المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٨

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌كلام أبي الفرج المقدسي

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الحسين البصري عن العلم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الفرج صدقة بن الحسين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام العلماء في ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن عقيل في ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الباقلاني شرحاً لكلام الأشعري

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الحسن الطبري إلكيا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الباقلاني في بيان معنى الخلق

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في نهاية العقول عن مسألة إثبات وجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام الغزالي عن عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم

- ‌رد ابن رشد على الغزالي في تهافت التهافت

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أرسطو وأتباعه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الحامس

- ‌الوجه السادس

- ‌بقية كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فساد مذهب الفلاسفة من وجوه

- ‌الوجه الثاني

- ‌كلام ابن رشد رداً على الغزالي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أرسطو عن الحركة الشوقية والمحرك الأول

- ‌نقد كلام ابن رشد عن الحركة الشوقية للسماوات

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌عود إلى لكلام ابن رشد في الرد على الغزالي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌القول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع لوجوه

- ‌الثاني

- ‌الثالث

- ‌كلام أبي الحسن البصري في إثبات محدث العالم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌تابع كلام الأشعري في اللمع

- ‌كلام الباقلاني في شرح اللمع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود لكلام الباقلاني في شرح اللمع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الباقلاني وتعليق ابن تيمة عليه

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي يعلى في المعتمد عن وجوب النظر

- ‌بطلان استدلال الفلاسفة

- ‌كلام القاضي أبي يعلى عن معنى الفطرة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن عبد البر في التمهيد عن معنى الفطرة

- ‌كلام الطبري في تفسيره عن معنى الفطرة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الحديث حجة على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين

- ‌عود إلى كلام ابن عبد البر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أبي بكر الخلال في كتابه الجامع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن عبد البر في التمهيد

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الأدلة العقلية تدل على أن كل مولود يولد على الفطرة

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌فصل في قوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون

- ‌كلام أبي محمد بن عبد البصري

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية

- ‌تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية

- ‌تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية

الفصل: ‌كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية

يصدر منه العالم مثلاً، فإنما لم يصدر لأنه لم يكن للوجود مرجح، بل كان وجود العالم ممكناً عنه إمكاناً صرفاً، فإذا حدث لم يخل: إما أن يتجدد مرجح أو لا يتجدد، فإن لم يتجدد مرجح بقي العالم على الإمكان الصرف كما كان قبل ذلك، فإن تجدد مرجح انتقل الكلام إلى ذلك المرجح: لم رجح الآن ولم يرجح قبل؟ فإما أن يمر إلى غير نهاية، أو ينتهي الأمر فيها إلى مرجح لم يزل مرجحاً) .

‌كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية

قال ابن رشد: (هذا القول هو قول في أعلى مراتب الجدل، وليس هو واصلاً موصل البراهين، لأن مقدماته هي عامة، والعامة قريبة من المشتركة، ومقدمات البراهين هي من الأمور الجوهرية المناسة، وذلك أن الممكن يقال اشتراك على الممكن الأكثري، الممكن الأقلي، والذي على التساوي، وليس ظهور الحاجة فيها إلى مرجح على التساوي، وذلك أن الممكن الأكثري قد يظن به أن يترجح من ذاته، لا من مرجح خارج عنه، بخلاف الممكن على التساوي.

ص: 195

والإمكان أيضاً منه ما هو من الفاعل، وهو إمكان الفعل، ومنه ما هو من المنفعل، وهو إمكان القبول، وليس ظهور الحاجة فيهما إلى المرجح على السواء.

وذلك أن الإمكان الذي في المنفعل مشهور حاجته إلى المرجح من خارج، لأنه يدرك حساً في الأمور الصناعية وكثير من الأمور الطبيعية، وقد يلحق فيه شك في الأمور الطبيعية، لأن أكثر الأمور الطبيعة مبدأ تغيرها منها، ولذلك يظن في كثير منها أن المحرك هو المتحرك هو المتحرك، وأنه ليس معروفاً بنفسه: أن كل متحرك فله محرك، وأنه ليس ها هنا شيء يحرك ذاته.

فإن هذا كله يحتاج إلي بيان، فلذلك فحص عنه القدماء.

وإما الإمكان الذي في الفاعل، فقد يظن في كثير منها أنه لا يحتاج في خروجه إلى الفعل إلى مرجح من خارج، لأن انتقال الفاعل من أن لا يفعل إلى أن يفعل، قد يظن بكثير منه أنه ليس تغيراً يحتاج إلى مغير، مثل انتقال المهندس من أن لا يهندس إلى أن يهندس، وانتقال المعلم من أن لا يعلم إلى أن يعلم) .

ص: 196

قال: (والتغير أيضاً الذي يقال إنه يحتاج إلى مغير: منها ما هو في الجوهر، ومنه ما هو في الكيف، ومنه ما هو في الكم، ومنه ما هو في الأين.

والقديم أيضاً: يقال على ما هو قديم بذاته، وقديم بغيره عند كثير من الناس، والتغيرات منها ما يجوز عند قوم على القديم، مثل جواز كون الإرادة الحادثة على القديم عند الكرامية، وجواز الكون والفساد على المادة الأول عند القدماء وهي قديمة.

وكذلك المعقولات: على العقل الذي بالقوة، ووهو قديم عند أكثرهم ومنها ما لا يجوز، وبخاصة عند بعض القدماء دون بعض) .

قال: (وكذلك الفاعل أيضاً: منه ما يفعل بإرادة، ومنه ما يفعل بطبيعة.

وليس الأمر في كيفية صدور الفعل الممكن الصدور عنهما واحداً: أعني في الحاجة إلى المرجح، وهل هذه القسمة في الفاعل حاصرة أويؤدي البرهان إلى فاعل لايشبه الفاعلين بالطبيعة، ولا الذي بالإرادة التي في الشاهد) ؟

ص: 197

قال: (وهذه كلها مسائل كثيرة عظيمة يحتاج كل واحد منها إلى أن يفرد بالفحص عنها وعما قاله القدماء فيها.

وأخذ المسألة الواحدة بدل المسائل الكثيرة هو موضع مشهور من مواضع السفسطائيين، والغلط في واحد من هذه المبادي، هو سبب لغلط عظيم آخر في الفحص عن الموجودات) .

قلت: المقصود هنا أن بين اختلاف اصطلاحهم في مسمى الممكن، وأن الطريفة المشهورة عند المتأخرين في الفلسفة هي الطريفة المضافة إلى أفضل متأخريهم ابن سينا، والفارابي قبله.

وهذا ابن رشد، مع عنايته التامة بكتب أرسطو والقدماء، واختصاره لكلامهم، وعنايته بالانتصار لهم والذب عنهم، يذكر أن كثيراً من ذلك إنما هو من قول هؤلاء المتأخرين، ليس هو من قول قدمائهم.

ولما ذكر عن ابن سينا أنه استعمل لفظ الممكن في أعم مما هو عند الفلاسفة قال: إنه جعل المفهوم من لفظ الممكن ما له علة.

ص: 198

قال: وحينئذ فقول القائل: إن الموجود ينقسم إلى ما له علة، وإلى ما لا علة له، يحتاج إلى دليل.

قال: ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري.

فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه، بل هو واجب دائماً بعلته، والممكن الحقيقي ما كان يمكن وجوده وعدمه، وهو ما كان معدوماً.

وحينئذ فالممكن الحقيقي لا يكون إلا حادثاً، وذلك يستلزم وجود واجب وهو الضروري، ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل.

قال: وإذا جعلنا الممكن ما له علة، كان التقدير: أن ما له علة فله علة، ويمكن حينئذ تقدير ممكنات لا تنتهي.

فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له، وهو المسمى عندهم بواجب الوجود، إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له: الممكن الحقيقي، فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية، وأما إن عنى بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية، فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة، ولا تبين بعد أن ها هنا ضرورياً يحتاج إلى علة، حتى يقال: إنه لا بد أن ينتهي

ص: 199

الأمر إلى ضروري بغير علة، إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية، التي من علة ومعلول، كالأمر في الجملة، الممكنة.

قلت: ولفظ الممكن إذا قيل فيه يمكن أن يوجد ويمكن لا يوجد، فهذا لا يكون إلا إذا كان معدوماً.

كما ذكر ابن رشد أنه اصطلاح الفلاسفة، فإما كل ما يمتنع عدمه، فليس بممكن بهذا الاعتبار أن يكون ممكن الوجود والعدم.

بل هذا واجب الوجود، سواء قيل: إنه واجب بنفسه.

أو واجب بغيره، وإذا كان من هذا ما هو واجب بغيره أزلاً وأبداً، فكونه ممكناً يفتقر إلى دليل.

فتقسيم الموجود إلى واجب وممكن، بهذا الاعتبار، لا بد له من دليل، كما ذكر ابن رشد.

بخلاف المعدوم الذي يمكن وجوده، فهذا يعلم أنه ممكن.

ولهذا كان ابن سينا ومن سلك طريقته محتاجين إلى إثبات كون الأفلاك ممكنة بنفسها، لا واجبة بنفسها.

وهذا وإن كان حقاً، لكن دليلهم عليه في غاية الضعف، فإنه مبين على أن كل جسم ممكن، ودليلهم عليه ضعيف جداً، كما قد بين في غير هذا الموضع، وقد بين ضعفه أبو حامد، ووافقه ابن رشد مع عنايته بالرد عليه على ضعف هذه الطريق.

والتحقيق أن هذا يسوغ تسميته ممكناً في اللغة، باعتبار أنه بنفسه لا

ص: 200

يوجد.

لكن ما كان كذلك لا يكون إلا محدثاً، فيسمى ممكناً باعتبار، ويسمى محدثاً باعتبار، والإمكان والحدوث متلازمان، وأما تسمية ما هو قديم أزلي يمتنع عدمه ممكناً يمكن وجوده وعدمه، فهذا لا يعرف في عقل ولا لغة.

وإن قدر أنه حق فالنزاع هنا لفظي.

لكن إذا عرفت الاصطلاحات زالت إشكالات كثيرة تولدت من الإجمال الذي في لفظ الممكن، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

واختلاف الاصطلاح في لفظ الممكن هنا غير اختلاف الاصطلاح في الممكن العام الذي هو قسيم الممتنع.

والممكن الخاص الذي هو قسيم الواجب الممتنع، بل نفس الممكن الخاص على هذا الاصطلاح المذكور عن القدماء إنما هو في المحدث الذي يمكن وجوده وعدمه.

وأما ما يقدر واجباً بغيره دائماً، فذاك لا يسمى ممكناً بهذا الاصطلاح.

وأما على اصطلاح ابن سينا وأتباعه، وهو كون الممكن ما له علة.

قال ابن رشد: فما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري.

فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه، بل هو واجب دائماً بعلة، وهذا مما يقوله الفلاسفة في الأفلاك والممكن الحقيقة هو الحادث.

ص: 201

قال: وذلك يسلتزم وجود واجب وهو ضروري، ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل.

وهذا الذي قاله ابن رشد بناء على أن افتقار المحدث إلى المحدث أمر ضروري، كما هو قول الجمهور.

فإذا كان المراد بالممكن الحقيقي هو الحادث، فلا بد له من فاعل ليس بحادث، وهو الضروري في اصطلح عامة العقلاء، فإن كل قديم هو ضروري عند عامة العقلاء، وكل ممكن الإمكان الخاص هو محدث عندهم، ثم بعد هذا كونه لا علة له.

والعلم بامتناع التسلسل في مثل هذا: بأن يكون للمحدث محدث إلى غير نهاية، ممتنع عند جميع العقلاء.

وقد بين ذلك في موضعه.

وأما كون الممكن، الذي هو قديم أزلي ضروري الوجود، هو معلول لغيره، فهذا ليس يبين أيضاً امتناع التسلسل فيه على هذا التقدير كما تقدم، وعلى هذا التقدير فيمكن تقرير ما ذكره الغزالي من أن ما قالوه في امتناع التسلسل باطل على أصولهم، فإن كل ممكن إذا قدر أنه معلول، مع كونه واجباً قديماً أزلياً، فالقول في علته كقول فيه، فإذا قدر علل ومعلولات، كل منها واجب قديم أزلي لا نهاية لها، لم يظهر امتناع هذا على هذا التقدير، ولم يظهر افتقار مجموعها إلى واجب خارج عنها، إذ كان كل منها واجب له علة.

فإذا قيل: المجموع لا علة له، لم يظهر امتناع ذلك، كما يظهر امتناعه في المحدثات، ولكن كونه له

ص: 202

علة أو لا علة له يفتقر إلى دليل آخر.

وقد تكلم ابن رشد على القول المنسوب إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا في صدرو العالم عن الله، وأنه صدر عن عقل، ثم عن العقل عقل ونفس وفلك، إلى العقل العاشر، كما هو معرف من مذهبهم وتقريره.

قال ابن رشد لما حكاه أبو حامد عنهم: (وهذا كله تخرص على الفلاسفة من ابن سينا وأبي نصر وغيرهما، ومذهب القوم القديم هو أنه ها هنا مبادىء هي الأجرام السماوية، ومبادىء الموجودات السماوية، موجودات مفارقة للمواد، هي المحركة للأجرام السماوية، والأجرام السماوية تتحرك إليها على جهة الطاعة لها، والمحبة فيها، والامتثال لأمرها إياها بالحركة والفهم عنها، وأنها إنما خلقت من أجل الحركة.

وذلك أنه لما صح أن المبادىء التي تحرك الأجسام السماوية هي

ص: 203

مفارقة للمواد، وأنها ليست بأجسام، لم يبق وجه به تحرك الأجسام، ما هذا شأنه إلا من جهة أن المحرك أمر بالحركة، ولذلك لزم عندهم أن تكون الأجسام السماوية حية ناطقة تعقل ذواتها وتعقل مباديها المحركة لها على جهة الأمر لها، ولما تقرر أنه لا فرق بين العلم والمعلول، إلا أن المعلوم في مادة، والعلم ليس في مادة، وذلك في كتاب النفس فإذا وجدت موجودات ليست في مادة، وجب أن يكون جوهرها علماً، أو عقلاً، أو كيف شئت أن تسميها، وصح عندهم أن هذه المبادىء مفارقة للمواد، من قبل أنها التي أفادت الأجرام السماوية الحركة الدائمة، التي لا يلحقها فيها كلال ولا تعب، وإن كل ما يفيد حركة دائمة بهذه الصفة فإنه ليس جسماً ولا قوة في جسم، وأن الجسم السماوي إنما استفاد البقاء من قبل المفارقات، وصح عندهم أن هذه المبادىء المفارقة وجودها

ص: 204

مرتبط بمبدأ أول فيها، ولولا ذلك لم يكن هنا نظام موجود، وأقاويلهم مسطورة في ذلك.

فينبغي لمن أراد معرفة الحق أن يقف عليها من عنده.

وما يظهر أيضاً من كون جميع الأفلاك تتحرك الحركة اليومية، مع أنها تتحرك بها الحركات التي تخصها، مما صح عندهم أن الآمر بهذه الحركة هو المبدأ الأول، وهو الله سبحانه وتعالى، وأنه أمر ساير المبادىء أن تأمر ساير الأفلاك بساير الحركات، وأن بهذا الأمر قامت السماوات والأرض، كما أن بأمر الملك الأول في المدينة قامت جميع الأوامر الصادرة ممن جعل الملك له ولاية أمر من الأمور من المدينة إلى جميع من فيها من أصناف الناس.

كما قال سبحانه: {وأوحى في كل سماء أمرها} ، وهذا التكليف والطاعة هي الأصل في التكليف والطاعة التي وجبت على الإنسان لكونه حيواناً ناطقاً) .

قال: (وأما ما حكاه ابن سينا من صدور هذه المبادىء بعضها

ص: 205

عن بعض، فهو شيء لا يعرفه القوم، وإنما الذي عندهم أن لها من المبدأ الأول مقامات معلومة، لا يتم لها وجود إلا بذلك المقام منه، كما قال تعالى:{وما منا إلا له مقام معلوم} ، وأن الارتباط الذي بينها هو الذي يوجب كونها معلولة بعضها عن بعض، وجميعها عن المبدأ الأول، وأنه ليس يفهم من الفاعل المفعول، والخالق والمخلوق، في ذلك الوجود، إلا هذا المعنى فقط، وما قلناه من ارتباط وجود كل موجود بالواحد، وذلك خلاف ما يفهم ها هنا من الفاعل والمفعول، والصانع والمصنوع.

فلو تخيلت آمراً له مأمورون كثيرون، وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر، ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر، ولا وجود لم دون المأمورين إلا بالمأمورين، لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صار به صارت موجودة، وأنه إن كان شيء وجوده في أنه مأمور، فلا وجود له إلا من قبل الآمر الأول، وهذا المعنى هو الذي ترى الفلاسفة أنه عبرت عنه الشرائع بالخلق والاختراع والتكليف) .

ص: 206

قال: (فهذا هو أقرب تعليم يمكن أن يفهم به مذهب هؤلاء القوم، من غير أن يلحق ذلك الشنعة التي تلحق من سمع مذاهب القوم، على التفصيل الذي ذكره أبو حامد ها هنا) .

يعني ما ذكره ابن سينا.

قال: (وهذا كله يزعمون أنه قد بين في كتبهم، فمن أمكن أن ينظر في كتبهم على الشروط التي ذكروها، فهو الذي يقف على صحة ما يدعون أو ضده) .

قال: (وليس يفهم من مذهب أرسطاطاليس غير هذا، ولا من مذهب أفلاطون وهو منتهى ما وقفت عليه العقول الإنسانية.

وقد يمكن الإنسان أن يقف على هذه المعاني من أقاويل عرض لها إن كانت مشهورة، مع أنها معقولة، وذلك أن ما شأنه هذا الشأن من التعليم، فهو لذيذ محبوب عند الجيمع) .

قال: (وأحد المقامات التي يظهر منها هذا المعنى، هو أن

ص: 207

الإنسان إذا تأمل ما ها هنا، ظهر له أن الأشياء التي تسمى حية عالمة، هي الأشياء المتحركة من ذاتها بحركات محدودة، بجواهر وأفعال محدودة تتولد عنها أفعال محدودة.

ولذلك قال المتكلمون: إن كل فعل فإنما يصدر عن حي عالم، فإذا حصل له هذا الأصل، وهو أن كل ما يتحرك حركات محدودة يلزم عنها أفعال محدودة منتظمة، فهو حيوان عالم.

وأضاف إلى ذلك ما هو مشاهد بالحس، وهو أن السماوات تتحرك من ذاتها حركات محدودة، يلزم عند ذلك في الموجودات التي دونها أفعال محدودة.

ونظام وترتيب به قوام ما دونها من الموجودات، تولد أصل ثالث لا شك فيه، وهو أن السماوات أجسام حية مدركة، فأما أن حركتها يلزم عنها أفعال محدودة، بها قوام ما ها هنا وحفظه، من الحيوان والنبات والجمادات، فذلك معروف بنفسه عند التأمل، فإنه لولا قرب الشمس وبعدها عن فلكها المائل، لم يكن ها هنا فصول أربعة، ولو لم يكن ها هنا فصول أربعة، لما كان نبات ولا

ص: 208

حيوان، ولا جرى الكون علىنظام في كون الاستقصات بعضها من بعض على السواء لينحفظ بها الموجود مثال ذلك أنه إذا بعدت الشمس إلى جهة الجنوب برد الهواء في جهة الشمال، فكانت الأمطار، وكثر الاستقص المائل وكثر في جهة الجنوب تولد الاسطقس الهوائي، وفي الصيف بالعكس: أعني إذا صارت الشمس فوق سمت رؤوسنا، وهذه الأفعال التي تلفى للشمس من قبل القرب والبعد، الذي لها دائماً من موجود موجود، من المكان الواحد بعينه، تلفى للقمر ولجميع الكواكب، فإن لكلها أفلاكاً مائلة، وهي تفعل فصولاً أربعة في حركاتها الدورية.

وأعظم من هذه كلها، في ضرورة وجود المخلوقات وحفظها، الحركة العظمى اليومية الفاعلة للليل والنهار.

وقد نبه الكتاب العزيز على العناية بالإنسان لتسخير جميع السماوات له، في غير ما آية.

مثل قوله سبحانه: {وسخر لكم الليل

ص: 209

والنهار} الآية.

فإذا تأمل الإنسان هذه الأفعال والتدبيرات اللازمة والمتقنة عن حركات الكواكب، ورأى الكواكب تتحرك هذه الحركات وهي ذوات أشكال محدودة، ومن وجهات محدودة، ونحو حركات محدودة، وحركات متضادة - علم أن هذه الأفعال المحدودة إنما هي عن موجودات مدركة حية، ذوات اختيار وإرادة، ويزيده إقناعاً في ذلك أن يرى أن كثيراً من الأجسام الصغيرة الحقيرة الخسيسة المظلمة الأجساد التي ها هنا، لم تعدم بالحياة بالجملة، على صغر أجرامها، وخساسة أقدارها، وقصر أعمارهما، وإظلام أجسادها، وأن الجود الإلهي أفاض عليها الحياة والإدراك، التي لها دبرت ذاتها، وحفظت وجودها - علم على القطع أن الأجسام السماوية أحرى أن تكون حية مدركة من هذه الأجسام، لعظم أجرامها، وشرف وجودها، وكثرة أنوارها.

ص: 210

كما قال سبحانه: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} الآية، وبخاصة إذا اعتبر تدبيرها الأجسام الحية التي ها هنا، علم على القطع أنها حية، فإن الحي لا يدبره إلى حي أكمل حياة منه، فإذا تأمل الإنسان هذه الأجسام العظيمة الحية، الناطقة المختارة المحيطة بنا، ونظر إلى أصل ثالث، وهو أن عنايتها بما ها هنا هي غير محتاجة إليها في وجودها، علم أنها مأمورة بهذه الحركات، ومسخرة لما دونها من الحيوانات والنباتات والجمادات، وأن الآمر لها غيرها، وهوغير جسم ضرورة، لأنه لو كان جسماً لكان واحداً منها، وكل واحد منها مسخر لما دونه ها هنا من الموجودات، وخادم لما ليس يحتاج إلى خدمته في وجود ذاته، وأنه لولا مكان هذا الآمر لها لما اعتنت بما ها هنا على الدوام والاتصال، لأنها مدبرة ولا منفعة لها، خاصة في هذا الفعل فإذن إنما تتحرك من قبل الأمر والتكليف للجرم المتوجه

ص: 211

إليها لحفظ ما ها هنا وإقامة وجوده، والآمر هو الله تعالى.

وهذا كله معنى قوله تعالى: {أتينا طائعين} .

) .

قال: (ومثال هذا في الاستدلال: لو أن إنساناً رأى جمعاً عظيماً من اناس، ذوي نطق وفضل، مكبين على أفعال محدودة، لا يخلون بها طرفة عين، مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجودهم، وهم غير محتاجين إليها - لأيقن على القطع أنهم مكلفون ومأمورون بتلك الأفعال، وأن لهم آمراً هو الذي أوجب لهم تلك الخدمة الدائمة، للعناية بغيرهم المستمرة، هو أعلى قدراً منهم، وأرفع مرتبة، وأنهم كالعبيد مسخرين له.

وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الكتاب العزيز في قوله سبحانه: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} .

وإذا اعتبر الإنسان أمراً آخر، وهو أن كل واحد من الكواكب السبعة،

ص: 212

له حركات خادمة لحركاته الكلية، ذوات أجسام تخدم جسمه الكلي، كأنها خدمة يعتنون بخادم واحد - علم أيضاً على القطع أن لجماعة كل كوكب منها آمراً خاصاً بهم، رقيباً عليهم، من قبل الآمر الأول مثل ما يعرض عند تدبير الجيوش: أن يكون منها جماعة جماعة، كل واحد منها تحت آمر واحد، وأولئك الآمرون، وهم المسمون العرفاء، يرجعون إلى أمير واحد، وهو أمير الجيش.

كذلك الأمر في حركات الأجرام السماوية التي أدرك القدماء.

من هذه الحركات - وهي نيف على الأربعين - ترجع كلها إلى سبعة آمرين، وترجع السبعة - أو الثمانية، على اختلاف بين القدماء في عدد الحركات - إلى الآمر الأول.

وهذه المعرفة تحصل للإنسان بهذا الوجه، سواء علم كيف مبدأ خلقه هذه الأجسام - أعنى السماوية - أو لم يعلم، وكيف ارتباط وجود سائر

ص: 213

الآمرين باللآمر الأول أو لم يعلم، فإنه لا شك أنها لو كانت موجودة من ذاتها، أعني قديمة من غير علة ولا موجد، لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر واحد لها بالتسخير وألا تطيعه، وكذلك حال الآمرين مع الآمر الأول.

وإذا لم يجز ذلك عليها، فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة، وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها، لا فيعرض من اعراضها، كحال السيد مع عبيده، بل في نفس وجودها، فإنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات، بل تلك الذوات تقومت بالعبودية.

وهذا هو معنى قوله تعالى: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} ، وهذا الملك هو ملكوت السماوات والأرض الذي أطلع الله إبراهيم عليه في قوله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون

ص: 214

من الموقنين} وأنت تعلم تأنه إذا كان الآمر هكذا، فإنه يجب ألا تكون خلقة هذه الأجسام ومبدأ كونها على نحو كون الأجسام التي ها هنا، وأن العقل الإنساني يقصر عن إدراك كيفية ذلك الفعل، وإن كان يعترف بالوجود، فمن رام أن يشبه الوجودين: أحدهما بالفاعل، وأن الفاعل لها فاعل بالنحو الذي توجد الفاعلات ها هنا، فهو شديد الغفلة، عظيم الزلة كثير الوهلة) .

قال: (فهذا هو أقصى ما تفهم به مذاهب القدماء في الأجرام السماوية.

وفي إثبات الخلق لها، وفي أنه ليس بجسم، وإثبات ما دونه من الموجودات التي ليست بأجسام، واحدها هي النفس) .

قال: (وأما إثبات وجوده من كونها محدثة، على نحو حدوث الأجسام التي نشاهدها كما رام المتكلمون، فعسير جداً والمقدمات المستعلمة في غير ذلك غير مفضية بهم إلى ما قصدوا بيانه) .

ص: 215