الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأنت لو جعلته من الصنف الأول، من الفاعلين الذين يفعلون تأليف المؤلفات، كان خيراً من أن تجعله فاعلاً للحركات.
لكن الفاعل الدائم، للفعل الذي يحتاج إليه المفعول دائماً، أكمل ممن لا يفتقر إليه المفعول إلا في حال حدوثه، فإذا جعلته فاعلاً للتأليف، وهو محتاج إليه دائماً، كان خيراً من أن تجعله فاعلاً للحركة، فكيف ولم تجعلوه فاعلاً إلا من جهة كونه متشبهاً به فقط؟.
الوجه السادس
أن يقال: العالم ليس فيه مخلوق يشهد أنه فاعل لشيء منفصل عنه من كل وجه، لا عين ولا صفة، فإن فاعل التأليف في غيره كالبناء والخياط والكاتب ونحوهم، غاية فعله تأليف تلك الأجسام، مع أن كثيراً من متكلمة الإثبات، كالأشعري ومن وافقه، يقولون: ليس فعله إلا ما قام به في محل قدرته، وما خرج عنه ليس فعله.
والقائلون بالتولد يقولون: بل ذلك التأليف فعله.
والقول الوسط: أن التألف حادث بسبب فعله القائم به، وبسبب ما في الأجزاء المؤلفة من قبول التأليف وحفظه، ولهذا لم تكن الأجزاء محتاجة إلى الإنسان المحدث لتأليفها بعد التأليف، لأنها تمسك التأليف بما فيها من اليبس
والقوة التي جعلها الله فيها، وتلك لا حاجة إليه فيها، فالذي أحتيج إليه إنما هو مجرد فعله القائم به فقط.
وأما مبدع العالم فهو المبدع لأعيانه وأعراضه وحركاته، فليس له نظير، إذ هو سبحانه ليس كمثه شيء: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وأما ما ذكره هو من إثبات مخلوق محدث لحركة تقوم بغيره، لا يقوم إلا بها، والمخلوق يحدثها دائماً، فليس هذا بمشاهد في الفاعلين، والمثل الذي ضربه لقوله وقولهم، وإن لم يكن مطابقاً، ولس في المشاهدات ما يكون فعله كفعل الرب تعالى، ولا فعل كفعله - فقولهم أقرب من قوله، لأنه موجود في العالم، وهو أقرب إلى الفاعل المطلق.
فقوله: (إن الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحفظه، أشرف وأدخل في باب الفاعلية من الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحتاج إلى فاعل آخر يحفظه بعد الإيجاد) كلام صحيح، لكن ليس هو مطابقاً لقول إخوانه الفلاسفة، فإنهم لم يثبتوا أنه فاعل لجوهر العالم ولأعراضه، بل غاية ما جعلوه فاعلاً للحركة، ثم لم يجعلون فاعلاً لها إلا من جهة كونه
علة غائية، لكون الفلك يقصد التشبه به، وهذا القدر لا يوجب أن يكون هو الفاعل.
وأما أولئك فأثبتوا أنه فاعل لجواهر العالم.
ثم من قال من المتكلمين، المعتزلة ونحوهم، إن المحدثات لا تحتاج إلى الفاعل المحدث إلا في حال الحدوث لا في حال البقاء فقوله - مع فساده - أرجح من قول الفلاسفة، لكونهم أثبتوا فاعلاً حقيقة.
فأما قول أهل السنة وجماهير أهل الملة، الذي يقولون: إن المخلوقات محتاجة إلى الخالق في حال الحدوث وحال البقاء، فهذا أكمل من قولهم من كل وجه، وإذا ضم إلى ذلك أنه إلههم الذي يعبدونه ويحبونه، وأنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، تبين بذلك أن العالم محتاج إليه من جهة كونه رباً فاعلاً، ومن جهة كونه إلهاً محبوباً معبوداً.
وفي هذا من التفاضل بينه وبين قول سلفه الفلاسفة ما لا يخفى على أضعف الناس نظراً.