الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بن حازم فذكره بإسناده.
وقال: لا يزال أمر هذه الأمة مقارباً أو مواتياً ما لم يتكلموا في الولدان والقدر.
وذكر المروزي أيضاً، ثنا عمرو بن زرارة، أنبأ إسماعيل بن علية، عن ابن عوان قال: كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال: ماذا كان بين قتادة وبين حفص بن عمر في أولاد المشركين؟ قال: وتكلم ربيعة الرأي في ذلك؟ فقال القاسم: إذا الله انتهى عند شيء فانتهوا وقفوا عنده.
قال: فكأنما كانت ناراًفطفئت؟.
تعليق ابن تيمية
قلت: ابن عباس رضي الله عنه خطب بهذه الخطبةبالبصرة، وكان عنده وعند غيره من الصحابة من العلم بما يحدث في هذا الأمة، والتحذير من أسباب الفتن، ما قد نقل إلينا، كما في الحديث الذي ذكره أحمد في رسالته للمتوكل في قصة ابن عباس مع عمر ابن الخطاب، لما كثر القراء، وخوفهما من اختلاف الأمة وافتراقها، والمسائل المشكلة إذا خاض فيها أكثر الناس لم يفهموا حقيقتها، وإذا تنازعوا فيها صار بينهم أهواء وظنون، وأفضى ذلك إلى الفرقة والفتنة.
ومن ذلك الحديث الذي رواه أحمد وغيره، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، وقائل يقول: ألم يقل الله كذا؟ وآخر يقول: ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فافعلوه، وما نهيتم عنه فاتركوه.
فهذا الحديث ونحوه مما ينهى فيه عن معارضة حق بحق، فإن ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين، أو الاشتباه والحيرة.
والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق، فعلى الإنسان أن يصدق بالحق الذي يقوله غيره، كما يصدق بالحق الذي يقوله هو، ليس له أن يؤمن بمعنى آية استدل بها، ويرد معنى آية استدل بها مناظره، ولا أن يقبل الحق من طائفة، ويرده من طائفة أخرى.
ولهذا قال تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين * والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} .
فذم سبحانه من كذب أو كذب بحق، ولم يمدح إلا من صدق وصدق بالحق.
فلو صدق الإنسان فيما يقوله، ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره، لم يكن ممدوحاً، حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدق به، فأولئك هم المتقون.
ومسألة القدر يحتاج فيها إلى الإيمان بقدر الله، وإلى الإيمان بشرع الله، فطائفة غلب عليهم التصديق بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، فظنوا أن هذا لا يتم إلا بالتكذيب بالقدر، فأخطأوا في التكذيب به، وطائفة ظنت أن الإيمان بالقدر لا يتم إلا بأن يقول: إن الرب تعالى يخلق ويأمر لا لحكمه ولا لرحمة، ولا يسوي بين المتماثلين، بل بإرادة ترجح أحد المتماثلين لا لمرجح.
واشتركت الطائفتان في أن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح.
وهذا أصل مذهب القدرية النفاة، ولهذا قالوا: إن العبد لا يحتاج في ترجيح أحد مقدوريه على الآخر إلى مرجح يفتقر فيه إلى الله تعالى، وإن الله لا يمتن على المطيع بنعمة أنعم بها عليه دون العاصي صار بها مطيعاً، وتوهموا أن هذا من الظلم الذي يجب نفيه، وظن أولئك أنه لا يمكن أبطال قولهم إلا بأن يقال: الظلم ممتنع لذاته، وأنه مهما قدر من الممكنات فهو عدل، حتى تعذيب الأنبياء والصالحين، وتنعيم الكفار والفاسقين، إلى أمثال هذه الأمور التي خاض فيها الناس في القدر، وكانت من أعظم أسباب الجهل والظلم.
وكان أعظم ظهور ذلك من أهل البصرة الذين خطبهم ابن عباس، وكذلك أمر أطفال المشركين: طائفة يقولون: يعذبهم كلهم، أو يمكن تعذيبهم كلهم، بناءً على المشيئة المرجحة بلا سبب ولا حكمة ولا رحمة.
وطائفة تقول: بل يدخلون الجنة مع من آمن وعمل صالحاً، بناءً على رحمة بلا حكمة، وتسوية بين أولاد المؤمنين وأولاد الكفار، وبين من آمن وعمل صالحاً ومن لم يؤمن ويعمل صالحاً، من غير اعتبار التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، فيقع الاختلاف والاشتباه والتفرق.
وهذه المسأئل وغيرها قد بين الله ورسوله أمرها، فإن الله أكمل الدين، وأتم النعمة.
وقد «قال النبي صلى الله عليه وسلم: تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» .
وفي الصحيح «عن أبي ذر رضي الله عنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علماً» .
وقد أنزل الله كتابه شفاءً لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
وقال تعالى: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} .
قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
وقد قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} ، فحكم الله بكتابه بين الناس فيما اختلفوا فيه.
وقال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} .
فهذه النصوص وأمثالها مما يبين أن ما بعث الله به رسله، يبين للناس ما يحتاجون إليه من أمر دينهم في هذه المسائل وغيرها، لكن ليس كل واحد قد بلغته النصوص كلها، ولا كل أحد يفهم ما دلت عليه النصوص، فإن الله يختص من يشاء عباده من العلم والفهم بما يشاء، فمن اشتبه عليه الأمور فتوقف لئلا يتكلم بلا علم، أو لئلا يتكلم بكلام يضر ولا ينفع فقد أحسن، ومن علم الحق فبينه لمن يحتاج إليه وينتفع به فهو أحسن وأحسن.
ولهذا لما روى يحيى بن آدم لابن المبارك هذا الأثر عن ابن عباس، وهو قوله: إنه لا يزال أمر هذه الأمة مواتياً أو مقارباً، شك الراوي، حتى يتكلموا في الولدان والقدر، وكأن قائل هذا يطلب من الناس السكوت مطلقاً.
قال له ابن المبارك: أفيسكت الإنسان على الجهل؟ وقد صدق ابن المبارك، فقال له يحيى بن آدم: أفتأمر بالكلام؟ فسكت ابن المبارك، لأن أمره بالكلام مطلقاً يتضمن الإذن
بالكلام الذي وقع من الناس، وفيه من الجهل والكذب ما ينهى عنه.
وتحقيق الأمر أن الكلام بالعلم الذي بينه الله وسوله مأمور به، وهو الذي ينبغي للإنسان طلبه، وأما الكلام بلا علم فيذم، ومن تكلم بما يخالف الكتاب والسنة فقد تكلم بلا علم، وقد يتكلم بما يظنه علماً: إما برأي رآه، وإما بنقل بلغه، ويكون كلاماً بلا علم.
وهذا قد يعذر صاحبه تارة وإن لم يتبع، وقد يذم صاحبه إذا ظلم غيره ورد الحق الذي معه بغياً.
كما ذم الله ذلك بقوله: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} .
فالبغي مذموم مطلقاً.
سواء كان في أن يلزم الإنسان الناس بما لا يلزمهم، ويذمهم على تركه، أو بأن يذمهم على ما هم معذورون فيه، والله يغفر لهم خطأهم فيه، فمن ذم الناس وعاقبهم على ما لم يذمهم الله تعالى ويعاقبهم.
فقد بغى عليهم، لا سيما إذا كان ذلك لأجل هواه.
وقد قال تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} .
والله تعالى قد قال: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} .
فالسعيد من تاب الله عليه من جهله وظلمه، وإلا فالإنسان ظلوم جهول، وإذا وقع الظلم والجهل في الأمور العامة الكبار، أوجبت بين الناس العداوة والبغضاء، فعلى الإنسان أن يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس، فإن الحكم بالعلم والعدل في ذلك أولى منه في الأمور الصغار.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة.
رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار» .
فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهم وثوب، فكيف بمن يقضي في الأصول المتضمنة للكلام في رب العالمين، وخلقه وأمره، ووعده ووعيده؟.
ولهذا لما اشترك هؤلاء القدرية القائلون بأن القادر المختار يرجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح في هذا الأصل، وناظروا به الملاحدة القائلين بقدم العالم، من الدهرية الفلاسفة وغيرهم، ورأى أولئك أن هذا ليس بعلم ولا عدل، طعموا في هؤلاء القدرية.
فإن الإنسان إذا اتبع العدل نصر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع
فيه خصمه، فصار بين الفلاسفة الدهرية والمتكلمين القدرية في هذا الباب من النزاع ما استطار شرره، وإن كانت القدرية أقرب إلى العلم والعدل.
ومن الناس من يحار، ومنهم من يوافق هؤلاء تارة وهؤلاء تارة، تناقضاً منه في حالين، أو جمعاً بين النقيضين في حال واحدة.
ولو اتبعوا ما بعث الله ورسوله من الهدى ودين الحق، لحصل لهم من العلم والعدل ما يرفع النزاع، ويدخلهم في اتباع النص والإجماع، والكلام على هذه المسألة له موضع آخر.
والمقصود هنا تفسير قوله: (كل مولود يولد على الفطرة) وأن من قال بإثبات القدر، وأن الله كتب الشقي والسعيد، لم يمنع ذلك أن يكون ولد على الإسلام ثم تغير بعد ذلك، كما تولد البهيمة جمعاء ثم تغير بعد ذلك، فإن الله تعالى يعلم الاشياء على ما هي عليه، فيعلم أنه يولد سليماً ثم يتغير.
والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلا على هذا القول الذي رجحناه، وهو أنهم ولدوا على الفطرة، ثم صاروا إلىما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة، لا تدل على أنه حين الولادة لم يكن على فطرة سليمة مقتضية للإيمان، مستلزمة له لولا المعارض.
فروى ابن عبد البر في ضمن هذا المنقول بإسناده (عن موسى بن عبيده، سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله:{كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} ، وقال: من ابتدأ الله خلقه لضلالة وإن علم بعمل أهل الهدى، ومن ابتدأ خلقه على الهدى صيره إلى الهدى، وإن عمل بعمل أهل الضلالة، ابتدأ خلق إبليس على الضلالة، وعمل بعمل السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه من الضلالة.
قال: وكان من الكافرين.
وابتدأ خلق السحرة على الهدى وعملوا بعمل الضلالة، ثم هداهم إلى الهدى والسعادة، وتوفاهم، عليها مسلمين.
وبهذا الإسناد عن محمد بن كعب في قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} ، يقول: فأقروا له بالبإمان والمعرفة الأرواح قبل أن تخلق أجسادها) .
فهذا المنقول عن محمد بن كعب يبين أن الذي ابتدأهم عليه، وهو