الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: (فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هواك) .
تعليق ابن تيمية
هذا جملة كلامه، فهذا الكلام قد ذكر فيه قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام، وقوله وقول أمثاله من الفلاسفة، وذكر حجة المعتزلة المعروفة عندهم، وهو دليل الأعراض المبني على إبطال حوادث لا تتناهى، وذكر حجته في أن تخصيص حال دون حال بالفعل لا بد له من مخصص، فإذا كانت الأحوال متساوية لزم انتفاء المخصص، فينتفي التخصيص، فينتفي ما ذكروه من الحدوث.
وهذه الحجة مادتها من كلام المعتزلة الصحيح، حيث أخذ عنهم أن التخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص.
وهم بنوا على ذلك إثبات الصانع، هو على ذلك بنى إثبات واجب الوجود، لكن نقل ذلك إلى الممكن الذي ليس له من نفس وجود، فتخصيصه بالوجود دون العدم، وبالعدم دون الوجود، كتخصيص الحدوث بوقت دون وقت.
وقد عرف أن هذا الكلام مادته من كلام المعتزلة والفلاسفة
جميعاً، وأن الصواب الذي فيه - وهو امتناع تخصيص المحدث أو الممكن بلا مخصص - هو من كلام المعتزلة الذي وافقهم عليه، والخطأ الذي فيه بعضه منهم وأكثره منه، فإنه ألزم المعتزلة بطرد هذا الأصل، فلما لم يطردوه نقض قولهم.
وحينئذ فيقال له: بطلان قول المعتزلة لا يستلزم صحة قولك، إلا لو لم يمكن قول إلا وقولك وقولهم.
فكيف وأقاويل أئمة الفلاسفة ليست من القولين؟ وكذلك الأقوال التي عليها أئمة السنة والحديث ليست من القولين؟.
والأقوال الموجودة في الكتب الإلهية: التوراة والقرآن اللذين لم يأت من عند الله تعالى كتاب أهدى منهما ليست واحداً من القولين، فإذا قدر بطلان قول معين لم يلزم صحة قولك، فكيف إذا كان ما أفسدت به قول المعتزلة يبطل أيضاً قولك؟ فقولك أفسد من قولهم إن كان قولهم فاسداً، وكذلك إن كان صحيحاً، فهو فاسد على كل تقدير.
وذلك أن عمدتك على بدلان قولهم أنه يمتنع أن يختص وقت دون وقت بالحدوث بل سبب مخصص حادث.
فيقال لك: وأنت تقول: إن الحوادث كلها تحدث بلا سبب حادث.
وعلى قولك فكل حادث حادث في وقت من الأوقات، فإن ذلك الوقت اختص بالحدوث بلا سبب مخصص حادث، فألزمهم اختصاص وقت من الأوقات بالحدوث دون سائر الأوقات بلا مخصص.
وأنت يلزمك اختصاص كل وقت بما يحدث فيه من الحوادث بلا سبب مخصص، واختصاص كل حادث بصفته وقدره بلا سبب مخصص، واختصاص كل حادث بوقته بلا سبب مخصص، وحدوث جميع الحوادث بلا سبب مقتض للحوادث، فهم إن كان ما التزموه باطلاً فقد التزمت أضعافه، فيكون قولك أفسد.
وإن لم يكن باطلاً بطلت حجتك على إبطال قولهم، فتبين أن إبطالك لقولهم، مع اعتقادك لما تعتقده، باطل على كل تقدير، وعلم أن الأصول الصحيحة التي وافقتهم عليها، هي بطلان قولك أدل منها على بطلان قولهم، والأصول الفاسدة التي وافقوك عليها، إذا كانوا قد تناقضوا فيه ولم يطردوها، فأنت أعظم تناقضاً في عدم طردك لأصولك مطلقاً: صحيحها وفاسدها.
وبيان ذلك أنه قد قال: يجب أن يكون الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كوناً أزلياً، ومايلزم من ذلك لزوماً ذاتياً وإلا ما يلزم من اختلافات يلزم عندها فيتبعها التغيير يعني حركة الفلك وما يتبعها من التغيير.
فيقال له: إذا لم يكن مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كوناً أزلياً، واللازمة من ذلك لزوماً ذاتياً، كما يقوله في لزوم الفلك عنه، وما يقدره علة للفلك من العقول أوغيرها، فاللازم لهذه اللوازم: إما أن يكون لازماً لها لا ينفك عنها في وقت من الأوقات، أو لازماً لها في حال دون حال.
فإن كان لازماً لها في كل الأوقات، وجب أن لا يحدث شيء، وأن لا يكون تغير أصلاً.
وإن كان لازماً لها في وقت دون وقت، فقد اختلف نسبة لوازمه إلى الأوقات، والأمور الحادثة في الأوقات، حيث حدث عن لوازمه في هذا الوقت ما لم يحدث في هذا الوقت، وإذا اختلفت نسبة اللوازم إلى الأوقات والحودث، لزم أن تختلف نسبته إلى الأوقات والحوادث، لأن الأمور الكائنة عنه كوناً أزلياً، وما يلزمها لزوماً ذاتياً، نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث كنسبته، لأنه لو كانت نسبتها إلى الأوقات والحوادث تخالف نسبته، لكانت حالها في بعض الأوقات والحوادث مخالفاً لحاله، ولكانت مختصة في بعض الأوقات بمعنى منتف في أوقات أخر.
وذلك تخصيص لبعض الأوقات دون وقت آخر بحدوث حادث فيه،
فإن جاز تخصيص وقت دون وقت بحدوث من غير سبب حادث، بطل أصل الكلام.
وإن لم يجز ذلك، لزم أن يكون اختصاص لوازمه بحدوث حادث فيها أو منها بوقت دون وقت، إنما كان لاختصاصه هو بحدوث حادث فيه أو منه لوقت دون وقت، وإلا لم تكن تلك اللوازم لوازم له.
فلا بد من أحد أمرين:
إما أن تكون الأمور اللازمة له ليست لازمة، فتكون الحوادث حدثت عنه ابتداء بدون وسائط، وهذا أشد إبطالاً لقولهم.
وإما أن تكون تلك الأمور اللازمة له لا تخصص في وقت دون وقت بحدوث حادث فيها أو منها، إلا لتخصيص لها بذلك، إذ لو اختصت دون تخصيصه، للزم الحدوث بلا محدث، وهو ممتنع.
ومتى كان تخصيص اللوازم لحدوث حادث فيها أو منها إنما هو لتخصيصها لها بذلك، كانت نسبته إلى الأوقات والحوادث نسبة مختلفة كنسبة اللوازم.
وهذا أمر لا محيد لهم عنه، هو يبين بطلان قولهم بياناً ضرورياً لمن فهمه.
إذ أصل قولهم حدوث التغير عما لا يتغير.
وهذا يناقض ما قالوه.
فهم بين أمرين: إن جوزوا حدوث متغير عن غير متغير، لم يمكنهم
إبطال قول المعتزلة ونحوهم، الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث من غير حدوث سبب، بل بمجرد القدرة، أو القدرة والإرادة التي لم تزل ولا تزال على حال واحدة.
وإن لم يجوزوا حدوث متغير عن غير متغير، بطل قوهم كله.
فإن الفلك متغير مختلف هو في نفسه، مختلف القدر والصفات، وهو متغير عندهم بما يحدث فيه من الحركات.
وهذا التغير صادر عما لا يتغير عندهم، سواء قالوا: هو صدر عن العقل الذي لا يتغير، كما يقوله ابن سينا وأمثاله، أو صادر عن الواجب بنفسه الذي لا يتغير، كما يقوله ابن رشد وأمثاله، أو صادر عن الواجب بتوسط العقل، كما يقوله النصير الطوسي وأمثاله، أو مهما قالوه من جنس هذه المقالات فلا بد على كل تقدير أن يلزمهم حدوث متغير عن غير متغير.
وحينئذ فبطلت حجتهم على المعتزلة، وكانوا أكثر التزاماً للباطل الذي قرروا أنه باطل، وأبطلوا به قول المعتزلة.
وذلك أنهم يجعلون جنس الحركات والحوادث كلها حدثت بلا محدث أصلاً، لأن العلة القديمة الأزلية لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها ولوازمها، فكل ما تأخر عنها فليس من موجبها: لا بوسط ولا بغير وسط.
وتلك الحوادث لم تحدث
عن واجب آخر بالاتفاق والضرورة، فيلزم أن لا يكون للحوادث كلها محدث، وأن لا يكون الرب تعالى محدثاً لشيء من الحوادث.
وفي هذا من تعطيل الصنع عن الصانع وتعطيل الصانع عن الصنع، ما هو أعظم من كل قول قاله غيرهم، فإنهم يشنعونه على المعتزلة ونحوهم: بأنكم إذا قلتم بحدوث العالم عطلتم الصانع في أزلة عن الصنع.
فقال لهم: أنتم عطلتم الصانع دائماً عن صنع شيء من الحوادث، على ما هوبين ظاهر لكل من تدبر هذا، فقد عطلتموه عن أن يحدث شيئاً من الخير والإحسان أزلاً وأبداً.
وأما صنعه اللوازم وجوده، فهذا أنتم منازعون فيه، وقد بين غير واحد بطلان قولكم فيه.
وحينئذ فتكونون قد عطلتموه عن كل فعل وصنع وإفاضة وإيجاب واقتضاء أزلاً وأبداً.
وأما تعطيل الصنعة عن الصانع، فهذا ليس قولاً معروفاً لطائفة معروفة، بل الأمم المعروفون متفقون على أن الصنعة لا بد لها من صانع.
وهذا ضروري في العقل.
وعلى قولكم: الحوادث دائماً تحدث، وليس لها صانع، فإن العلة التامة في الأزل لا يحدث عنها شيء أصلاً.
وأيضاً فإن الحوادث مختلفة في
صفاتها ومقاديرها.
كما أن الفلك مختلف في صفته وقدرة.
والواحد البسيط من كل جهة يمتنع أن يصدر عنه ما هو مختلف في صفاته وأقداره، وإن جاز ذلك بطل قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
وإذا بطل هذا القول بطل قولهم في صدور العالم عنه، سواء كان صادراً عنه بوسائط لازمة له بسيطة كالعقول، أو بغير وسائط أو بوسائط مختلفة، فكيف ما قدروه، فلا بد لهم من لوازم أجسام مختلفة في القدر والصفات عن واحد بسيط لا صفة له ولا فعل فيه.
وأيضاً فما زمان من الأزمنة إلا وتحدث فيه حوادث مختلفة، وقد يختص بعض الأزمنة بحوادث ليست من جنس حوادث بقية الأزمنة، كحادث الطوفان وأمثاله، بل إرسال موسى عليه السلام، وما تبع رسالته من الحوادث، وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم وما تبع رسالته من الحوادث، وأمثال ذلك، هي من الحوادث المختصة بزمان دون زمان، فإذا كان لا سبب للحوادث إلا ذات نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء، ولوازمها التي نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء، وقد قالوا لأجل هذا: يمتنع تخصيص زمان دون زمان بحدوث العالم، وقالوا: العالم قديم لذلك، ففي هذا القول من تخصيص بعض الأزمنة بحادث دون حادث، ما في ذلك القول وزيادات، فإن المعتزلة يقولون: التخصيص إنما وقع