الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الحياة والموت: فقد ينازعه من ينازعه من النظار في ذلك.
فإن نظار المسلمين وغيرهم متنازعون في الموت: هل هو وجودي أو عدمي؟.
ثم من قال: إنه عدمي، يقول كثير منهم: إن هذين متقابلان، تقابل العدم والملكة.
وما لا يقبل الحياة والموت، كالجماد، لا يوصف بواحد منهما.
لكن القاضي وجمهور الناس، يردون على هؤلاء: بأنه هذا اصطلاح منكم لا يلزمنا.
ويقولون: إنا نفسر الموت بما يكون النزاع معه لفظياً.
ويقول القاضي وأكثر الناس: إن كل جسم فإنه يقبل الحياة.
لكن الذي يقال له: الجسم، لا يخلو من أن يكون حياً أو ميتاً، كما لا يخلو من أن يكون متحركاً أو ساكناً، واتصافه بالحياة لايستلزم إمكان اتصافه بالموت.
فإن القديم سبحانه موصوف بالحياة والعلم والقدرة، ولا يمكن اتصافه بضد ذلك.
وحينئذ: فلا يمكن أن يقال: إن كل جسم يقبل الحياة والموت إلا بدليل يدل على ذلك.
والحياة لايجب أن تكون حادثة لا نوعاً ولا شخصاً، كما قد يقال مثل ذلك في الحركة.
تابع كلام الباقلاني وتعليق ابن تيمة عليه
ثم قال القاضي أبو بكر: (فإن قال قائل: فما الدليل على أن لم يسبق المحدثات محدث، وأنه واجب لا محالة القضاء على حدوث الجسم، متى لم يوجد قبل أول الحوادث، ولم زعمتم ذلك؟.
قيل له: الدليل على هذا قريب واضح: وذلك أنه لا حال للجسم مع الحوادث إلا بثلاثة أحوال: إما أن يكون موجوداً قبل أولها، أو يكون موجوداً مع وجودها، أو يكون موجوداً بعدها.
فإذا بطل أن يكون الجسم عارياً عن الحوادث ومنفكاً من سائرها - وجب أنه ليس له معها إلا حالان: إما أن يكون موجوداً مع وجودها، أو بعدها.
فإن كان موجوداً مع وجودها، ولوجودها أول: فواجب أن يكون حكمه في الوجود عن أول، وحصوله عن عدم حكمها، وذلك يوجب من حيث شركها في علة الحدوث متى لم يكن سابقاً لها.
وإن كان موجوداً بعدها: كان أولى بالحدوث منها لوجوده بعدها) .
فهذا منتهى كلام القاضي وأبي الحسن في إثبات الصانع، وكلام أبي الحسن أجود، فإنه بناه على التغير المحسوس في النطفة، لم يحتج من ذلك إلى إثبات جنس الأعراض لكل جسم.
وقول القاضي: إن الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة، فلا بد فيه من إثبات الأعراض أولاً، وعلى حدوثها ثانياً - فليس كما قال.
بل الأشعري عدل عن هذه الطريق
قصداً، كما ذكره في رسالة الثغر، وذم هذه الطريق وعابها.
وذلك أن ما ذكره من تحول النطفة وانقلابها أمر مشهود محسوس، لا ينازع فيه عاقل سليم، سواء سمي ذلك تحول عرضاً أولم يسم، وسواء قيل: إن ذلك العرض مغاير للجسم، أوقيل ليس بمغاير له، وتحولها مشهود حدوثه لا يحتاج من ذلك إبطال كمون الأعراض ولا انتقالها.
لكن منتهى الدليل إلى مقدمة واحدة: وهو أن ما قامت به الحوادث فهو حادث، بناءً على أن ما قامت به لم ينفك عنها، وما لم يسبق الحوادث فهو حادث.
وهذه المقدمات فيها نزاع مشهور.
وجمهور الناس من المسلمين واليهود النصاري والمجوس والصابئين والمشركين يخالفون في ذلك، حتى جمهور الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون القائلون بقدم العالم وحدوثه يخالفون في ذلك.
والجمهور القائلون بأن الله خلق السماوات والأرض بعد أن لم تكونا مخلوقتين، لا يتوقف إثبات ذلك عندهم على هذه المقدمة، بل ويقولون: إن إثبات خلقهما لا يثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة.
بل وكذلك القول بأن الله خالق كل شيء، وأنه هو القديم وحده وما سواه محدث مسبوق بالعدم، كما هو مذهب أهل الملل.
وجمهور العقلاء يقول أئمتهم: إنها لا تحتاج إلى هذه المقدمة، بل لا تثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة، ومع القول بإبطالها.
ويقولون: إن
موجب هذه المقدمة أن كل موجود محدث، وأنه ليس في الوجود قديم، مع أن هذا معلوم الفساد بالضرورة.
وأما الكلام في أن ما قبل الحوادث لم يخل منها، ففيها نزاع مشهور بين أهل الكلام.
وذلك قوله: ما لم يسبق الحوادث فهو حادث، فيها من منازعة أهل الحديث والكلام والفلسفة ما هو معروف.
وقد يسلم هذه من ينازع في الأولى من الكرامية ونحوهم، وقد ينازع في هذه من لا ينازع في الأولى من أهل الحديث والفلسفة والكلام وغيرهم.
وهذه المقدمة هي التي جعلها الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم عليها من الأشعرية والكرامبة وأتباع الأئمة الأربعة - أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - أصل الدين.
ثم إن قدماءهم كانوا يأخذونها مسلمة، ويظنونها ضرورية، ولا يميزون بين ما لا يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة التي لها مبدأ، وما لا يسبق جنس الحوادث.
فإن ما لا يسبق الحادث المعين أو الحوادث المحددة التي لها مبدأ، فهو محدث بالضرورة، ولا ينازع في هذا عاقل.
فإن ما كان عينه حادثاً فما لم يكن قبله فإنه محدث مثله بالضرورة، كما قرره.
لأنه إما بعده.
وما كان مع الحادث أو بعده فهو
حادث بالضرورة.
وأما ما لا يسبق جنس الحوادث، وهو ما قدر أنه لم يزل يقارنها حادث بعد حادث وهلم جراً، كما أنه يقارنه حادث بعد حادث، وفان بعد فان في الأبد، فيقدر ليس متقدماً على جنس الحوادث، ولا متأخراً عن جنس الحوادث والفانيات، فهذا محل نزاع: نازعهم فيه جمهور الناس من أهل الملل، والفلاسفة القائلين بحدوث العالم وبقدمه.
وقد رأيت في كتب كثير من المتكلمين: من المعتزلة والأشعرية وغيرهم، أنهم أخذوا هذه المقدمة مسلمة، وجعلوها ضرورية.
واشتبه عليهم ما لم يسبق عين الحادث بما لم يسبق نوع الحادث.
والأول ظاهر معلوم لكل احد.
وأما الثاني فليس كذلك.
فصاروا ينتهون في أصل أصول دينهم الذي زعموا أنه ثابت بصريح المعقول، وأنهم به عرفوا وجود الخالق وصدق رسله، وأنه به يردون على من خالف الملة، وبه خالفوا ما خالفوه من نصوص الكتاب والسنة، وأقوال السلف والأئمة وأهل الحديث، إلى هذه المقدمة.
وهي لفظ مجمل فيه عموم، وإطلاق أحد نوعيه بين.
فإذا ذكروا ذلك النوع البين، ظنوا أن المقدمة صارت معلومة ضرورية، والمطلوب لا يتم إلا ببيان النوع الآخر، وهم لم يبينوه.
وهذا مما يبين للفاضل المعتبر كيف تدخل الشبهات والبدع على كثير من الناس، وإن كانوا من أعقل الناس وأذكاهم وأفضلهم، وإن كانوا لم يعتمدوا التلبيس لا على أنفسهم، ولا على من يعلمونه ويخاطبونه، لكن اشتبه الأمر عليهم، فوقعوا في شبهات ظنوها بينات.
وهذا مما يعتبر به المسلم فلا يعدل عن كلام الله وكلام رسوله المعصوم، الذي عرف أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إلى كلام من يروج عليهم مثل هذه الشبهات، ويغرقون في مثل هذه المجملات، ولا يتبين لهم ما فيها من فصل الخطاب، والتقسيم المميز للصحيح من السقيم.
ويعرف بهذا حذق السلف والأئمة، الذين ذموا مثل هذا الكلام، وجعلوه من الجهل الذي يستحق أهله العقوبة والانتقام.
لكن هؤلاء ذكروا في موضع آخر الكلام مع من يدعي وجود ما لا يتناهى، وبحثوا معه، وإن كانوا لم يجعلوا ذلك من المقدمات التي لا بد منها في هذه المسألة.
وقد ذكر القاضي أبو بكر بعد هذا فقال: (فصل: فإن قال قائل من أهل الدهر، الذاهبين إلى أنه: لا حركة إلا وقبلها
حركة، ولا حادث إلا وقبله حادث، لا إلى غاية: فما أنكرتم من ألا تدل الحوادث على حدوث الجسم أصلاً، إذ كان لا أول لوجودها، ولا شيء منها إلا وقبله شيء لا إلى غاية؟.
يقال له: أنكرنا ذلك لأمور: أقربها أن هذا الذي قلته محال متناقض، وذلك أنه لا يخلو ما ما مضى من الحوادث وانقضى، أن يكون محدثاً موجوداً عن أول، وأن يكون الفعل والفراغ قد أتيا عليه، أو أن يكون منها ما هو غير وجود عن أول، ولا كائن عن حدوث.
فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحاً مبتدأ قد أتى عليه الفراغ - استحال قولكم: إنها لم تزل موجودات شيئاً قبل شيء، لأن ما لم يزل موجوداً فقديم غير مستفتح.
وقولنا: إنها حوادث وجب لها الاستفتاح والوجود عن أول، والجمع بين ذلك متناقض - محال.
وإن كان فيما أوقعنا عليه هذه التسمية، وهو قولنا: حوادث، ما هو موجود لا عن أول، وكائن عن عدم، فالموجود لا بحدوث، والكائن لا عن عدم واجب أن يكون قديماً لا محالة، كما أن الفلك عندكم وعناصر الأشياء - التي هي: الماء، والأرض، والنار، والهواء - قديمة عندكم، إذ كانت موجودة لا عن عدم، وكانت لا بحدوث، فواجب أن يكون الفلك قديماً لا أول لوجوده.
ولو أمكن أن يكون فيما أوقعنا عليه قولنا: حوادث، ما هو كائن لا بحدوث، موجود لا عن عدم، وهو مع ذلك محدث في الحقيقة - لوجب أن يكون الفلك أيضاً وهذه الأعراض موجودةً لا بحدوث، كائناً لا عن عدم، وهو مع ذلك محدث غير قديم.
وكذلك القول في سائر أجسام العالم المركبة من هذه الأصول.
ولو جاز ذلك جاز في جميع أجسام العالم.
فإن لم يجز هذا، ووجب قدم الفلك الكائن لا عن عدم، الموجود بغير حدوث - وجب قدم ما كان من الحوادث لا عن عدم، وما هو موجود فيها بغير حدوث.
وهذا يوجب أن من الحوادث ما هو قديم، وذلك غاية التناقض والجهل لمن بلغه، لأن هذين الوصفين متناقضان.
وإذا كان كذلك استحال ما قلتموه من أن الحوادث لم تزل شيئاً قبل شيء لا إلى أول.
قال: (وتحرير ذلك أن هذا قول يوجب أن منها ما هو قديم لا محالة.
والقديم لا يكون محدثاً، ولا مجموعاً من الحوادث، لأن قولنا محدث جمع مبني من لفظ واحد، ومن المحال أن يكون من جملة الحوادث.
فوجب أن للحوادث كلاً وجميعاً، وأن ما انقضى منها ومضى قد لقي الفراغ على جميعه، وأن لم يسبقه ولم يكن قبله، فواجب أن يكون محدثاً مثله) .