الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقولون: إنه لا يقدر: لا الله ولا أحد من مخلوقاته، على أن يجعلهما يهوديين أو نصرانيين أو مجوسيين، بل هما فعلا بأنفسهما ذلك، بلا قدرة من غيرهما ولا فعل من غيرهما، فحينئذ لا حجة لكم في قوله:«فأبواه يهودانه»
…
وأهل السنة متفقون على أن غير الله لا يقدر على جعل الهدى أو الضلال في قلب أحد.
فقد اتفقت الأمة على أن المراد بذلك: دعوة الأبوين لهما إلى ذلك، وترغيبهما فيه، وتربيتهما عليه، ونحو ذلك مما يفعل المعلم والمربي مع من يعلمه ويربيه، وذكر الأبوين بناءً على الغالب، إذ لكل طفل أبوان، وإلا فقد يقع ذلك من أحد الأبوين، وقد يقع من غير الأبوين حقيقةً وحكماً.
عود إلى كلام ابن عبد البر وتعليق ابن تيمية عليه
وأما غير القدرية فقال أبو عمر بن عبد البر: اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافاً كثيراً، وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة، فذكر ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في غريبه المشهور، قال: قال ابن المبارك: يفسره آخر الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» .
قال ابن عبد البر: هكذا ذكر عن ابن المبارك، لم يزد شيئاً.
وذكر عن محمد بن الحسن أنه سأله عن تأويل هذا الحديث فقال: (كان هذا القول عن صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد) .
هذا ما ذكره أبو عبيد.
قال ابن عبد البر: (أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحوه، وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح موعب في أمر الأطفال، ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان، أو جنة أو نار ما لم يبلغوا العمل) .
قال: (وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن، فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه: إما لإشكاله عليه، أو لجهلة به، أولما شاء الله.
وأما قوله: إن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد، فلا أدري ما هذا.
فإن كان أراد أن ذلك
منسوخ، فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في إخبار الله تعالى وأخبار رسوله، لأن المخبر بشيء، كان أو يكون، إذا رجع عن ذلك، لم يخل رجوعه عن تكذيبه لنفسه، أو غلطة فيما أخبر به، أو نسيانه.
وقد جل الله وعصم رسوله في الشريعة والرسالة منه.
وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد له أدنى فهم، فقف عليه، فإنه أمر جسيم من أصول الدين.
وقول محمد بن الحسن: إن ذلك كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ليس كما قال، لأن في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد) .
وروي بإسناده (عن الحسن، عن الأسود بن سريع، قال:«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان؟ فقال رجل: أو ليس إنما هو أولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟ إنه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة حتى يبلغ فيعبر عنه ليسانه، ويهوده أبواه أو ينصرانه» .
قال: وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة، منهم بكر المزني، والعلاء بن زياد، والسري بن يحيى.
وقد روي عن الأحنف عن الأسود بن سريع، قال: وهو حديث بصري صحيح.
قال: وروى عوف الأعرابي عن سمرة بن جندب، «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل مولود يولد على الفطرة.
فناداه الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين» .
قلت: أما ما ذكره عن ابن المبارك ومالك، فيمكن أن يقال: إن المقصود أن آخر الحديث يبين أن الأولاد قد سبق في علم الله ما يعملون إذا بلغوا، وأن منهم من يؤمن فيدخل الجنة، ومنهم من يكفر فيدخل النار.
فلا يحتج بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة) .
على نفي القدر كما احتجت به القدرية، ولا على أن أطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة، فيكون مقصود الأئمة أن يستقر الأطفال على ما في آخر الحديث.
وأما قوله محمد، فإنه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع أبوية في الدين في أحكام الدنيا، فيحكم له بحكم الكفر في
أنه لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه المسلمون، ويجوز استرقاقهم، ونحو ذلك - فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين حتى تعرب عنهم ألسنتهم، وهذا حق.
لكن ظن أن الحديث اقتضى أن يحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين، فقال: هذا منسوخ، كان قبل الجهاد، لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء والأطفال، والمؤمن لا يسترق، ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية، أمر ما زال مشروعاً، وما زال الأطفال تبعاً لأبويهم في الأمور الدنيوية.
والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام، وإنما قصد ما ولد عليه من الفطرة.
وإذا قيل: إنه ولد على فطرة الإسلام، أو خلق حنيفاً ونحو ذلك.
فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده.
فإن الله تعالى يقول: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} ، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، لمعرفته ومحبته.
فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئاً بعد شيء، بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت عن المعارض.
وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الإغذية والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه.
وهذا من قوله تعالى: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} ، وقوله:{الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى} ، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتدياً إلى طلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئاً فشيئاً بحسب حاجته.
ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة.
قال ابن عبد البر: (وأما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث، وما كان مثله، فقالت فرقة: الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال: (كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة) يريد خلقةً مخالفة لخلقة البهائم، التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك) .
قالوا: (لأن الفاطر هو الخالق) .
قال: (وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر أو معرفة أو إنكار) .
قلت: صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها، فهذا ضعيف.
فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفاً، ولا أن يكون على الملة، ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبوية لفطرته، حتى يسأل عمن مات صغيراً.
ولأن القدرة هي في الكبير أكمل منها في الصغير.
وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان، فقالوا: إنهم أولاد المشركين.
قال: أليس خياركم أولدا المشركين؟ ما من مولود إلا يولد على الفطرة.
ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك، مع كونهم مشركين، مستوجبين للقتل.
وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها، فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور، فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان.
قال: (وقال آخرون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» ، يعني البدأة التي ابتدأهم عليها، يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت، والسعادة والشقاوة، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم اعتقادهم) .
(قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة.
والفاطر المبدىء والمبتدىء، فكأنه قال: صلى الله عليه وسلم: يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاوة والسعادة، وغير ذلك مما يصير إليه وقد فطره عليه.
واحتجوا بقوله تعالى: {كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} .
وروي بإسناده إلى (ابن عباس قال: لم أدر ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا
فطرتها، أي ابتدأئتها) .... (وذكروا ما يروى عن علي رضي الله عنه في دعائه: اللهم جبار القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها) .
قلت: حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه.
ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة، فجميع البهائم هي مولودة على ماسبق في علم الله لها.
والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله لها.
وحينئذ فيكون كل مخلوق مخلوقاً على الفطرة.
وأيضاً فإنه لو كان المراد ذلك لم يكن لقوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» معنى، فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها، على هذا القول، فلا فرق بين التهويد والتنصير حينئذ، وبين تلقين الإسلام وتعليمه، وبين تعليم سائر الصنائع، فإن ذلك كله داخل فيما سبق به العلم.
وأيضاً فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ثم جدعت، يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه.
وأيضاً فقوله: (على هذه الملة)، وقوله: (إني خلقت
عبادي حنفاء) يخالف هذا.
وأيضاً فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان، فإنه من حين كان جنيناً إلى ما لا نهاية له من أحواله، على ما سبق في علم الله، فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بغير مخصص.
وقد ثبت في الصحيح أنه: قبل نفخ الروح فيه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فلو قيل: كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة، لكان أشبه بهذا المعنى، مع أن النفخ هو بعد الكتابة.
قال ابن عبد البر: (قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن أبن المبارك، أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين: الله أعلم بما كانوا عاملين.
قال المروزي: وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول، ثم تركه.
قال ابن عبد البر: ما رسمه مالك في موطأه، وذكره في أبواب القدر، فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا) .
قلت: أئمة السنة مقصودهم أن الخلق صائرون إلى ما سبق به علم الله منهم من إيمان وكفر، كما في الحديث الآخر:(إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً) والطبع الكتاب، أي كتب كافراً كما قال:(فيكتب رزقه، وأجله وعمله، وشقي أو سعيد) ، وليس إذا كان الله قد كتبه كافراً، يقتضي أنه حين الولادة كافر، بل يقتضي أنه لا بد أن يكفر، وذلك الكفر هو التغيير، كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء، وقد سبق في عمله أنها تجدع، كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولادة، لا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة.
وكلام أحمد في أجوبة أخرى له، يدل على أنه الفطرة عنده: