الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
16/ 4 - المبحث الخامس:
المساواة في حرية الرأي:
حرية الرأي حق مشروع لكل عاقل حكيم، يعلم موارد الأمور، ويعلم ما يترتب على الرأي من المصالح والمضار، وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) وهذا الواجب الشرعي يشترك فيه الرجال والنساء، ولهم الحرية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه عبادة مطلوبة من كل فرد ذكرا أو أنثى، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
40 -
(من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)(2) حرية في الرأي لكنها مقيدة بالمصلحة العامة، وفي هذا التقسيم حكمة عظيمة، فالشارع الحكيم نظر إلى أحوال الناس، وقدراتهم على معرفة النافع والضار، ونظر إلى قدراتهم على الإصلاح، فمن كانت له الولاية العامة على المسلمين - - - - ولو في بلد محدود كما هو حال المسلمين اليوم - - - - فإن له حق الأمر بالمعروف بمراتبه الثلاث، وإقامة العدل والعرف بين الناس، ولو أدى ذلك إلى معاقبة الممتنع، وله إنزال العقوبة المناسبة على من لا يستجيب،
(1) الآية (71) من سورة التوبة.
(2)
مسلم حديث (78).
وله حق إنكار المنكر بمراتبه الثلاث، وردع فاعل المنكر بالوسيلة المناسبة، ومن ذلك إقامة الحدود بأنواعها، لأنها دفع لشر الأشرار من الناس، وإشاعة للمعروف بين الناس، والمعروف كل ما أقرّه الشرع، والمنكر كل ما نهى عنه الشرع، ولمن ينوب عن صاحب الولاية العامة ممارسة هذه الحرية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق ما منح من صلاحيات، كصاحب الولاية تماما، ومن كان من الناس دون ذلك في المسئولية، ولم يكن له شرعا استخدام اليد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا له المرتبة الثانية: وهي التغيير باللسان، والمراد بيان المعروف من الأقوال والأعمال، وشرحه للناس ودعوتهم إلى ممارسته والحرص عليه، وتعليم القريب والبعيد، واستخدام الأسلوب الأمثل في ذلك، وكذلك إنكار المنكر باللسان، يكون ببيان المنكر من الأقوال والأعمال للناس، وحثهم على البعد عنه، ويجب عليه استخدام الأسلوب الأمثل في الحالين: حال الأمر بالمعروف، وحال النهي عن المنكر، عملا بقول الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) فقد وجه رب العزة الجلال نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الحكمة مع كل من يدعوه إلى الإسلام فقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (2)
(1) الآية (21) من سورة الأحزاب ..
(2)
الآية (125) من سورة النحل.
فالحكمة مطلب في الأسلوب مع عامة الناس، ولكنه مع الجاهلين أكثر طلبا، لأن الجاهل من الناس كالأعمى، لا بد أن ترفق به حينما تدله على الطريق، فلا تتعامل معه بفظاظة، فلا يقبل منك توجيها، ولو سلك طريقا فيه هلاكه، وهكذا كانت معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، كان حليما حكيما صابرا محتسبا، قالوا:{هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (1)، فصبر، وقالوا:{أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (2) ورغم خسة هذا القول لم يؤثر في حكمته وصبره صلى الله عليه وسلم، وتجاوز أذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم السب والشتم إلى العمل، فكان من أشدهم أذى له عمه عبد العزّى بن عبد المطلب الملقب في الإسلام أبا لهب، وزوجه أم جميل، فصبر عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتصر الله لنبيه بذكر مآل أبي لهب وزوجه في سورة قرآنية تتلى إلى يوم القيامة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وكانت زوج أبي لهب تحمل الشوك وتطرحه في طريق رسول الله أذى منها له صلى الله عليه وسلم، فجعل لله لها حبلا تجرّ فيه في النار، وهو المسد الذي سميت به السورة، وكذلك الحكم بن هشام الملقب في الإسلام أبا جهل كان من أشد قريش أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال ذات يوم: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه، فيضل في كتفي محمد إذا سجد؟ ، فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد، ما يرفع
(1) من الآية (36) من سورة الصافات، وانظر الطبري 23/ 52.
(2)
من الآية (36) من سورة الصافات ..
رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت، وهي جويرية فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا، دعا ثلاثا، وإذا سأل، سأل ثلاثا، ثم قال:
41 -
(اللهم عليك بقريش ثلاث مرات) فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال:
42 -
(اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة ابن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط) قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: وذكر السابع ولم أحفظه، فو الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، لقد رأيت الذين سمّى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب: قليب بدر (1)، لقد صبر صلى الله عليه وسلم أعظم الصبر، ولقد كان رحيما حتى بقريش أنفسهم، عمّم الدعاء عليهم، ثم استثنى وخص الآمرين بالأذى المباشرين له، واستجاب الله دعوته.
وأما الموعظة الحسنة فهي عامة لكل الناس العالم والجاهل، والمجادلة بالتي هي أحسن خاصة بالعلماء من المسلمين وغيرهم، لأنهم ذووا علم وفهم لكثير من الأمور، وفي هذا تكريم للعلم وأهله حتى لو لم يكونوا من المسلمين، ولذلك لاطف الله اليهود والنصارى حينما أمر رسوله بأن يخاطبهم بقوله: يا أهل الكتاب، ولذلك كررها في القرآن أكثر من ثلاثين مرة، ويحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم وكان من أهل الكتاب قال عدي رضي الله عنه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث بعث فكرهته أشد ما كرهت شيئا قط، فانطلقت حتى كنت في أقصى الأرض مما يلي الروم، فقلت: لو
(1) مسلم حديث (107).
أتيت هذا الرجل فإن كان كاذبا لم يخف عليّ، وإن كان صادقا اتبعته، فأقبلت فلما قدمت المدينة استشرف لي الناس وقالوا: جاء عدي بن حاتم، جاء عدي بن حاتم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لي:
43 -
يا عدي بن حاتم، أسلم تسلم، قال: قلت: إن لي دينا، قال: أنا أعلم بدينك منك - مرتين أو ثلاثا - ألست ترأس قومك؟ ، قال: قلت: بلى، قال: ألست تأكل المرباع؟ ، قال: قلت: بلى، قال فإن ذلك لا يحل لك في دينك، قال: فتضعضعت لذلك، ثم قال: يا عدي بن حاتم، أسلم تسلم، فإني قد أظن - أو قد أرى، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه ما يمنعك أن تسلم خصاصة تراها من حولي، وتوشك الضعينة أن ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت، ولتفتحنّ علينا كنوز كسرى بن هرمز، وليفيضنّ المال - أو ليفيض - حتى يهم الرجل من يقبل منه ماله صدقة، قال عدي بن حاتم: فقد رأيت الضعينة ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن، على كنوز كسرى بن هرمز، وأحلف بالله لتجيئنّ الثالثة إنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي (1) تأمل هذا الحوار من أكرم الخلق مع من لا يؤمن بدينه ولا نبوته، أسلوب عظيم أقام الحجة في أدب رفيع، يكرر يا عدي بن حاتم تكريما للمدعو، فتقوم الحجة ويسلم عدي بن حاتم رضي الله عنه، وتكون حرية الرأي في الإسلام مطلقة في كل ما يعود على الناس بالخير في الدنيا والآخرة، تقال بدون تحفظ ولو أدت إلى الموت قال صلى الله عليه وسلم:
44 -
(أفضل الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطانٍ جائر)(2) أي حرية في الرأي أعظم من هذا، لكن ما هو الرأي؟ ، الرأي العدل الصائب
(1) الإحسان 15/ 72.
(2)
أبو داود حديث (4344).
المستند إلى الحق، البعيد عن الهوى والشطط والتعسف، وقد أعطيت المرأة حرية الرأي ولم ينكر عليها ما كان من رأيها صائبا معروفا، تأتي خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها تشكو زوجها أوس بن الصامت رضي الله عنه حين قال لها: أنت عليّ كظهر أمي، ثم ندم على ما قال، وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية، فقال لها: ما أظنك إلا قد حرمت عليّ، فقالت: والله ما ذاك طلاق، وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعائشة رضي الله عنها تغسل شق رأسه - فقالت: يا رسول الله، إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني، وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه، فقالت: يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً، وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه، فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، قد طالت صحبتي ونفضت له بطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
45 -
(ما أراك إلا قد حرمت عليه، ولم أؤمر في شأنك بشيء) فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي، وإن لي صبيةً صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك - وكان هذا أول ظهار في الإسلام، فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر - فقالت: انظر في أمري جعلني الله فداءك يا نبي الله، فقالت عائشة: أقصري حديثك ومجادلتك، أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه أخذه مثل السبات - فلما قضى الوحي قال
لها: ادعي زوجك فدعته، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (1) الآيات، قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها، إن المرأة لتحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها، ويخفى علي بعضه إذ أنزل الله:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} (2)
الآيات أي تخاصمك وتحاورك وتراجعك في زوجها، بقوة وبحرية كاملة في الرأي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع كلامها فلم يعنفها ولم يعب عليها مراجعتها له صلى الله عليه وسلم لأنها صاحبة حق، ولأنه الكريم الحليم صلى الله عليه وسلم، فلما لم تجد حلا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعت الأمر لخالقها واثقة بأنها ستجد عنده تعالى فرجا ومخرجا، وجاء الفرج من الله تعالى لها ولكل مسلمة حكم شرعي قرآن يتلى إلى يوم القيامة (3)، حرية لا نظير لها تخاصم وتجادل وتلح، على أعلى سلطة بشرية من لو كان الملك أعلى مقاما من النبوة لوصف به صلى الله عليه وسلم ولكنها النبوة لا مقام أعلى منها، وقد قال أبو سفيان للعباس: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك بن أخيك الغداة عظيما، فقال: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال فنعم إذن (4) فإذا كان هذا شأن المرأة مع أرفع البشر شأنا وهيبة ووقارا، بل جاوزت ذلك إلى ملك الملوك رب العزة والجلال تناشده
(1) الآية (1) من سورة المجادلة.
(2)
من الآية (1) من سورة المجادلة ..
(3)
انظر تفسير الغوي سورة المجادلة، بتصرف.
(4)
الطبراني في الكبير 8/ 14.
تعالى فرجا، وتجاب منه بالفرج ناصا على سماعه تعالى حوارها ومناشدتها، وتقول أم سلمة رضي الله عنها رأيها الصائب المفيد، وقد قدمناه في الشورى، يجتمع نساءه صلى الله عليه وسلم يطالبن بالنفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض:
46 -
فهجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلى أن لا يقربهن شهرا، ولم يخرج إلى أصحابه، فقالوا: ما شأنه؟ ، وكانوا يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقال عمر: لأعلمنّ لكم شأنه، قال: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أطلقتهن؟ ، قال: لا، قلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ ، قال: نعم إن شئت، فقمت على باب المسجد وناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فنزلت هذه الآية:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (1) قال: فبدأ بعائشة فقال: يا عائشة، إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول الله؟ ، فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ ، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها،
(1) الآيتان (28، 29) من سورة الأحزاب.
إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً (1)، وهنا نلاحظ أن حرية الرأي منحها رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه في مطالبتهن إياه، ولم يغضب من ذلك، ولذلك لم يعنفهن صلى الله عليه وسلم، ولكن أغضبه التغاير في المطالبة، وجاء أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر رضي الله عنه فدخل ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فأذن له فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً، فقال:
47 -
"لأقولن شيئاً أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول، الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هنّ حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده، ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين، آلى منهن شهرا" ليعلم حكم الله في هذا الموقف، لأنه حكم للأمة، وأعطى عمر رضي الله عنه حرية الرأي فيما عرض عليه صلى الله عليه وسلم، ولم يعطها للذين أشاعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، وقد نزع الله هذه الحرية لأنها مبنية على الجهل بالواقع، ووجه إلى ما هو أولى {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
(1) انظر (تفسير البغوي، سورة الأحزاب) ..
لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) مثنيا على استنباط عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق، قال عمر رضي الله عنه:"فكنت أنا استنبطت ذاك الأمر، وأنزل الله آية التخيير" وكانت تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش: عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أبي أمية، وسودة بنت زمعة، وغير القرشيات: زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، رضوان الله عليهنّ، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة، وكانت أحبهن إليه فخيّرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعنها على ذلك، فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله عز وجل على ذلك وقصره عليهنّ، فقال:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} (2) وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء، قال: فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ثم قال: أحسنت إليك؟ ، قال الأعرابي: لا، ولا أجملت، فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أن كفوا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال:
(1) الآية (83) من سورة النساء، وانظر تفسير البغوي ..
(2)
الآية (52) من سورة الأحزاب، وانظر: تفسير البغوي بتصرف.
48 -
إنك إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك، فقلت ما قلت، فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا وقال: أحسنت إليك؟ ، فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك، فقلت ما قلت، وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ، حتى يذهب عن صدورهم، فقال: نعم، فلما جاء الأعرابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه، فقال ما قال، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي، كذلك يا أعرابي؟ ، فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
49 -
(إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه، فاتّبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا، فقال لهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها، وأنا أعلم بها، فتوجه إليها وأخذ لها من قتام الأرض، ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد عليها رحلها، وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار)(1) هذه حرية في الرأي يمنحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي ليعلمه أن رأيه غير صائب، وليربي أصحابه حملة الدعوة على الخير هذا المنهج السديد، ولم تتوقف حرية الرأي للرجل أو المرأة في ظل الإسلام تقف فاطمة بنت محمد رضي الله عنها أمام أبي بكر خليفة رسول الله رضي الله عنه معلنة رأيها في الحصول على نصيبها من ميراث أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستقبلها رضي الله عنه ويسمع منها، ويجيبها بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1) انظر تفسير ابن كثير 2/ 405.
50 -
(لا نورث، ما تركنا صدقة)(1) ولم ترض فاطمة رضي الله عنها إلى أن ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم، ودخل أبو بكر رضوان الله عليه على امرأة من أحمس يقال لها زينب، قال: فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ ، قالوا: نوت حجة مصمتة، قال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، قال: فتكلمت، فقالت: من أنت؟ ، قال: أنا امرؤ من المهاجرين، قالت: أي المهاجرين؟ ، قال: من قريش، قالت: فمن أي قريش أنت؟ ، قال: إنك لسؤل أنا أبو بكر، قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ ، قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ ، قال: أما كان لقومك رؤساء وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ ، قالت: بلى، قال فهم مثل أولئك على الناس (2) إن من يتدبّر هذا الحوار يرى فيه حرية الرأي مع أكبر رجل يدير شئون المسلمين، وخطب عمر رضي الله عنه فقال:
51 -
"ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا، أليس الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (3) فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر" - وفي رواية - فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك
(1) البخاري حديث (3093) ومسلم حديث (1759).
(2)
البخاري حديث (3834).
(3)
الآية (20) من سورة النساء.
يا عمر، وفي أخرى امرأة: أصابت ورجل أخطأ (1) وترك الإنكار رضي الله عنه، أي حرية في الرأي أعظم من هذا؟ ، وأي تواضع وسماع من رجل عظيم أكثر من هذا؟ ، ولم تكن خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها أقل حرية من سابقتها في مخاطبتها عمر بن الخطاب الرجل المهيب، تستوقفه خوله وتذكره بما كان عليه في الجاهلية، وما هو عليه في الإسلام، وتقول:
52 -
فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت (2) وجاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبي زوجني ابن أخيه يرفع بي خسيسته (3)، فجعل - الرسول صلى الله عليه وسلم - الأمر إليها، قالت: 53 - فإني قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء (4) وهذا حق شرعي لكل امرأة ذالك بضعها، وتلك حياتها فتستأمر فيه ولا تجبر قال صلى الله عليه وسلم:
54 -
(استأمروا النساء في أبضاعهن، قيل: فإن البكر تستحي أن تكلم، قال: سكوتها إذنها)(5) وفي الحقيقة عدم فهم الكثيرات من النساء - ولاسيما في عصرنا هذا - ما كرمهن الله به في الإسلام، أو الجهل به أصلا هو السبب في اصطيادهن بهذه السهولة وقبولهن محاربة الله ورسوله باسم الحرية الزائفة، وقدمنا في المبحث العاشر: المساواة في حق الاختيار، ما دار
(1) فيه روايات، وروى ابن كثير نحوه عند تفسير الآية من سورة النساء.
(2)
انظر (السيرة الحلبية 2/ 724).
(3)
الخَسِيسُ: الدَّنِئ. والخَسيسَة والخَسَاسة: الحالة التي يكون عليها الخسِس (النهاية 2/ 24).
(4)
أحمد حديث (25043).
(5)
أحمد حديث (24185).
بين بريرة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وسلم من حوار حول قضيتها مع زوجها، مبينة رأيها بكل حرية وصراحة، وإنكار حوار المرأة ومراجعتها للرجل عادة جاهلية كما قال عمر رضي الله عنه: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، فتغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني فقالت:
55 -
"ما تنكر أن أراجعك فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، قالت: نعم، قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ ، قالت نعم، قلت: قد خاب من فعل ذلك وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت؟ ، لا تراجعي رسول الله، ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك، ولا يغرنّك إن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله منك - - - - يريد عائشة رضي الله عنها - - - (1) هذا الإنكار من عمر رضي الله عنه لمكان رسول الله في نفسه حذّر من إغضابه صلى الله عليه وسلم، ولا نشك في أن عمر رضي الله عنه يتأسّى برسول الله صلى الله عليه وسلم في حرية الرأي، وقد قدمنا عنه ذلك، ثم يأتي أصحاب الشهوات يتباكون على حرية المرأة في الإسلام، وما بهم إلا الزور والبهتان، والسعي لإشباع الشهوات كما هو حال المرأة في الغرب مبتذلة ضائعة، إن هوية المرأة المسلمة هي عقيدتها، المستمدة من الكتاب وثوابت السنة، ولا حرية لها ولا سعادة ولا مستقبل في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالإيمان والاستقامة:
(1) أحمد حديث (222).
56 -
(قل آمنت بالله ثم استقم)(1) الرجل والمرأة على حد سواء، وليعلم المسلم والمسلمة أن أعداء القيم والثوابت الخلقية يعملون على ضرب عقيدة المسلمين، حارس القيم والفضائل في النفوس المسلمة، وأساس وحدة المسلمين المتين، فإن ذلك يحقق ما يتمنون من تمزيق المسلمين، وليس هذا شيئا جديدا، لا يعرفه المسلمون فقد نبّه إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه تحذير من ترك المنهج الصحيح فقال:
57 -
(إن بني اسرائيل قد افترقت على ثنتين وسبعين فرقة وأنتم تفترقون على مثلها كلها في النار إلا فرقة)(2) وهذا إيماء إلى أن الأعداء لن يسكتوا على وحدة العقيدة عند المسلمين، لأنها مصدر القوة لضرب الخصم، وهم يعملون على تدمير الأسرة المسلمة، لأنها المحضن الصحيح للقيم الإسلامية، فتدمير مصنع البندقية أهم بكثير من كسر البندقيه نفسها، ولا يتم تدمير الأسرة إلا من خلال تحرير المرأة من كل ما يأمر به الإسلام، ويتم ذلك رويدا رويدا، وخطوة خطوة، ويجب أن يطول النفس في ذلك، على طريقة الإنجليزي الذي أختار أن يزيح ماء البحر بالملعقة ليصطاد السمكة، قد يتصور المتسرع في الحكم على الأشياء أن هذا غباء منه، ولكنه تعبير عن قوة الإرادة والصبر الطويل ليتم في النهاية تحقيق الهدف، نعم نقول إن المرأة مظلومة ولكن في غير الإسلام، فالمرأة لن تعرف التكريم إلا في الإسلام، ولن تعرف الحرية الصحيحة إلا في الإسلام، ولكن من أجل ضرب الإسلام الذي منحها العزة والكرامة والحرية المتوازنة ودعاها إليها، وجب افتعال قضية ظلم الإسلام للمرأة، لأنهم سيجدون من
(1) أحمد حديث (15417).
(2)
أحمد حديث (12208).