الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لمن تدبره، ومن تدبر كلام هؤلاء وكلام هؤلاء، وجد كلام متكلمي المسلمين خيراً من كلام متكلمي الفلسفة ومبتعيهم.
وهذه الطريقة هي طريقة ابن سينا وأتباعه، لم يسلكها أرسطو وقدماء الفلاسفة.
كلام ابن سينا وتعليق ابن تيمية
وقد قال ابن سينا في الإشارات: (ما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته، فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من
عدمه، من حيث هو ممكن.
فإن صار أحدهما أولى، فلحضور شيء أو غيبته، فوجود كل ممكن الوجود من غيره) .
فقوله: (ما حقه الإمكان فليس يثير موجوداً من ذاته) قضي صحيحة وهي بينة بنفسها، فإن الممكن هو الذي يكون وجوده بنفسه.
فإذا قيل: ما لا يكون وجوده بنفسه فوجوده من غيره، كان هذا من القضايا البينة، ولكن هذا لا يعرف، بل ولا يثبت إلا في الأمور الحادثة، التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى، كما اعترف، هو وسلفه وسائر العقلاء، لأن ما يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثاً.
وقد ذكرنا ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع، ولم يمكنهم إقامة دليل على الافتقار إلى الفاعل إلا في المحدث.
وأما استدلاله على ذلك بقوله: (فليس وجوده في ذاته أولى من عدمه من حيث هو ممكن) فهذا لا يحتاج إليه، وهو متنازع فيه، وهو لم يقم عليه دليلاً، بل يقال: هو العدم باعتبار ذاته أولى به من الوجود، بل هو باعتبار مجرد ذاته لا يستحق إلا العدم، بل يقال: هذا باطل، فإن ما كان يفتقر إلى فاعل يفعله، يعلم بالضرورة أنه لا يوجد إلا بالفاعل الذي فعله، وأما عدمه فلا يفتقر فيه إلى شيء، وكل ما كان يمكن وجوده وعدمه، لا يكون وجوده إلا بموجد يوجده، وأما عدمه فلا يحتاج فيه إلى شيء.
وقوله: (فإن صار أحدهما فلحضور شيء او غيبته) هو أيضاً مما لا يحتاج إليه ولا بينه، ولا هو مسلم، بل هو باطل، إذ كان الممكن إنما يفتقر إلى غيره إذا كان موجوداً، فأما ما كان مستمراً على العدم، فلا يحتاج دوام عدمه إلى شيء، وحقيقة كلامه أنه صار الوجود فلحضور غيره، وإن صار العدم فلغيبة غيره، فيكون إنما عدم لغيبة سببه، وهذا كما قد عرف كلام ليس ببين، وهو متنازع فيه، بل هو باطل، وعند التحقيق تبين أن عدم الغير مستلزم لعدمه، ودليل على عدمه، لا أنه الموجب لعدمه.
وكلام القاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري وأمثالهما في هذا
الباب، هو أصرح في المعقول، بل هو صواب، وهذا خطأ، وإن كان أولئك مقصرين من وجه آخر، حيث استولوا على الواضح بالخفي.
وأما ابن سينا وأتباعه، كـ الرازي وغيره، فدليلهم باطل، ولم يثبتوا وجوداً واجباً، بل تكلموا في تقسيم الوجود إلى واجب وممكن بكلام ابتدعوه، خالفوا به سلفهم وسائر العقلاء ونقضوا به أصولهم التي قرروها بالعقل الصريح، فإن أبا الحسين يقول: (الدليل على أن للمحدث محدثاً هو أنه لا يخول: إما أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث، أو كان يجب أن يحدث، فلو حدث مع وجوب أن يحدث، لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من ان يحدث من قبل، فلا يستقر حدوثه على حال، إذ كان حدوثه واجباً في نفسه.
وإن حدث مع جواز أن لا يحدث، لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث، لولا شيء اقتضى حدوثه)
فقد بين أن الحادث إن كان واجب الحدوث بنفسه لم يختص بوقت دون وقت، إذ الواجب بنفسه لا يختص بوقت دون وقت، وإذا لم يختص يجب أن لا يحدث في بعض الأوقات، والتقدير أنه حدث في بعض الأوقات.
وأيضاً فالتخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص، وإن كان ممكن الحدوث، بحيث يكون قد حدث وكان من الممكن أن لا
يحدث، لم يكن بالحدوث أولى منه بعدم الحدوث لولا شيء اقتضى حدوثه.
فقول أبي الحسين: (لم يكن وجود الحدوث أولى من عدم الحدوث لولا مقتض اقتضى الحدوث) يبين أن رجحان وجود الحدوث على عدم الحدوث، يفتقر إلى مقتض لترجيح الحدوث على عدم الحدوث.
فكانت هذه الطريقة، مع طولها، خيراً من طريقة ابن سينا والرازي وأمثالهما، لو كانت تلك صحيحة، من وجهين: أحدهما: أن افتقار رجحان المحدث على عدمه إلى مقتض، أبين في المعقول من افتقار كل ممكن، فإن الممكن الذي يقدر أنه ليس بمحدث، قد نازع طوائف من الناس في ثبوته، وفي إمكان كونه معلولاً لغيره، ونحو ذلك.
بل عامة العقلاء على امتناعه، والذين يثبتونه يعترفون بامتناعه، والعقل الصريح يدل على امتناعه، ولم يقيموا دليلاً على تحقيقه، ولا على افتقاره إلى واجب، وعلى إثبات واجب يكون قسيماً له.
وأما المحدث الذي كان بعد عدمه، لم ينازع هؤلاء، ولا عامة العقلاء في أنه لا يترجح وجودهه على عدمه إلا بمقتض، فكان الاستدلال بترجيح وجود المحدث على عدمه، أولى من الاستدلال برجحان وجود كل ممكن، لو قدر أن الممكن أعم من المحدث فكيف أذا لم يكون الممكن إلا محدثاً؟ .
الثاني: أنه قال: (لم يكن بالحدوث أولى منه بالعدم لولا شيء اقتضى حدوثه) فبين أن رجحان الوجود على العدم لا يكون إلا بمقتض، لم يقل: إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يكون إلا بمرجح.
وهذا الذي قاله أبو الحسين متفق عليه بين الطوائف، وهو بين في العقل ضروري فيه، بخلاف ما قاله أولئك، فإن فيه نزاعاً واضطراباً، وليس هو بينا في العقل، بل الصواب يقتضيه.
وكذلك أبو الحسين يقول دائماً: (ما كان موجوداً على طريق الجواز لم يكن بالوجود أولى منه بالعدم لولا فاعل) وهذا كلام صحيح، ولكن ابن سينا إنما أخذ هذه الطريق التي سلكها من كتب المعتزلة ونحوهم من متكلمي الإسلام، وأراد تقريبها إلى مذهب سلفه الفلاسفة الدهرية، ليصير كلامه في الإلهيات مقرباً لجنس كلام متكلمي المسلمين، ثم يأخذ المواضع التي خالف فيها المتكلمون للشرع
والعقل، فيستدل لها على ما نازعوه فيه، مما وافقوا فيه دين المسلمين، وهذا كما فعلت إخوانه الباطنية، مثل صاحب كتاب الأقاليد الملكوتية ونحوه، فإنهم عمدوا إلى كل طائفة من طوائف القبلة، فأخذوا منها ما وافقوهم فيه من المقدمات المسلمة التي غلط فيها أولئك، فبنوا عليها لوازمها التي تخرج أولئك عن دين المسلمين، وناظروا بذلك المعتزلة وأمثالهم، كما قالوا للمعتزلة: أنتم سلمتم لنا نفي التشبيه والتجسيم، ونفيتم الصفات بناء على ذلك، ثم أثبتم الأسماء الحسنى لله تعالى والتشبيه يلزم في الأسماء كما يلزم في الصفات.
فإذا قلتم: إنه حي عليم قدير، لزم في ذلك من التجسيم والتشبيه نظير ما يلزم في إثبات الحياة والعلم والقدرة وأردتم إثبات أسماء بلا صفات، وهذا ممتنع.
وإذا كنتم قد وافقتم على نفي الصفات، وهي لازمة للأسماء، فنفي اللازم يقتضى نفي الملزوم، فيلزمكم نفي الأسماء، ولهذانظائر في كلامهم.
فابن سينا وجد في كتب متكلمي المسلمين، من المعتزلة وأشباههم، أن تخصيص أحد المتماثلين على الآخر لا يكون إلا بمخصص، كما في تخصيص الحدوث بوقت دون وقت، وهذا مما جعله هؤلاء أصلاً لهم في إثبات العلم بالصانع.
فأخذ ابن سينا كلام هؤلاء ونقله إلى ماده الإمكان والوجوب، وأن الممكن لا يترجح إلا بمرجح، لئلا يناقض قوله في قدم العالم، ويقول: إنه معلول علة قديمة مستلزمة له ونسى ما قرره في المنطق، هو وسلفه، من أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا حادثاً، وأن الدائم الأزلى والأبدي لا يكون إلا ضرورياً واجباً، لا يكون ممكن الوجود والعدم، وهذا الذي ذكروه في المنطق متفق عليه بين العقلاء.
وأخذ قولهم الضعيف في أن القادر المختار يحدث الحوادث بلا سبب حادث، جعله له حجة على قدم العالم، بناء على مطالبتهم بسبب الحدوث، وكان ما يلزمه ويبين فساد قوله، أعظم مما يلزمهم ويبين فساد قولهم، فإنه إذا كان العالم صادراً عن علة مستلزمة له، والعلة المستلزمة لا يتأخر عنها شيء من معلولها، لزم أن لا يحدث في العالم شيء من الحوادث، أو أن تكون الحوادث حدثت بلا محدث.
وفي ذلك من الترجيح بلا مرجح ما هو أعظم مما بنوا عليه وجود الواجب.
فيلزمهم على قولهم بطلان ما أثبتوا به واجب الوجود، وبطلان الاستدلال بالحدوث على المحدث، وبالممكن على الواجب، وأن تكون الحوادث حدثت بلا محدث أصلاً.
وذلك أعظم من قول أولئك: حدثت عن قادر مختار بدون سبب حادث وهؤلاء أصل قولهم: إن العلة التامة يقارنها معلولها في الزمان، كما جعلوا الفلك القديم الأزلي عندهم مقارناً لعلته في الزمان، وقابلوا لذلك قول المتكلمين، الذي قالوا: بل المؤثر التام يتأخر عنه أثره.
والصواب أن المؤثر التام يتعقبه أثره، لا يقارنه، ولا يتراخي عنه، كما قال تعالى {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} .
ولهذا يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فأنقطع وطلقت المرأة فطلقت، وعتقت العبد فعتق.
وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب تعالى، لأن ما كونه لا يكون إلا بعد تكوينه لا مع التكوين.
وهم إذا قالوا: إن المكون مع التكوين، لزمهم أن لا يحدث شيء من العالم، وهو خلاف المشاهدة.
فإن الأول إذا كان علة تامة، والعلة التامة يقارنها معلولها، وكل ما ساواه معلوله كان الجميع قديماً.
ولزمهم أيضاً أن كل ما حدث يحدث عند حدوثه تمام علل لا نهاية لها، وذلك في آن واحد، وذلك ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء.
وقد ذكر ابن سينا أن هذه الطريقة، التي سلكها في إثبات واجب الوجود ولوازمه، هي غير طريقة سلفه الفلاسفة، بل هي طريقة محدثة.
وهذا مما يبين أنه ركبها مما أخذه عن المعتزلة ونحوهم من متكلمة الإسلام، ومن أصول سلفه الفلاسفة، والذي أخذه عن متكلمة الإسلام أقرب إلى الحق مما أخذه عن سلفه في ذلك، لأنه أخذ عنهم أن تخصيص أحد الشيئين المتماثلين المحدثين دون الآخر لا بد له من مخصص، وهذا حق.
فأخذ من ذلك أن تخصيص الممكن بالوجود لا بد له من موجب، وهذا حق.
لكن قد ينازعونه في أن الممكن: هل يمكن أن يكون قديماً أم لا؟ فإنهم - وعامة العقلاء - يقولون: الممكن لا يكون إلا محدثاً وهو - وسلفه - يسلمون لهم ذلك.
وأيضاً فإن أبا الحسين وأمثاله يقولون: الموجود على طريق الجواز، ليس بالوجود أولى منه بالعدم لولا الفاعل.
ويقولون: إنه يستحيل ان يوجب القديم بالفاعل، لأن المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم، وليس للقديم حال عدمية.
ولهذا يقولون: إن وجود القديم واجب، وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال.
فصح أنه واجب الوجود في كل حال، فاستحال عدمه.