الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصنعة يستحيل وقوعها إلا من صانع، كما يستحيل في العقول وجود صانع لا صنعة له، وكاتب لا كتابة له، فتعلق الصنعة بالصانع، كتعلق الصانع في كونه صانعاً بوجود صنعته) .
قال: (وهذه النكتة المعتمدة في هذا الدليل) .
تعليق ابن تيمية
قلت: بيان هذا أنه إذا قيل: صنعة، أو فعل، كان هذا اللفظ متضمناً صانعاً فاعلاً، كما إذا قيل: فاعل صانع، كان ذلك متضمناً فعلاً وصنعة.
وذلك لأن المصدر يستلزم الفاعل، كما يستلزم الفاعل المصدر، فكما أن العقل يعلم امتناع فاعل لا فعل له، فهو يعلم امتناع فعل لا فاعل له.
والقاضي أبو بكر قرر هذا الوجه أيضاً بناءً على أن العلم بافتقار المحدث إلى محدث ليس بضروري، وزعم أن الأشعري يقول بذلك، كما تقدم من قوله:(إنا لا ندعي - ولا صاحب الكتاب - أن العلم باستحالة وقوع الصنعة لا من صانع، شيء يدرك من جهة الضرورات) .
ومن المعلوم أن كلام الأشعري ليس فيه شيء من هذا، ولم يذكر في كلامه أن العلم بافتقار الصنعة إلى صانع يقرر بأن استلزام الصنعة للصانع كاستلزام الصانع للصنعة، ولا بأن ذلك يتضمن تقديماً وتأخيراً، فيفتقر إلى مقدم ومؤخر.
ثم إن القاضي قرر ذلك بأن ذلك التقدم والتأخر لا يجوز أن يكون لعلة تقوم بالمتقدم والمتأخر، لأنه ليس وجود العلة به بأولى من وجودها بغيره، إذا لم يكن هناك موجد.
وكذلك وجود سائر العلل المجانسة لها لسائر ما يحتمله ذلك الجنس الذي وجدت به العلة، ولأن ذلك يتضمن تقدم علة على علة، فتفتقر أيضاً إلى لعة متقدمة، وذلك يفضي إلى وجود حوادث لا نهاية لها، وهو محال.
وهذه المقدمة فيها نزاع مشهور، لكنه احتج بها على من يسلمها من المعتزلة، ولأنه عند نفسه قد أقام الدليل عليها في موضع آخر.
وأيضاً فإنه بنى دليله على تماثل الجواهر، وهذا فيه نزاع مشهور، لكنه أحال على تقريره لذلك في موضع آخر.
وإبطال هذا القسم يظهر بدون هذه الأدلة التي اعتمد عليها، وذلك أن الكلام في حدوث ما يحدث من الحوادث التي تقدمت وتأخرت، وهذه لا تقوم بها العلل في حال عدمها، إنما تقوم بها في حال وجودها، فيمتنع أن يكون حدوثها لمعنى قام بها قبل حودثها، لأن المعدوم لا يحدث الموجود، ولا يكون المعدوم علة للموجود.
ولكن سلوك هؤلاء لهذه الطرق البعيدة التي فيها شبهة وطول، دون
الطرق القريبة التي هي أقرب وأقطع، قد يكون لكون المناظر لهم لا يسلم صحة الطرق القريبة الواضحة القطعية، إما عناداً منه، وإما لشبهة عرضت له افسدت عقله وفطرته، مثلما يعرض كثيراً لهؤلاء، فيحتاج مع من يكون كذلك إلى أن يعدل معه إلى طريق طويلة دقيقة يسلم مقدماتها مقدمةً مقدمة، إلى أن تلزمه النتيجة بغير اختياره، وإن كانت المقدمات التي مانعها أبين وأقطع من المقدمات التي سلمها، لكن هذا يحتاج إليه كثيراً في مخاطبة الخلق، فكم من شخص لا يقبل شهادة العدول الذين لا يشك في صدقهم، ويقبل شهادة من هو دونهم: إما لجهله، وإما لظلمه.
وكذلك كم من الخلق من يرد أخباراً متواترة مستفيضة، ويقبل خبر من يحسن به الظن، لاعتقاده أنه لا يكذب، وكم من الناس من يرد ما يعلم بالدلائل السمعية والعقلية، ويقبله إذا رآى مناماً يدل على ثبوته، أو قاله من يحسن به الظن لثقة نفسه بهذا أكثر من هذا، وكم ممن يرد نصوص الكتاب والسنة حتى يقول ما يوافقها شيخه أو إمامه فيقبلها حينئذ، لكون نفسه اعتادت قبول ما يقوله ذلك المعظم عنده، ولم يعتد تلقي العلم من الكتاب والسنة، ومثل هذا كثير.
فكذلك كثير من الناس قد يألف نوعاً من النظر والاستدلال، فإذا أتاه العلم على ذلك الوجه قبله، وإذا أتاه على غير ذلك الوجه، لم
يقبله، وإن كان الوجه الثاني أصح وأقرب، كمن تعود أن يحج من طريق بعيدة معطشة مخوفة، وهناك طرق أقرب منها آمنة وفيها الماء، لكن لما لم يعتدها نفرت نفسه عن سلوكها.
وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء، قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة، ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس، أحب إليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور.
ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب، والملابس والعادات، لما في النفوس من حب الرياسة.
فهذه الطرق الطويلة الغامضة التي تتضمن تقسيمات، أو تلازمات، أو إدراج جزيئات تحت كليات، قد ينتفع بها من هذا الوجه في حق طائفة من الناظرين والمناظرين، وإن كان غير هؤلاء، من أهل الفطر السليمة والأذهان المستقيمة، لا يحتاج إليها، بل إذا ذكرت عنده مجها سمعه، ونفر عنها عقله، ورأى المطلوب أقرب وأيسر من أن يحتاج إلى هذا، فإن علم العقول بافتقار المحدث إلى محدث، أبين
وأظهر من علم العقول بأن تخصيص أحد المثلين بشيء دون الآخر يحتاج إلى مخصص، ومن تصور هاتين القضيتين حق التصور، لم يمكنه - مع الشك في الأولى - أن يجزم بالثانية، بل قد لا يتصور إحداهما حق التصور.
ألا ترى أنه إذا قيل لمن صدق بالثانية: لم قلت: إن التقديم والتأخير لا بد له من مقدم ومؤخر؟ رجع إلى فطرته السليمة وحكم بذلك، وغايته أن يقول: الأشياء المتساوية لا يترجح بعضها على بعض إلا بمرجح.
فلو قال قائل: لما قلت ذلك؟ ولم لا يجوز أن يترجح هذا على هذا إلا بمرجح أصلاً؟ ويختص بما اختص به لا لمخصص أصلاً؟ لكان إنكاره لقول هذا القائل، دون إنكاره لقول من قال: لم قلت: إن هذه الحوادث لا تحدث إلا بمحدث؟
وهذا التأليفات والتركيبات الحادثة كانت، بعد أن لم تكن، لا بمؤلف ولا مركب، فإن ترجيح أحد المتساويين الحادثين على الآخر بلا مرجح، هو نوع من حدوث الحادث بلا محدث، فإن سوغ العقل حدوث حادث بلا محدث، سوغ ان يحدث أحد المثلين دون الآخر، بلا مخصص لحدوثه.
وهل تخصيص أحد الحادثين بوقت دون وقت، أو شكل دون شكل، أو وصف دون وصف، إلا نوع من حدوث حادث؟ فإن الصفات والأشكال حوادث، والتقدم والتأخر إضافة للحوادث إلى وقتها، فهو صفة في الحدوث، كإضافة الحادث إلى مكانه، وكل ذلك مما يعلم بصريح العقل وفطرته السليمة، أنه لا بد له من محدث، مخصص، فاعل، مؤلف، سواه.
ولهذا لم يحتج الأشعري إلى أن يقيم على ذلك دليلاً، كما فعله القاضي أبو بكر وأتباعه، إلا أن يكون في موضع آخر فعل كما فعلوا، ولعله إن فعل ذلك لأجل عناد المناظرين أو جهلهم، فسلك بهم الطريق البعيدة لما لم يسلكوا الطريق القريبة، لا لأنه عنده يحتاج إلى الطريق البعيدة.
ولهذا لا توجد هذه الطريق البعيدة في كلام أحد من السلف والأئمة، ولا ذكرت في القرآن، فإنها من باب تضييع الزمان، وإتعاب الحيوان في غير فائدة.
والقرآن لا يذكر فيه مخاطبة كل مبطل بكل طريق، ولا ذكر كل ما يخطر بالبال من الشبهات وجوابها، فإن هذا لا نهاية له ولا ينضبط، وإنما يذكر الحق والأدلة الموصلة إليه لذوي الفطر السليمة، ثم إذا اتفق معاند أو جاهل، كان من يخاطبه
من المسلمين، مخاطباً له بحسب ما تقتضيه المصلحة، كما يحتاج إلى الترجمة أحياناً وكما قد يستدل على أهل الكتاب بما يوجد عندهم من التوراة والإنجيل.
ففي الجملة: الطرق التي تختص بطائفة طائفة، مع طولها وثقلها على جمهور الخلق، لا تكون في مثل الكتاب العزيز، الذي جعله الله شفاءً ورحمةً، ودعا به الخلق جميعهم ليخرجهم به من الظلمات إلى النور، فإن مثل هذا الكتاب العزيز لا يليق أن يذكر فيه من الطرق ما يثقل على جمهور الخلق ويستركونه ويعدونه لكنةً وعياً لا يحتاج إليه، ويرونه من باب إيضاح الواضحات، كما لو ذكر فيه الرد على السوفساطئية ببيان أن الشمس موجودة، والقمر موجود، والبحار موجودة، والجبال موجودة، والكواكب موجودة، وأن الإنسان يعلم هذا بالمشاهدة - ونحو ذلك - لكن هذا مما يستقبح ذكره، ويستثقله ويستركه جمهور العقلاء، لأن هذا عندهم أمر معلوم، مستقر في عقولهم، لا يحتاجون فيه إلى خطاب عالم من العلماء، فضلاً عن كتاب منزل من السماء.
وإذا قدر أن بعض الناس احتاج إلى إزالة ما عرض له من هذه الشبه السوفسطائية، كان هذا من الأمراض النادرة التي لا تعرض لجمهور العقلاء، وعلاج هذا لا يحتاج إلى كتاب منزل من السماء يقصد به هدى الخلق، وبيان ما يحتاجون إليه في صلاح أمورهم.
ولو ذكر في القرآن مثل هذا، لم يكن لما يذكر من ذلك غاية، لأن الخواطر الفاسدة لا نهاية لها ولا ضابط، فكان يضيع زمان الناس في القراءة والسماع لما لا ينتفع به جماهيرهم، ويشتغلون بذلك عما لا بد لهم منه، ولا يصلح أمرهم إلا به.
ونحن لم يكن بنا حاجة - في الإيمان بالله ورسوله - إلى مثل هذه الطرق، وإنما ذكرناها لما كان الذين سلكوها يعارضون كلام الله ورسوله بمقتضاها، يزعمون أنه قد قامت عندهم أدلة عقلية تناقض ما جاءت به الرسل، فكشفنا حقائق هذه الطرق التي يعرضون بها، لنبين أن ما عارض النصوص منها لا يكون إلا باطلاً، وما لم يعارض النصوص: فقد يكون حقاً، وقد يكون باطلاً، وماكان حقاً ولم يعارض النصوص، فقد لا يحتاج إليه، بل في الطرق العقلية التي دلت النصوص عليها وهدت إليها ما يغني عن ذلك، بل تلك الطرق
أقوى وأقرب وأنفع، فإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.
وقد قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} ، والصراط المستقيم هو أقرب الطرق إلى المطلوب، بخلاف الطرق المنحرفة الزائفة، فإنها إما أن لا توصل، وإما أن توصل بعد تعب عظيم، وتضييع مصالح أخر، فالطرق المبتدعة إن عارضت كانت باطلاً، وإن لم تعارض، فقد تكون باطلاً، وقد تكون حقاً لا يحتاج إليه مع سلامة الفطرة.
ولهذا كل من كان إلى طريق الرسالة والسلف أقرب، كان إلى موافقة صريح المعقول وصحيح المنقول أقرب.
فـ القاضي أبو بكر، وإن كان أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول في أصول الدين - بخلاف أصول الفقه - من أبي المعالي، وأتباعه، والأشعري أقرب إلى ذلك من القاضي أبي بكر، وأبو محمد بن كلاب أقرب إلى ذلك من أبي الحسن، والسلف والأئمة أقرب إلى ذلك من ابن كلاب، فكل من كان إلى الرسول أقرب كان أولى بصريح المعقول وصحيح المنقول، لأن كلام المعصوم هو الحق الذي لا باطل فيه، وهو المبلغ عن الله كلامه، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
ومما يبين ذلك أن ما ذكره القاضي أبو بكر من الطريقين البعيدين اقربهما مبني على أن دلالة الصنعة على الصانع، كدلالة الصانع على الصنعة، وهذا إنما يدل من جهة الاشتقاق اللفظي كما تقدم.
ومن المعلوم أن من شاهد الحوادث قبل أن يعلم أن لها صانعاً، لا يعلم أنها صنعة ولا مفعولة لفاعل، حتى يتضمن علمه بأحدهما علمه بالآخر، فإن لم يعلم أن الحادث لا بد له من محدث، لم يعلم أنها مفعولة ولا مصنوعة، فضلاً عن أن يعلم أن لها صانعاً فاعلاً وإذا علم أنها مصنوعة مفعولة، امتنع مع ذلك أن لا يعلم أن لها صانعاً فاعلاً.
يوضح ذلك أن علم الناس بأن الصنعة مفتقرة إلى الصانع، ليس بدون علمهم بأن الصانع لا بد له من صنعة، بل علمهم بالأول قد يكون أقوى من الثاني، وذلك لأنه أراد بكلامه أن الصانع لا يكون صانعاً الإبصنعة، والفاعل لا يكون فاعلاً إلا بفعل، وهذا صحيح.
ولكن ليس هذا بأبين من كون المصنوع لا يكون مصنوعاً إلا بصانع، والمفعول لا يكون مفعولاً إلا بفاعل، والفعل لا يكون فعلاً إلا بفاعل، والصنعة لا تكون صنعة إلا بصانع، بل إذا رأوا الحادث علموا بعقولهم أنه لا بد له من فاعل أحدثه، وقد يرون ما يصلح أن يكون فاعلاً، ولا يعلمون: هل فعل شيئاً أو لم يفعله؟ فكان فيما ذكره بيان الأبين الأظهر بالأخفى، وهم يمنعون من تحديد الأظهر بالأخفة.
وقد قلنا: إن مثل هذا قد يستعمل مع جهل المخاطب أو عناده ونحو ذلك.
وأما الطريق الثانية التي جعلها القاضي أبو بكر معتمدة، فهي مع طولها يمكن تقريرها بمقدمات صحيحة، لكنه أدخل في بعض مقدماتها تماثل الجواهر وتناهي الحوادث.
ومعلوم لكل مؤمن عاقل أن الإقرار بالصانع لا يفتقر إلى هذا وهذا، بل وعلم الخلق بأن الحادث لا بد له من محدث، لا يفتقر لا إلى هذا ولا إلى هذا، وهو ذكر هاتين المقدمتين مع غيرهما، وفيما ذكره من غيرهما غنية عنهما، فإن تماثيل الأعراض كأجزاء السواد يغنيه عن تماثل الجواهر.
وما ذكره من الوجه الأول في امتناع التقدم لعلة يغنيه عن الوجه الثاني، المبني على تناهي الحوادث.
ثم مما ينبغي أن يعرف أن الذين سلكوا الطرق المبتدعة في إثبات الصانع وتصديق رسله، إذا اعتقدوا أنه لا طريق إلا ذلك الطريق، جعلوا من خالفهم في صحة تلك الطريق ملحداً أو دهرياً أو نحو ذلك، وهذا يذكرونه في مواضع.
منها: أنهم لما اعتقدوا أن إثبات الصانع تعالى موقوف على إثبات