الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن هذه المسلك فيقول: هل يتصور أن يحدث شيء يبقى أم لا؟ فإن قالوا: لا، فهو محال، وإن قالوا نعم، قلنا: إذا قدرنا كل يوم حدوث شيء وبقاءه، اجتمع إلى الآن لا محالة موجودات لا نهاية لها، فالدورة وإن كانت منقضية، فحصول موجود فيها، يبقى ولا ينقضي غير مستحيل، وبهذا التقدير يتقرر الإشكال، ولا غرض في أن يكون ذلك الباقي نفس آدمي، أو جني، أو شيطان، أوملك، أو ماشئت من الموجودات، وهو لازم على كل مذهب لهم، إذا أثبتوا دورات لا نهاية لها) .
تعليق ابن تيمية
قلت: أبو حامد جعل الطريقة الصحيحة في أثبات الصانع الاستدلال بالحدوث على المحدث، وقال: إنا نعلم بالضرورة أن الحادث لا يوجد نفسه فافتقر إلى صانع، وهذا موافق لما ذكره حذاق أهل النظر، بخلاف من ذهب إليه من ذهب من المعتزلة ومن وافقهم.
كـ القاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما، ممن جعل هذه المقدمة نظرية.
وأخذ أبو حامد يطعن على طريقة ابن سينا وأمثاله في إثبات واجب الوجود بوجهين.
أحدهما: أن غاية هذه الطريقة إثبات موجود واجب، ولكن لا يمكن نفي كونه جسماً من الأجسام إلا بطريقهم في التوحيد الذي مضمونه نفي الصفات، وتلك مبناها على نفس التركيب، وقد بين أبو حامد فساد كلامهم في هذا.
وهذا الوجه الذي ذكره أبو حامد أحسن فيه، وكنت قد كتبت على توحيد الفلاسفة ونفيهم الصفات كلاماً بينت فيه فساد كلامهم في طرقة التركيب، قبل أن أقف على كلام أبي حامد، ثم رأيت أبا حامد قد تكلم بما يوافق ذلك الذي كتبته.
ومن هنا يعلم أن ابن سينا لا يمكنه بهذه الطريقة إفساد مذهب الفلاسفة الطبيعين الذين يقولون بأن الفلك واجب الوجود بنفسه، وإن كان يمكن إفساد قولهم بطرق أخرى.
ولهذا ظن كثير من المتأخرين أن ابن سينا موافق للدهرية
المحضة، الذين يقولون: إن العالم واجب الوجود بذاته، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني الذي أبطل به أبو حامد طريقهم: أنها مبنية على إبطال علل ومعلولات لا نهاية لها، وقد ألزمهم أنهم لا يمكنهم إبطال ذلك مع قولهم بثبوت حوادث لا تتناهي كما قد ذكره.
وابن سينا والرازي والآمدي إنما أثبتوا واجب الوجود بناءً على هذه المقدمة.
فكان ما ذكره أبو حامد إبطالاً لطريق هؤلاء كلهم.
والآمدي وافق أبا حامد على ضعف الحجة في نفي النهاية عن العلل، فلا جرم لم يقرر في كلامه إثبات واجب الوجود، بل قرره في كتاب الأفكار بطريق أفسدها في كتاب رموز الكنوز وقد بينا بطلان اعتراضه في غير هذا الموضع.
وليس فيما ذكره أبو حامد والآمدي إبطال لطريقة المعتزلة، ومن وافقهم، على أن تخصيص الحدوث بأحد الزمانين لا بد له من مخصص، فإن تلك لا تفتقر إلى أبطال التسليل في العلل والمعلولات.
ومدار كلام أبي حامد على أنه لا فرق بين نفي النهاية في الحوادث ونفيها في العلل.
وأنتم تجوزونها في الحوادث، فجوزوها في العلل.
والناس لهم في هذا المقام قولان: أحدهما: قول من يبطل عدم
النهاية فيهما جميعاً، مثل كثير من أهل الكلام: المعتزلة ومن وافقهم.
ثم من هؤلاء من يبطل عدم النهاية في الأزل والأبد، كقول جهم والعلاف.
وأكثرهم يبطلونها في الأزل دون الأبد، لأن من دين المسلمين دوام نعيم الجنة لا إلى نهاية.
ولهذا قال جهم بانقطاع نعيم الجنة، وقال العلاف ببطلان حركاتهم.
والثاني: قول من يبطل عدم النهاية في الفاعلين والعلل دون الحوادث والآثار، كما هو قول جمهور الفلاسفة من القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه، وهو قول طوائف من أهل الكلام، من المعتزلة والأشعرية وهو قول جمهور أهل الحديث وأئمة السنة.
وما ذكره أبو حامد من الكلام على بطلان حجة من ينفي عدم النهاية، هو أنه لا يلزم أن ماصدق على الآحاد صدق على الجميع، كما قاله هؤلاء في الحوادث، بخلاف ما قاله أبو الحسين البصري، وغيره من أهل الكلام، من أنه صدق على الآحاد صدق على الجيمع، ثم سوى أبو حامد بين الأمرين.
وقد تكلمنا في غير هذا الموضع على الفرق بين الأمرين، وهو أن الوصف إذا ثبت للجميع كثبوته للأفراد، كان حكم الجميع حكم أفراده، وإن لم يكن ثبوته للجميع كثبوته للأفراد، لم يلزم أن يكون
حكمها حكمه، فالأول مثل وصفها بالوجود، أو العدم، أو الوجوب، أو الامكان، أو الامتناع، فإذا قدر أشياء لا تناهى، كل منها موجود، فالكل أيضاً موجود.
ثم أن قدر وجود كل منها مقارناً للآخر، كان وجود الجميع مقارناً، وإن قدر وجودها متعاقبة كان وجود الجملة متعاقباً.
وإذا قدرت كل منها معدوماً فالكل أيضاً معدوم، وإذا قدرت عدم كل منها مع عدم الآخر كانت معدومة معاً، وإذا قدرت عدم كل منها بعد الآخر، كانت متعاقبة في العدم.
فالحوادث المتعاقبة التي تعدم بعد وجودها - كالحركات - وجودها متعاقب، وعدمها متعاقب.
فالجملة أيضاً موجودة على التعاقب، معدومة على التعاقب.
وإذا قدر أشياء لا تتناهي ممتنعة، فالجملة ممتنعة، ولو قدر أشياء لا تتناهي واجبة، فالجملة أيضاً واجبة، فكذلك إذا قدر أمور لا تتناهي، ليس لشيء منها وجود من نفسه، بل كل منها مفتقر إلى غيره، فوصف الافتقار والحاجة والإمكان يجب تناوله للجملة، كتناوله لكل من أفرادها، كما يتناول وصف الوجود والعدم، والوجوب والامتناع، للجملة بحسب تناوله للأفراد، فلا تكون الجملة إلا مفتقرة محتاجة ممكنة، لا تكون معدومة مع وجود كل منها،
ولا تكون واجبة بنفسها مع إمكان كل منها، فإن اجتماعها عرض مفتقر إلى الممكنات، فهو أولى بالإمكان منها.
ولو قال قائل: فكيف تصفونها بالامتناع، مع كون كل منها ممكناً؟ أليس في هذا وصف بالامتناع للجملة دون الأفراد؟
قيل له: نحن لا نقدر وجود علل ومعلولات لا تتناهى في الخارج، ثم نحكم عليها بالامتناع، فإن هذا جمع بين النقيضين.
فإن كونها موجودة في الخارج ينافي امتناعها، ولكن نقدر ذلك في الذهن، ثم نحكم على هذا المقدر في الذهن بامتناعه في الخارج، كالجمع بين النقيضين.
وأمثاله من الممتنعات، بخلاف ما إذا قدر وجودها في الخارج، وكل منها ممكن.
وقيل: إن الجملة واجبة بنفسها، فهذا هو الممتنع، كما ان وصفها مع ذلك بالامتناع ممتنع، وتقديرها في الذهن لا يكفي في وجود الممكنات، لأن الممكن لا يوجد إلا بما هو موجود في الخارج لا مقدر في الذهن.
وهذا بخلاف ما إذا قدر أشياء لا تتناهي كل منها بعد الآخر، لم يلزم أن تكون الجملة بعد غيرها.
كالحوادث المستقبلة في الجنة.
فإن كلاً منها بعد غيره، وليست الجملة بعد غيرها، بل لا تزال