الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل][فى حسن الابتداء والتخلص والانتهاء]
من الخاتمة فى حسن الابتداء والتخلص والانتهاء (ينبغى للمتكلم) شاعرا كان أو كاتبا (أن يتأنق) أى يتتبع الآنق الأحسن يقال: تأنق
…
===
الجار التى مع خالته فى إبل جساس فأبصرها كليب وعرف أنها ليست من إبل جساس، فرماها بسهم فأبطل ضرعها، فرجعت حتى بركت بفناء جساس وضرعها يشخب دما ولبنا فصاحت البسوس: وا ذلاه وا غربتاه. فقال جساس: اسكتى يا حرة والله لأعقرن فحلا هو أعز على أهله منها، فلم يزل جساس يتوقع غرة كليب حتى خرج وبعد عن الحى فركب جساس فرسه وأخذ رمحه ولحقه فرماه فى ظهره فسقط كليب، فوقف جساس عنده فقال له كليب: يا جساس أغثنى بشربة ماء. فقال له جسّاس: تركت الماء وراءك، ثم ولى عنه فأتاه بعده عمرو بن الحارث حتى وصل إليه فقال: يا عمرو أغثنى بشربة ماء فنزل عمرو إليه من على فرسه وأجهز عليه أى: قتله. فقيل: المستجير بعمرو .. البيت وإليه يشير قول الشاعر: لعمرو مع الرمضاء إلخ، ونشبت الحرب بين بكر وتغلب أربعين سنة كلها لتغلب على بكر أى: أن قبيلة كليب التى هى تغلب كانت لها الغلبة على قبيلة جساس التى هى بكر فى تلك المدة، ولذا قيل فى المثل:" أشأم من البسوس"، وأصل المثل المشهور وهو سد كليب فى الناقة هذه القصة، ومن هذا يعلم أن عمرا غير جساس، وكليب: اسم شخص وهو ابن ربيعة وأخو الزير المهلهل الطاهر وخال امرئ القيس، وكان كليب أعز الناس فى العرب بلغ من عزه أنه لا يجير تغلبىّ ولا يكرم رجلا ولا يحمى حمى إلا بإذنه، وإذا جلس لا يمرّ أحد بين يديه إجلالا له.
[فصل]:
(قوله: من الخاتمة) إنما كان ذلك الفصل من الخاتمة من جهة أن كلّا اشتمل على محسن غير ذاتى
(قوله: أو كاتبا) المراد به الناثر؛ لأنه المقابل للشاعر
(قوله: أى تتبع الآنق) بكسر النون والمد كما ذكره بعضهم وبفتح النون والقصر كما صرح به بعضهم
(قوله: الأحسن) تفسير لما قبله فهو على حذف أى: التفسيرية والمراد الأحسن من الكلام، والمراد بتتبعه لأحسن الكلام فى هذه المواضع الثلاثة اجتهاده فى طلب أحسن
فى الروضة إذا وقع فيها متتبعا لما يونقه أى يعجبه (فى ثلاثة مواضع من كلامه حتى تكون) تلك المواضع الثلاثة (أعذب لفظا) بأن تكون فى غاية البعد عن التنافر والثقل (وأحسن سبكا) بأن تكون فى غاية البعد عن التعقيد والتقديم والتأخير الملبس،
…
===
الكلام ليأتى به فيها
(قوله: فى الروضة) هى البستان
(قوله: إذا وقع فيها) أى: إذا كان حالّا فيها متتبعا أى: طالبا وناظرا لما يونقه
(قوله: حتى تكون) أى: لأجل أن تكون فحتى تعليلية
(قوله: أعذب لفظا) أى: من غيرها وهذا متعلق بالمفردات كما يدل عليه قوله بأن تكون إلخ (وقوله: وأحسن سبكا) متعلق بالمركبات؛ لأن التعقيد لا يكون إلا فيها
(قوله: بأن تكون فى غاية البعد) هذا تفسير مراد وكذا ما بعده وإلا فعذوبة اللفظ تتناول حسن السبك وصحة المعنى وحسن السبك يتناول عذوبة اللفظ وصحة المعنى، وكذا صحة المعنى تتناول عذوبة اللفظ وحسن السبك، فربما يتراءى التكرار فى كلام المصنف، فحمل الشارح كلّا من الثلاثة على محمل، وإنما خص أعذبية اللفظ بالكون فى غاية البعد عن التنافر واستثقال الطبع؛ لأن العذب الحسى يقابله حسّا ما ينافر الطبع ويثقل عليه، فناسب تخصيصه بهذا المعنى
(قوله: والثقل) عطف تفسير أو عطف سبب على مسبب، وأورد على الشارح أن الاحتراز عن التنافر والثقل من الحسن الذاتى الحاصل بعلم المعانى، وحينئذ فتكون رعاية الحسن فى هذه المواضع الثلاثة من رعاية الحسن الذاتى، فلا يكون هذا الحسن من البديع، فلا يكون هذا الفصل من الخاتمة التى هى من البديع، وأجيب بأن البعد عن التنافر والثقل يبحث عنه فى علم المعانى، وغاية البعد عن ذلك يبحث عنه فى علم البديع، والشارح قال بأن تكون فى غاية البعد إلخ، والغاية أمر زائد محسن وأورد عليه أنه كان عليه أن يزيد الغاية فى البعد عن مخالفة القياس ففى كلامه قصور، وأجيب بأن الباء بمعنى الكاف كما وقع ذلك فى كلام كثير من الأفاضل كالنووى
(قوله: بأن تكون فى غاية البعد عن التعقيد) أى: اللفظى.
(قوله: والتقديم والتأخير الملبس) هذا كناية عن ضعف التأليف، وعطفه على ما قبله من عطف السبب على المسبب؛ لأن ضعف التأليف سبب فى التعقيد اللفظى
وأن تكون الألفاظ متقاربة فى الجزالة والمتانة والرقّة والسلاسة وتكون المعانى مناسبة لألفاظها من غير أن يكتسى اللفظ الشريف المعنى السخيف أو على العكس بل يصاغان صياغة تناسب وتلاؤم (وأصح معنى) بأن يسلم من التناقض والامتناع والابتذال
…
===
(وقوله: الملبس) صفة للتقديم والتأخير؛ لأنهما شىء واحد
(قوله: وأن تكون الألفاظ إلخ) إنما ظهر فى محل الإضمار وعبّر بالألفاظ دون المواضع؛ لأنه لو أضمر لعاد الضمير على المواضع الثلاثة فيفيد الكلام اشتراط تقاربها بعضها من بعض وليس مرادا، بل المراد تقارب ألفاظ كل منها، تأمل
(قوله: متقاربة) أى: متشابهة
(قوله: فى الجزالة) هى ضد الركاكة
(قوله: والمتانة) أى القوة وهو تفسير لما قبله
(قوله: والرقّة) هى ضد الغلظ
(قوله: والسلاسة) أى: السهولة وهو تفسير أيضا لما قبله
(قوله: من غير أن يكتسى إلخ) تفسير لما قبله ولو قال: بأن لا يكتسى إلخ لكان أوضح
(قوله: اللفظ الشريف) أى لاشتماله على المحسّنات البديعية
(قوله: المعنى السخيف) أى: الذى لا فائدة فيه للسامع لعدم مطابقته للحال
(قوله: أو على العكس) الأولى حذف على أى: يكتسى اللفظ السخيف المعنى الشريف
(قوله: بل يصاغان صياغة تناسب وتلاؤم) بأن يكون كل من اللفظ والمعنى شريفا، وشرف اللفظ باشتماله على المحسنات، وشرف المعنى بمطابقته للحال، وحاصل هذه الجملة المفسر بها حسن السبك أن يكون اللفظ لا شىء فيه يخل بالفصاحة ولا ابتذال فيه مطابقا لما يقتضيه الحال خاليا معناه عن التعقيد؛ وذلك لأن جزالة اللفظ ورقته وسلاسته ترجع لنفى ابتذاله وتنافره وكون المعنى شريفا واللفظ شريفا يرجعان للمطابقة مع السلامة مما يحل بالفصاحة
(قوله: وأصح معنى) أى: أزيد فى صحة المعنى فبرعاية الزيادة المذكورة كان من هذا الباب وإلا فصحة المعنى لا بد منها فى كل شىء
(قوله: بأن يسلم) أى: المعنى من التناقض وزيادة صحة المعنى تحصل بسلامة المعنى من التناقض أى: من إيهام التناقض وإلا فالسلامة من التناقض واجب لا مستحسن، وكذا يقال فيما بعد
(قوله: والامتناع) أى: والسلامة من الامتناع أى:
البطلان بأن يكون المعنى باطلا، وهذا لازم لما قبله
(قوله: والابتذال) أى: وسلامة المعنى
ومخالفة العرف ونحو ذلك.
(أحدها الابتداء) لأنه أول ما يقرع السمع فإن كان عذبا حسن السبك صحيح المعنى أقبل السامع على الكلام فوعى جميعه وإلا أعرض عنه وإن كان الباقى فى غاية الحسن فالابتداء الحسن فى تذكار الأحبة والمنازل (كقوله:
قفا نبك من ذكرى حيبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدّخول فحومل (1)
السّقط منقطع الرمل حيث يدق واللوى رمل معوج ملتو والدّخول وحومل موضعان،
…
===
من الابتذال أى الظهور بأن يكون ذلك المعنى له غاية الظهور يعرفه كل أحد
(قوله: ومخالفة العرف) أى: وسلامة المعنى من مخالفة العرف؛ لأن مخالفة العرف البليغى كالغرابة المخلة بالفصاحة، أو هى نفسها
(قوله: ونحو ذلك) أى: كالسلامة من عدم المطابقة لمقتضى حال المخاطب
(قوله: لأنه) أى: الابتداء بمعنى المبتدأ به (وقوله: يقرع) بمعنى يصيب وقرع من باب نفع كما فى المصباح
(قوله: فإن كان عذبا) الأولى التعبير بأفعل التفضيل ليلائم ما مرّ أى: فإن كان أعذب من غيره
(قوله: أقبل السامع على الكلام فوعى) أى: حفظ جميعه لانسياق النفس إليه ورغبتها فيه من حسنه الأول واستصحابها للذة المساق السابق
(قوله: وإلا أعرض عنه) أى: وإلا يكن الابتداء عذبا حسن السبك صحيح المعنى أعرض عنه السامع لقبحه
(قوله: فالابتداء الحسن) هذا مبتدأ خبره قوله كقوله (وقوله: فى تذكار الأحبة والمنازل) حال وليس خبرا؛ لأن الابتداء الحسن ليس خاصّا بما ذكر، بل يكون فى الغزل وفى وصف أيام البعاد بين الأحبة وفى استجلاب المودة وفى التورك على الدهر وعلى النفس وفى المدح وغير ذلك
(قوله: قفا نبك إلخ) خطاب لواحد كما جرت به عادة العرب من خطاب الواحد بخطاب الاثنين أو أن الفعل مؤكد بالحقيقة قلبت النون ألفا إجراء للوصل مجرى الوقف، (وقوله: من ذكرى حبيب) أى: من أجل تذكر حبيب فاسم المصدر بمعنى المصدر، (وقوله: بسقط
(1) البيت مطلع معلقة امرئ القيس وانظر ديوانه ص 110.
والمعنى بين أجزاء الدّخول (و) فى وصف الدار (كقوله:
قصر عليه تحيّة وسلام
…
خلعت عليه جمالها الأيام (1)
===
اللوى: ) مثلث السين والباء بمعنى عند والسقط كما قال الشارح منقطع الرمل حيث يدق أى: طرفه الدقيق، واللوى هو كما قال الشارح: رمل معوج ملتو أى: منعطف بعضه على بعض، هذا هو المراد، والمعنى قفا نبك عند طرف الرمل المعوج أى: الملتوى الكائن بين الدّخول فحومل، ولا شك أن انقطاع الرمل إنما هو عند اعوجاجه بالأرياح لا عند تراكمه.
(قوله: والمعنى إلخ) أى: ليصبح العطف بالفاء وهذا جواب عما يقال إن بين لا تضاف إلا لمتعدد، كما يقال دخلت بين القوم ودار زيد بين دار عمر ودار بكر، وبين هنا إنما أضيفت لواحد، وحينئذ فلا يحسن العطف بالفاء فالواجب العطف بالواو؛ لأنها هى التى تعطف ما لا يستغنى عنه، والحاصل أن بين لا تضاف إلا لمتعدد، وإلا فلا تحسن الفاء، وإنما تحسن الواو، وحاصل الجواب أن فى الكلام حذف مضاف أى: بين أجزاء الدخول، والأجزاء متعددة فيصير الدخول مثل اسم الجمع كالقوم، فصح التعبير ببين والفاء، والشاهد فى الشطر الأول من البيت، فإن صاحبه وهو امرؤ القيس قد أحسن فيه؛ لأنه أفاد به أنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل بلفظ مسبوك لا تعقيد فيه ولا تنافر ولا ركاكة وأما الشطر الثانى فلم يتفق له فيه ما اتفق فى الأول؛ لأن ألفاظه لم تخل من كثرة مع قلّة المعنى ومن تمحل التقدير للصحة وغرابة بعض الألفاظ، وقد نبه المصنف بإيراده شطر البيت على أنه يكفى فى حسن الابتداء حسن المصراع
(قوله: وفى وصف الدار) أى: وحسن الابتداء فى وصف الدار وأراد بها مطلق المنزل الصادق بالقصر وغيره بدليل المثال
(قوله: كقوله) أى: الشاعر وهو أشجع السلمى
(قوله: خلعت عليه جمالها الأيام) ضمن خلع معنى طرح فعداه للمفعول الثانى بعلى، والمعنى أن الأيام نزعت جمالها وطرحته على ذلك القصر ونظير البيت
(1) البيت لأشجع السلمى، فى قصيدة يمدح فيها هارون الرشيد.
خلع عليه أى نزع ثوبه وطرحت عليه.
(و) ينبغى (أن يتجنب فى المديح ما يتطير به) أى يتشاءم به (كقوله:
موعد أحبابك بالفرقة غد) مطلع قصيدة لابن مقاتل الضرير أنشده للداعى فقال له الداعى: موعد أحبابك يا أعمى ولك المثل السوء (وأحسنه) أى أحسن الابتداء (ما ناسب المقصود) بأن يشتمل على إشارة ما سيق الكلام لأجله
…
===
المذكور فى حسن الابتداء فى وصف الديار قوله: إنا محيّوك فاسلم أيّها الطلل
(قوله: وطرحه عليه) إشارة لما ذكرناه من التضمين
(قوله: فى المديح) أى: فى ابتدائه
(قوله: بالفرقة) بضم الفاء وسكون الراء اسم موضع، إلا أنه توهم معنى آخر فبسببه كان يتطير منه.
(قوله: أنشدها للداعى العلوىّ) نسبة لعلىّ؛ لأنه من ذريته، روى أن ابن مقاتل الضرير المذكور دخل على الداعى العلوىّ فى يوم المهرجان فأنشده:
لا تقل بشرى ولكن بشريان
…
غرّة الدّاعى ويوم المهرجان (1)
فتطير به الداعى وقال له: يا أعمى يبتدأ بهذا يوم المهرجان يوم الفرح والسرور وألقاه على وجهه وضربه خمسين عصا، وقال: إصلاح أدبه أبلغ من ثوابه أى: أحسن من الإعطاء له ويوم المهرجان أول يوم من فصل الخريف وهو يوم فرح وسرور ولعب وروى أنه لما بنى المعتصم بالله قصره بميدان بغداد وجلس فيه أنشده إسحق الموصلى:
يا دار غيّرك البلى ومحاك
…
يا ليت شعرى ما الّذى أبلاك
فتطير المعتصم وأمر بهدمه
(قوله: فقال له إلخ) أى: ردّا عليه (وقوله: موعد أحبابك يا أعمى) أى لا موعد أحبابى
(قوله: ولك المثل السوء) أى: الحال القبيح
(قوله: بأن يشتمل إلخ) أى ومناسبته للمقصود تحصل باشتماله على إشارة أى: على ذى إشارة أى: تحصل باشتمال على ما يشير للمقصود الذى سيق الكلام لأجله لأجل أن يكون المبدأ مشعرا بالمقصود والانتهاء الذى هو المقصود موافقا لما أشير له فى الابتداء ولا يشترط
(1) البيت لابن مقاتل الضرير، والمهرجان: عيد فارسي يكون أول الخريف.
(ويسمى) كون الابتداء مناسبا للمقصود (براعة الاستهلال) من برع الرجل إذا فاق أصحابه فى العلم أو غيره (كقوله فى التهنئة:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا
…
وكوكب المجد فى أفق العلا صعدا (1)
===
وضوح الإشارة بل ولو كانت خفية فإذا سيق الكلام مثلا لبيان علم من العلوم كالفقه فيشتمل ابتداؤه على ما يشعر به مثل أفعال المكلفين وأحكامها، وإذا سيق الكلام لمدح النبى صلى الله عليه وسلم لاشتمل ابتداؤه على ذى سلم وكاظمه نحو ذلك من محلاته وأراضى بلده
(قوله: ويسمى كون الابتداء) أى: كون الكلام المبتدأ به مناسبا للمقصود براعة الاستهلال وظاهره أن براعة الاستهلال اسم للكون المذكور والأولى أن يقول: ويسمى الابتداء المناسب للمقصود براعة الاستهلال كما فى الأطول وقرر شيخنا العدوى أن براعة الاستهلال تطلق على كل من الأمرين
(قوله: من برع الرجل) بضم الراء وفتحها فهو من باب ظرف وخضع
(قوله: إذا أفاق أصحابه) أى: فالبراعة معناها الفوقان، والاستهلال فى الأصل عبارة عن أول ظهور الهلال، ثم نقل لأول كل شىء، وفى الأطول: الاستهلال هو أول صوت الصبى حين الولادة وأول المطر، ثم استعمل لأول كل شىء، وحينئذ فمعنى قولهم للابتداء المناسب للمقصود براعة استهلال استهلال بارع أى:
أول وابتداء فائق لغيره من الابتداءات أى: التى ليست مشعرة بالمقصود
(قوله: فى التهنئة) بالهمزة وهى إيجاد كلام يزيد سرورا بشىء مفروح به.
(قوله: يهنئ الصاحب) أى: ابن عباد أستاذ الشيخ عبد القاهر
(قوله: بشرى فقد أنجز الإقبال إلخ) إنما كان هذا من البراعة؛ لأنه يشعر بأن ثم أمرا مسرورا به وأنه أمر حدث وهو رفيع فى نفسه يهنأ به ويبشر من سرّ به ففيه إيماء إلى التهنئة والبشرى التى هى المقصود من القصيدة
(قوله: وكوكب المجد إلخ) يحتمل أن المراد بالكوكب المولود فإنه كوكب سماء المجد جعل المجد كالسماء فأثبت له كوكبا هو المولود، ويحتمل أنه أراد بكوكب المجد ما يعرف به طالع المجد أى: أن هذا المولود ظهر به وعلم به طالع
(1) هو لأبي محمد الخازن يهنئ ابن عباس بمولود لابنته.
مطلع قصيدة لأبى محمد الخازن يهنئ الصاحب بولد لابنته (وقوله فى المرثية: هى الدّنيا تقول بملء فيها، حذار حذار) أى احذر (من بطشى) أى أخذى الشديد (وفتكى) أى قتلى فجأة مطلع قصيدة لأبى الفرج الساوى يرثى فخر الدولة.
(وثانيها) أى وثانى المواضع التى ينبغى للمتكلم أن يتأنق فيها (التخلص) أى الخروج (مما شبب الكلام به) أى ابتدئ وافتتح
…
===
المجد وكون كوكبه فى غاية الصعود
(قوله: صعدا) بكسر العين كما فى المختار
(قوله: وقوله فى المرثية) أى: قول الشاعر وهو أبو الفرج الساوى نسبة لساوة مدينة بين الرى وهمدان- فى مرثية فخر الدولة: ملك من ملوك العرب والمرثية بتخفيف الياء القصيدة التى يذكر فيها محاسن الميت، وبعد البيت المذكور:
لا يغرركم منّى ابتسام
…
فقولى مضحك والفعل مبكى
بفخر الدولة اعتبروا فإنى
…
أخذت الملك منه بسيف هلك
وقد كان استطال على البرايا
…
ونظّم جمعهم فى سلك ملك
فلو شمس الضّحى جاءته يوما
…
لقال لها عتوا أفّ منك
ولو زهر النّجوم أتت رضاه
…
تأبى أن يقول رضيت عنك
فأمسى بعد ما فرغ البرايا
…
أسير القبر فى ضيق وضنك
يقدّر أنّه لو عاد يوما
…
إلى الدّنيا تسربل ثوب نسك ا. هـ
يقال: فرعت قومى علوتهم بالشرف أو الجمال، والضنك الضيق
(قوله: هى الدنيا إلخ) الضمير للقصة والجملة الواقعة بعد الضمير تفسير له والملء بكسر الميم ما يملأ الشىء وبفتحها المصدر والمراد هنا الأول، والمراد أنها تقول ذلك جهرة بلا إخفاء؛ لأن ملء الكلام الفم يشعر بظهوره والجهر به بخلاف الكلام الخفى فإنه يكون بطرف الفم، ثم إن الدنيا لا قول لها فالمراد تبديل الأبدان وتقليب الأحوال، وقوله: حذار إلى أخر المصراع فى محل نصب مفعول تقول
(قوله: أى الخروج) أى: وليس المراد به المعنى
قال الإمام الواحدى: معنى التشبيب ذكر أيام الشباب واللهو والغزل وذلك يكون فى ابتداء قصائد الشعر فسمى ابتداء كل أمر تشبيبا وإن لم يكن فى ذكر الشباب (من تشبيب) أى وصف الجمال (أو غيره) كالأدب والافتخار والشكلية وغير ذلك (إلى المقصود مع رعاية الملاءمة بينهما) أى ما بين شبب من الكلام وبين المقصود واحترز بهذا عن الاقتضاب وأراد بقوله التخلص معناه اللغوى وإلا فالتخلص فى العرف: هو الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة
…
===
الاصطلاحى لما سيأتى فى كلام الشارح
(قوله: قال الإمام الواحدى إلخ) هذا استدلال على دعوى محذوفة تقديرها وأصل التشبيب ذكر أمور الشباب من أيامه واللهو والغزل
(قوله: واللهو والغزل) أى: وذكر اللهو وذكر الغزل أى: النساء وأوصافهن
(قوله: وذلك يكون إلخ) أى: ذكر أيام الشباب إلخ يكون فى ابتداء قصائد الشعر (وقوله:
فسمى ابتداء كل أمر تشبيبا) أى على جهة المجاز المرسل، والحاصل أن التشبيب فى الأصل ابتداء القصيدة بذكر أمور الشباب، ثم نقل لابتداء القصيدة، بل والكلام فى الجملة سواء كان فيه ذكر اللهو والغزل وأيام الشباب أم لا فهو مجاز مرسل علاقته الإطلاق والتقييد؛ لأنه استعمل اسم المقيد فى المطلق ولهذا النقل عمم المصنف فيما شبب الكلام به حيث قال: سواء كان ما شبب به الكلام تشبيبا أى: ذكرا للجمال أو كان غيره
(قوله: وإن لم يكن فى ذكر الشباب) أى ولا اللهو ولا الغزل
(قوله: من تشبيب) بيان لما (وقوله: كالأدب) أى: الأوصاف الأدبية (وقوله: إلى المقصود) متعلق بالتخلص (وقوله: مع رعاية الملاءمة بينهما) هو محط الفائدة
(قوله: وغير ذلك) أى:
كالمدح والهجو والتوسل
(قوله: أى بين ما شبب به الكلام) أى: ابتدئ به
(قوله: واحترز بهذا) أى: بقوله: مع رعاية الملاءمة بينهما
(قوله: عن الاقتضاب) أى: وهو الخروج والانتقال من شىء إلى شىء آخر من غير مراعاة ملاءمة بينهما فهو ارتجال المطلوب من غير توطئة إليه من المتكلم وتوقع من المخاطب، ففى الصحاح: الاقتضاب الاقتطاع، واقتضاب الكلام ارتجاله
(قوله: معناه اللغوى) وهو مطلق الخروج والانتقال
وإنما ينبغى أن يتأنق فى التخلص لأن السامع يكون مترقبا للانتقال من الافتتاح إلى المقصود كيف يكون؛ فإن كان حسنا متلائم الطرفين حرك من نشاطه وأعان على إصغاء ما بعده وإلا فبالعكس فالتخلص الحسن (كقوله: (1) يقول
…
===
أى: وليس المراد به معناه العرفى؛ لأن التخلص فى العرف هو الانتقال إلخ فلو كان مراد المصنف بالتخلص التخلص الاصطلاحى لزم التكرار فى كلامه؛ لأن قوله: مما شبب الكلام به إلى المقصود مع رعاية الملاءمة من جملة مدلوله.
(قوله: وإنما ينبغى أن يتأنق فى التخلص) أى: فى الانتقال للمقصود
(قوله: لأن السامع يكون مترقبا إلخ) أى: أن السامع إذا كان أهلا للاستماع لكونه من العارفين بمحاسن الكلام يكون مترقبا إلخ
(قوله: كيف يكون) أى: على أى حالة يكون ذلك الانتقال
(قوله: فإن كان حسنا) أى: فإن كان ذلك الانتقال حسنا (وقوله: متلائم الطرفين) أى: متناسب الطرفين أعنى المنتقل منه وهو ما افتتح به الكلام، والمنتقل إليه وهو المقصود، وهذا بيان لكونه حسنا (وقوله: حرك ذلك) أى الانتقال (وقوله: من نشاطه) من: زائدة
(قوله: وأعان على إصغاء ما بعده) أى: وأعانه ذلك الحسن على إصغائه واستماعه لما بعده وهذا بيان لتحريك نشاطه
(قوله: وإلا فبالعكس) أى: وإلا يكن الافتتاح حسنا لعدم وجود المناسبة عدوهم السامع الشاعر أنه ليس أهلا لأن يسمع فلا يصغى إليه ولو أتى بما هو حسن بعده، واعلم أن التخلص قليل فى كلام المتقدمين وأكثر انتقالاتهم من قبيل الاقتضاب، وأما المتأخرون فقد لهجوا به لما فيه من الحسن والدلالة على براعة المتكلم، والمراد بالمتقدمين شعراء الجاهلية والمخضرمين، والمراد بالمتأخرين الشعراء الإسلاميون الذين لم يدركوا الجاهلية قال فى الأطول: ثم إن التأنق فى التخلص ليس مبنيّا على عدم صحة الاقتضاب وليس دائرا على مذهب المتأخرين كما يكاد يتقرر فى الوهم القاصر، بل مع حسن الاقتضاب إذا عدل عنه إلى التخلص ينبغى أن يتأنق فيه
(قوله: كقوله) أى: الشاعر وهو أبو تمام فى مدح عبد الله بن
(1) البيت لأبي تمام، فى شرح ديوانه ص 128 برواية (صحبى) بدل (قومى).
فى قومس) اسم موضع (قومى وقد أخذت، منا السّرّى) أى أثر فينا السير بالليل ونقص من قوانا (وخطا المهريّة) عطف على السرى لا على المجرور فى منا كما سبق إلى بعض الأوهام وهى جمع خطوة وأراد بالمهرية الإبل المنسوبة إلى مهرة بن حيدان
…
===
طاهر
(قوله: فى قومس) بضم القاف وفتح الميم وهو متعلق بيقول
(قوله: اسم موضع) أى: متسع بين خراسان وبلاد الجبل وإقليم بالأندلس أيضا- كذا فى الأطول، وفى الأنساب: قومس محل بين بسطام إلى سمنان
(قوله: قومى) فاعل يقول (وقوله: وقد أخذت إلخ) جملة حالية من الفاعل (وقوله: منا) أى: من هذا الشخص وقومه أى:
نقص منا القوى وأثر فينا السرى وحركات الإبل، وأنث الفعل وهو أخذت مع أن الفاعل وهو السرى مذكر على لغة بنى أسد فإنهم يؤنثون السرى والهدى توهمّا أنه جمع سرية وهدية وإنما توهموا ذلك؛ لأن هذا الوزن من أبنية الجمع بكثرة ويقل فى أبنية المصادر ونظرا للمضاف المحذوف أى: مزاولة السرى
(قوله: أى أثر فينا السير إلخ) أشار بذلك إلى أن أخذ بمعنى أثر ومن بمعنى فى، والسرى بمعنى السير ليلا وأن المراد بتأثير السير ليلا فيهم نقص قوتهم
(قوله: عطف على السرى) أى: فالمعنى وقد أثرت فينا السرى ونقصت من قوانا وأخذت منا أيضا خطا المهرية أى: مشيها وتحريكها إيانا ففاعل التأثير فيهم والنقص فى قواهم شيئان السرى وخطا المهرية
(قوله: لا على المجرور فى منا) أى: لأن فيه مانعا من جهة اللفظ وهو العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ ومن جهة المعنى أى: لأن التقدير حينئذ وقد نقصت منا السرى ونقصت السرى أيضا من خطا المهرية ولا معنى لنقص السرى من خطا المهرية من حيث إنها خطأ، وحمله على أن السرى طال فنقص قوى المهرية كما نقص قوانا، وكنى عن ضعفها ونقص قوتها بنقص خطاها تكلف لا حاجة إليه على أن هذا لا يناسب قوله:
أمطلع الشمس إلخ؛ لأنه يفيد أنها قوية لا ضعيفة، فتأمل.
(قوله: جمع خطوة) أى بالضم وهو اسم لما بين القدمين وأما الخطوة بالفتح فاسم لنقل القدم وتجمع على خطاء كركوة وركاء
(قوله: إلى مهرة بن حيدان) مهرة
أبى قبيلة (القود) أى الطويلة الظهر والأعناق، جمع أقود أى أثرت فينا مزاولة ومسايرة المطايا بالخطأ ومفعول يقول هو قوله (أمطلع الشّمس تبغى) أى تطلب (أن تؤمّ)(بنا، فقلت: كلّا) ردع للقوم وتنبيه (ولكن مطلع الجود. وقد ينتقل منه) أى مما شبب به الكلام (إلى ما لا يلائمه ويسمى) ذلك الانتقال (الاقتضاب)
===
بفتح الميم وسكون الهاء، وحيدان بفتح الحاء المهملة وسكون الياء المثناة
(قوله: أبى قبيلة) أى: من اليمن إبلهم أنجب الإبل وهو راجع لمهرة. قال فى الأنساب: مهرة قبيلة من قضاعة سميت باسم أبيها مهرة بن حيدان
(قوله: أمطلع الشمس إلخ) يصح نصبه على أنه مفعول لتؤم أى: أتبغى وتطلب أن تؤم أى: تقصد بنا مطلع الشمس ويصح رفعه على أنه مبتدأ خبره تبغى أى: تطلب أن تؤمه وتقصده بنا أى: معنا وعلى كل حال، فالجملة فى محل نصب مقول القول ومطلع الشمس أى: محل طلوعها أما السماء الرابعة أو المحل المشار له بقوله تعالى: : حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ وهذا هو المراد فإن قلت: ما معنى طلبه قصد مطلع الشمس، مع أنه إنما يطلب مطلع الشمس بعينه لا قصده؟ قلت: المراد بقصد مطلع الشمس التوجه والذهاب إليه، وكثيرا ما يطلق على التوجه والذهاب قصدا لتعلقه به فكأنهم قالوا: أتطلب بهذا المشى أن تتوجه بنا لمطلع الشمس
(قوله: ردع للقوم) أى: ارتدعوا وانزجروا عما تقولون من طلب التوجه بكم لمطلع الشمس وتنبهوا على أنه لا وجه لقصده
(قوله: ولكن مطلع الجود) أى: ولكن أطلب التوجه بكم لمطلع الجود وهو عبد الله بن طاهر الجواد الكريم، فقد انتقل من مطلع الشمس إلى الممدوح الذى سماه مطلع الجود مع رعاية المناسبة بينهما من جهة أن كلّا محل لطلوع أمر محمود به النفع فكان فيه حسن التخلص
(قوله: أى مما شبب به الكلام) أى: ابتدئ به
(قوله: إلى ما لا يلائمه) أى: إلى مقصود لا يلائمه بحيث يستأنف الحديث المتعلق بالمقصود من غير ارتباط له واتصال بما تقدمه
(قوله: ويسمى الاقتضاب) والحق أنه واقع فى القرآن كما فى قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى (1) فإنه قد انتقل من الكلام على النفقة والمتعة للأمر
(1) البقرة: 238.
هو فى اللغة الاقتطاع والارتجال (وهو) أى الاقتضاب (مذهب العرب الجاهلية ومن يليهم من المخضرمين) - بالخاء والضاد المعجمتين- أى الذين أدركوا الجاهلية والإسلام مثل لبيد. قال فى الأساس: ناقة مخضرمة أى جدع نصف أذنها ومنه المخضرم الذى أدرك الجاهلية والإسلام كأنما قطع نصفه حيث كان فى الجاهلية (كقوله:
لو رأى الله أنّ فى الشّيب خيرا
…
جاورته الأبرار فى الخلد شيبا (1))
===
بالمحافظة على الصلاة ولا ملاءمة بينهما، وكما فى قوله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (2) إذ لا مناسبة بينه وبين قوله قبل: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) إلى آخر الآيات
(قوله: لاقتطاع) أى: لأن فى هذا قطعا عن المناسبة
(قوله: الارتجال) بالجيم أى: الانتقال من غير تهيؤ
(قوله: وهو مذهب العرب الجاهلية) أى كامرئ القيس، وزهير بن أبى سلمى، وطرفة بن العبد، وعنترة
(قوله: ومن يليهم من المخضرمين) أى: مثل لبيد، وحسان بن ثابت، وكعب بن زهير
(قوله: أى الذين أدركوا الجاهلية والإسلام) أى: الذين مضى بعض عمرهم فى الجاهلية، وبعضهم مضى فى الإسلام
(قوله: جدع) بالدال المهملة أى: قطع نصف أذنها
(قوله: كأنما قطع نصفه) أى: سمى بذلك؛ لأنه لما فات جزء من عمره فى الجاهلية صار كأنه قطع نصفه أى: ما هو كالنصف من عمره؛ لأن ما صدف به الجاهلية وكان حاصلا منه فيها ملغى لا عبرة به كالمقطوع
(قوله: كقوله) أى: قول الشاعر وهو أبو تمام وهو من الشعراء الإسلامية كان موجودا فى زمن الدولة العباسية وذمه للشيب جريا على عادة العرب فلا ينافى ما ورد من الأحاديث بمدح
(قوله: لو رأى الله) أى: لو علم الله أن فى الشيب خيرا، (وقوله: جاورته) الضمير لله تعالى، والمراد بالخلد الجنة، والمراد بالأبرار خيار الناس أى:
لأنزل الله الأبرار فى المنزل الذى خصهم به من الجنة فى حال كونهم شيبا؛ لأن الأليق
(1) البيت لأبي تمام يذم الشيب.
(2)
القيامة: 16.
(3)
القيامة: 3.
جمع أشيب وهو حال من الأبرار ثم انتقل من هذا الكلام إلى ما يلائمه فقال (كل يوم تبدى) أى تظهر (صروف الليالى، خلقا من أبى سعيد غريبا) ثم كون الاقتضاب مذهب العرب والمخضرمين أى دأبهم وطريقتهم لا ينافى أن يسلكه الإسلاميون ويتبعوهم فى ذلك لأن البيتين المذكورين لأبى تمام وهو من الشعراء الإسلامية فى الدولة العباسية، وهذا المعنى مع وضوحه قد خفى على بعضهم حتى اعترض على المصنف بأن أبا تمام لم يدرك الجاهلية فكيف يكون من المخضرمين؟ ! .
(ومنه) أى من الاقتضاب (ما يقرب من التخلص) فى أنه يشوبه شىء من المناسبة (كقولك
…
===
أن الأبرار يجاورنه على أحسن حال؛ ولأن الجنة دار الخير والكرامة
(قوله: جمع أشيب) أى: بمعنى شائب
(قوله: ثم انتقل من هذا الكلام) أى المفيد لذم الشبب
(قوله: إلى ما لا يلائمه) أى: إلى مقصود لا يلائمه وهو مدح أبى سعيد بأنه تبدى أى: تظهر الليالى منه خلقا وطبائع غريبة لا يوجد لها نظير من أمثاله ومعلوم أنه لا مناسبة بين ذم الشيب ومدح أبى سعيد، وقد يقال: لا يتعين كون هذا من الاقتضاب؛ لأن أول كلامه يذم الشيب ويحتمل أن أبا سعيد كان شائبا فيكون مناسبا لأول الكلام فكأنه قال: ولا بأس بابتلاء أبى سعيد بالشيب الذى لا خير فيه لإبداء صروف الليالى خلقا غريبا منه، ورد بأن اللفظ لا يشعر بالمناسبة، إذ ليس فى البيت الثانى ذكر الشيب. نعم لو ذكر فيه الشيب بأن قيل مثلا: وأبو سعيد أشيب فلا يبقى فيه خير لأمكن أن يقال ما ذكر، تأمل
(قوله: صروف الليالى) أى: حوادثها (وقوله: خلقا) أى: طبيعة حسنة (وقوله: غريبا) صفة لخلق
(قوله: من الشعراء الإسلامية) المراد بهم من كان غير مخضرم وكان موجودا زمن الإسلام ولو كافرا كجرير والفرزدق وأبى تمام والسموأل
(قوله: وهذا المعنى) أى:
قوله ثم كون الاقتضاب إلخ
(قوله: فكيف يكون من المخضرمين) فلا يصح أن يكون من المخضرمين وظاهر كلام المصنف أنه منهم
(قوله: أى من الاقتضاب) أى: الذى هو الإتيان بالمقصود بلا ربط ومناسبة بينه وبين ما شيب به الكلام (وقوله: ما يقرب من
بعد حمد الله أما بعد) فإنه كان وكذا وكذا فهو اقتضاب من جهة الانتقال من الحمد والثناء إلى كلام آخر من غير ملاءمة لكنه يشبه التخلص من حيث لم يؤت بالكلام الآخر فجأة من غير قصد إلى ارتباط وتعليق ما قبله
…
===
التخلص) أى: اقتضاب أو انتقال يشبه التخلص الاصطلاحى فى كونه يخالطه شىء من المناسبة، ولم يجعل هذا القسم تخلصا قريبا من الاقتضاب لعدم المناسبة الذاتية فيه بين الابتداء والمقصود والتخلص مبناه على ذلك
(قوله: بعد حمد الله) أى: بعد أن حمدت الله وصلّيت على رسوله
(قوله: أما بعد) هذا مقول القول، وقوله بعد حمد الله حال مقيدة أى: كقولك: أما بعد حالة كونها واقعة بعد أن حمدت الله.
(قوله: فإنه كان كذا وكذا) أشار بذلك إلى أن المراد أما بعد مع جملتها التى هى فيها وبه يندفع ما يقال: إن السياق فى أقسام الكلام التى ينبغى للمتكلم أن يتأنق فيها، وأما بعد ليست كلاما
(قوله: فهو اقتضاب) أى: فالانتقال المحتوى على أما بعد اقتضاب
(قوله: من جهة الانتقال من الحمد والثناء) أى: على الله ورسوله (وقوله إلى كلام آخر) أى: كالسبب الحامل على تأليف الكتاب مثلا
(قوله: فجأة) أى: بغتة، (وقوله: من غير قصد إلخ) بيان للفجأة (وقوله: وتعليق) تفسير لما قبله
(قوله: من غير قصد إلخ) تفسير لقوله فجأة
(قوله: بل قصد نوع من الربط) أى: من حيث الإتيان بأما بعد؛ لأنها بمعنى مهما يكن من شىء بعد الحمد والثناء، فالأمر كذا وكذا، وتحقيق ذلك أن حسن التخلص فيه القصد إلى إيجاد الربط بالمناسبة على وجه لا يقال فيه: إن هنا كلامين منفصلين مستقلين أتى بأحدهما وهو الثانى بغتة والاقتضاب فيه القصد إلى الإتيان بكلام بعد آخر على وجه يقال فيه: إن الأول منفصل عن الثانى ولا ربط بينهما، وأما بعد لما كان معناه مهما يكن من شىء بعد الحمد والثناء، فالأمر كذا وكذا أفاد أن كون الأمر كذا مربوط بوجود شىء بعد الحمد والثناء على وجه اللزوم، ولما أفادت ما ذكر ارتبط ما بعدها بما قبلها لإفادتها الوقوع بعده ولا بدّ فلم يؤت بما بعدها على وجه يقال فيه إنه لم يرتبط بما قبله، بل هو مرتبط به من حيث التعلق فأشبه بهذا الوجه حسن التخلص، ولما كان ما بعدها شىء آخر لا ربط فيه بالمناسبة كان فى الحقيقة
بل قصد نوع من الربط معنى مهما يكن من شىء بعد الحمد والثناء فإن كان كذا وكذا (قيل: وهو) أى قولهم بعد حمد الله أما بعد هو (فصل الخطاب) قال ابن الأثير: والذى أجمع عليه المحققون من علماء البيان أن فصل الخطاب هو أما بعد لأن المتكلم يفتتح كلامه فى كل أمر ذى شأن بذكر الله وتحميده فإذا أراد أن يخرج منه إلى الغرض المسوق له فصل بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله: أما بعد.
وقيل: فصل الخطاب معناه الفاصل من الخطاب أى الذى يفصل بين الحق والباطل على أن المصدر بمعنى الفاعل. وقيل: المفصول من الخطاب وهو الذى يتبين من يخاطب به أى يعلمه بينا لا يلتبس عليه فهو بمعنى المفعول
…
===
اقتضابا
(قوله: بل قصد نوع من الربط) أى: والربط يقتضى المناسبة بين المعلق والمعلق عليه، فالتعليق يتضمن نوع مناسبة
(قوله: على معنى مهما إلخ) مرتبط بمحذوف أى:
من حيث الإتيان بأما بعد؛ لأنها بمعنى مهما يكن إلخ
(قوله: هو فصل الخطاب) أى: هو المسمى بهذا اللفظ، والمراد بالخطاب الكلام المخاطب به، وكذا يقال فيما يأتى
(قوله: قال ابن الأثير إلخ) القصد من نيل كلامه تأييد ذلك القيل والتورك على المصنف حيث حكاه بقيل مع أن المحققين أجمعوا عليه
(قوله: إلى الغرض المسوق له) أى: الذى سبق الذكر والتحميد لأجله
(قوله: فصل بينه) أى: بين ذلك الغرض وبين ذكر الله بقوله أما بعد أى: فلفظ أما بعد حينئذ فاصل فى ذلك الخطاب أى: الكلام المخاطب به وهو المشتمل على الثناء، وعلى الغرض المقصود على وجه لا تنافر فيه ولا سماجة، بل على وجه مقبول كما مر، وعلم من هذا أن فصل فى قولهم فصل الخطاب مصدر بمعنى فاصل، وأن الخطاب بمعنى الكلام المخاطب به، وأن الإضافة على معنى فى.
(قوله: الفاصل من الخطاب) أى: من الكلام (وقوله: أى الذى يفصل) أى يميز بين الحق والباطل، فكل كلام ميز بين الحق والباطل يقال له فصل الخطاب على هذا القول
(قوله: على أن المصدر بمعنى الفاعل) أى: والإضافة على معنى من
(قوله: وقيل المفصول) أى: المبين المعلوم من الخطاب أى: من الكلام فكل كلام يعلم المخاطب به علما بينا يقال فيه فصل الخطاب على هذا القول
(قوله: فهو بمعنى المفعول) أى: والإضافة
(وكقوله) تعالى عطف على قوله كقولك بعد حمد الله يعنى من الاقتضاب القريب من التخلص ما يكون بلفظ هذا كما فى قوله تعالى بعد ذكر أهل الجنة هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ فهو اقتضاب فيه نوع مناسبة وارتباط لأن الواو للحال ولفظ هذا إما خبر مبتدأ محذوف (أى الأمر هذا) والحال كذا (أو) مبتدأ محذوف الخبر أى (هذا ذكر وقد يكون الخبر مذكورا مثل قوله تعالى) بعد ما ذكر جمعا من الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام وأراد أن يذكر بعد ذلك الجنة وأهلها هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ بإثبات الخبر أعنى قوله ذكر
…
===
على معنى من أيضا قوله: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ (1) أى: هذا المذكور للمؤمنين، والحال أن للطاغين إلخ
(قوله: فهو اقتضاب) أى: لأن ما بعد هذا لم يربط بما قبلها بالمناسبة، ولكن فيه نوع ارتباط ووجه الربط هنا أن الواو فى قوله وإن للطاغين واو الحال وواو الحال تقتضى مصاحبة ما بعدها لما قبلها برعاية اسم الإشارة المتضمن لمعنى عامل الحال وهو أشير، فالمحصل للربط واو الحال مع لفظ هذا
(قوله: أى الأمر هذا) أى: الأمر الذى يتلى عليكم هو هذا، والحال أن كذا وكذا واقع
(قوله: أو مبتدأ محذوف الخبر) أى: أو مفعول فعل محذوف أى: اعلم هذا، أو فاعل فعل محذوف أى: مضى هذا، والحال أن كذا وكذا
(قوله: بعد أن ذكر جمعا من الأنبياء) أى: وهم أيوب فى قوله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ (2) وإبراهيم وإسحق ويعقوب فى قوله: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (3) أى: أصحاب القوى فى العبادة وَالْأَبْصارِ أى:
البصائر فى الدين وإسماعيل واليسع وذو الكفل فى قوله: وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ (4)، وقد اختلف فى نبوته قيل كفل مائة نبى فروا إليه من القتل، وقوله: هذا ذِكْرٌ أى: لهم بالثناء الجميل، وقوله وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ أى: الشاملين لهم ولغيرهم لحسن مآب أى: مرجع فى الآخرة، وقوله جنات عدن: بدل من حسن مآب
(قوله: الجنة) هى قوله لَحُسْنَ مَآبٍ (5)(وقوله: أهلها) هو قوله: للمتقين.
(1) ص: 55.
(2)
ص: 41.
(3)
ص: 45.
(4)
ص: 48.
(5)
ص: 49.
وهذا مشعر بأنه فى مثل قوله تعالى هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ (1) مبتدأ محذوف الخبر قال ابن الأثير: لفظ هذا في هذا المقام من الفصل الذى هو أحسن من الوصل وهو علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى كلام أخر (ومنه) أى من الاقتضاب القريب من التخلص (قول الكاتب) هو مقابل الشاعر عن الانتقال من حديث إلى آخر (هذا باب) فإن فيه نوع ارتباط حيث لم يبتدئ الحديث الآخر بغتة (وثالثها) أى ثالث المواضع التى ينبغى للمتكلم أن يتأنق فيها
…
===
(قوله: وهذا مشعر إلخ) أى: أن ذكر الخبر فى هذا التركيب مشعر بأنه المحذوف فى نظيره كقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ؛ لأن الذكر يفسر الحذف فى النظير، فلفظ هذا فيما تقدم على هذا مبتدأ محذوف الخبر، والحاصل أن التصريح بالخبر فى بعض المواضع نحو: هذا ذكر- يرجع احتمال كونه مبتدأ محذوف الخبر على بقية الاحتمالات
(قوله: فى هذا المقام) أى: مقام الانتقال من غرض إلى غرض آخر
(قوله: من الفصل الذى هو أحسن من الوصل) أى: مما يفصل بين كلامين فصلا أحسن عند البلغاء من التخلص الذى هو الوصل بالمناسبة؛ وذلك لأن لفظ هذا ينبه السامع على أن ما سيلقى عليه بعدها كلام آخر غير الأول ولم يؤت بالكلام الثانى فجأة حتى يشوش على السامع سمعه لعدم المناسبة، وأما التخلص المحض فليس فيه تنبيه السامع على أن ما يلقى هل هو كلام آخر أو لا
(قوله: وهو علاقة إلخ) أى: ولفظ هذا علاقة وكيدة أى: وصلة بين المتقدم والمتأخر، (وقوله: وكيدة) أى: قوية شديدة أى:
يتأكد الإتيان بها بين الخروج من كلام والدخول فى كلام آخر (وقوله: وهو علاقة وكيدة) كالعلة لما قبله، وهو أحسنية هذا فى مقام الانتقال من الوصل بالمناسبة
(قوله: هو مقابل الشاعر) أى: فالمراد الناثر
(قوله: هذا باب) أى: وكذا قوله بعد تمام كلام والشروع فى كلام آخر، وأيضا كذا وكذا
(قوله: فإن فيه نوع ارتباط) أى: لأنه ترجمة على ما بعده ويفيد أنه انتقل من غرض لآخر، وإلا لم يحتج للتبويب، فلما كان فيه تنبيه
(1) ص: 55.
(الانتهاء) لأنه آخر ما يعيه السمع ويرتسم فى النفس فإن كان حسنا مختارا تلقاه السمع واستلذه حتى جبر ما وقع فيما سبقه من التقصير وإلا كان على العكس حتى بما أنساه المحاسن الموردة فيما سبق فالانتهاء الحسن (كقوله: وإنّى جدير (1)) أى خليق (إذ بلغتك بالمنى، ) أى جدير بالفوز بالأمانى
…
===
على إرادة الانتقال لم يكن الإتيان بما بعده بغتة فكان فيه ارتباط ما ولفظ أيضا فى كلام المتأخرين من الكتّاب يشعر بأن الثانى يرجع به على المتقدم، وهذا المعنى فيه ربط فى الجملة بين السابق واللاحق ولم يؤت بالثانى فجأة.
(قوله: الانتهاء) أى: الكلام الذى انتهت به وختمت به القصيدة أو الخطبة أو الرسالة وختم المصنف كتابه بالكلام على حسن الانتهاء لأجل أن يكون فيه حسن انتهاء، حيث أعلم بفراغ كلامه وانتهائه ففيه براعة مقطع
(قوله: آخر ما يعيه) أى:
يحفظه (وقوله: السمع) أى: سمع السامع ويرتسم فى نفسه أى: يدوم ويبقى فيها فأل عوض عن المضاف إليه
(قوله: تلقاء السمع) أى: بغاية القبول
(قوله: حتى جبر ما وقع فيما سبقه من التقصير) أى: فتعود ثمرة حسنه إلى مجموع الكلام بالقبول والمدح
(قوله: وإلا كان على العكس) أى: وإن لم يكن الانتهاء حسنا مجه السمع، وأعرض عنه وذمه، وذلك قد يعود على مجموع الكلام بالذم؛ لأنه بما أنسى محاسنه السابقة قبل الانتهاء فهو أى: ما ختم به الكلام كالطعام الذى يتناول فى الآخر بعد غيره من الأطعمة، فإن كان حلوا لذيذا أنسى مرارة أو ملوحة ما قبله، وإن كان مرّا أو مالحا أنسى حلاوة ما قبله
(قوله: فالانتهاء الحسن) أى: فما وقع به الانتهاء الحسن
(قوله: كقوله) أى: كقول الشاعر: وهو أبو نواس فى مدح الخصيب بن عبد الحميد، والخصيب بوزن الحبيب كما فى الأطول
(قوله: وإنى جدير) أى: حقيق لكونى شاعرا مشهورا عند الناس بمعرفة الشعر والأدب (وقوله: إذ بلغتك) أى: وصلت إليك بمدحى (وقوله: بالمنى) أى: بما أتمنى وهو
(1) البيت لأبي نواس.
(وأنت بما أملت منك جدير
…
فإن تولنى) أى تعطنى (منك الجميل فأهله، ) أى فأنت أهل لإعطاء ذلك الجميل (وإلّا فإنّى عاذر) إياك (وشكور) لما صدر عنك من الإصغاء إلى المديح أو من العطايا السالفة.
(وأحسنه) أى أحسن الانتهاء (ما آذن بانتهاء الكلام) حتى لا يبقى للنفس
…
===
متعلق بجدير، وفى الكلام حذف مضاف أى: إنى جدير بالفوز بالمنى منك حين بلغتك
(قوله: وأنت بما أملت منك جدير) أى: وأنت جدير وحقيق بما أملته ورجوته منك وهو الظفر بالمنى؛ لأنك من الكرام
(قوله: فإن تولنى منك الجميل) أى: الإحسان والإفضال.
(قوله: وإلا فإنى عاذر) أى: وإن لم تولنى الجميل فإلّا أجد عليك فى نفسى، ولكنى عاذر لك فى منعك لعدم تيسر المعطى فى الوقت؛ لأن كرمك أداك إلى خلوّ يدك أو لتقديم من لا يعذر بالعطاء
(قوله: وشكور) أى: وإنى شكور لك على ما صدر منك من غير الإعطاء وهو إصغاؤك لمدحى، فإن ذلك من المنة علىّ، ويحتمل أن المراد وشكور لك على ما صدر منك من الإعطاء سابقا ولا يمنعنى من شكر السابق عدم تيسر اللاحق. قال بعضهم: والذى حصل به الانتهاء فى المثال جميع البيتين، وقرر شيخنا العدوى: أن محل الشاهد قوله: فإنى عاذر وشكور؛ لأنه يقتضى أنه قبل العذر، وإذا قبله فقد انقطع الكلام فقبول العذر يقتضى انقطاع الكلام فهو من قبيل الانتهاء الذى آذن بانتهاء الكلام، وقرر أيضا: أن فى إتيان المصنف بهذين البيتين تورية؛ لأن معناهما القريب ما قصده الشاعر والبعيد ما قصده المصنف وهو أن كتابه قد ختمه وبلغ مناه فيه، وبعد ذلك يطلب من مولاه أن يقبله منه ويثيبه عليه
(قوله: ما آذن بانتهاء الكلام) أى: ما أعلم بأن الكلام قد انتهى والذى يعلم بالانتهاء أما لفظ يدل بالوضع على الختم كلفظ انتهى، أو تم أو كمل، ومثل: ونسأله حسن الختام وما أشبه ذلك، أو بالعادة كأن يكون مدلوله يفيد عرفا أنه لا يؤتى بشىء بعده ولا يبقى للنفس تشوف لغيره بعد ذلك مثل قولهم فى آخر الرسائل والمكاتبات: والسّلام، ومثل الدعاء، فإن العادة جارية بالختم به كما فى البيت الآتى.
تشوف إلى ما وراءه (كقوله:
بقيت بقاء الدّهر يا كهف أهله
…
وهذا دعاء للبريّة شامل (1))
لأن بقاءك سبب لنظام أمرهم وصلاح حالهم
…
===
واعلم أن الانتهاء المؤذن بانتهاء الكلام يسمى براعة مقطع
(قوله: تشوف) أى: انتظار
(قوله: كقوله) أى: الشاعر وهو أبو العلاء المعرى- كذا فى المطول، ونسبه ابن فضل الله لأبى الطيب المتنبى، قال فى معاهد التنصيص ولم أر هذا البيت فى ديوان واحد منهما.
(قوله: يا كهف أهله) أى: يا كهفا يأوى إليه غيره من أهله، والمراد بأهله جنسه بدليل ما بعده، والكهف فى الأصل الغار فى الجبل يؤوى إليه ويلجأ إليه استعير هنا للملجأ
(قوله: وهذا دعاء للبرية شامل) الإشارة لقوله بقيت إلخ، وقد وجه الشارح الشمول بقوله: لأن بقاءك سبب إلخ، وحاصله أنه لما كان بقاؤه سببا لنظام البرية أى:
كونهم فى نعمة وسببا لصلاح حالهم؛ برفع الخلاف فيما بينهم ودفع ظلم بعضهم عن بعض، وتمكن كل واحد من بلوغ مصالحه كان الدعاء ببقائه دعاء بنفع العالم، ومراده بالبرية: الناس وما يتعلق بهم، وإنما آذن هذا الدعاء بانتهاء الكلام؛ لأنه قد تعورف الإتيان بالدعاء فى الآخر، فإذا سمع السامع ذلك لم يتشوف لشىء وراءه، ومثل ذلك قول المتنبى:
قد شرّف الله أرضا أنت ساكنها
…
وشرّف الناس إذ سوّاك إنسانا (2)
فإن هذا يقتضى تقرر كل ما مدح به ممدوحه، فعلم أنه قد انتهى كلامه ولم يبق للنفس تشوف لشىء وراءه، وكذا قوله:
فلا حطّت لك الهيجاء سرجا
…
ولا ذاقت لك الدّنيا فراقا (3)
(1) البيت لأبي العلاء المعري، من قصيدة مطلعها: ألا فى سبيل المجد ما أنا فاعل.
(2)
شرح التبيان للعكبري 2/ 475.
(3)
شرح التبيان للعكبري 1/ 471.
وهذه المواضع الثلاثة مما يبالغ المتأخرون فى التأنق فيها وأما المتقدمون فقد قلّت عنايتهم بذلك (وجميع فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن الوجوه وأكملها) من البلاغة لما فيها من التفنن وأنواع الإشارة
…
===
وفى ختم الكتاب بهذا البيت إشارة إلى أن هذا الكتاب قد ختم، وكأن مؤلفه يدعو له بأنه يبقى بين أهل العلم بقاء الدهر؛ لأن بقاءه نفع صرف لجميع البرايا، وأنه متضمن لزبد جميع ما صنف فى هذا الفن
(قوله: وهذه المواضع الثلاثة) يعنى الابتداء والتخلص والانتهاء
(قوله: فقد قلّت عنايتهم بذلك) أى: للسهولة وعدم التكلف لا لقصورهم وعدم معرفتهم بذلك
(قوله: وجميع فواتح السور) أى: القرآنية وخواتمها، والفواتح والخواتم: جمع فاتحة وخاتمة أى: ما به افتتاحها وما به اختتامها من جمل ومفردات، والسور: جمع سورة وهى جملة من القرآن مشتملة على فاتحة وخاتمة وآى أقلها ثلاث، ويقال فيها سؤرة بالهمز وتركه، فبالهمز: مأخوذة من أسأر إذا أفضل بقية من السؤر أى: من المشروب، وإنما سميت بذلك؛ لأنها فضلة وبقية من القرآن، وأما بلا همز فأصلها من المهموز لكنها سهلت فهى مأخوذة مما علمت على كل حال، وقيل:
إنها على الثانى مأخوذة من السور وهو البناء المحيط بالبلد، سميت بذلك؛ لإحاطتها بآياتها كإحاطة البناء بالبلد، ومنه السوار لإحاطتها بالساعد، وذكر بعضهم أن السورة تطلق على المنزلة المرتفعة سميت الجملة من القرآن بذلك لارتفاع شأنها من أجل أنها كلام الله
(قوله: واردة على أحسن الوجوه) أى: آتية ومشتملة على أحسن الوجوه أى:
الضروب والأنواع التى هى مقتضيات الأحوال، فقول الشارح: من البلاغة حال من الوجوه أى: حالة كون تلك الوجوه متعلق البلاغة
(قوله: وأكملها) عطف مرادف وأتى به المصنف إشارة إلى أن كتابه قد كمل فهو براعة مقطع
(قوله: لما فيها من التفنن) أى: ارتكاب الفنون أى: العبارات المختلفة، وهذا علّة لقوله واردة إلخ
(قوله: وأنواع الإشارة) أى: اللطائف المناسب كل منها لما نزل لأجله ومن خوطب به، وهذا- أى قوله: لما فيها من التفنن وأنواع الإشارة- راجع لفواتح السور، وذلك كالتحميدات المفتتح بها أوائل بعض السور كسورة الأنعام والكهف وفاطر وسبأ،
وكونها بين أدعية ووصايا ومواعظ وتحميدات وغير ذلك مما وقع موقعه وأصاب محزه بحيث تقصر عن كنه وصفه العبارة وكيف لا وكلام الله سبحانه وتعالى فى الرتبة العليا من البلاغة القصوى من الفصاحة ولما كان هذا المعنى مما قد يخفى على بعض الأذهان لما فى بعض الفواتح والخواتم من ذكر الأهوال والأفزاع وأحوال الكفار
===
وكالابتداء بالنداء فى مثل: يا أَيُّهَا النَّاسُ (1)، يا/ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (2) فإن هذا الابتداء يوقظ السامع وينبهه للإصغاء لما يلقى إليه، وكالابتداء بحروف التهجى كالم وحم فإن الابتداء بها مما يحرض السامع ويبعثه على الاستماع إلى الملقى إليه؛ لأنه يقرع السمع عن قريب، وكالابتداء بالجمل الاسمية والفعلية لنكات يقتضيها المقام تعلم مما تقدم
(قوله: وكونها بين أدعية) أى: دائرة بين أدعية، وهذا راجع لقوله وخواتمهما، فالكلام محمول على التوزيع فوافق كلامه هنا ما فى المطول من أن خواتم السور إما أن تكون أدعية كآخر البقرة أو وصايا كآخر آل عمران يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا (3) إلخ، أو مواعظ كآخر إذا زلزلت أو تحميدات كآخر الزخرف وآخر الصّافّات (وقوله: وغير ذلك) أى:
بأن تكون فرائض كآخر النساء، أو تبجيلا وتعظيما كآخر المائدة وهو: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ (4) إلخ، أو وعدا ووعيدا كآخر الأنعام وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ إلخ، وغير ذلك من الخواتم التى لا يبقى للنفوس بعدها تطلع ولا تشوف لشىء آخر.
(قوله: وأصاب محزه) بالحاء المهملة والزاى المعجمة أى: موضعه الذى يليق به والمحز فى الأصل موضع القطع أريد به هنا موضع اللفظ من العبارة على طريق المجاز المرسل والعلاقة الإطلاق والتقييد
(قوله: وكيف لا إلخ) يصح رجوعه لكلام المتن أى:
وكيف لا تكون فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن الوجوه والحال أن كلام الله إلخ، ويصح رجوعه لكلام الشارح قبله
(قوله: ولما كان هذا المعنى) أى: ورود فواتح السور وخواتمها على أحسن الوجوه وأكملها
(قوله: من ذكر الأهوال والأفزاع) أى:
التى قد يتوهم عدم مناسبتها للابتداء والختم
(قوله: وأحوال الكفار) أى: كما فى أول
(1) يونس: 57
(2)
النور: 21.
(3)
آل عمران: 200.
(4)
المائدة: 119.
وأمثال ذلك أشار إلى إزالة هذا الخفاء بقوله (يظهر ذلك بالتأمل مع التذكر لما تقدم) من الأصول والقواعد المذكورة فى الفنون الثلاثة التى لا يمكن الاطّلاع على تفاصيلها وتفاريعها إلا لعلّام الغيوب فإنه يظهر بتذكرها أن كلّا من ذلك وقع موقعه بالنظر إلى مقتضيات الأحوال وأن كلّا من السور بالنسبة إلى المعنى الذى يتضمنه مشتملة على لطف الفاتحة ومنطوية على حسن الخاتمة.
===
براءة
(قوله: وأمثال ذلك) أى: مثل ذكر الغضب والذم وذكر الأهوال وما مثلها فى الابتداء كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) وكما فى أول القارعة وقوله تعالى تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (2) وقوله: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ (3) وذكرها فى الخواتم كقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (4) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (5)
(قوله: يظهر ذلك) أى: كون الفواتح والخواتم واردة على أحسن الوجوه وأكملها (وقوله: بالتأمل) أى: فى معانى الفواتح والخواتم
(قوله: مع التذكر لما تقدم من الأصول والقواعد المذكورة فى الفنون الثلاثة) أى: الدالة وعلى وجه الحسن وإن لكل مقام خطابا يناسبه، وأن هذا المقام يناسبه من الخطاب كذا وهذا هو المراد بتفاريعها وتفاصيلها، فالمراد بتفاريعها الفروع المستنبطة منها ككون مقام كذا يناسبه من الخطاب كذا
(قوله: والقواعد) عطف تفسير (وقوله:
التى لا يمكن إلخ) نعت للأصول والقواعد المذكورة كما هو ظاهر.
(قوله: فإنه يظهر بتذكرها) أى بتذكر ما مرّ من الأصول والقواعد (وقوله: أن كلّا من ذلك) أى مما ذكر من الأهوال والأفزاع وأحوال الكفار وأمثال ذلك
(قوله: مشتملة) راعى المعنى فأنّث (وقوله: على لطف الفاتحة) أى على لطف ما افتتح به (وقوله:
وحسن الخاتمة) أى ما اختتمت به والوقوف على ذلك لمن نوّر الله بصيرته. مثلا سورة براءة لما نزلت بمنابذة الكفار ومقاطعتهم بدئت بما يناسب ذلك من الأمر بقتالهم
(1) الحج: 1.
(2)
سورة المسد: 1.
(3)
سورة المعارج: 1.
(4)
الفاتحة: 7.
(5)
الكوثر: 3.
ختم الله تعالى لنا بالحسنى ويسّر لنا الفوز بالذخر الأسنى بحق النبى وآله الأكرمين، والحمد لله رب العالمين.
===
وعذابهم والنبذ إليهم وإسقاط عهدهم ولما انتهت إلى ما يناسب التحريض على اتباع الرسل قيل: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (1) فوصفه بما لا عذر لأحد يستمعه فى ترك اتباعه ثم أمره بالاكتفاء بالله والتوكل عليه إن أعرضوا عنه والاستغناء به عن كل شىء فهذه الألفاظ من النهاية فى الحسن؛ لأنها غاية فى المطابقة لمقتضى الحال وكذا الفاتحة لما نزلت لتعليم الدعاء بدئت بحمد المسئول ووصفه بالصفات العظام؛ لأن ذلك أدعى للقبول ثم قيد المسئول بأنه هو الذى لا يكون للمغضوب عليهم ولا الضّالّين إظهارا للاختصاص وتعريضا بغير المؤمنين أنهم لا ينالون ما كان للداعين
(قوله: بالحسنى) أى: بالحالة الحسنى وهو الموت على الإيمان لأنه يترتب عليها كل أمر حسن
(قوله: بالذخر الأسنى) هو بالذال المعجمة وهو ما يكون فى الآخرة بخلاف ما يكون فى الدنيا فإنه بالدال المهملة.
وقد انتهى ما أردت جمعه ولله الحمد والمنّة ونسأل مولانا الكريم الوهّاب أن يجعله خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به كما نفع بأصوله وأن يختم بالصالحات أعمالنا ويبلغنا فى الدارين آمالنا. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
قال جامعه الفقير محمد الدسوقى: فرغ جمعه لثمانية وعشرين من شهر شوال سنة ألف ومائتين وعشر من الهجرة النبوية.
(1) التوبة: 128.