الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عالم باستغنائه عنه، ولا يعرف غناه إلا بعد أن يعلم بأنه غير جسم، ولا يعرف أنه غير جسم إلا إذا عرف أنه قديم، ولا يعلم أنه قديم، ولا يعلم أنه عالم بكل قبيح إلا إذا علم أنه عالم بكل شيء، ولا يعلم ذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته، ولا يعلم أنه يثبت ويعاقب إلا إذا علم أنه قادر حي، ولا نعرف موصوفاً بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته، وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة، ولا معروفة باضطرار، ولا طريق إليها إلا أفعاله) .
قال: (فيجب أن يتكلم في هذه الأشياء ليعلم صحة ما جاءت به الرسل) .
ثم إنه تكلم في حدوث الأجسام، وبنى الأمر في ذلك على أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث، وبنى ذلك على أنه إذا كان كل من الحوادث له أول، استحال أن لا يكون له أول، لأنها ليست سوى آحادها، كما يستحيل أن يكون كل واحد من الزنج أسود، ولا يكونوا كلهم سوداً.
تعليق ابن تيمية
فقد جعل الدين كله مبنياً على هذا الترتيب، المبني على هذه المقدمة، التي ينازعه فيها جمهور العقلاء من أهل الملل وغيرهم.
وهذا هي أصول الدين عندهم، وهذا مما يخالفهم فيه جماهير المسلمين، بل جمهور عقلاء العالمين، بل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن
الرسول لم يوجب هذه الطريق ولا دعا إليها، ولا كان إيمان السابقين الأولين موقوفاً عليها.
وعامة ما ذكره من الترتيب ممنوع.
فقوله: لا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات ينازعه فيه طوائف كثيرون، بل أكثر الناس.
وقوله: (لا تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح) ينازعه فيه أيضاً طوائف كثيرون.
وقوله: (لا يعلم غناه إلا إذا علم أنه ليس بجسم) ينازعه فيه أيضاً طوائف كثيرون.
وكذلك ما ذكره من قوله: (ولا يعلم ذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته) ومراده نفي الصفات، والقول: بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، ونحو ذلك مما ينازعه فيه طوائف كثيرون.
وقوله: (إنما يعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معرفة باضطرار) ينازعه فيه طوائف آخرون.
فهذا ترتيب المعتزلة للعلم بالله ورسله.
ولغيرهم من طوائف المتكلمين ترتيب آخر، وفيه من الممانعات والمعارضات من جنس ما في ترتيب هؤلاء.
ونظير هذه التراتيب التي أحدثها أهل الكلام، وادعوا أنه لا يحصل العلم إلا بها، تراتيب ذكرها طوائف من الصوفية المصنفين في أحوال القلوب وأعمالها، لما تكلموا في المقامات والمنازل وترتيبها.
فهذا يذكر عدداً من المنازل والمقامات وترتيباً.
وهذا يذكر عدداً آخر وترتيباً.
ويقول هذا: إن العبد لا ينتقل إلى مقام كذا، حتى يحصل له كذا، وأنه ينتقل إلى كذا بعد كذا، ويقول هذا: عدد المنازل مائة، ويقول الآخر عددها أكثر، وأقل.
ثم هذا يقسم المنازل أقساماً يجعلها الآخر كلها قسماً.
ويذكر هذا أسماء وأحوالاً لا يذكرها الآخر.
وغاية الواحد من هؤلاء أن يكون ما ذكره وصف حاله وحال أمثاله وسلوكهم وترتيب منازلهم، فإذا كان ما قالوه حقاً، فغايته أن يكون وصف سلوك طائفة معينة.
أما كون جميع أولياء الله تعالى لا يسلكون إلا على هذا الوجه المرتب، وهذه الانتقالات، فهذا باطل.
وكذلك أيضاً نظير هذا ما يذكره من المتفلسفة وأهل المنطق في ترتيب العلم وأسباب حصوله، وما يذكرونه، من الحدود والأقيسة، والانتقالات الذهنية، فغاية كلامهم - إذ كان صحيحاً - أن يكون ذلك وصفاً لما تسلكه طائفة معينة.
أما كون جميع بني آدم لا يحصل لهم العلم بمطالبهم إلا بهذه الطرق المعينة، فهذا كلام
باطل.
فحصر هؤلاء لمطلق العلم في ترتيب معين، وحصر هؤلاء العلم بالله وبصدق رسله في ترتيب معين، وحصر هؤلاء للوصول إلى الله في ترتيب معين، كل هذا مع كونه في نفسه مشتملاً على حق وباطل، فالحق منه لا يوجب الحصر، ولكن هو وصف قوم معينين، وطرق العلم والأحوال وأسباب ذلك وترتيبه أوسع من أن تحصر في بعض هذه الطرائق.
ولهذا كانت الرسل صلوات الله عليهم وسلامه يأمرون بالغايات المطلوبة من الإيمان بالله ورسوله وتقواه، ويذكرون من طرق ذلك وأسبابه ما أقوى وأنفع.
وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس، يأمرون بالبدايات والأوائل، ويذكرون من ذلك ما هو أضعف وأضر.
فمتبع الأنبياء لا يضل ولا يشقى، ومتبع هؤلاء ضال شقي.
إذ كانت قضايا هؤلاء فيها من الباطل الذي هو كذب وإفك، وإن لم يعلم صاحبه أنه كذب وإفك، بل يظنه صدقاً، ما لا يحصيه إلا الله.
وإذا كان الناس يتنوعون في الوجوب وترتيب الواجبات، ويتنوعون في الحصول وترتيب الحاصلات، لم يمكن أن يجعل ما يخص بعضهم شاملاً لجميعهم، وكثير من الغلط في هذا الباب إنما دخل من هذا الوجه: يصف أحدهم طريق طائفة، ثم يجعله عاماً كلياً، ومن لم يسلكه كان ضالاً عنده، ثم ذلك الطريق إما أن يكون خطأ وإما أن
يكون صواباً.
ولكن ثم طرق أخرى غير ذلك الطريق، فيجيء من سلك غير ذلك الطريق: يبطله بالكلية، ويرد ما فيه من الصواب.
وقد تكلمنا على مسألة تحسين العقل وتقبيحه في غير هذا الموضع، وفصلنا القول فيها.
وبينا منشأ الغلط، فإن الطائفتين اتفقوا على أن الحسن والقبح باعتبار الملائمة والمنافرة قد يعلم بالعقل.
والملائمة تتضمن حصول المحبوب المطلوب المفروح به، والمنافرة تتضمن حصول المكروه المحذور المتأذى به.
وهذا الذي اتفقوا عليه حق، لكن توهموا بعد هذا أن الحسن والقبح الشرعي خارج عن ذلك، وليس الأمر كذلك، بل هو في الحقيقة يعود إلى ذلك.
لكن الشارع عرف بالموجود، وأثبت المفقود.
فتحسينه: إما كشف وبيان، وإما إثبات لأمور في الأفعال والأعيان.
وعلى قول من يجعل الأحكام صفات ثابتة للأفعال وللأعيان فالتحسين الشرعي يتضمن أن الحسن ما حصل به الحمد والثواب، والقبح ما حصل به الذم والعقاب، ومعلوم أن الحمد والثواب ملائم للإنسان، والذم والعقاب مناف للإنسان.
وكذلك توهم من توهم من الطائفتين أن إثبات ذلك في حق الله تعالى ممتنع، لكون هؤلاء المتوهمين لم يفرقوا بين الإرادة، والمحبة،
والرضا، بل جعلوا كل مراد محبوباً مرضياً.
ثم قال هؤلاء: الكفر والفسوق والعصيان ليس محبوباً باتفاق المسلمين، فلا يكون مراداً، فيكون وقوع ذلك بدون إرادته، فيكون في ملكه ما لا يريده، فيكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون.
وقال هؤلاء بل هو مريد لكل حادث، فإنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
والكفر والفسوق والعصيان.
مراد له فيكون محبوباً مرضياً، فيكون محباً راضياً، فيكون محباً راضياً بالكفر والفسوق والعصيان، فهؤلاء سووا بين المأمور والمحظور في أن الجميع محبوب مرضي فلزمهم تعطيل الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وإن لم يلتزموه.
وأولئك قالوا: يكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، فلزمهم أن يكون عاجزاً مغلوباً، وإن كانوا لا يكرمون عجزه.
فهؤلاء لم يجعلوا لله الملك، وأولئك لم يجعلوا الحمد، والله تعالى له الملك وله الحمد.
هؤلاء أرادوا إثبات إلهيته، وأنه معبود محمود حكيم عادل، فقصروا في ذلك، ونقصوه موجب ربوبيته، وقدرته ومشيئته.
وهؤلاء أثبتوا موجب ربوبيته، وقدرته ومشيئته، لكنهم نقصوا موجب إلهيته وحكمته، ورحمته وحمده.
وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا التنبيه على منشأ النزاع في الوجوب، كما نبهنا على النزاع في ترتيب الوجوب.
وأما الحصول فكثير من الناس يقول: المعرفة لا تحصل إلا بالعقل، وقد يسرف هؤلاء حتى لا يثبتوا أشياء من صفات الله تعالى، لا نفياً ولا إثباتاً إلا بالعقل.
وصرح هؤلاء بأنه لا يستدل بنصوص الرسل على شيء من صفات الله تعالى، لا إثباتاً ولا نفياً.
كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن اتبعهم من متأخري الأشعرية، ويجعلون أصول الدين هي: العقليات المحضة التي لا تعلم بالسمع.
ثم قد يعينون من الطرق العقلية ما هو باطل عقلاً وشرعاً كطريقة الأعراض، وطريقة التركيب وطريقة الاختصاص.
وإلى هذه الثلاث تعود جميع أصول النفاة.
ويقابلهم آخرون فيقولون: المعرفة لا تحصل إلا بالسمع، ولا تحصل بالعقل.
وربما قالوا: إنه لا يمكن حصولها بالعقل.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة العقلية والسمعية متلازمة، كل منهم مستلزم صحة الآخر.
فالأدلة العقلية تستلزم صدق الرسل فيما أخبروا به، والأدلة السمعية فيها بيان الأداة العقلية التي بها يعرف الله، وتوحيده، وصفاته، وصدق أنبيائه.
ولكن من الناس من ظن أن السمعيات ليس فيها عقلي.
والعقليات