الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هي أعراض تفتقر إلى أعيان تقوم بها، من جنس العقل الموجود في نفوسنا، فأما إثبات عقول هي جواهر قائمة بنفسها، فلا دليل لهم على ذلك أصلاً.
ولولا أن هذا ليس موضع بسط ذلك، لذكرت ألفاظهم بأعيانهم، ليتبين لك ما ذكرته.
ولكن هؤلاء القوم يجعلون الأعراض جواهر، والجواهر أعراضاً، والصفة هي الموصوف، والموصوف هو الصفة.
وعلى هذا بنوا كلامهم، كما صرحوا به في غير موضع.
ومن هنا يظهر:
الوجه السادس
وهو أن هذا وأمثاله جعلوا نفس العلم هو العالم، وجعلوا نفس العلم هو جوهراً قائماً بنفسه واجب الوجود.
وهذا من أعظم سفسطة في الوجود، وهو شر من كلام النصارى بكثير.
وغاية ما ينتهي إليه ما يدعونه من المفارقات المجردات عن المادة، وهو العقول التي جعلولها مبادىء، أنها علوم كلية كالعلوم الكلية التي لنا.
ومن المعلوم أن العلوم الكلية لا تقوم إلا بعالم، لكن هؤلاء غلطوا حيث أثبت قدماؤهم كأصحاب أفلاطون، كليات مجردة عن الأعيان، وهي المثل الأفلاطونية، وجعلوها أزلية أبدية، وإنما التغير والتحول في أعيانها فلما تبين لأرسطو وأتباعه فساد هذا أبطلوه، وقالوا: الكليات لا يكون
وجودها منفكة عن الأعيان.
وهؤلاء ظنوا أيضاً أن الأعيان الموجودة تقارنها كليات مغايرة للأعيان وهو أيضاً غلط، فإن كل هذه الأمور الكلية إنما ثبتوها في الأذهان لا في الأعيان، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن العقول المفارقات التي أثبتوها هي من جنس هذه الكليات، ولهذا يصرحون بأن العلم هو العالم، حتى في واجب الوجود قالوا: إنه هو العلم، وإنه العالم، وأن العلم هو القدرة، فجعلوا نفس الذات الموصوفة هي الصفة، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ثم إنهم أثبتوا واجب الوجود بطريق الحركة، وأنه لا بد لها من محرك والمحرك هو المحبوب عندهم، الذي يحب التشبه به لا تحب ذاته، لأن الحركة الإرادية لا بد له من ذلك، وادعوا أنه لا بد له من محرك لا يتحرك، وقدبين فساد هذا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب.
وابن رشد قرر طريقتهم على غاية ما أمكنه من الحسن والبيان، وهي كما ترى غايتها أن تكون الأجسام المتحركة محتاجة إلى آمر يحركها، والمراد بأمره بالحركة: كونه محبوباً لها، أي تحب أن تتشبه به، لا أنها تحب ذاته، كما ذكره سلفه الفلاسفة الذين بين طريقهم، وشبهه بالملك الآمر لمن دونه من نابه في مملكته بأوامر، وكل واحد يأمر من دونه، وكلها ترجع إلى الآمر الأول.
ومعلوم أن الآمر لم يبدع شيئاً من أعيان المأمورين: لا صفاتهم ولا أفعالهم، بل الملك الآمر له شعور بأمره، وطلب من المأمور، وأما كون الشيء محبوباً مشتاقاً إليه أو للتشبه به، فليس في هذا صدور أمر من أمر، ولا شعور بالمحب المشتاق، ولا طلب لفعل منه.
وابن رشد قرر بأن الآمر لها هو المبدع لها، بأنها لو كانت موجودة من ذاتها، أي قديمة من غير علة ولا موجد، لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر احد لها بالتسخير، وألا تطيعه، كذلك حال الآمرين مع الآمر الأول، وإذا لم يجز ذلك عليها، فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة، وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها.
لا في عرض من أعراضها.
فيقال له: أنت لم تقرر أنه آمر لها، وسلفك إنما ذكروا أنه محبوب لها، أي تحب التشبه به، وهب أنه آمر لها، فأنت لم تذكر دليلاً على أنها إذا كانت مأمورة كانت مملوكة، إلا قولك:(إنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات، بل تلك الذوات تقومت بالعبودية) .
وهذه دعوى مجردة.
فلم لا يجوز أن يقال: تلك العبودية زائدة على الذات؟
وقولك: (إنها تقومت بالعبودية) : إن أردت تقومت.
بتعبدها الذي هو طاعتها وحركتها، فهذه دعوى أرسطو، وقد علم ما فيها.
وبتقدير أن تكون حقيقتها هي تلك الحركة، بل يقتضي أن تكون الحركة شرطاً في وجودها.
وإن أردت بتقومها بالعبودية تقومها بأن خلقها الله تعالى، فهذا هو المطلوب، ولم تذكر عليه حجة.
وأيضاً فقولك: علم أن الآمر لها غيرها، وهو غير جسم، لأنه لو كان جسماً لكان واحداً منها - كلام لا حجة فيه، لوجهين:
أحدهما: أنه مسخراً للعقول: ولم يلزم أن يكون من العقول المسخرة، فلماذا يلزم إذا كان مسخراً للأجسام، أن يكون من الأجسام
المسخرة؟ فهو عندهم عقل وليس من العقول المسخرة، فلا يلزم أيضاً إذا قيل: هو قائم بنفسه، أو هو حي عليم قدير، أو هو جوهر، أو جسم أو ذات، أو غير ذلك، أن يكون من جملة المسخرات من هذا الجنس.
الثاني: أنه لم لا يجوز أن يكون خارجاً عن جملة المسخرات المأموره كما أنه قائم بنفسه، وهو آمر لأعيان قائمة بنفسها، وهو موصوف.
وهو آمر لموصوفات، وأمثال ذلك.
وإذا كانت الأعيان أو الأجسام أو الموصفات مختلفة الحقائق، لم يلزم أن يكون الآمر لها مماثلاً للمأمور.
وأيضاً فإنك قلت: لو تخيلت أمراً له مأمورون كثيرون، وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر، ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر، ولا وجود لمن دون المأمورين إلا بالمأمورين، لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صارت موجودة.
وهذا الكلام فيه تفريق بين المأمور الذي لا وجود له إلا في قبول الأمر، كما يقولون: لا توجد الأفلاك إلا بالحركة، وهي قبول الأمر، أو أن العقول لا توجد إلا بما فيها من قبول الأمر، وبين ما صدر عن الأفلاك أو العقول من المولدات التي لا وجود لها إلا بالعقول أو الأفلاك.
ومن المعلوم أن احتياج العقول والأفلاك إلى الواجب بذاته، أعظم من حاجة ما دونها إليها: فكيف يقال في هذا: لا يوجد إلا به؟ ويقال في ذلك: لا يوجد إلا بقبول الأمر؟
ومن المعلوم أن ما يظهر من تأثير الأفلاك في الأرض إنما هو في بعض أحوالها، كما ذكره من تأثير قرب الشمس وبعدها والليل والنهار.
ومن المعلوم بالحس أن هذا ليس وحده مستقلاً بإبداع ما في الأرض، وإنما هو من جملة الأسباب التي بها يتم، كما يفتقر الحيوان والنبات إلى الريح، وافتقارها إلى ذلك أعظم من افتقارها إلى الشمس، وكما تفتقر إلى الأرض والتراب وغير ذلك من الأسباب.
وبالجملة هذه الطريق التي سلكها هؤلاء مبنية على ثلاث مقدمات أن الأفلاك لا تقوم إلا بالحركة، وأن الحركة لا تقوم إلا بآمر منفصل، أو محبوب منفصل يحب التشبه به، فالأفلاك لا تقوم إلا بذلك.
ثم إذا كانت لا تقوم إلا بذلك، لزم أن تكون جميع أعيانها وصفاتها صادرة عنه، وهم لم يقروا ذلك.
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، لكن يمكن تقريره بأن يقال: إذا كان قوامها بحركتها، وقوام حركتها به، فقوامها به، وإذا كان قوامها