المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٨

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌كلام أبي الفرج المقدسي

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الحسين البصري عن العلم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الفرج صدقة بن الحسين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام العلماء في ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن عقيل في ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الباقلاني شرحاً لكلام الأشعري

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الحسن الطبري إلكيا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الباقلاني في بيان معنى الخلق

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في نهاية العقول عن مسألة إثبات وجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام الغزالي عن عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم

- ‌رد ابن رشد على الغزالي في تهافت التهافت

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أرسطو وأتباعه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الحامس

- ‌الوجه السادس

- ‌بقية كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فساد مذهب الفلاسفة من وجوه

- ‌الوجه الثاني

- ‌كلام ابن رشد رداً على الغزالي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أرسطو عن الحركة الشوقية والمحرك الأول

- ‌نقد كلام ابن رشد عن الحركة الشوقية للسماوات

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌عود إلى لكلام ابن رشد في الرد على الغزالي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌القول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع لوجوه

- ‌الثاني

- ‌الثالث

- ‌كلام أبي الحسن البصري في إثبات محدث العالم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌تابع كلام الأشعري في اللمع

- ‌كلام الباقلاني في شرح اللمع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود لكلام الباقلاني في شرح اللمع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الباقلاني وتعليق ابن تيمة عليه

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي يعلى في المعتمد عن وجوب النظر

- ‌بطلان استدلال الفلاسفة

- ‌كلام القاضي أبي يعلى عن معنى الفطرة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن عبد البر في التمهيد عن معنى الفطرة

- ‌كلام الطبري في تفسيره عن معنى الفطرة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الحديث حجة على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين

- ‌عود إلى كلام ابن عبد البر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أبي بكر الخلال في كتابه الجامع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن عبد البر في التمهيد

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الأدلة العقلية تدل على أن كل مولود يولد على الفطرة

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌فصل في قوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون

- ‌كلام أبي محمد بن عبد البصري

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية

- ‌تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية

- ‌تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية

الفصل: ‌تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية

بثنائه، ونشكره كما علمنا على آلائه، إذ هو الغني عن كل شيء، وكل شيء إليه فقير.

قال الله: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} ، فلفقرنا لم نعرفه بنا، ولغنائه عنا عرفناه به، وجعل لنا الزيادة في الكسب، والتوصل بالأسباب، ومنه البداية، وإليه المنتهى، فكل من ألزمنا بسبب، عكسنا عليه ذلك السبب، وتسلسل الأمر، وإلى الله ترجع الأمور:{وإليه يرجع الأمر كله} ، فلا مجهول فيستدل عليه، ولا متوقع فيرتقب، فللرسل تأثير في العبادات، وللاستدلال تأثير في المكونات، وللعقول تأثير في المدبرات، وللرياضات تأثير في المكتسبات.

وقد أخبر سبحانه في كتابه فقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، وقد روي: ليعرفون.

فلأجل ذلك وقعت المعرفة من الجميع ولم تقع العبادة، فأراد ليعرفوه ثم يعبدوه على بساط المعرفة، فما جبرهم عليه من معرفة ربوبيته وقع، وما ردهم فيه إلى الاكتساب وقع من بعض دون بعض، ألا ترى أنه لم يقع من الكفار التعجب والإنكار من أنه سبحانه رب وإله؟ وإنما تعجبت وأنكرت التوحيد بالإلهية، فقالوا:{أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} ، فما أريد منهم أن يقع بهم علل، وما ألزمهم من معرفة ربوبيته لم يكن لهم سبيل إلى إنكاره وجحده كغيره من المعارف) .

‌تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية

قال: (فأصحاب المقالات وضعت كل معرفة غير موضعها،

ص: 523

وأجملت وجهلت الحكم، فالتبس عليها الحكم، واختلفوا بما يصاب؟: بالعقول، أو الاستدلال أو بالإمام؟ فقال بعضهم: أصل المعرفة معرفة الإمام.

ومنهم من يقول: أهل البيت، يعني معرفتهم.

والأئمة والعلماء والفقهاء أكثرهم يذهب إلى أن المعرفة معرفة العلم والفقه، من حلال وحرام، وفرائض ومندوبات، وأحكام وسنن.

وقال بعضهم: هي أن تعرف الله على يقين حتى تستقر معرفته في قلبك.

واختلفوا: أي وقت تقع؟ فمنهم من يزعم: قبل البحث والنظر.

ومنهم من قال: بعد البحث والنظر.

وقوم يقولون: بعد البلوغ.

ومنهم من بجعل حدها معرفة الأجسام والأعراض والجواهر، وكلام يكثر ذكره، ويتبين لك في نفس الكلام - إذا لزمت ما قررنا وشرحنا - أن أهل الكلام اعتقدوا ما يليق بالطبع فأثبتوا من طريق العبودية، فجعلوا معرفته بأسباب، وأهل الحق اعتقدوا ما يليق بالربوبية فأثبتوه من حيث الربوبية، والربوبية لا تدنسها العلل، ولا يقع عليها غوامض الفطر، فقرر الله الخلق ودعاهم إلى معرفته كفاحاً، لئلا يشركوا في العلم بمعرفته ولا تكون لهم حجة.

قال سبحانه: {أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} وذلك لموضع ما ألزمهم من الضرورة، ولو قررهم بمعرفته في حال العبودية - كما

ص: 524

زعم الجاهلون - لخرجوا عن كونهم مكلفين لموضع النظر إليه، لكن تعرف إليهم من بعد ما ألزمهم من الضرورة بالوسائط والآيات فمن نصح معبوده، وقام على مراعاة ما شرعه له، وتعرف به إليه، واتكل في المعرفة عليه، وأسند جميع أموره إليه، ذكره ما سلف من الحال، وكشف له عن العواقب والمآل، فزهد فيما يفنى، وزادت رغبته فيما يبقى، وصار للإله موحداً خائفاً، ومصدقاً راجياً، ومن قصر في رعايته، وخلط في سعايته، وسلك محجة التفريط، ولم ينصح فيما أعطى من ضرورته وعقله، جمت عيوبه، وكثرت ذنوبه، فملكه هواه، فأعماه وأراده، ولم يبلغ مناه، فأنساه ذلك ما كان في وقت التعريف، فحصل في جملة من خان وعاند، ولم يكن بخارج من كون ماكان يجهله، إذ قد ثبت العلم بذلك فلم يكن بخارج من النار، ولم يكن بخارج من ضرورته) .

قال: (وقد ثبت أهل الكلام معارف ضرورية، كمعرفة الإنسان بوجود نفسه، فالربوبية أولى بذلك.

وكذلك الأعراض والأجسام والجواهر لأهل الكلام، والجمع والتفرقة، وما يعرف بالفكر ويشترط بالعلم، ومعرفة الشرع للفقهاء، والمعرفة التي هي

ص: 525

الحجة والبرهان، والنور والبيان، للعلماء البلغاء الحكماء، ومعرفة الصفات - وهي العلم به - فهي للأولياء الذين يشاهدونه بالقلوب، ويكاشفهم بالغيوب، إذ يظهر لهم ما لا يظهر لغيرهم، وهم المكاشفون بنور اليقين، وعلم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين المخصوصون بالحقائق، والمبتدأون بالمكنون من ذخائر كراماته، لأهل صفوته وولايته، فلكل قوم مقام ولكل مقام علم، ولكل علم حكم.

وكذلك المعارف على أحكام ومقامات، فلا يتعدى بمعرفة مقامها) .

قال: (وقد قيل لأبي الحسين النوري: كيف لا تدركه العقول؟ فقال: كيف يدرك ذو مدى من لا مدى له؟ أم كيف يدرك ذو غاية من لا غاية له؟ أم كيف يدرك مكيف من كيف الكيف.

وقال الواسطي: كما قامت الأشياء وبه فنيت كذلك به عرفوه.

وقال الشبلي: الحق لا يعرف بسواه.

وقال النباجي: طوبى لأهل المعرفة، عرفهم نفسه قبل أن عرفوه) .

قال: (صدق أئمة الدين، وشيوخ المسلمين فالله سبحانه هو المعروف الأزلي، وهو الهادي إلى معرفته، والمتعرف بنفسه إلى بريته، إذ ضلت العقول والفهوم، والعلوم والأوهام، في تيه التيه أن تتوهمه، والأفكار والأضمار ان تدركه، لأنه العظيم الذي فاتت عظمته لكل

ص: 526

حيث وتقدير، وعجز عن توهمه كل فكر وضمير، وردعت العقول، فلم تجد مساغاً فرجعت كليلة، ورجع الوهم خاسئاً وهو حسير) .

إلى أن قال: (بل هو المعروف بما تعرف، والموصوف كما وصف، فتعرف إلينا بربوبيته، ووصف لنا توحيده ووحدانيته، وأقسم على ذلك بقوله تعالى:{والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد} ، وهو الصادق في خبره وشهادته، إذ هو الواحد في الحقيقة، الذي لا شريك له في الألوهية والابتداع، وتعرف إلينا بهذه المعرفة على ألسنة السفراء، فأوقفتنا السفراء على توحيده، الذي تعرف إلينا به في كلامه وخطاه، فالأصل منه ثم السفراء.

{لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} ، وأسعدنا بالعقل الذي هو الحجة، والعلم الذي هو الحجة، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة، وطالبنا بالاعتبار والافتكار والقبول، ليكون أقوى في البرهان، وأبلغ في البيان.

قال سبحانه: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} ، فنزه نفسه عما زعموا وابتدعوا، وصدق الله في خبره وصدقت الرسل) .

ص: 527

وتكلم على هذه الآية، وعلى قوله:{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} ، بما يناسب ذلك، إلى أن قال: (قال سبحانه: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء} .

وقال سبحانه: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل} .

وقال: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا} ، مثلا لمن عبد غيره، إذ ضرب العبد مثلاً لمن عبد من دونه، لأنه ذليل عاجز مفتقر مدبر مملوك، لا يقدر على شيء: لا نفعا ولا ضراً، ولا خلقاً ولا أمراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.

ومن رزقناه: جعله مثلا يستدل به على توحيده وكمال ربوبيته، لأنه الواسع الجواد القادر الرازق للعباد سراً وجهراً، فضرب الله سبحانه لهم الأمثال ليوبخهم ويريهم عجزهم فيما أضافوا إليه من الشركاء، مع إقرارهم بمعرفة ربوبيته تعالى الله عما يشركون، فعز من لمن يشارك في قدرته، وجل من لم يرام في وحدانيته، وتعظم من تفرد بالربوبية، فجل أن يكون له شريك في خلقه) .

إلى أن قال: (فخلقهم على الفطرة، وبعث إليهم السفراء، وعلمهم العلم، وركب فيهم العقل بالفكر.

فبالفطرة عرفوه، وبالواسائل عبدوه، فلولا الله سبحانه ما عرفناه من طريق ربوبيته، ولولا إرسال الرسول مع ما

ص: 528

خاطبنا به، ووقفنا عليه، ووفقنا له، ومن علينا به، وكتب في قلوبنا، واختصنا - ما عرفنا توحيده، ولا كيف نطيعه.

ولولا ما ظهرت من الآيات والمعجزات، التي أظهرها على أيدي الرسل، بحقائق معانيها التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها، لم نعرف رسله.

ولولا زوائد الأعمال، وتصحيح الأحوال، والعلوم والفهوم والمعارف، وأسرار مقامات القوم، وحلاوة أذواقهم، والروائح الواردة إلينا منهم وعنهم - ما عرفنا ذوي المزيد.

وكل ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.

فلو شكر الكافر ما اضطره إليه من معرفة باريه بربوبيته، واعترف له بنعمه، وإخراجه من العدم إلى الوجود، ورأى الأفضال والنعم التي قد عم بها، وكمال صورته، وإدرار رزقه عليه - لأوصله شكره بمعرفة توحيده، فصدق رسوله، وحقق ما سلف من عهده، ورجع إلى ضرورته، واعترف بوحدانيته، فأبطل ما سواه، ولم ير إلهاً إلا إياه، ولكن لما جهل النعمة.

وزاغ عن العهد، ونكث في إقراره، وكذب السفراء - حرمه أكبر المنن، وأفضل النعم:{فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ، فتركه مع هواه، فكان هلاكه في مناه، وإذا شكر المؤمن معرفة التوحيد التي من بها عليه، وشكرها قبول ماجاء به الرسول: قول، وعمل، وإخلاص نية، وإصابة سنة، ولزوم

ص: 529

قدوة، وحبس عن المخالفة أو صلة بمعرفة مزيدة، فكلما نصح في مزيد، رفع إلى مزيد.

قال سبحانه: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} .

قلت: ويستدل على ما ذكره أبومحمد بن عبد وغيره من أن المعرفة الأولية الفطرية تحصل بلا دليل أن ما يعلم بالدليل إنما يعلم إذا علم أن الدليل مسلتزم له ليكون دليلاً عليه.

وهذه هي الآية والعلامة.

وكذلك الاسم إنما يدل على المسمى إذا عرف أنه اسم له، وذلك مشروط بتصور المدلول عليه اللازم، وبأن هذا ملزوم له.

ولهذا قيل: إن المقصود بالكلام ليس هو تعريف المعاني المفردة، لأن المعنى المفرد لا يفهم من اللفظ حتى يعرف أن اللفظ دال عليه، فلا بد أن يعرف أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، حتى تعرف دلالته عليه، فتكون المعرفة بالمعنى سابقة للمعرفة بدلالة اللفظ عليه، بخلاف المعنى المركب، فإنه إنما يحتاج إلى العلم بجنس المركب لا بالتركيب المعين، فنعرف أنه إذا قيل: قام فلان، أنه فعل القيام القائم به.

فإذا قيل: زيد، عرف أنه فعل القيام القائم به، بخلاف مسمى زيد، وأنه لا يعرف

ص: 530

أن زيداً يدل على مسماه، حتى يعرف أولاً مسمى زيد، فلو استفيد مسمى زيد من زيد لزم الدور.

وهذا موجود في كل ما دل على معنى مفرد.

فما دل على الباري إنما تعرف دلالته عليه إذ عرف أنه مستلزم له، وذلك مشروط بمعرفة اللازم المدلول عليه، فلا يعرف أن هذا دليل على هذا المعين حتى يعرف المعنى والدليل، وأن الدليل مستلزم للمعين المدلول عليه، فلو استفيد معرفة المعين من الدليل لزم الدور، بل يكون ذلك المعين متصور قبل هذا، وتلك الأمور مستلزمة له، وآيات عليه، فكلما تصورت تصور المدلول عليه، فيكون كما قال:{تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} ، تبصرة: إذا قدر أنه مس طيف من الشيطان فشككه فيما عرفه أولاً، فإذا رآى آياته المستلزمة لوجوده، كان ذلك تبصرة من ذلك اللطيف.

كما قال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} ، وتكون تذكرة إذا حصل نسيان وغفلة تذكرة بالله، فهي تبصرة لما قد يعرض من الجهل، وتذكرة لما قد يحصل من غفلة، وإن كان أصل المعرفة فطرياً حصل في النفس بلا واسطة البتة.

ص: 531

وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الأدلة نوعان: أقيسة، وآيات.

فأما الأقيسة فلا تدل إلا على معنى كلي، لا تدل على معنى معين.

فإذا قيل: هذا محدث.

وكل محدث فله محدث قديم.

أو: كل ممكن فلا بد له من واجب، فإنما يدل على قديم واجب الوجود بنفسه، لا يدل على عينه، بل نفس تصور هذا لا يمنع من وقوع الشركة فيه.

فإذا قدر أنه عرف أنه واحد لا يقبل الشركة، فإنه لم تعرف عينه، فلا بد أن تعرف علينه بغير هذه الطريق، والايات تدل على عينه، لكن كون الآية دليلاً على عينه مشروطة بمعرفة عينه قبل، إذ لو لم تعرف عينه لم يعرف أن هذه الآية مستلزمة لها.

فعلم أنه في الفطرة معرفة بالخالق نفسه، بحيث يميز بينه وبين ما سواه، كما ذكره أبو محمد بن عبد وغيره، ولهذا كل من تطلب معرفته بالدليل، فلا بد أن يكون مشعوراً به قبل هذا، حتى يطلب الدليل عليه أو على بعض أحواله.

وأما ما لا تشعر به النفس بوجه فلا يكون مطلوباً لها.

وإذا كان مطلوباً لها فلا يمكن أن يستدل عليه بشيء، حتى يعلم أنه يلزم من تحقق

ص: 532

الدليل تحققه.

وقد بسط هذا في موضع آخر، وبين فيه أن التصور البسيط المفرد لا يجوز أن يكون مطلوباً بالحد، وإنما يطلب بالحد ما يكون مشعوراً به من بعض الوجوه، فيطلب الشعور به من وجه آخر.

ولهذا لم يكن مجرد الحد معرفاً بالمحدود، إن لم يعرف أن الحد مطابق له، وهو لا يعرف ذلك إن لم يعرف المحدود، وإلا فمجرد الدعوى لا تفيد.

وكذلك الدليل القياسي.

إذا قيل: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، فإن لم يعرف المقدمتين لم يعرف النتيجة.

وإذا كان آية على شيء معين.

مثل كون الكوكب الفلاني، كالجدي مثلاً، علامة على جهة الكعبة، فلا بد أن يكون قد عرف الجدي وعرف أنه من جهة الشمال، وعرف أن الجهة المعينة جهة الكعبة في الجنوب، فإذا رآى الجدي علم أن جهة الكعبة تقابله.

ولولا تقدم معرفته بالدليل وهو الجدي، والمدلول عليه وهو جهة الكعبة، لم يمكنه الاستدلال.

لكنه عرف أولاً الدليل والمدلول عليه، ثم خفى عليه المدلول، وهوجهة الكعبة في بعض الأوقات والمواضع، فلما رآى الدليل عرف المدلول الذي كان قد جهله بعد علمه به، كمن سمع منادياً ينادي باسم من يطلبه كابنه وأخيه، وقد أضل مكانه، فإذا سمع الاسم استدل به عل المسمى الذي كان يعرفه قبل هذا، ولكنه قد حصل له به نوع من الجهل بعد ذلك.

فالآيات الدالة على الرب تعالى: آياته القولية التي تكلم بها كالقرآن،

ص: 533

وآياته الفعلية التي خلقها في الأنفس والآفاق، تدل عليه وتحصل بها التبصرة والذكرى، وإن كان الرب تعالى قد عرفته الفطرة قبل هذا، ثم حصل له نوع من الجهل أو الشك أو النسيان ونحو ذلك.

ومما ينبغي أن يعرف أن علم الإنسان بالشيء وتصوره له شيء، وعلمه بأنه عالم به شيء، وعلمه بأن علمه حصل بالطريق المعين شيء ثالث.

وكذلك إرادته وحبه شيء، وعلمه بأنه مريد محب له شيء، وكون الإرادة والمحبة حصلت بالطريق المعين شيء ثالث.

فالمتوضىء والمصلي والصائم يحصل في قلبه نية ضرورية للفعل الاختياري، ولا يمكنه دفع ذلك عن نفسه، وإن لم يتكلم بالنية، ثم قد يظن أن النية إنما حصلت بتكلمه بها، وهو غالط في ذلك.

وكذلك قد يحصل له علم ضروري بمخبر الأخبار المتواترة، ثم ينظر في دلالة الخبر، فيظن أن العلم الحاصل له لم يحصل إلا بالنظر، وهو قد كان قبل النظر عالماً.

وقد يقال: إن النظر وكد ذلك العلم أو أحضره في النفس بعد ذهول النفس عنه، وهذا مما يبين لك أن كثيراً من النظار يظنون أنهم لم يعرفوا الله بالطريق المعين من النظر الذي سلكوه، وقد يكون صحيحاً، وقد يكون فاسداً.

فإن كان فاسداً فهو لا يوجب العلم، وهم يظنون أن العلم إنما حصل به، وهم غالطون.

ص: 534

بل العلم قد حصل بدونه، وإن كان صحيحاً، فقد يكون مؤكداً للعلم ومحضراً له، ومبيناً له، وإن كان العلم حاصلاً بدونه.

هذه الأمور من تصورها حق التصور تبين له حقيقة الأمر في أصول العلم، وعلم أن من ظن أن الأمر الذي يعرفه عامة الخلق، وهو أجل المعارف عندهم، من حصره في طريق معين لا يعرفه إلا بعضهم كان جاهلاً، لو كان ذلك الطريق صحيحاً، فكيف إذا كان فاسداً!؟.

ومما يوضح الكلام في هذا الذكر المشروع لله هو كلام تام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» .

فأما مجرد ذكر الاسم المفرد، وهو قول القائل:(الله، الله) فلم تأت به الشريعة، وليس هو كلاماً مفيداً، إذا الكلام المفيد أن يخبر عنه بإثبات شيء أو نفيه.

وأما التصور المفرد فلا فائدة فيه، وإن كان ثابتاً بأصل الفطرة، وإن كان المعلوم بالفطرة ما تدخل فيه أمور ثبوتية وسلبية.

ص: 535