتحقيقية والمكنى عنها، واكتفى بذكرهما ولم يقل: ولا على وجه الاستعارة التخييلية؛ لأنها حقيقة عند المصنف، فلفظ" الأظفار" مثلا عند المصنف مستعمل فى معناه الحقيقى، وليس مجازا أصلا، وإنما التجوز فى إثباتها للمنية على ما يأتى، وحينئذ فلا دلالة فيها على مشاركة أمر لآخر فلا حاجة لإخراجها بقوله:(ما لم تكن إلخ)؛ لأنها لم تدخل فى الجنس الذى هو الدلالة المذكورة
(قوله: ليس فى شىء من الدلالة
…
إلخ) أى: فهى غير داخلة فى المراد بما حتى يحتاج إلى أن يقول: ولا على وجه الاستعارة التخييلية، ومقتضى الظاهر أن يقول: ليست بالتأنيث؛ إلا أنه ذكر نظرا إلى معنى الاستعارة التخييلية الذى هو إثبات لازم المشبه به للمشبه والظرفية من ظرفية المقيد فى المطلق، ولو قال:
ليس فيها شىء من الدلالة، كان أوضح
(قوله: على رأى المصنف) متعلق بإثبات أى:
أن الاستعارة التخييلية- عند المصنف موافقا للسلف- إثبات لازم المشبه به للمشبه
إذ المراد بالأظفار معناها الحقيقى على ما سيجىء. فالتشبيه الاصطلاحى هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى؛ لا على وجه الاستعارة التحقيقية، والاستعارة بالكناية والتجريد (فدخل فيه نحو قولنا: زيد أسد) بحذف أداة التشبيه (و) نحو (قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ (1) بحذف الأداة والمشبه جميعا؛ أى: هم صم
…
===
بعد ادعاء كونه عينه؛ فلا تشبيه إلا فى الاستعارة بالكناية، ويحتمل أن يكون الظرف متعلقا بالنفى، أى انتفاء الدلالة على المشاركة فى التخييلية على رأى المصنف لا على رأى السكاكى ففيها ذلك.
(قوله: إذ المراد) أى: عند المصنف، وحينئذ فالتجوز إنما هو فى الإسناد؛ فالتخييلية- على رأيه- مجاز عقلى؛ ولذا لم يخرجها، وأما- عند السكاكى- فالتجوز فى نفس الأظفار، فهى داخلة فى الجنس وهو الدلالة المذكورة، فلو حذف قوله: التحقيقية، وما بعدها واقتصر على قوله: على وجه الاستعارة، كان أخصر وأشمل لدخول التخييلية عند السكاكى،
(قوله: على ما سيجىء) أى: من الخلاف بين السكاكى وغيره
(قوله: فالتشبيه الاصطلاحى إلخ) أعاده لأجل إيضاح ربط قوله: فدخل إلخ بما قبله، وكان يكفيه أن يقول: فالتشبيه الاصطلاحى ما مر فدخل إلخ
(قوله: فى معنى) سيأتى قريبا أنه لا بد فى المعنى الذى هو وجه الشبه أن يكون له زيادة اختصاص بهما، وقصد بيان اشتراكهما فيه فيؤخذ منه أن نحو:" جاء زيد وعمرو" لا يسمى تشبيها.
(قوله: فدخل فيه) أى: تعريف التشبيه الاصطلاحى، نحو قولنا:" زيد أسد" أى: كما دخل فيه ما يسمى تشبيها من غير خلاف وهو ما ذكر فيه أداة التشبيه، نحو: زيد كالأسد، وكأسد بحذف زيد لقيام قرينة كما لو قيل: ما حال زيد؟ فقيل: كالأسد، والمراد: دخل، نحو قولنا: زيد أسد مما يسمى تشبيها على القول المختار وهو ما حذف فيه أداة التشبيه وجعل المشبه به خبرا عن المشبه، أو فى حكم الخبر سواء كان مع ذكر المشبه، أو مع حذفه، فالأول، نحو قولنا: زيد أسد، والثانى نحو قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ وجعل المشبه به فى حكم الخبر عن
(1) البقرة: 18.
فإن المحققين على أنه تشبيه بليغ لا استعارة؛ لأن الاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له بالكلية ويجعل الكلام خلوا عنه صالحا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه
…
===
المشبه من حيث إفادة الاتحاد وتناسى التشبيه كما فى الحال والمفعول الثانى فى باب علمت والصفة والمضاف وكونه مبينا له وذلك نحو: " كر زيد أسدا" أى: كالأسد، " وعلمت زيدا أسدا"، أى: كالأسد، " ومررت برجل أسد"، أى: كالأسد، وماء اللجين أى: ماء هو اللجين، ونحو قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (1)
(قوله: فإن المحققين إلخ) علة لدخول ما ذكر من المثال والآية فى التعريف، وخالف غيرهم، فادعى أن ما حذفت فيه الأداة، كقولك:" زيد أسد" من باب الاستعارة بناء على أن حمل الأسدية على زيد لا يصح إلا بإدخاله فى جنس الأسد المعلوم كما فى الاستعارة، وعلى هذا فلا يدخل فى تعريف التشبيه، وجوز الشارح أن يكون:" زيد أسد" من باب الاستعارة، ولكن ادعى أن المشبه ليس" زيدا"، بالكلية (*) وهو الرجل الشجاع،
(قوله: على أنه) أى: ما ذكر من المثال والآية،
(قوله: المستعار له) وهو المشبه كالرجل الشجاع فى: " رأيت أسدا فى الحمام"، وطى المستعار له إنما هو بالنسبة للاستعارة التصريحية؛ إذ هى التى يطوى فيها ذكر المشبه بخلاف المكنية، فإنه إنما يطوى فيها ذكر المشبه به، وأما المشبه فيذكر فيها، وإنما اقتصر هنا على ذلك؛ لأن كلّا من المثال والآية على فرض أنهما استعارة إنما يكون تصريحية لا مكنية.
(قوله: بالكلية) أى: من اللفظ والتقدير.
(قوله: ويجعل الكلام خلوا) أى: خاليا عنه، عطف على قوله: يطوى إلخ، عطف تفسير، أى: والمشبه فى المثال الأول ملفوظ، وفى الآية مقدر وملحوظ؛ لأنه خبر لا بد له من مبتدأ تقديره: هم صم، والمقدر بمنزلة الملفوظ، فلم يطو ذكره بالكلية فيهما،
(قوله: صالحا لأن يراد به) أى: بالكلام المعنى المنقول عنه وهو المشبه به المستعار منه كالأسد،
و(قوله: والمنقول إليه) أى: والمعنى المنقول إليه، وهو المشبه المستعار له كزيد.
(1) البقرة: 87.
(*) وقعت في المطبوع" بل كلية" والصواب ما أثبتناه مراعاة للسياق.
لولا دلالة الحال، أو فحوى الكلام.
(والنظر هاهنا فى أركانه)
…
===
(قوله: لولا دلالة الحال) أى: وهى القرينة الحالية، فإذا قلت:" رأيت أسدا الآن" فى موضع لا يرى فيه الأسد الحقيقى، كان هذا الكلام- لولا القرينة الحالية- صالحا لأن يراد بالأسد فيه المعنى الحقيقى، وهو الحيوان المفترس المشبه به، وأن يراد به المشبه وهو الرجل الشجاع،
و(قوله: أو فحوى الكلام) المراد به: القرينة المقالية، فإذا قلت:
" رأيت أسدا فى يده سيف"، كان هذا الكلام لولا فى" يده سيف"- صالحا لأن يراد بالأسد فيه الحيوان المفترس، أو الرجل الشجاع، وتسمية القرينة المقالية بفحوى الكلام على خلاف ما فسر به الأصوليون الفحوى من أنها مفهوم الموافقة، أى: المفهوم الموافق حكمه لحكم المنطوق، وإنما سميت القرينة المقالية فحوى؛ لأن فحوى الكلام فى الأصل معناه ومذهبه كما فى القاموس، والقرينة المقالية معنى لفظ ذكر مع اللفظ المجازى يمنع من إرادة الموضوع له، ثم إن
(قوله: لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام) راجع للأول، أعنى: إرادة المنقول عنه، فهو شرط فيه؛ لأن القرينة سواء كانت حالية أو مقالية مانعة من إرادة المنقول عنه، أعنى المعنى الحقيقى فلو قدم الشارح ذكر المنقول إليه عن المنقول عنه لا تصل الشرط بمشروطه، ثم إن عبارة الشارح مشكلة؛ لأنها تفيد أن الكلام المشتمل على لفظ المستعار منه صالح لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه عند عدم القرينة، وليس كذلك، بل هو عند عدم القرينة يتعين حمله على المنقول عنه وهو المعنى الحقيقى، فهو غير صالح لإرادة المنقول إليه؛ لأنه لا يراد به المنقول إليه إلا بواسطة القرينة ولا قرينة، وأجيب بأن عدم القرينة المانعة إنما يوجب عدم إرادة المنقول إليه، لا عدم احتمال إرادته وصلاحيتها؛ إذ قد تقرر أن كل حقيقة تحتمل المجاز، وإن كان احتمالا مرجوحا غير ناشىء عن دليل، وهذا لا ينافى إفادة الحقيقة القطع بحسب الظاهر كما فى الأطول- اه فنرى، وفى عبد الحكيم ما حاصله: أنه إذا انتفت القرينة حالية أو مقالية؛ انتفى أثرها، وهو تعين إرادة المنقول إليه، وإذا انتفى تعين إرادة المنقول إليه جاز إرادة كل منهما لانتفاء المانع، أعنى: وجود القرينة المعينة ووجود المقتضى وهو حمل اللفظ
أى: البحث فى هذا المقصد عن أركان التشبيه المصطلح عليه (وهى) أربعة (طرفاه) المشبه، والمشبه به (ووجهه، وأداته، وفى الغرض منه، وفى أقسامه) وإطلاق الأركان على الأربعة المذكورة إما باعتبار أنها مأخوذة فى تعريفه؛
…
===
على حقيقته عند الإطلاق وإن كان بالنظر لوجود المقتضى يكون المنقول عنه متعينا إرادته.
(قوله: أى البحث) أشار الشارح بهذا إلى أن مراد المصنف بالنظر البحث على سبيل المجاز المرسل من إطلاق اسم اللازم وإرادة الملزوم؛ وذلك لأن البحث إثبات المحمولات للموضوعات أو نفيها عنها، وهذا يستلزم النظر وهو توجيه العقل لأحوال المنظور فيه، أما إن أريد بالبحث عن الشىء التأمل فى أحواله كان متحدا هو والنظر حينئذ
(قوله: المقصد) أى: فى هذا الباب أعنى باب التشبيه،
(قوله: طرفاه) هما اثنان من تلك الأربعة، والمراد بالمشبه والمشبه به معناهما لا اللفظ الدال عليهما،
(قوله: ووجهه) هو الركن الثالث والأداة رابعها، والمراد بوجهه: المعنى المشترك الجامع بين الطرفين لا اللفظ الدال عليه، والمراد بأداته: إما معنى الكاف ونحوه ليلائم ما قبله وإما نفس اللفظ الدال تنزيلا للدال منزلة المدلول،
(قوله: وفى الغرض منه) أى: فى الأمر الباعث على إيجاده، وهذا عطف على قوله فى أركانه،
(قوله: وفى أقسامه) أى: أقسام التشبيه الحاصلة باعتبار الطرفين وباعتبار الغرض وباعتبار الوجه وباعتبار الأداة؛ ككونه تشبيه مفرد بمفرد، أو مركب بمفرد، أو مركب بمركب، وككونه ملفوفا أو مجموعا أو مفروقا إلى غير ذلك مما يأتى.
(قوله: وإطلاق الأركان على الأربعة) أى: مع كونها خارجة عن التشبيه المصطلح عليه الذى هو الدلالة، وهذا جواب عما يقال: إن التشبيه هو الدلالة على مشاركة أمر لآخر فى معنى، فهو فعل الفاعل وكل واحد من هذه الأمور الأربعة ليس جزءا له، وحينئذ فلا وجه لجعلها أركانا له؛ لأن ركن الشىء ما كان جزءا لحقيقته، وحاصل هذا الجواب أن المراد بالركن ما يتوقف عليه الشىء، وإن لم يكن داخلا فى حقيقته وجزءا منها، وهذه الأمور لما أخذت فى تعريفه على أنها قيود صار متوقفا عليها،
(قوله: إما باعتبار أنها مأخوذة فى تعريفه) لا يقال إذا كانت مأخوذة فى تعريفه فهى جزء منه؛
أعنى: الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى بالكاف؛ ونحوه، وإما باعتبار أن التشبيه فى الاصطلاح كثيرا ما يطلق على الكلام الدال على المشاركة المذكورة؛ كقولنا:" زيد كالأسد فى الشجاعة".
ولما كان الطرفان هما الأصل والعمدة فى التشبيه؛ لكون الوجه معنى قائما بهما، والأداة آلة فى ذلك- قدم بحثهما فقال:
…
===
لأن التعريف نفس المعرف بحسب الذات؛ لأنا نقول: مراد الشارح أنها مأخوذة فى التعريف على أنها قيود خارجية، لا على أنها أجزاء محمولة على المعرف؛ إذ المحمول شىء آخر غيرها، وهو الدلالة، لكن باعتبار تعلقها بها، ونظير ذكرها فى التعريف ذكر" البصر" فى تعريف" العمى"، حيث يقال: هو عدم البصر عما من شأنه الإبصار، فالبصر ذكر لأجل التقييد لا على أنه جزء للعمى، إذ ليس هو عدم وبصر على أن التعريف قد يكون بالأمور الخارجية.
(قوله: أعنى) أى: بتعريفه،
(قوله: ونحوه) كمثل وكأن بهمزة ونون مشددة،
(قوله: وإما باعتبار إلخ) حاصله أن الأمور الأربعة أركان للتشبيه، بمعنى الكلام الدال على المشاركة لا بمعنى الدلالة على المشاركة، ولفظ التشبيه كما يطلق على المعنى الثانى يطلق اصطلاحا على المعنى الأول بكثرة، ولا شك أن الأمور الأربعة أجزاء للكلام، وقد يقال: إن من جملتها وجه الشبه، وهو المعنى الذى يشترك فيه الطرفان وهو ليس جزءا من الكلام، إلا أن يقال: جعله جزءا من الكلام باعتبار اللفظ الدال عليه، وعلى هذا الجواب الثانى، فيكون الضمير فى قول المصنف وأركانه للتشبيه بمعنى الكلام، وحينئذ فيكون فى كلامه استخدام حيث ذكر التشبيه بمعنى الدلالة وأعاد عليه الضمير بمعنى آخر وهو الكلام الدال،
(قوله: أن التشبيه) أى: لفظ التشبيه،
(قوله: كثيرا ما يطلق)" كثيرا": مفعول مقدم ليطلق، و" ما" زائدة لتوكيد الكثرة، أى: يطلق كثيرا مجازا كما فى يس،
(قوله: والعمدة فى التشبيه) أى: والمعتمد عليهما فيه وهو تفسير لما قبله،
(قوله: لكون إلخ) هذا علة لأصالتهما بالنظر للوجه،
(قوله: قائما بهما) أى: فيكون الوجه عارضا لهما والمعروض أقوى وأصل بالنسبة للعارض؛ لأنه موصوف والوصف تابع له،
(قوله: آلة فى ذلك) أى: فى ذلك القيام، أى: آلة لبيانه ويحتمل أن الإشارة للتشبيه، أى: وكثيرا ما يستغنى
(طرفاه) أى المشبه والمشبه به (إما حسيان كالخد والورد) فى المبصرات (والصوت الضعيف، والهمس) أى: الصوت الذى أخفى حتى كأنه لا يخرج عن فضاء الفم فى المسموعات
…
===
عنها فى التركيب، وهذا علة لأصالة الطرفين بالنظر للأداة، ثم إن
(قوله: والأداة) بالجر، عطف على الوجه باعتبار لفظه، أو بالرفع عطف عليه باعتبار محله؛ لأن محله رفع على أنه اسم الكون، وآلة عطف على معنى؛ فهى منصوبة لعطفها على خبر الكون، ففيه العطف على معمولى عامل واحد، وهو جائز، ويحتمل رفع الأداة على الابتداء، و" آلة" بالرفع خبره، والجملة مستأنفة أو حال
(قوله: إما حسيان) أى: مدركان بإحدى الحواس الخمس الظاهرة، وهى البصر والسمع والشم والذوق واللمس، (وقوله:
طرفاه
…
إلخ) أى: وأمّا نفس التشبيه فلا يمكن أن يكون حسيّا؛ لأنه تصديق وليس شىء من التصديق حسيّا.
(قوله: كالخد والورد) أى: حيث يشبه الأول بالثانى، نحو:
" خد زيد كهذا الورد فى الحمرة"، (وقوله: كالخد والورد) أى الجزئيين، إذ الكليان غير حسيين بل عقليين؛ لأن كل كلى عقلى، وكذا يقال فى غير الخد والورد مما يأتى وإن جعل من تشبيه الكلى بالكلى، وجعلهما محسوسين من حيث انتزاعهما من الجزئيات المحسوسة، كان فى جميع ما ذكر تسامح لا فى أكثره فقط
(قوله: فى المبصرات) من ظرفية الجزئى فى الكلى، أو أن" فى" بمعنى" من"، وعلى كل حال فهو حال من الخد والورد، وكذا يقال فيما بعد
(قوله: والصوت الضعيف والهمس) أى: حيث يشبه الأول بالثانى بأن يقال هذا الصوت الضعيف كالهمس فى الخفاء، والمراد بالضعيف ضعيف مخصوص، وهو الذى لم يبلغ إلى حد الهمس لا مطلق الضعيف الصادق بالهمس، وإلا لكان من تشبيه الأعمّ بالأخصّ بمنزلة أن يقال:" الحيوان كالإنسان" وهو لا يصح ولا يتعين أن يؤتى بلفظ الضعيف فى عبارة التشبيه كما قلنا؛ بل يجوز أن يقال: " صوت زيد كالهمس" والحال أن صوته فى الواقع ضعيف،
(قوله: أى الصوت الذى أخفى) تفسير للهمس، (وقوله: عن فضاء الفم) " عن" بمعنى: " من"، أى: كأنه لا يخرج من فضاء الفم أى: من وسطه.
(والنكهة) وهى ريح فى الفم، (والعنبر) فى المشمومات، (والريق، والخمر) فى المذوقات، (والجلد الناعم، والحرير) فى الملموسات، وفى أكثر ذلك تسامح؛ لأن المدرك بالبصر- مثلا- إنما هو لون الخد والورد، وبالشم رائحة العنبر، وبالذوق طعم الريق والخمر، وباللمس ملاسة الجلد الناعم والحرير ولينهما، لا نفس هذه الأجسام، لكن اشتهر فى العرف أن يقال: أبصرت الورد،
…
===
(قوله: والنكهة والعنبر) أى: حيث يشبه الأول بالثانى، بأن يقال:" نكهة زيد كالعنبر" فى ميل النفس لكل،
(قوله: والريق والخمر) أى: حيث يشبه الأول بالثانى، بأن يقال:" ريق زيد كالخمر" بجامع الإسكار أو اللذة أو الحلاوة فى كل،
(قوله: والجلد الناعم والحرير) أى: حيث يشبه الأول بالثانى، بأن يقال:" جلد زيد كالحرير فى النعومة".
(قوله: وفى أكثر ذلك) أى: فى التمثيل للمحسوسات بأكثر ذلك تسامح، والمراد بالأكثر: ما عدا الصوت والهمس والنكهة، فإن هذه الثلاثة لا تسامح فيها؛ لأن الصوت الضعيف والهمس مسموعان حقيقة، والنكهة مشمومة حقيقة،
(قوله: ولينهما) عطف على ملاسة عطف مغاير؛ لأن الملاسة الصقالة وهى غير اللين،
(قوله: لا نفس هذه إلخ) عطف على على قوله: (إنما هو اللون إلخ)، وهذا التسامح مبنىّ على مذهب الحكماء القائلين: المدرك بالحواس إنما هو الأعراض وخواص الأجرام لا ذواتها، ويمكن دفع هذا التسامح بتقدير المضاف فى كلام المصنف بأن يقال: كلون الخد، ولون الورد، والنكهة، ورائحة العنبر، وطعم الريق، والخمر، وملاسة الجلد الناعم، والحرير، وأما على مذهب المتكلمين من إدراك الحواس للأجرام وخواصها فلا تسامح، فالجرم المدرك بالذوق وطعمه مثلا أدركت جرميته وخاصيتها بالذوق، وكذا يقال فى الباقى،
(قوله: لكن اشتهر إلخ) أى: والمصنف ارتكب ذلك التسامح نظرا للعرف، فليس قصد الشارح دفع التسامح بناء على العرف بل الاعتذار عن ارتكاب هذا التسامح بأن العرف جرى به، وقرر بعض الحواشى أن المراد بقوله:(لكن اشتهر إلخ) دفع التسامح، حيث قال أى: والمصنف بنى كلامه على ما جرى به العرف فجعل هذه الأمور حسية، وحينئذ فلا تسامح، ولا حاجة
وشممت العنبر، وذقت الخمر، ولمست الحرير، (أو عقليان كالعلم، والحياة) ووجه الشبه بينهما كونهما جهتى إدراك؛ كذا فى المفتاح، والإيضاح. فالمراد بالعلم هاهنا:
الملكة التى يقتدر بها على الإدراكات الجزئية، لا نفس الإدراك. ولا يخفى
…
===
لتقدير المضاف
(قوله: وشممت) بالكسر ومضارعه بالفتح، ويقال: شممت بالفتح أشم بالضم، والأول أفصح.
(قوله: أو عقليان) مقابل لقوله إما حسيان أى: إن الطرفين إما حسيان كما تقدم، وإما عقليان بأن لا يدرك واحد منهما بالحس بل بالعقل
(قوله: كالعلم والحياة) حيث يشبه الأول منهما بالثانى، بأن يقال: العلم كالحياة فى أن كلّا جهة للإدراك،
(قوله: ووجه الشبه .. إلخ) تعرض لبيانه هنا دون ما تقدم؛ لكونه خفيّا مع الإشارة إلى أن المراد بالعلم: الملكة؛ لا الإدراك
(قوله: جهتى إدراك) أى: طريق إدراك، وإن كان العلم بمعنى الملكة سببا له، والحياة شرطا له كما فى المطول
(قوله: فالمراد إلخ) هذا تفريع على ما ذكره من وجه الشبه.
(قوله: الملكة) هى حالة بسيطة تحصل من ممارسة فن من الفنون بحيث يكون صاحبها يمكنه إدراك أحكام جزئيات ذلك الفن، وإحضار أحكامها عند ورودها كالملكة الفقهية؛ فإنها قوة يمكن لعارف أصوله ودلائله أن يعرف حكم أى جزء من جزئياته عند إرادة ذلك الحكم من كونه حراما أو مكروها أو مباحا أو مندوبا أو واجبا، وإنما قلنا إنها بسيطة؛ لأنها ليست هيئة حاصلة من عدة أمور لا تتصور إلا باعتبارها، ولا نسبية يتوقف تعقلها على تعقل غيرها،
(قوله: على الإدراكات الجزئية) أى: على إدراك المدركات الجزئية؛ لأن المتصف بالجزئية والكلية المدركات لا الإدراكات، إلا أن يقال: لا مانع من وصف الإدراكات بذلك باعتبار متعلقها
(قوله: لا نفس الإدراك) عطف على الملكة، وإنما لم يكن المراد بالعلم فى قولنا:" العلم كالحياة" الإدراك الذى هو الصورة الحاصلة؛ لأنه لا يصح أن يقال فيه: إنه جهة الإدراك، أى: طريق له؛ لئلا يلزم أن يكون الشىء طريقا إلى نفسه وهو باطل، ووجه اللزوم أن المراد به مطلق الإدراك، لا إدراك مخصوص، فكل إدراك مندرج تحته، فليس هناك إدراك غير مندرج
أنها جهة وطريق إلى الإدراك، كالحياة، وقيل: وجه الشبه بينهما: الإدراك؛ إذ العلم نوع من الإدراك، والحياة مقتضية للحس الذى هو نوع من الإدراك.
وفساده واضح؛ لأن كون الحياة مقتضية للحس لا يوجب اشتراكهما فى الإدراك على ما هو شرط فى وجه الشبه، وأيضا لا يخفى أن ليس المقصود من قولنا:
" العلم كالحياة، والجهل كالموت"- أن العلم إدراك؛ كما أن الحياة معها إدراك، بل ليس فى ذلك كبير فائدة؛
…
===
تحته حتى يكون سببا له
(قوله: أنها) أى: الملكة
(قوله: وطريق) عطف تفسير
(قوله: بينهما) أى: بين العلم والحياة
(قوله: الإدراك) أى: نفس الإدراك لا كونهما جهتى إدراك،
(قوله: نوع من الإدراك) لأن الإدراك يشمل الظن، والاعتقاد، والوهم، واليقين، وعلى هذا فالمراد بالعلم: الإدراك لا الملكة
(قوله: مقتضية للحس) أى:
مستلزمة للإحساس الذى هو الإدراك بالحاسة، ولا شك أن الإدراك المذكور نوع من الإدراك
(قوله: وفساده) أى: فساد ذلك القيل
(قوله: واضح) أى: لأمرين بينهما الشارح بقوله: (لأن إلخ، وأيضا إلخ)
(قوله: لأن كون إلخ) هذا تنبيه لا دليل؛ لأن الأمور الواضحة لا يقام عليها الأدلة
(قوله: لا يوجب اشتراكهما) أى: اشتراك العلم والحياة فى الإدراك، لأن الحال القائم بالعلم وهو كونه إدراكا لم يقم بالحياة، وإنما وجد معها، فما كان يجب اشتراكهما فى الإدراك إلا لو كانت الحياة نفسها نوعا من الإدراك كالعلم
(قوله: على ما هو شرط إلخ) متعلق بمحذوف غاية فى المنفىّ أى:
لا يوجب اشتراكهما فى الإدراك حتى يكون الاشتراك المذكور جاريا على ما هو شرط فى وجه الشبه من كونه مشتركا بين الطرفين قائما بهما، إلا أنه فى المشبه به أقوى وأشهر منه فى المشبه
(قوله: أن العلم إدراك إلخ) هذا خبر ليس، أى: أن كون العلم إدراكا كما أن الحياة معها إدراك ليس ذلك هو المقصود من قولنا: " العلم كالحياة"، بل المقصود من ذلك القول: أن العلم كالحياة من حيث إن كلا سبب فى الإدراك؛ لأن الغرض من هذا التشبيه إظهار شرف العلم وهو حاصل على هذا الوجه دون الأول
(قوله: بل ليس إلخ) هذا الإضراب انتقالىّ أى: بل لو فرض قصد لم يكن فيه كبير فائدة، أى: فائدة كبيرة؛ وذلك لأنه يقتضى أن وجه الشبه بين
كما فى قولنا: " العلم كالحس" فى كونهما إدراكا (أو مختلفان) بأن يكون المشبه عقليا، والمشبه به حسيا (كالمنية والسبع) فإن المنيّة؛ أى: الموت عقلىّ؛ لأنه عدم الحياة عما من شأنه الحياة، والسبع حسىّ، أو بالعكس (و) ذلك (مثل: العطر) الذى هو محسوس مشموم (وخلق كريم)
…
===
العلم والحياة الملابسة لمطلق الإدراك، وملابسة مطلق الإدراك لا شرف فيه لوجوده فى البهائم، فلا يثبت شرف العلم مع كونه هو المقصود من التشبيه
(قوله: كما فى قولنا) تشبيه فى النفى، أى: فى كما أن الفائدة التى فى قولنا: " العلم كالحس" أى: كالإحساس وهو الإدراك بالحاسة ليست كبيرة
(قوله: فى كونهما إدراكا) أى: فى كون كلّ إدراكا، فالجامع مطلق الإدراك (قوله كالمنيّة والسبع) أى: حيث يشبه الأول بالثانى بأن يقال: المنية كالسبع فى اغتيال النفوس، أى: والسبع حسىّ، والسبع بفتح الباء وضمها وسكونها: المفترس من الحيوان باعتبار إدراك أفراده بالحاسة، وإلا فالسبع أمر كلىّ فيكون معقولا أو جعل ذلك الأمر الكلىّ محسوسا باعتبار انتزاعه من الجزئيات المحسوسة
(قوله: لأنه عدم الحياة) أى: ولا شك أن هذا العدم أمر عقلىّ لا يدرك بالحواس، وجعله الموت عدميّا هو مذهب بعضهم، والحق أنه صفة وجودية تقوم بالحيوان عند خروج روحه؛ لقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ (1) وكون الخلق بمعنى التقدير مجاز لا داعى إليه
(قوله: عمّا من شأنه) ضمن العدم معنى النفى فعداه بعن، و" ما" واقعة على الشىء، أى: نفى الحياة عن الشىء الذى من شأنه، أى: من أمره وصفته الحياة بالفعل، فنفيها عن الحيوان قبل وجودها كما فى قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ (2) مجاز شائع كوصف الأرض بالموت عند ذهاب خضرتها- كذا فى شرح المقاصد للشارح، وذكر بعضهم أن الموت نفى الحياة عما من شأنه أن يتصف بها سواء اتصف بها بالفعل أم لا، وهو الموافق لقوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فإن الأصل فى الإطلاق الحقيقة، وكون الموت متعارفا فى زوال الحياة لا يقتضى أن يكون ذلك معناه الحقيقى فإنه يغلب الكلىّ فى فرد من أفراده
(قوله: أو بالعكس) بأن يكون المشبه به عقليّا والمشبه حسيّا
(قوله: وذلك مثل العطر وخلق كريم)
(1) الملك: 2.
(2)
البقرة: 28.
وهو عقلى؛ لأنه كيفية نفسانية يصدر عنها الأفعال بسهولة، والوجه فى تشبيه المحسوس بالمعقول أن يقدر المعقول محسوسا، ويجعل كالأصل لذلك المحسوس على طريق المبالغة،
…
===
أى: خلق رجل كريم، فهو مركب إضافى فيشبه الأول بالثانى بأن يقال: العطر كخلق هذا الرجل المتصف بالكرم فى الواقع، أو كخلق شخص كريم بجامع أن كلّا منشأ لشىء حسن أو استطابة النفس لكلّ، واعلم أن العطر ما يتعطر به من كل طيّب الرائحة كالمسك والعود الهندىّ، ثم إن المشبه إن كان ذات العطر كان محسوسا بحاسة البصر، وإن كان المشبه رائحته كان محسوسا بحاسة الشم، وهذا مراد الشارح بقوله:
(مشموم) أى: لأنه مشموم فهو يشير إلى أن المشبه رائحة العطر لا ذاته.
(قوله: وهو) أى: الخلق عقلى
(قوله: كيفية نفسانية) أى: راسخة فى النفس فنسبته للنفس من حيث قيامه بها ورسوخه فيها، وكان الأولى أن يعبر بقوله: ملكة يصدر عنها لأجل إفادة اشتراط الرسوخ فى النفس؛ لأن صفات النفس لا تسمى خلقا إلا إذا كانت راسخة
(قوله: يصدر عنها) أى: بسببها وإلا فصدور الأفعال إنما هو عن النفس، أى: يصدر بسببها عن النفس الناطقة الأفعال الاختيارية الممدوح بها كالإعطاء والصفح عن الزلّة، ومقابلة الإساءة بالإحسان
(قوله: بسهولة) أى: برفق من غير تكلف فى إيجاد تلك الأفعال، وأما لو كان إذا أراد فعل شىء ممدوح تنازعه فيه نفسه- فلا تسمى تلك الصفة خلقا، والحاصل أن الصفة النفسانية لا تسمى خلقا إلا إذا كانت راسخة، وكان ينشأ بسببها الأفعال الاختيارية الممدوحة، وكان صدورها بسهولة
(قوله: والوجه) أى: والطريق إلخ، وهذا جواب عما يقال ما اقتضاه كلام المصنف من جواز تشبيه المحسوس بالمعقول ممنوع؛ لأن المحسوس أقوى من المعقول؛ لأن المحسوس أقرب للإدراك وأحق لظهور الوجه فيه والأقوى لا يشبه بالأضعف
(قوله: أن يقدر المعقول محسوسا إلخ) أى: فيجعل الخلق كأنه أصل للعطر محسوس مثله والعطر المحسوس فرعه وأضعف منه أى: وحينئذ فالتشبيه واقع بين محسوسين لكن المشبه محسوس حقيقى والمشبه به محسوس تقديرى وإن كان معقولا حقيقة
(قوله: على طريق المبالغة) أى:
ويكون من عكس التشبيه وهو موجود فى باب التشبيه كثيرا، نحو:
وإلا فالمحسوس أصل للمعقول؛ لأن العلوم العقلية مستفادة من الحواس، ومنتهية إليها فتشبيهه بالمعقول يكون جعلا للفرع أصلا، والأصل فرعا؛ وذلك لا يجوز.
ولما كان من المشبه والمشبه به
…
===
وبدا الصباح كأن غرته
…
وجه الخليفة حين يمتدح (1)
فإن وجه الخليفة أضعف فى نفس الأمر فى الضياء من المصباح، ولكنه جعل أقوى ادعاء مبالغة فى مدحه فجعل مشبها به
(قوله: وإلا) أى: وإلا يكن الطريق ما ذكر فلا يصح التشبيه؛ لأن (المحسوس إلخ)
(قوله: لأن العلوم العقلية) أى: المعلومات العقلية أى:
التى تدرك بالعقل كحدوث العالم وكمطلق بياض، فالأول: يدركه العقل من تغير العالم المدرك بالحس، والثانى: يدركه العقل من رؤية بياض خاص، فإذا أبصرت بياضا جزئيّا أدرك عقلك مطلق بياض وإن لم يكن لك بصر ما أدركت مطلق بياض، ولذلك قيل: من فقد حسّا فقد فقد علما، يعنى: المستفاد من ذلك الحس فعلمت من هذا أن الحواس أصل لمتعلقها وهو المحسوس وهو أصل للمعقولات، فقول الشارح:(مستفادة من الحواس) أى:
بواسطة المحسوس الذى تعلقت به تلك الحواس
(قوله: ومنتهية إليها) أى: لأن العقليات النظرية ترجع بالبرهان إلى الأمور الضرورية المستفادة من الحواس؛ لئلا يلزم التسلسل
(قوله: فتشبيه) أى: المحسوس كالعطر مثلا، (وقوله: بالمعقول) أى: كخلق الرجل الكريم،
و(قوله: جعلا للفرع) أى: فى الوضوح وهو المعقول
(قوله: والأصل) أى: فى الوضوح وهو المحسوس
(قوله: وذلك لا يجوز) أى: بدون الطريق السابق إن قلت:
ليس كلّ محسوس أصلا لكلّ معقول، فيجوز أن يكون بعض المعقولات أوضح وأقوى عند العقل بواسطة كمال وضوح أصله الذى هو محسوس مخصوص، فيشبّه به محسوس آخر ليس أصلا له ولا واضحا مثل وضوحه، ولا حاجة لادعاء ولا تنزيل.
قلت: إن وضوح المعقول أىّ معقول كان لا يبلغ درجة وضوح المحسوس أىّ محسوس كان، فضلا عن أن يكون أقوى منه فلا يصح تشبيه المحسوس بالمعقول إلا بطريق
(1) البيت لمحمد بن وهيب فى الإشارات ص 191، والطيبى فى شرح المشكاة (1/ 108) بتحقيق د/ عبد الحميد هنداوى.
ما لا يدرك بالقوة العاقلة، ولا بالحس؛ أعنى: الحس الظاهر؛ مثل الخياليات، والوهميات، والوجدانيات- أراد أن يجعل الحسى، والعقلى بحيث
…
===
الادعاء والتنزيل كما ذكر الشارح، إذ لو قطع النظر عن ذلك وشبه المحسوس بالمعقول كان جعلا لما هو فرع فى الوضوح أصلا فيه ولما هو أصل فى الوضوح فرعا فيه وهو غير جائز.
(قوله: ما لا يدرك بالقوة العاقلة إلخ) فيه ميل لمذهب الحكماء وإلا فلا يدرك عند المتكلمين سوى القوة العاقلة والحواس الظاهرة وليست الحواس الباطنة بمثبتة عند المتكلمين
(قوله: مثل الخياليات إلخ) مثل زائدة؛ لأن الذى لا يدرك بالقوة العاقلة ولا بالحس الظاهرى هو هذه الثلاثة، واعلم أن الخياليات جمع خيالىّ، والمراد به هنا المركب المعدوم الذى تخيل تركبه من أجزاء موجودة فى الخارج، وليس المراد بالخياليات الصور المرتسمة فى الخيال بعد إدراكها بالحس المشترك المتأدية إليه من الحواس الظاهرة؛ لأن هذه داخلة فى الحسيّات وليست من الخياليات بالمعنى المراد هنا، ألا ترى أن الأعلام الياقوتية المنتشرة على رماح زبرجدية التى سماها أهل هذا الفن خياليات لا وجود لها خارجا حتى تتقرّر فى الحس المشترك عند مشاهدتها بالحس الظاهرى، وأن الوهميات جمع وهمىّ، والمراد به هنا صورة لا يمكن إدراكها بالحواس الظاهرة لعدم وجودها لكنها بحيث لو وجدت لم تدرك إلا بها، وليس المراد بالوهمى هنا ما كان مرتسما فى الحافظة بعد انطباعه فى الواهمة من المعانى الجزئية المتعلقة بالمحسوسات كصداقة زيد المخصوصة، وعداوة عمرو كذلك، كما مر فى مبحث الفصل؛ لأن إثبات الأغوال ورءوس الشياطين التى سمّاها أهل هذا الفن وهميات- ليست من المعانى الجزئية، وإنما هى صور معدومة لكن لو وجدت فى الخارج لأمكن رؤيتها قال يس، وفى جعل الخياليات مما لا يدرك بالقوة العاقلة نظر لا يخفى، فإن الأمر الخيالى يدرك بها ومادته مدركة بالحواس على ما يأتى
(قوله: والوجدانيات) جمع وجدانىّ وهو الأمر الذى يدرك بالوجدان أى: القوى الباطنية: كالشبع والجوع والفرح والغضب واللذة والألم؛ فإن هذه الأشياء إذا قام بالإنسان منها شىء أدركه بواسطة القوة الباطنية المسماة بالوجدان
(قوله: بحيث) أى:
يشملانها؛ تسهيلا للضبط بتقليل الأقسام فقال: (والمراد بالحسى: المدرك هو أو مادته بإحدى الحواس الخمس الظاهرة) أعنى: البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس (فدخل فيه) أى: فى الحسى بسبب زيادة قولنا: " أو مادته"(الخيالى)
===
ملتبسا بحالة وتعريف
(قوله: يشملانها) أى: الأقسام الثلاثة
(قوله: للضبط) أى: ضبط الطرفين فى الحسى والعقلى (قوله بتقليل الأقسام) أى: بسبب تقليل أقسام طرفى التشبيه، فإن قلت تسهيل الضبط حاصل على تقدير تفسير الحسى بمعناه المشهور أعنى: المدرك بإحدى الحواس، وتفسير العقلى بما عداه فيدخل فيه الخيالى، مع أن هذا أولى من حيث إن فيه تجوزا فى تفسير العقلى فقط، بخلاف ما سلكه فإن فيه تجوزا فى تفسير كلّ منهما، قلت: الحامل له على ما ذكر أن إدخال الخيالى فى الحسى أنسب لقربه منه من حيث إنه يدرك من حيث مادته بالحسن- كذا قيل، وقد يقال: إدخاله فى الحسى نظرا للحيثية المذكورة ليس بأولى من إدخاله فى العقلى من حيث نفسه، فإن العقل يدرك نفس الخيالى، فلعل الأولى فى الجواب أن يقال: الحامل للمصنف على جعل الخياليات من قبيل المحسوسات، اشتراك الحواس والخيال فى إدراك الصور، وإن كان الحس يدركها بسبب حضور المادة، والخيال يدركها بدون ذلك
(قوله: والمراد بالحسى) أى: فى باب التشبيه، وأتى المصنف بهذا المراد دفعا لما يقال: كان الأولى له أن يقول: وطرفاه إما حسيّان أو عقليّان أو خياليّان أو وهميّان أو وجدانيّان أو حسى وعقلى إلخ، فتصير أقسام الطرفين خمسة عشر فالقسمة التى ذكرها غير حاصرة، فأجاب عن هذا بقوله: والمراد إلخ
(قوله: المدرك هو) أى: بنفسه وحالته المخصوصة كالخد والورد، وأبرز الضمير لأجل العطف على الضمير المستتر لا لأجل كون الوصف جاريا على غير من هو له، إذ هو جار على من هو له
(قوله: أو مادته) أى: أو لم يدرك هو بنفسه ولكن أدركت مادته، أى:
جميع أجزائه التى تركب منها وتحققت بها حقيقته التركيبية فإن كان بعض المواد غير محسوس كان ذلك المركب وهميّا
(قوله: بإحدى) متعلق بالمدرك
(قوله: أعنى) أى: بالحواس الظاهرة ولا محل لهذه العناية
(قوله: بسبب زيادة قولنا إلخ) فيه أن
(قوله: أو مادته) من مقول المصنف لا من مقول الشارح، فكان حقه أن يقول: بسبب زيادة
وهو المعدوم الذى فرض مجتمعا من أمور كل واحد منها مما يدرك بالحس (كما فى قوله: وكأن محمر الشقيق)(1) هو من باب: جرد قطيفة، والشقيق:
…
===
قوله إلا أن يقال: إنه مقول للشارح من حيث حكايته لذلك
(قوله: وهو) أى: فى هذا المقام بخلاف الخيالى المتقدم فى الجامع الخيالى، فإن المراد به الصورة المنطبعة فى الخيال بعد انطباعها فى الحس المشترك عند مشاهدتها بالحس الظاهرى؛ لأن هذا من قبيل الحسيّات هنا
(قوله: المعدوم) أى: المركب المعدوم، (وقوله: الذى فرض) أى: تخيل وقدر،
و(قوله: كل واحد منها مما يدرك بالحس) أى: لوجوده فى الخارج، فلو كان المدرك بالحس بعضها فقط لم يكن خياليّا، بل هو وهمى كأنياب الأغوال، فإن الناب يدرك بالحس دون الغول، وحاصله أن المراد به المركب المعدوم الذى أجزاؤه موجودة فى الخارج، وإنما سمى ذلك المركب خياليّا، لكون صور أجزائه مرتسمة فى الخيال، أو لكون المركب له القوة المخيّلة وهى المفكّرة، وكلام الشارح الآتى وهو قوله: وليس المراد بالخيالى هنا ما كان مخزونا فى الخيال الذى هو خزانة الحس المشترك لا ينافى واحدا من الاحتمالين
(قوله: كما فى قوله) أى: كالمشبه به فى قوله أى: الصنوبرىّ الشاعر كما ذكر ذلك بعضهم ونظير ما قاله قول أبى الغنائم الحمصىّ:
خود كأن بنانها
…
فى خضرة النقش المزرد
سمك من البلور فى
…
شبك تكون من زبرجد
(قوله: كأن محمر الشقيق) أى: مع أصله بدليل ما بعده، وهذا البيت من الكامل المرفل المجزوء
(قوله: من باب جرد قطيفة) يحتمل أن المراد بكونه من باب: جرد قطيفة- أن إضافة محمر إلى الشقيق من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى كأن الشقيق المحمر على حد قولهم: جرد قطيفة، أى: قطيفة جرداء، أى: ذهب خملها، أى: وبرها من طول البلى أو صنعت كذلك من أصلها، ووصفه بالاحمرار مع كونه لا يكون إلا أحمر، للمبالغة فى احمراره أو أنه قد يكون غير محمر، ويحتمل أن يراد؛ بكونه من باب
(1) البيت للصنوبرى، فى المصباح ص 116، أسرار البلاغة ص 158، والطراز 1/ 257، وهو فى شرح عقود الجمان بلا نسبة 2/ 15، وفى الإشارات والتنبيهات 175، وبلا نسبة كذلك.
ورد أحمر فى وسطه سواد ينبت بالجبال (إذا تصوب) مال إلى أسفل (أو تصعد) أى: مال إلى علو (أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد) فإن كلّا من العلم، والياقوت، والرمح، والزبرجد محسوس، لكن المركب- الذى هذه الأمور مادته- ليس بمحسوس؛ لأنه ليس بموجود، والحس لا يدرك
…
===
جرد قطيفة- أنه من إضافة الأعمّ إلى الأخصّ؛ لأن المحمر أعم من الشقيق، كما أن الجرد أعم من القطيفة، وإضافة الأعمّ إلى الأخصّ هى التى يسمّيها بعضهم بالإضافة البيانية
(قوله: ورد أحمر) ويقال له شقائق النعمان، قال فى الصحاح: شقائق النعمان نبت معروف واحده وجمعه سواء اه، وحينئذ فرده إلى المفرد فى البيت؛ لضرورة الشعر، وفى كلام الشارح مجاراة لما وقع فى البيت، وإضافته إلى النعمان؛ لأنه كثيرا ما ينبت فى الأرض التى يحميها النعمان وهو كلّ من ملك الحيرة وأشهرهم النعمان بن المنذر، وقيل:
وجه إضافته للنعمان؛ أن النعمان اسم للدم، والشقيق يشابهه فى اللون، فالإضافة تشبيهية، أى: من إضافة المشبه للمشبه به عكس لجين الماء
(قوله: إذا تصوب) ظرف زمان عاملة أشبه المأخوذ من كأن أى: أشبه محمر الشقيق وقت ميله إلى السفل وميله إلى العلو بتحريك الرماح بأعلام ياقوت، وأو فى
(قوله: أو تصعد) بمعنى الواو، وإنما قيد المشبه بهذا القيد؛ لأن أوراق الشقائق ليست على هيئة العلم من غير ميل إلى السفل والعلو
(قوله: أى مال إلى السفل) لأن تصوب مأخوذ من صاب المطر، إذا نزل
(قوله: أعلام ياقوت) خبر كأن، والأعلام جمع علم وهى الراية، وإضافة الأعلام للياقوت على معنى" من"، وأراد بالياقوت: الحجر النفيس المعلوم بشرط أن يكون أحمر، وهو أعز الياقوت، كما أنه أراد بالزبرجد حجرا أخضر من المعادن النفيسة
(قوله: نشرن) الجملة صفة للأعلام الياقوتية
و(قوله: من زبرجد) صفة لرماح أى: مأخوذ من زبرجد
(قوله: من العلم) أى:
الذى هو مفرد الأعلام
و(قوله: الذى هذه الأمور) أى: المحسوسة، و (قوله ليس بمحسوس) خبر المركب، بل الهيئة الحاصلة من تلك الأمور خيالية، فالمشبه هنا مفرد حسى والمشبه به مركب خيالى، قال فى الأطول: ويمكن تفسير الشعر بما يخرج المشبه به عن كونه خياليّا بأن يجعل أعلام ياقوت، بمعنى: أعلام كياقوت فى الحمرة؛ فيكون
إلا ما هو موجود فى المادة، حاضر عند المدرك على هيئة مخصوصة (و) المراد (بالعقلى: ما عدا ذلك) أى: ما لا يكون هو ولا مادته مدركا بإحدى الحواس الخمس الظاهرة (فدخل فيه الوهمى) أى: الذى لا يكون للحس مدخل فيه (أى:
ما هو غير مدرك بها) أى: بإحدى الحواس المذكورة (و) لكنه بحيث (لو أدرك لكان مدركا بها)
…
===
تشبيها بليغا، ويراد بالزبرجد خشب مخضر كالزبرجد فيكون استعارة
(قوله: إلا ما هو موجود فى المادة) أى: إلا المركب الموجود مع مادته
(قوله: عند المدرك) أى: وهو الحس
(قوله: على هيئة مخصوصة) أى: من كونه قريبا من المدرك لا جدّا، والجار والمجرور متعلق بحاضر
(قوله: ما لا يكون هو ولا مادته) أى: ولا جميع مادته مدركا بإحدى الحواس الخمس الظاهرة وهذا صادق بما إذا كان بعض أجزائه مدركا بإحدى الحواس المذكورة كما فى أنياب الأغوال، فإن الناب مدرك بإحدى الحواس دون الغول، وصادق بما ليس كذلك.
(قوله: فدخل فيه) أى: فى العقلى
(قوله: الذى لا يكون للحس مدخل فيه) أى: بأن لا يدرك هو ولا مادته بالحس فليس منتزعا، أى: مركبا من أمور موجودة محسوسة كالخيالى وإنما هو شىء من مخترعات المتخيلة مرتسم فيها من غير وجود له ولا لأجزائه فى الخارج، واحترز بقوله الذى إلخ عن الوهمى بمعنى ما يكون مدركا بالقوة الواهمة من المعانى الجزئية المتعلقة بغير المحسوسات كصداقة زيد وعداوته فلا كلام فى كونه عقليّا بهذا المعنى
(قوله: أى ما هو غير مدرك بها) أى: معنى جزئى غير مدرك بها لكونه غير موجود
(قوله: ولكنه بحيث إلخ) أى: ولكنه ملتبس بحالة وهى أنه لو أدرك، أى: لو وجد فى الخارج وأدرك لكان مدركا بها لكونه من قبيل الصور لا المعانى، وقد ظهر لك أن المراد من الإدراك الواقع شرطا الإدراك حال كونه موجودا، فاندفع ما يقال: الإدراك المذكور فى الشرط إن كان مطلق الإدراك فالملازمة غير مسلمة؛ لأن المحسوس كأنياب الأغوال قد يدرك إدراكا عقليّا بدون الحواس، وإن كان المراد الإدراك فى الخارج اتحد الشرط والجزاء، وحاصل الجواب:
أن المراد منه الإدراك حال كونه موجودا، أو الإدراك بنفسه لا بصورته- اه. فنرى
وبهذا القيد يتميز عن العقلى (كما فى قوله):
أيقتلنى والمشرفى مضاجعى (1)
…
(ومسنونة زرق كأنياب أغوال)
أى: أيقتلنى ذلك الرجل الذى توعدنى، والحال أن مضاجعى سيف منسوب إلى مشارف،
…
===
(قوله: وبهذا القيد) أى: وهو قوله بحيث إلخ،
و(قوله: يتميز عن العقلى) أى: عن العقلى الصرف كالعلم والحياة فلا ينافى أن الوهمى من أفراد العقلى، لكن غير الصرف
(قوله: كما فى قوله) أى: كالمشبه به فى قول امرئ القيس
(قوله: أيقتلنى) أى: ذلك الرجل الذى توعدنى فى حب سلمى وهو زوجها، والاستفهام للاستبعاد
(قوله: والمشرفىّ مضاجعى) أى: والسيف المشرفىّ، فهو صفة لمحذوف وهو بضم الراء
و(قوله: مضاجعى) أى: ملازمى حال الاضطجاع، والمراد: ملازمى مطلقا؛ لأنه إذا لازمه فى حالة الاضطجاع، أى: النوم، فأولى فى غيرها، ولا يبعد أن يراد بالمضاجع حقيقته. فهو يشير إلى أنه لا يحاول قتله ولا يطمع فيه إلا فى حال اضطجاعه، لا فى تلك الحالة ومعه المشرفىّ فلا يصل إليه، والجملة حالية
(قوله: ومسنونة) عطف على المشرفىّ أى: وسهام أو رماح مسنونة أى: حادة النصال،
و(قوله: كأنياب أغوال) أى: فى الحدة
(قوله: والحال أن مضاجعى إلخ) جعل الشارح" مضاجعى" مبتدأ و" المشرفى" خبرا مع امتناع تقديم الخبر إذا كان معرفة كالمبتدأ؛ لأن محل المنع عند خوف اللبس وذلك إذا كانا معلومين، ولم يكن ما يعين المبتدأ من الخبر، وأما إذا أمن اللبس بأن كان أحدهما معلوما والآخر مجهولا كما هنا فيجوز التقديم؛ لأنه يخبر بالمجهول عن المعلوم والمصاحبة معلومة؛ لأنه مستبعد للقتل، ويعلم من استبعاده للقتل أن له ملازما يمنع القتل ولو كان المصاحب له مشرفيّا مجهولا، فاللائق أن يعين المصاحب له بالمشرفىّ لا تعيين المشرفىّ بالمصاحب له
(قوله: منسوب إلى مشارف) هى بلاد باليمن للعرب قريبة للرىّ، سميت بذلك لإشرافها عليه، وإذا علمت أن المشرفىّ نسبة لمشارف تعلم أن الشاعر نسب لمفرد الجمع كما هو
(1) البيت لامرئ القيس فى ديوانه/ 33، ولسان العرب [غول]، [شطن]، وتهذيب اللغة 8/ 193، وجمهرة اللغة 961، وتاج العروس [زرق]، وبلا نسبة فى المخصص 8/ 111.
وسهام محدودة النصال صافية مجلوة. وأنياب الأغوال مما لا يدركه الحس لعدم تحققها مع أنها لو أدركت لم تدرك إلا بحس البصر، ومما يجب أن يعلم فى هذا المقام أن من قوى الإدراك ما يسمى متخيّلة ومفكّرة، ومن شأنها تركيب الصور والمعانى،
…
===
القياس
(قوله: محدودة النصال) تفسير لقوله مسنونة، و (قوله صافية) أخذه من قوله: زرق،
و(قوله: مجلوة) أى: مجلوة النصال هو بمعنى ما قبله
(قوله: لعدم تحققها) أى: لعدم وجودها فى الخارج فالضمير للأنياب؛ وذلك لأن الغول أمر وهمى فكذا أنيابه فكذا حدتها
(قوله: مع أنها لو أدركت) أى: لو وجدت وأدركت
(قوله: لم تدرك إلا بحس البصر) أى: لا بالعقل، فلا ينافى أنها تدرك بالغير أيضا فالحصر إضافىّ
(قوله: ومما يجب إلخ) هذا توطئة لقوله: (والمراد بالخيالى إلخ) وذكره مع أنه مفهوم مما تقدم لما فيه من زيادة التحقيق
(قوله: فى هذا المقام) أى: مقام الخيالى والوهمى
(قوله: ما يسمى إلخ) أى: قوة تسمّى بهذين الاسمين باعتبارين، فتسمى متخيّلة باعتبار استعمال الوهم لها، وذلك بأن تأخذ ما فى الخيال من الصور وما فى الحافظة من المعانى الجزئية وتركّبهما، أو تأخذ المعانى الجزئية من الحافظة وتركّبها، أو الصور من الخيال وتركّبها، وتسمّى مفكّرة باعتبار استعمال العقل لها ولو مع الوهم بأن يحكم على المعنى الكلى الذى أدركه العقل بهذا الجزئى، أو بأنه كذا من المعانى الجزئية المدركة بالوهم فليس عمل هذه القوة منتظما؛ بل النفس تستعملها على أى نظام تريد بواسطة القوة الواهمة أو العقل، واعلم أن تصرفاتها بواسطة العقل قد تكون صوابا وقد تكون خطأ، وأما تصرفاتها بواسطة الوهم فهى خطأ، وأفهم قول الشارح:(أن من قوى الإدراك إلخ) أن هناك قوى أخر وهو كذلك، وقد تقدم تفصيلها فى مبحث الفصل والوصل، ويقال لها الحواس الباطنة وفيه تغليب، إذ بعضها لا إحساس له ولا إدراك كالمفكرة والخيال والحافظة على ما مر، أو يقال
(قوله: من قوى الإدراك) أى: من القوى التى يتم بها أمر الإدراك
(قوله: ومن شأنها تركيب الصور) أى: التى فى الخيال أى: تركب بعضها مع بعض مثل تركيب إنسان له جناحان أو رأسان
(قوله: والمعانى) أى: المرتسمة فى الحافظة،
وتفصيلها، والتصرف فيها، واختراع أشياء لا حقيقة لها. والمراد بالخيالى: المعدوم الذى ركبته المتخيّلة من الأمور التى أدركت بالحواس الظاهرة، وبالوهمى: ما اخترعته المتخيلة من عند نفسها؛ كما إذا سمع أن الغول شىء تهلك به النفوس؛ كالسبع- فأخذت المتخيّلة فى تصويرها بصورة السبع، واختراع ناب لها كما للسبع (وما يدرك بالوجدان) أى: دخل أيضا فى العقلى ما يدرك بالقوى الباطنة؛ ويسمى وجدانيّا
…
===
أى: تركب بعضها مع بعض بأن تركب عداوة مع محبة، أو حلاوة مع مرارة، أو تركب بعض الصور مع بعض المعانى بأن تتصور أن هذا الحجر يحب أو يبغض فلانا.
(قوله: وتفصيلها) أى: تحليلها بأن تصور إنسانا لا رأس له
(قوله: والتصرف فيها) أى: بالتركيب والتحليل، وهذا عطف عامّ على خاصّ،
و(قوله: واختراع أشياء لا حقيقة لها) عطف خاصّ، وذلك كما مثلنا من تصور إنسان برأسين أو جناحين، أو بلا رأس، أو أن الحبل ثعبان
(قوله: الذى ركبته المتخيّلة من الأمور التى أدركت إلخ) أى: بواسطة الوهم كالأعلام الياقوتية المنشورة على الرماح الزبرجدية
(قوله: ما اخترعته المتخيّلة) أى: بواسطة الوهم على صورة المحسوس بحيث لو وجد كان مدركا بالحس الظاهر،
و(قوله: من عند نفسها) أى: ولم تأخذ أجزاء من الخيال كأنياب الأغوال، والحاصل أن الوهمى لا وجود لهيئته، ولا لجميع مادته، والخيالى جميع مادته موجودة دون هيئته
(قوله: فى تصويرها) من إضافة المصدر لمفعوله والضمير للغول، إذ هو مؤنث كما مر فى قول الشاعر: غالت ودها غول، ويصح أن يكون من إضافة المصدر لفاعله، والضمير للمتخيلة، والمفعول محذوف أى: تصويرها الغول
(قوله: واختراع إلخ) عطف لازم على ملزوم
(قوله: وما يدرك بالوجدان) عطف على الوهمى أى: ودخل فى العقلى الأمور التى تدركها النفس بسبب الوجدان وهو القوى الباطنية القائمة بالنفس مثل القوة التى يدرك بها الشبع، والتى يدرك بها الجوع، وكالقوة الغضبية التى يدرك بها الغضب والقوة التى يدرك بها الغمّ، والقوة التى يدرك (*) بها الخوف والقوة التى يدرك بها الحزن، فهذه الأشياء كلها وجدانيات؛ لأن النفس تدركها بواسطة تكيف تلك القوى الباطنية بها،
(*) غير موجودة بالمطبوع، زيادة اقتضاها السياق.
(كاللذة) وهى إدراك ونيل لما هو عند المدرك كمال وخير
…
===
وتسمى تلك القوى وجدانا، وتسمى الأمور المدركة بواسطة تكيف تلك القوى بها كالشبع وما معه- وجدانيات نسبة للوجدان من حيث إنه سبب لإدراك النفس لها فقول الشارح:(ويسمى) أى: المدرك بتلك القوى الباطنية وجدانيّا.
(قوله: كاللذة) هذا وما بعده مثال لما تدركه النفس بسبب الوجدان
(قوله: إدراك ونيل) أى: للمدرك بالفتح، والمراد بنيله: حصوله، والتكيف بصفته، وإنما جمع بين الأمرين ولم يقتصر على أحدهما؛ لأن اللذة لا تحصل بمجرد إدراك اللذيذ؛ بل لا بد من حصوله للمستلذ بالكسر، وهو القوة الذائقة أو قوة اللمس أو غيرهما، وأما ما يحصل عند تصور المرأة الحسناء أو الشىء الحلو، فذاك تخييل للذة؛ لا أنه عين اللذة، ولم يكتف بالنيل عن الإدراك؛ لأن مجرد النيل- من غير إحساس وشعور بالمدرك- لا يكون التذاذا، والواو فى
(قوله: ونيل) بمعنى: " مع" أى: إدراك للنفس مصاحب لنيل، أى: لحصول وتكيف (لما هو إلخ) أى: لأمر لائق بالمدرك بالكسر كتكيف القوة الذائقة بالحلاوة
(قوله: عند المدرك) إنما قيد بذلك؛ لأن المعتبر كماليته وخيريته بالقياس إلى المدرك لا بالنسبة لنفس الأمر؛ لأنه قد يعتقد الكمالية والخيرية فى شىء فيلتذ به، وإن لم يكونا فيه وقد لا يعتقدهما فيما تحققتا فيه فلا يلتذ به كإدراك الدواء النافع مهلكا، فهذا ألم لا لذة،
و(قوله: إدراك) جنس يشمل سائر الإدراكات الحسية والعقلية، وقوله: مصاحب لنيل فصل يميز اللذة عن الإدراك الذى لا يجامع نيل المدرك أعنى: مجرد تصور المدرك فإنه لا يكون من باب اللذة لما علمت أن تصور المدرك لا يكون لذة إلا إذا كان معه نيل للمدرك أى: اتصال به وتكيف بصفته تكيفا حسيّا كنيل القوة الذائقة، فإذا وضع الشىء الحلو على اللسان تكيفت القوة الذائقة بصفة وهى الحلاوة، ثم تدرك النفس ذلك التكيف فهذا الإدراك يقال له: لذة حسيّة، وتلك اللذة التى هى الإدراك المذكور تحصل فى النفس بسبب القوى الباطنية المسماة بالوجدان أو كان التكيف عقليّا كنيل النفس لشرف العلم، فالقوة العاقلة تدرك شرف العلم وتتكيف به وتدرك ذلك التكيف وإدراكها لذلك التكيف يقال له: لذة عقلية، ولا يتوقف إدراكها لذلك التكيف على وجدان، بل
من حيث هو كذلك (والألم) وهو إدراك ونيل لما هو عند المدرك آفة وشر من حيث هو كذلك، ولا يخفى أن إدراك هذين المعنيين ليس بشىء من الحواس الظاهرة، وليس أيضا من العقليات الصرفة؛ لكونهما من الجزئيات المستندة إلى الحواس، بل من الوجدانيات المدركة بالقوى الباطنة
…
===
تدركه بنفسها،
و(قوله: عند المدرك) متعلق بكمال وخير أى: لما تكون كماليته وخيريته عند المدرك وهو النفس
(قوله: من حيث هو كذلك) أى: كمال وخير، وإنما قال ذلك؛ لأن الشىء قد يكون كمالا وخيرا من وجه دون وجه، فالالتذاذ به إنما يكون من ذلك الوجه.
(قوله: وهو إدراك ونيل لما هو عند المدرك آفة وشر) لا يخفى عليك مفاد قيود الألم من مفاد قيود اللذة، ثم إن كلا من تعريف اللذة والألم المذكورين يشمل عقلىّ كلّ منهما وحسيّه، فعقليّهما ما يكون المدرك فيه بالكسر مجرد العقل، والمدرك بالفتح من المعانى الكلية وذلك كاللذة التى هى إدراك الإنسان شرف العلم، والألم الذى هو إدراك الإنسان نقصان الجهل وقبحه، فشرف العلم كمال عند القوة العاقلة، ولا شك أنها تدركه وتستلذ به، ونقصان الجهل آفة عند القوة العاقلة، ولا شك أنها تدركه وتتألم به، وحسيّهما كإدراك النفس نيل القوة الذائقة لمذوقها الحلو أو المر أى: تكيفها به ونيل القوة الباصرة لمبصرها الجميل أو الخبيث، ونيل القوة الشامّة لمشمومها (*) الطيب أو المنفر، فهذه اللذات والآلام كلها مستندة للحس من حيث إنه سبب فيها، فالذوق مثلا إنما يدرك حلاوة الحلو وليست الحلاوة هى نفس اللذة بل هى إدراك النفس لتكيف الذوق بمذوقه الحلو
(قوله: ولا يخفى أن إدراك هذين المعنيين) أى: اللذة والألم،
و(قوله: ليس بشىء من الحواس الظاهرة) أى: لأن هذين المعنيين إدراكان، والإدراك معنى من المعانى، والحواس الظاهرة لا تدرك المعانى
(قوله: وليسا) أى: هذان المعنيان من العقليات الصرفة، أى: حتى أنهما يدركان بالعقل،
و(قوله: الصرفة) أى: التى لا يتعلق بها إحساس أصلا كالعلم والحياة
(قوله: لكونهما من الجزئيات إلخ) أى: والعقليات الصرفة التى تدرك
(*) وقعت فى المطبوع: لشمومها وما أثبت الأولى مناسبة لسياق العبارة وهو ما أثبته صاحب مواهب الفتاح.