الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا دواء له أنجع من شرب دم ملك كما قال الحماسى: (1)
بناة مكارم وأساة كلم
…
دماؤكم من الكلب الشفاء
ففرع على وصفهم بشفاء أحلامهم من داء الجهل وصفهم بشفاء دمائهم من داء الكلب يعنى أنهم ملوك وأشراف وأرباب العقول الراجحة.
[تأكيد المدح بما يشبه الذم]:
(ومنه) أى ومن المعنوى (تأكيد المدح بما يشبه الذم ....
===
فيحصل له بسبب ذلك الكلب الذى هو داء يشبه الجنون، فيصير ذلك الكلب بعد ذلك كل من عضه يحصل له ذلك الداء بإذن الله تعالى
(قوله: ولا دواء له) أى لذلك الداء بعد ظهوره أنجع أى أنفع وأكثر تأثيرا فيه من شرب دم ملك، قيل بشرط كون ذلك الدم من إصبع من أصابع رجله اليسرى فتؤخذ منه قطرة على تمرة وتطعم للمعضوض يجد الشفاء بإذن الله، وقيل دم الملوك نافع لذلك الداء مطلقا أى من أى محل كان، ولهذا كانت الحكماء توصى الحجامين بحفظ دم الملوك لأجل مداواتهم هذا الداء به.
(قوله: بناة مكارم) البناة بضم الباء جمع بان، الأساة بضم الهمزة جمع آس وهو الطبيب مأخوذ من الأسى بالفتح والقصر وهو المداواة والعلاج، والكلم الجراحات والجمع كلوم، أى: أنتم الذين تبنون المكارم وترفعون أساسها بإظهارها، وأنتم الذين تؤاسون أى تطبقون الكلم أى جراحات القلوب وجراحات الفاقة وغيرها، وأنتم الذين دماؤكم تشفى من الكلب لشرفكم وكونكم ملوكا
(قوله: ففرع على وصفهم بشفاء أحلامهم من داء الجهل وصفهم بشفاء دمائهم من داء الكلب) قال الفنرى: أراد بالتفريع التعقيب الصورى والتبعية فى الذكر كما ينبئ عنه لفظ الوصف، لا أن شفاء الدماء من الكلب متفرع فى الواقع على شفاء أحلامهم لسقام الجهل، إذ لا تفريع بينهما فى نفس الأمر أصلا، فلا يرد أن التشبيه فى قوله (كما دماؤكم) يدل على أن أمر التفريع على عكس ما ذكره الشارح، إذ المشبه به أصل والمشبه فرع فلا حاجة إلى اعتبار
(1) البيت للحماسى.
وهو ضربان أفضلهما أن يستثنى من صفة ذمّ منفية عن الشىء صفة مدح) لذلك الشىء (بتقدير دخولها فيها) أى دخول صفة المدح فى صفة الذم
…
===
القلب، على أن الكاف فى مثله ليست للتشبيه بل لمجرد التعليل، كما قيل به فى قوله تعالى وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ (1) اه والحاصل أن المراد بتفرع الثانى على الأول، كونه ناشئا ذكره عن ذكر الأول حيث جعل الأول وسيلة للثانى أى كالتقدمة والتوطئة له، حتى إن الثانى فى قصد المتكلم لا يستقل عن ذكر الأول، وليس المراد بتفرعه عنه ترتبه عليه باعتبار الوجود الخارجى، إذ لا تفرع بينهما أصلا بهذا المعنى، خلافا لما فهمه بعضهم من أن المراد بتفرع الثانى عن الأول كونه مترتبا عليه وتابعا له فى الوجود ولو بحسب الادعاء، فيدعى هنا أن شرف العقل كاف فى ترتيب الشفاء من الكلب عليه، فورد عليه أن الكاف للتشبيه والمشبه به هو الأصل المتفرع عنه والمشبه هو الفرع، وحينئذ فالتشبيه يدل على أن أمر التفريع على عكس ما ذكره الشارح فأجاب بأن فى الكلام قلبا، والأصل دماؤكم تشفى من الكلب كما أن أحلامكم لسقام الجهل شافية، وهذا كله تكلف لا داعى له.
[تأكيد المدح بما يشبه الذم]:
(قوله: وهو ضربان) فيه: أن المناسب لقوله بعد ذكر الضربين ومنه ضرب آخر أن يقول هنا وهو ضروب، إلا أن يقال إنه رأى أن الضربين هما الأكثر والأشهر فلم يتعرض للآخر هنا
(قوله: أفضلهما) أى: أحسنهما
(قوله: صفة مدح) نائب فاعل يستثنى
(قوله: بتقدير إلخ) أى: وإنما يستثنى صفة المدح من صفة الذم بتقدير دخولها فيها، أى بسبب تقدير المتكلم أن صفة المدح المستثناة داخلة فى صفة الذم المنفية، وليس المراد بالتقدير ادعاء الدخول على وجه الجزم والتصميم، بل تقدير الدخول على وجه الشك المفاد بالتعليق؛ لأن معنى الاستثناء كما يأتى أن يستثنى صفة المدح من صفة الذم المنفية على تقدير، أى فرض دخولها فيها إن كانت عيبا، هذا إذا كانت الباء على أصلها للسبيبة، فلو جعلت بمعنى على، وأن المعنى وإنما تستثنى صفة المدح من صفة الذم
(1) البقرة: 198.
(كقوله (1) ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم، بهنّ فلول) جمع فل وهو الكسر فى حد السيف (من قراع الكتائب) أى مضاربة الجيوش (أى إن كان فلول السيف عيبا فأثبت شيئا منه) أى من العيب (على تقدير كونه منه) أى كون فلول السيف من العيب (وهو) أى هذا التقدير وهو كون الفلول من العيب (محال) لأنه كناية عن كمال الشجاعة (فهو) أى إثبات شىء من العيب
…
===
على تقدير دخولها فيها، لأفادت أن التقدير على وجه التعليق الموجب لكونه على وجه الشك، فلا يحتاج للتنبيه على المراد- فافهم ا. هـ يعقوبى.
وإنما كان ما ذكر من تأكيد المدح؛ لأن نفى صفة الذم على وجه العموم حتى لا يبقى ذم فى المنفى عنه مدح، وبما تقرر من أن الاستثناء من النفى إثبات، كان استثناء صفة المدح بعد نفى الذم إثباتا للمدح، فجاء فيه تأكيد المدح، وإنما كان هذا التأكيد مشبها للذم وفى صورته؛ لأنه لما قدر الاستثناء متصلا وقدر دخول هذا المستثنى فى المستثنى منه كان الإتيان بهذا المستثنى لو تم التقدير وصح الاتصال ذمّا؛ لأن العيب منفى فإذا كان هذا عيبا كان إثباتا للذم، لكن وجد مدحا فهو فى صورة الذم وليس بذم
(قوله: كقوله) أى: الشاعر وهو زياد بن معاوية الملقب بالنابغة الذبيانى نسبة لذبيان بالضم والكسر قبيلة من قبائل العرب
(قوله: من قراع) بكسر القاف بمعنى المضاربة، والكتائب بالتاء المثناة فوق جمع كتيبة وهى الجماعة المستعدة للقتال (فقوله: لا عيب فيهم) نفى لكل عيب ونفى كل عيب مدح، ثم استثنى من العيب المنفى كون سيوفهم مفلولة من مضاربة الكتائب، على تقدير كونه عيبا
(قوله: أى إن كان فلول السيف عيبا) جواب الشرط محذوف أى ثبت العيب وإلا فلا، وأما قوله: فأثبت شيئا منه فهذا كلام مستأنف بصيغة الماضى المبنى للمعلوم، وأى فقد أثبت الشاعر شيئا من العيب وهو فلول السيف على تقدير إلخ، وليس بصيغة المضارع على أنه جواب الشرط لركة ذلك لفظا ومعنى
(قوله: لأنه كناية عن كمال الشجاعة) أى: ومحال أن تكون الشجاعة صفة ذم، وإنما كان فلول السيوف كناية عن كمال الشجاعة؛ لأن فلول السيوف إنما يكون
(1) البيت للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص 44.
على هذا التقدير (فى المعنى تعليق بالمحال) كما يقال: حتى يبيض القار وحتى يلج الجمل فى سمّ الخياط (والتأكيد فيه) أى فى هذا الضرب (من جهة أنه كدعوى الشىء ببينة) لأنه علق نقيض المدعى وهو إثبات شىء من العيب بالمحال والمعلق بالمحال محال فعدم العيب محقق (و) من جهة
…
===
من المضاربة عند ملاقاة الأقران فى الحروب، وذلك لازم لكمال الشجاعة، فأطلق اسم اللازم وأراد الملزوم
(قوله: على هذا التقدير) أى: وهو كون الفلول من العيب.
(قوله: تعليق بالمحال) أى تعليق على محال فى المعنى، والمعلق على المحال محال، وإنما قال فى المعنى لأنه ليس فى اللفظ تعليق، فقوله لا عيب فيهم غير أن سيوفهم إلخ فى معنى لا عيب فيهم أصلا إلا الشجاعة إن كانت عيبا، لكن كون الشجاعة عيبا محال فيكون ثبوت العيب فيهم محالا
(قوله: كما يقال: حتى يبيض القار وحتى يلج الجمل فى سمّ الخياط) أى: أن مثل التعليق بالمحال الواقع فى البيت ما يقال لا أفعل كذا حتى يبيض القار أى الزفت، وحتى يلج الجمل أى وحتى يدخل الجمل فى سمّ الخياط أى فى ثقب الإبرة؛ لأنه فى تأويل الاستثناء المعلق؛ لأن المعنى لا أفعله على وجه من الوجوه إلا أن يثبت هذا الوجه وهو أن يبيض القار أو يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ (1) وثبوت هذا الشرط محال، ففعل ذلك الشىء محال.
(قوله: والتأكيد فيه) أى: وتأكيد المدح فى هذا الضرب الذى هو استثناء صفة مدح من صفة ذم منفية على تقدير دخولها فيها
(قوله: من جهة أنه) أى: إثبات المدح فى هذا الضرب
(قوله: كدعوى الشىء ببينة) أى: كإثبات المدعى بالبينة أى الدليل؛ وذلك لأنه قد تقرر أن الاستدلال قد يكون بأن يقال: إن هذا الشىء لو ثبت ثبت المحال فإن الخصم إذا سلم هذا اللزوم لزم قطعا انتفاء ذلك الشىء فيلزم ثبوت نقيضه، وإذا كان نقيضه هو المدعى لزم إثباته بحجة التعليق بالمحال، والاستثناء الواقع فى هذا الضرب بمنزلة القول المذكور فى الصورة؛ لأن المتكلم علق ثبوت العيب الذى هو نقيض المدعى على كون المستثنى عيبا، وكونه عيبا محال والمعلق على المحال محال، فيكون
(1) الأعراف: 40.
(أن الأصل فى) مطلق الاستثناء هو (الاتصال) أى كون المستثنى منه بحيث يدخل فيه المستثنى على تقدير السكوت عنه وذلك لما تقرر فى موضعه من أن الاستثناء المنقطع مجاز وإذا كان الأصل فى الاستثناء الاتصال (فذكر أداته قبل ذكر ما بعدها) يعنى المستثنى (يوهم إخراج شىء) وهو المستثنى (مما قبلها) أى ما قبل الأداة وهو المستثنى منه (فإذا وليها) أى الأداة (صفة مدح) وتحول الاستثناء من الاتصال إلى الانقطاع (جاء التأكيد)
…
===
ثبوت العيب فيهم محالا فيلزم ثبوت نقيضه وهو عدم العيب الذى هو المدعى
(قوله: أن الأصل فى مطلق الاستثناء) أى: لا فى كل الاستثناء؛ لأن الأصل فى الاستثناء فى الضرب الثانى الانقطاع كما يأتى اه. يس.
(قوله: على تقدير السكوت عنه) أى: عن الاستثناء، فيكون ذكر المستثنى إخراجا له عن الحكم الثابت للمستثنى منه
(قوله: وذلك) أى وبيان ذلك أى وبيان كون الأصل فى مطلق الاستثناء الاتصال ما تقرر فى موضعه من أن الاستثناء المنقطع مجاز، ومن المعلوم أن المجاز خلاف الأصل والأصل الحقيقة، هذا وقد اشتهر فيما بينهم أن الاستثناء حقيقة فى المتصل مجاز فى المنقطع، وقد اختلف فى المراد من ذلك، فقيل: قولهم الاستثناء المنقطع مجاز، يريدون به أن استعمال أداة الاستثناء فى الاستثناء المنقطع مجاز، وأما إطلاق لفظ الاستثناء على المنقطع فهو حقيقة اصطلاحا كإطلاقه على المتصل، وقيل: بل المراد أن إطلاق لفظ الاستثناء على المنقطع مجاز أيضا
(قوله: فذكر أداته) الضمير فى أداته راجع للاستثناء، إلا أننا إن قلنا: إن المراد بالاستثناء أولا فى قوله: الأصل فى الاستثناء الاتصال الأداة كانت الإضافة فى أداته بيانية، أو أن الضمير فى أداته راجع للاستثناء بمعنى المستثنى منه على طريق الاستخدام، وإن قلنا: إن المراد بالاستثناء أولا لفظ الاستثناء كان الضمير فى أداته عائدا على أصل الاستثناء
(قوله: يعنى المستثنى) أى: يعنى بما بعدها المستثنى
(قوله: يوهم) أى يوقع فى وهم السامع أى فى ذهنه أن غرض المتكلم أن يخرج شيئا من أفراد ما نفاه قبلها ويريد إثباته، حتى يحصل فهم إثبات شىء من العيب.
(قوله: وتحول الاستثناء إلخ) المراد بتحوله من الاتصال إلى الانقطاع، ظهور أن المراد به الانقطاع فكأنه قال: فإذا ولى الأداة صفة مدح وظهر أن المراد بالاستثناء الانقطاع
لما فيه من المدح على المدح والإشعار بأنه لم يجد صفة ذم يستثنيها فاضطر إلى استثناء صفة مدح وتحويل الاستثناء إلى الانقطاع (و) الضرب (الثانى) من تأكيد المدح بما يشبه الذم (أن يثبت لشىء صفة مدح وتعقب بأداة استثناء) أى بذكر عقيب إثبات صفة المدح لذلك الشىء أداة استثناء (تليها صفة مدح أخرى له) أى لذلك الشىء (نحو أنا أفصح العرب بيد أنّى من قريش) ....
===
بعد ما توهم الاتصال من مجرد ذكر الأداة
(قوله: لما فيه) أى لما فى الاستثناء من المدح أى من زيادة المدح على المدح، فالمدح الأول المزيد عليه جاء من نفى العيب على جهة العموم، حيث قال لا عيب فيهم، إذ من المعلوم أن نفى صفة الذم على وجه العموم حتى لا يبقى فى المنفى عنه ذم مدح، والمدح الثانى المزيد إشعار الاستثناء لصفة المدح بأنه لم يجد صفة ذم يستثنيها؛ لأن الأصل فى الإتيان بالأداة بعد عموم النفى استثناء الإثبات من جنس المنفى وهو الذم، فلما أتى بالمدح بعد الأداة فهم منه أنه طلب الأصل الذى ينبغى ارتكابه، فلما لم يجد ذلك الأصل الذى هو استثناء الذم اضطر إلى استثناء المدح، وحول الاستثناء عن أصله إلى الانقطاع
(قوله: فاضطر إلخ) أى لأجل تتميم الكلام، وإلا كان الكلام غير مفيد لأنه إذا قيل لا عيب فيهم غير لم يكن مفيدا.
(قوله: وتعقب) أى تلك الصفة بأداة استثناء
(قوله: تليها) أى تلى تلك الأداة وتأتى بعدها
(قوله: له) أى: كائنة لذلك الشىء الموصوف بالأولى وظاهره، سواء كانت الصفة الثانية مؤكدة للأولى ولو بطريق اللزوم كما فى المثال الأول، أو كانت غير ملائمة لها كما فى قوله الآتى (هو البدر إلا أنه البحر زاخرا) وذلك لأن تأكيد المدح يحصل بمجرد ذكر الصفة المدحية ثانيا، ولو لم تكن ملائمة للأولى لحصول المدح بكل منهما
(قوله: نحو أنا أفصح العرب بيد أنّى من قريش)(1) وجه تأكيد المدح فى هذا أن إثبات الأفصحية على جميع العرب تشعر بكماله، والإتيان بأداة الاستثناء بعدها يشعر
(1) لا أصل له ومعناه صحيح، أورده الشوكانى فى الفوائد المجموعة والعجلونى فى" كشف الخفاء" 1/ 201، وقال: قال فى اللآلى: معناه صحيح ولكن لا أصل له كما قال ابن كثير وغيره من الحفاظ، وأورده أصحاب الغريب ولا يعرف له إسناد.
بيد بمعنى غير وهو أداة استثناء (وأصل الاستثناء فيه) أى فى هذا الضرب (أيضا
===
بأنه أريد إثبات مخالف لما قبلها؛ لأن الاستثناء أصله المخالفة، فلما كان المأتى به كونه من قريش المستلزم لتأكيد الفصاحة، إذ قريش أفصح العرب جاء التأكيد، وإنما كان مدحا بما يشبه الذم؛ لأن أصل ما بعد الأداة مخالفته لما قبلها، فإن كان ما قبلها إثبات مدح كما هنا فالأصل أن يكون ما بعدها سلب مدح، وإن كان ما قبلها سلب عيب كما فى الضرب السابق الأصل فيما بعدها أن يكون إثبات عيب، وهو هنا ليس كذلك، فكان مدحا فى صورة ذم؛ لأن ذلك أصل دلالة الأداة اه. يعقوبى.
(قوله: بيد بمعنى غير) اعلم أن بيد تستعمل اسما بمعنى غير الاستثنائية فلا تكون مرفوعة ولا مجرورة بل منصوبة، ولا يكون الاستثناء بها متصلا بل منقطعا، وتستعمل حرف تعليل بمعنى من أجل، ومن الثانى قول الشاعر:
عمدا فعلت ذاك بيد أنّى
…
أخاف إن هلكت أن ترنّى
أى تصوتى مأخوذ من الرنين وهو التصويت، فقول الشارح بيد بمعنى غير، أى بيد هنا فى هذا الحديث بمعنى غير، لأن صحة التمثيل به مبنية على ذلك، وأما على ما قاله ابن هشام فى المغنى من أن بيد فى هذا الحديث حرف تعليل بمعنى من أجل، والمعنى أنا أفصح العرب لأجل أنى من قريش، فلا يكون المثال من هذا الباب، ومعنى التعليل هنا أن له مدخلا فى ذلك لا أنه علة تامة (قوله وهو) أى غير أداة استثناء أى فبيد كذلك لأنه بمعناه.
(قوله وأصل الاستثناء فيه إلخ) هذا شروع فى بيان أن هذا الضرب إنما يفيد التأكيد من وجه واحد من الوجهين السابقين فى الضرب الأول، ليرتب على ذلك أن الضرب الأول أفضل من هذا الضرب، قيل الأولى حذف قوله وأصل ويقول والاستثناء فيه منقطع أيضا، إذ لا معنى للأصل هنا، ويدل لهذا قول الشارح، كما أن الاستثناء فى الضرب الأول منقطع ولم يقل كما أن الأصل فى الاستثناء فى الضرب الأول أن يكون منقطعا، وفى عبد الحكيم قوله وأصل الاستثناء فيه أى: الراجح الكثير الاستعمال فى هذا الضرب أن يكون المذكور بعد أداة الاستثناء غير داخل فيما قبلها، بأن يكون ما قبلها
أن يكون منقطعا) كما أن الاستثناء فى الضرب الأول منقطع لعدم دخول المستثنى فى المستثنى منه وهذا لا ينافى كون الأصل فى مطلق الاستثناء هو الاتصال (لكنه) أى الاستثناء المنقطع فى هذا الضرب (لم يقدر متصلا) كما قدر فى الضرب الأول إذ ليس هنا صفة ذم منفية عامة يمكن تقدير دخول صفة المدح فيها وإذا لم يمكن تقدير الاستثناء متصلا فى هذا الضرب (فلا يفيد التأكيد
…
===
صفة خاصة وما بعدها كذلك، وفى تعبيره بالأصل إشارة إلى أنه قد يكون داخلا إلا أنه خلاف الأصل، نحو: فلان له جميع المحاسن أو جمع كل كمال إلا أنه كريم، وأما فى الضرب الأول فلكون ما قبل الأداة صفة منفية والمستثنى صفة مدح يكون غير داخل فيما قبلها البتة، لكنه قدر دخوله ليصير متصلا فيفيد التأكيد من وجهين انتهى وعلى هذا فالأيضية راجعة للاستثناء فيه لا لأصالته.
(قوله أن يكون منقطعا) أما الانقطاع فى الضرب الأول فلأن محصله أن يستثنى من العيب خلافه، فلم يدخل المستثنى فى جنس المستثنى منه، وأما الانقطاع فى الثانى فلانتفاء العموم فى المستثنى منه فيه (قول وهذا) أى كون الأصل فى الاستثناء فى هذا الضرب الانقطاع لا ينافى كون الأصل فى مطلق الاستثناء الاتصال، لأن أصالة الانقطاع نظرا لخصوص هذا الضرب، وأصالة الاتصال نظرا لمطلق الاستثناء، وهذا كما يقال الأصل فى الحيوان أن يكون بصيرا والأصل فى العقرب أن تكون عمياء، فالحكم على الحيوان بأصالة البصر له لا ينافى الحكم على نوع منه بثبوت أصالة العمى له، وإذا علمت أنه لا منافاة بين كون الأصل فى مطلق الاستثناء الاتصال وكون الأصل فى الاستثناء الواقع فى هذا الضرب الانقطاع- تعلم أنه لا تنافى بين كلامى المصنف.
(قوله لكنه إلخ) لما كان الاستثناء فى الضربين منقطعا أراد أن يفرق بينهما فقال لكنه إلخ، وحاصل الفرق أن الضرب الأول يجوز فيه تقدير دخول ما بعد أداة الاستثناء فيما قبلها لكونه صفة عامة، والضرب الثانى لا يجوز فيه ذلك لعدم عموم الصفة التى قبل الأداة (قوله لم يقدر متصلا) أى بل بقى على حاله من الانقطاع (قوله إذ ليس هنا صفة ذم منفية عامة يمكن إلخ) أى وإنما هنا صفة خاصة فلا يمكن تقدير دخول شىء فيها.
إلا من الوجه الثانى) وهو أن ذكر أداة الاستثناء قبل ذكر المستثنى يوهم إخراج شىء مما قبلها من حيث أن الأصل فى مطلق الاستثناء هو الاتصال فإذا ذكر بعد الأداة صفة مدح أخرى جاء التأكيد ولا يفيد التأكيد من جهة أنه كدعوى الشىء ببينة لأنه مبنى على التعليق بالمحال المبنى على تقدير الاستثناء متصلا (ولهذا) أى ولكون التأكيد فى هذا الضرب من الوجه الثانى فقط (كان) الضرب (الأول) المقيد للتأكيد من وجهين (أفضل ومنه) أى ومن تأكيد المدح بما يشبه الذم (ضرب آخر) وهو أن
…
===
(قوله إلا من الوجه الثانى) أى من الوجهين المذكورين فى الضرب الأول (قوله وهو أن ذكر إلخ) حاصله أن الإخراج فى هذا الضرب من صفة المدح المثبته، فيتوهم قبل ذكر المستثنى أنه صفة مدح أريد إخراجها من المستثنى منه ونفيها على الموصوف، لأن الاستثناء من الإثبات نفى، فإذا تبين بعد ذكره أنه أريد إثباته له أيضا أشعر ذلك بأنه لم يمكنه نفى شىء من صفات المدح عنه فيجىء التأكيد
(قوله: المبنى على تقدير الاستثناء متصلا) وهو غير ممكن فى هذا لأن كلا من المستثنى والمستثنى منه صفه خاصة فلا يتصور شمول أحدهما للآخر، فلا يتصور الاتصال، فإذا قلنا لا عيب فيه إلا الكرم إن كان عيبا، أفاد أن العيب منتف عنه مع كل ما فيه من الأوصاف، إلا إذا كان الكرم عيبا وهو محال، بخلاف قولنا أنا أفصح الناس بيد أنى من بنى فلان الفصحاء، فلا معنى للتعليق فيه، فإن قلت: ما المانع أن يقدر فى المثال وشبهه إلا أن يكون كونى من بنى فلان مخلا بالفصاحة فيثبت لى إخلال بها فحينئذ يفيد التأكيد من الوجه الأول أيضا قلت: يمنع من ذلك كون ذلك غير معتبر فى استعمال البلغاء، وإلا لصرح به يوما ما، ولو قيل أنا أفصح الناس إلا أنى من بنى فلان، إن كان مخلا بالفصحاة كان ركيكا بخلاف التعليق بعد العموم كما مر اه. يعقوبى.
(قوله أفضل) أى من الثانى لأن التأكيد فيه من وجه واحد.
(قوله ضرب آخر) أى غير الضربين الأولين بالنظر للصورة التركيبية، وإلا فهو يعود للضرب الأول فى المعنى، لأن المعنى لا عيب فينا إلا الإيمان إن كان عيبا (قوله أن
يؤتى بمستثنى فيه معنى المدح معمولا لفعل فيه معنى الذم (نحو وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا (1) أى ما تعيب منا إلا أصل المناقب
…
===
يؤتى بمستثنى) أى كالإيمان (وقوله معمولا لفعل) أى كتنقم فيكون الاستثناء حينئذ مفرغا؛ لتفرغ العامل الذى فيه معنى الذم السابق على إلا للعمل فيما بعدها، وهو المستثنى الذى فيه معنى المدح (قوله نحو وَما تَنْقِمُ مِنَّا إلخ) أى نحو قوله تعالى حكاية عن سحرة فرعون (قوله أى ما تعيب منا) الخطاب لفرعون أى ما تعيب منا يا فرعون شيئا أو أصلا الأصل إلخ (قوله وهو الإيمان) أى وكون الإيمان أصل المناقب وقاعدة النجاة والشرف الدنيوى والأخروى مما لا يخالف فيه عاقل، فلا يضر كون فرعون يعتقده عيبا بالنسبة لكفره، فقد أتى فى هذا المثال بأداة الاستثناء بعدها صفة مدح هى الإيمان، والفعل المنفى فيه معنى الذم لأنه من العيب، فهو فى تأويل لا عيب فينا إلا الإيمان إن كان عيبا، لكنه ليس بعيب وحينئذ فلا عيب فينا، قيل إن الاستثناء هنا متصل حقيقة إذ التقدير ما تعيب شيئا فينا إلا الإيمان، بخلافه فيما تقدم فإنه منقطع، وفيه أنه إن جعل متصلا حقيقة خرج المثال عما نحن بصدده، إذ ليس فيه تأكيد المدح بما يشبه الذم، إذ حاصل المعنى أنك ما عبت فينا أمرا من الأمور إلا الإيمان، جعلته عيبا وليس بعيب فى نفسه كما تعتقد، فهو بمنزلة ما لو قيل ما أنكرت من أفعال زيد إلا مواصلة فلان، وليست مما ينكر، فالنزاع إنما هو فى المستثنى هل هو كما اعتقده المخاطب أو لا؟ وليس من تأكيد المدح بما يشبه الذم فى شىء، لأنه لم يستثن مدحا أكد به مدحا هو نفى العيب وإنما استثنى أمرا مسلم الدخول ويبقى النزاع فيه هل هو كما زعمه المخاطب أم لا؟ بخلاف قولنا لا عيب فينا إلا الإيمان إن كان عيبا فهو بمنزلة ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم إلخ، فالتأويل على الانقطاع متعين، فيفيد هذا الضرب ما يفيده الأول من التأكيد بالوجهين وهما: أن فيه من التعليق ما هو كإثبات الشىء بالبينة، وأن فيه الإشعار بطلب ذم فلم يجده فاستثنى المدح وهو ظاهر أ. هـ يعقوبى.
(1) الأعراف: 126.
والمفاخر وهو الإيمان يقال نقم منه وانتقم منه إذا عابه وكرهه وهو كالضرب الأول فى إفادة التأكيد من وجهين (والاستدراك) المفهوم من لفظ لكن (فى هذا الباب) أى باب تأكيد المدح بما يشبه الذم (كالاستثناء كما فى قوله:
هو البدر إلا أنه البحر زاخرا
…
سوى أنه الضّر غام لكنه الوبل) (1)
===
(قوله والمفاخر) تفسير (قوله يقال نقم منه) بابه ضرب وفهم والأول أكثر ومنه الآية (قوله إذا عابه) أى فى شىء وقوله وكرهه أى لأجل ذلك الشىء
(قوله: من وجهين) لا يقال الوجه الأول مبنى على التعليق بالمحال كما تقدم، ولا يجرى ذلك هنا لأن كون الإيمان عيبا ليس بمحال، بدليل أن إعابتهم عليه قد وقعت بالفعل، لأنا نقول إعابته لهم عليه لا تقتضى كونه عيبا فى نفسه ولا يخرجه ذلك عن كونه حقا، لأنها باطلة قطعا بمقتضى العقل السليم اه. يس.
(قوله المفهوم من لفظ لكن) أى الدال عليه لفظ لكن (قوله فى هذا الباب) لم يقل فيه لئلا يتوهم عود الضمير للضرب الأخير خاصة (قوله كالاستثناء) أى فى إفادة المراد وهو تأكيد الشىء بما يشبه نقيضه، وحينئذ فيراد بالاستثناء المذكور فى تعريف الضربين ما يعم الاستدراك وإنما كان الاستدراك كالاستثناء فى هذا الباب لأنهما من واد واحد، إذ كل منهما لإخراج ما هو بصدد الدخول وهما أو قيقة، فإنك إذا قلت فى الاستدراك زيد شجاع لكنه بخيل فهو لإخراج ما يتوهم ثبوته من الشجاعة، لأن الشجاعة تلائم الكرم، كما أنك إذا قلت فى الاستثناء جاء القوم إلا زيدا، فهو لإخراج ما أوهم من عموم الناس دخوله، وإن كان الإيهام فى الأول بطريق الملائمة وفى الثانى بطريق الدلالة التى هى أقوى، فإذا أتى بصفة مدح ثم أتى بعد أداة الاستدراك بصفة مدح أخرى، أشعر الكلام بأن المتكلم لم يجد حالا يستدركه على الصفة الأولى، غير ملائم لها الذى هو الأصل، فأتى بصفة مدح مستدركة على الأولى، فيجىء التأكيد كما تقدم فى الضرب الثانى من الاستثناء.
(قوله: كما فى قوله) أى الشاعر وهو أبوالفضل بديع الزمان الهمذانى فى مدح خلف بن أحمد السجستانى (قوله هو البدر) أى من جهة الرفعة والشرف (قوله زاخرا)
(1) البيت لبديع الزمان الهمذاني، يمدح خلف بن أحمد الصغار.