الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا ذم الله تعالى المشركين على هذين النوعين في غير موضع من كتابه، كسورة الأنعام والأعراف، يذكر فيها ذمهم على ما حرموه من المطاعم والملابس وغير ذلك، وذمهم على ما ابتدعوه من العبادات التي لم يشرعها الله تعالى.
وفي الحديث: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» ، فنعبده وحده بفعل ما أحبه، ونستعين على ذلك بما أحله.
كما قال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} .
وهذا هو الدين الذي فطر الله عليه خلقه، فإنه محبوب لكل أحد، فإنه يتضمن الأمر بالمعروف الذي تحبه القلوب، والنهي عن المنكر الذي تبغضه، وتحليل الطيبات النافعة، وتحريم الخبائث الضارة.
الأدلة العقلية تدل على أن كل مولود يولد على الفطرة
وهذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن «كل مولود يولد على الفطرة» ، مما تقوم الأدلة العقلية على صدقه، كما أخبر الصادق المصدوق، وتبين أن من خالف مدلول هذا الحديث فإنه مخطىء في ذلك.
وبيان ذلك من وجوه:
(الوجه الأول)
أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له تارة من
الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً، وتارة ما يكون باطلاً، فإن اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقدها وهو الحق، وقد تكون غير مطابقة وهو الباطل.
والخبر عن هذا صدق وعن هذا كذب.
والإرادات تنقسم إلىما يوافق مصلحته، وهو جلب المنفعة له، وإلى ما لا يوافق مصلحته بل يضره.
فإن الإنسان حساس متحرك بالإرادة.
ولهذا «قال صلى الله عليه وسلم: أصدق الأسماء: الحارث وهمام، وأحبها إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وأقبحها: حرب ومرة» ، فإن الإنسان لا بد له من حرث وهو العمل والحركة الإرادية، ولا بد من أن يهم بالأمور: منها ما يهم به ويفعله، ومنها ما يهم به ولا يفعله، فإن كان المراد موافقاً لمصلحته كانت الإرادة حسنة محمودة، وإن كان مخالفاً لمصلحته كانت الإرادة سيئة مذمومة، كمن يريد ما يضر عقله ونفسه وبدنه.
وإذا كان الإنسان تارةً تكون تصديقاته وإراداته حسنة محمودة، وتارة تكون سيئة، فلا يخلو: إما أن تكون نسبة نفسه إلى النوعين نسبة
واحدة بحيث لا يترجح أحد الصنفين على الآخر بمرجح من نفسه، أو لا بد أن تكون نفسه مرجحة لأحد النوعين.
فإن كان الأول، لزم أن لا يوجد أحد الصنفين إلا بمرجح منفصل عنه، ثم ذلك المرجح المنفصل إذا قدر مرجحان: أحدها يرجح الصدق الذي ينفعه، والآخر يرجح الكذب الذي يضره، فإما أن يتكافأ المرجحان، أويترجح أحدهما، فإن تكافأ المرجحان لزم أن لا يحصل واحد منهما، وهو خلاف المعلوم بالضرورة، فإنا نعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق، وأن ينتفع، وأن يكذب وتضرر، مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع وإذا كان لا بد من ترجيح أحدهما فترجح الكذب الضار - مع فرض تساوى المرجحين أولى بالامتناع من تكافيهما، فعين أنه تكافأ المرجحان فلا بد أن يترجح عنده الصدق والنفع، وهو المراد باعتقاد الحق وإرادة الخير.
فعلم أن في فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع، وحينئذ فالإقرار بوجود الصانع ومعرفته والإيمان به هو الحق أو نقضيه؟ والثاني معلوم الفساد قطعاً، فتعين الأول.
وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به.
وأيضاً فإنه مع الإقرار به، إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو عدم محبته، والثاني معلوم الفساد، وإذا كان الأول أنفع له، كان في فطرته محبة ما ينفعه.
وأيضاً فإنه إما أن تكون عبادته وحده لا شريك له أكمل للناس علماً وقصداً، أو الإشراك به، والثاني معلوم الفساد، فوجب أن يكون في فطرته مقتض يقتضي توحيده.
وأيضاً فأما أن يكون دين الإسلام مع غيره من الأديان متماثلين، أو الإسلام مرجوحاً أو راجحاً.
والأول والثاني باطلاق باتفاق المسملين، وبأدلة كثيرة، فوجب أن يكون في الفطرة مقتض يقتضي خير الأمرين لها، وامتنع أن تكون نسبة الإسلام وسائر الملل إلى الفطرة واحدة، سواء كانت نسبة قدرة، أو نسبة قبول.
وإذا لزم أن يكون في الفطرة مرجح للحنيفية التي أصلها معرفة الصانع ومحبته، وإخلاص الدين له، فإما أن يكون مع ذلك لا يوجد مقتضاها إلا بسبب منفصل، مثل من يعلمه ويدعوه، أو يمكن وجود ذلك بدون هذا السبب المنفصل.
فإن كان الأول لزم أن يكون موجبها متوقفاً على مخاطب منفصل دائماً، فلا يحصل بدونه البتة.
ثم القول في حصول موجبها لذلك المخاطب المنفصل، كالقول في الأول، وحينئذ فيلزم التسلسل في المخاطبين، ووجود مخاطبين لا يتناهون، وهو أيضاً مخاطبون، وهذا تسلسل في الفاعلين، وهو ممتنع.
وإن كان في المخاطبين من حصل له بموجب الفطرة بلا مخاطب منفصل، دل على إمكان ذلك في الفطرة، فبطل هذا التقدير: وهو كون