الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به، امتنع أن تكون واجبة الوجود بنفسها، لأن ما كان واجب الوجود بنفسه لا يكون قوامه بغيره.
وإذا كان الفلك متحركاً بغيره امتنع أن يكون واجب الوجود، فيكون ممكن الوجود بنفسه.
وممكن الوجود بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، فيجب أن يكون مفتقراً إلى مبدع فاعل، كما كان مفتقراً إلى محبوب مشتاق إليه للتشبه به.
فهذه الطريق يمكن أن يقرر به إثبات واجب الوجود.
لكن هم لم يذكروا هذا، وهم في إصطلاحهم لايسمون الواجب بغيره ممكناً.
وإنما سلك هذه الطريقة متأخروهم، لكن متأخروهم لم يثبتوا كون الفلك ممكناً لا واجباً بنفسه بهذه الطريق، فظهر في كلام قدمائهم التقصير من وجه، وفي كلام متأخريهم التقصير من وجه آخر.
ولهذا ما صاروا مقصرين في إثبات كون الفلك ممكناً مصنوعاً، صار الدهرية منهم إلى أنه واجب بنفسه.
عود إلى لكلام ابن رشد في الرد على الغزالي وتعليق ابن تيمية
ولهذا لما ناظرهم أبو حامد الغزالي وبين عجزهم عن إثبات كون كل جسم ممكناً، كما اعترفوا بأنه ليس كل جسم محدثاً، قال: (فإن قيل: إن الدليل على أن الجسم لا يكون واجب الوجود أنه إن كان واجب الوجود
لم يكن له علة: لا خارجة عنه ولا داخلة فيه، فإن كانت له علة لكونه مركباً، كان باعتبار ذاته ممكناً، وكل ممكن مفتقر إلى واجب الوجود) .
أجاب بأن البرهان لم يقم على إثبات واجب الوجود بالتفسير الذي ادعيتموه، وإنما قام بمعنى أنه ليس له علة فاعلة، وأما كونه ليس له علة مادية أو صورية، فلم يقم دليل على واجب الوجود بهذا الاعتبار.
قال: (وكل تلبياتهم في هاتين اللفظيتين) : واجب الوجود وممكن الوجود (فلنعد إلى المفهوم وهو نفي العلة)(يعني العلة الفاعلة) وإثباتها، فكأنهم يقولون: إن هذه الأجسام لها علة أم لا علة لها؟ فيقول الدهري: لا علة لها، فما المستنكر؟ وإذا عنى بالإمكان والوجوب هذا، فنقول: إنه واجب وليس ممكناً.
وقولهم:
الجسم لا يكون واجباً تحكم لا أصل له) .
قال ابن رشد: (قد تقدم من قولنا: إنه إذ فهم من واجب الوجود ما ليس له علة، وفهم من ممكن الوجود ما له علة، لم تكن قسمة الموجود بهذين الفصلين، معترفاً بها، فإن للخصم أن يقول: ليس كما ذكر، بل كل موجود لا علة له.
لكن إذا فهم من واجب الوجود: الموجود الضروي، ومن الممكن: الممكن الحقيقي، أفضى الأمر - ولا بد - إلى موجود لا علة له، وهو أن يقال: كل موجود فإما أن يكون ممكناً أو ضررياً، فإن كان ممكناً فله علة، فإن كانت تلك العلة من طبيعة الممكن، تسلسل الأمر.
فيقطع التسلسل بعلة ضرورية، ثم يسأل في تلك العلة الضرورية: إذا جوز أيضاً أن يكون من الضروري ما له علة وما ليس له علة، فإن وضعت العلة من طبيعة الضروري الذي له علة لزم التسلسل، وأنتهى الأمر إلى علة ضرورية ليس لها علة) .
قال: (وإنما أراد ابن سينا أن يطابق بهذه القسمة رأي الفلاسفة في الموجودات، وذلك أن الجرم السماوي عند الجميع من الفلاسفة هو
ضروري بغيره.
وأما: هل الضروري بغيره فيه إمكان بالإضافة إلى ذاته؟ ففيه نظر ولهذا كانت هذه الطريقة مختلة إذا سلك فيها هذا المسلك، فأما مسلكه فهو مختل ضرورة، لأنه لم يقسم الموجود أولاً إلى الممكن الحقيقي والضروري، وهي القسمة الموجودة بالطبع للموجودات) .
قال: (ثم قال أبو حامد مجيباً للفلاسفة في قولهم: إن الجسم ليس بواجب الوجود بذاته لكونه له أجزاء هي علته.
فإن قيل: لا ينكر أن يكون الجسم له أجزاء، وأن الجملة إنما تقوم بالأجزاء، وأن الأجزاء تكون سابقة في الذات على الجملة.
قلنا: ليكن كذلك، فإن الجملة تقومت بالأجزاء واجتماعها، ولا علة للأجزاء ولا اجتماعها، بل هي قديمة كذلك بلا علة فاعلية، فلا يمكنهم رد هذا إلا بما ذكروه من لزوم نفي الكثرة عن الموجود الأول، وقد أبطلنا عليهم، ولا سبيل لهم سواه) .
قال: (فبان أن من لا يعتقد حدوث الأجسام، لا يصل
لاعتقاد في الصانع أصلاً) .
قال ابن رشد: (هذا القول لازم لزوماً لا شك فيه لمن سلك طريقة واجب الوجود في إثبات موجود ليس بجسم، وذلك أن هذه الطريق لم يسلكها القدماء، وإنما أول من سلكها - فيما وصلنا - ابن سينا، وقد قال: إن أشرف من طريقة القدماء، وذلك أن القدماء إنما صاروا إلى إثبات موجود ليس بجسم هو مبدأ للكل، من أمور متأخرة، وهي الحركة والزمان.
وهذه الطريقة تفضي إليه - زعم - أعني إلى إثبات مبدأ بالصفة التي أثبتها القدماء من النظر في طبيعة الوجود بما هو موجود، ولو أفضت لكان ما قال صحيحاً، لكنها ليس تفضى) .
وذلك أن واجب الوجود بذاته إذا وضع موجوداً فغاية ماينتفي عنه أن يكون مركباً من مادة وصورة، وبالجملة أن يكون له جزء، فإذا وضع موجوداً مركباً من أجزاء قديمة، من شأنها أن يتصل بعضها بعض، كالحال في العالم وأجزائه، صدق على العالم - أو على أجزائه - أنه واجب الوجود) .
قال: (هذا كله إذ سلمنا أن ها هنا موجوداً هو واجب الوجود، وقد قلنا نحن: إن الطريقة التي سلكها في إثبات موجود بهذه الصفة ليست برهانية، ولا تفضى بالطبع إليه، إلا على النحو الذي قلنا، وأكثر ما يلزم هذا القول، أعني ضعف هذه الطريقة عند من يضع ها هنا جسماً بسيطاً غير مركب من مادة وصورة، وهو مذهب المشائين، لأن من يضع مركبا قديماً من أجزاء بالفعل، فلا بد أن يكون واحداً بالذات، وكل وحدة في شيء مركب فهي من قبل واحد بنفسه، أعني بسيطاً ومن قبل هذا الواحد صار العالم واحداً.
وكذلك يقول الإسكندر: إنه لا بد أن تكون ها هنا قوة روحانية سارية في جميع أجزاء العالم، كما يوجد في جميع أجزاء الحيوان الواحد قوة تربط أجزاءه بعضها ببعض.
والفرق الذي بينهم أن الرباط الذي في العالم قديم من قبل أن الرابط قديم، والرباط الذي بين أجزاء
الحيوان ها هنا كائن فاسد بالشخص غير كائن ولا فاسد بالنوع، من قبل الرباط القديم، من قبل أنه لم يمكن فيه أن يكون غير كائن ولا فاسد بالشخص، كالحال في العالم، فتدارك الخالق سبحانه هذا النقص الذي لحقه بهذا النوع من التمام الذي لم يكن فيه غيره، كما يقوله أرسطو في كتاب الحيوان) .
قال: (وقد رأينا في هذا الوقت كثيراً من أصحاب ابن سينا، لموضع هذا الشك، تأولوا على ابن سينا هذا الرأي، وقالوا: إنه ليس يرى أن ها هنا مفارقاً وقالوا: إن ذلك يظهر من قوله في واجب الوجود في مواضع، وإنه المعنى الذي أودعه في فلسفته المشرقية.
قالوا: وإنما سماها فلسفة مشرقية، لأنها مذهب أهل المشرق، ويرون أن الآلهة عندهم هي الأجرام السماوية، على ما كان يذهب إليه وهم مع هذا يضعفون طريق أرسطو في إثبات المبدأ الأول من طريق الحركة) .
قال: (ونحن قد تكلمنا على هذه الطريقة غير ما مرة،
وبينا الجهة التي منها يقع اليقين لها، وحللنا جميع الشكوك الواردة عليها.
وتكلمنا أيضاً على طريقة الإسكندر في ذلك أعني الذي اختاره في كتابه الملقب بالمبادىء وذلك أنه يظن أنه عدل عن طريقة أرسطو إلى طريقة أخرى، لكنها مأخوذة من المبادىء التي بينها أرسطو، وكلا الطريقين صحيحة، لكن الطبيعة أكثر ذلك هي طريقة أرسطو.
قال: (ولكن إذا حققت طريقة واجب الوجود عندي، على ما أصف كانت حقاً، وإن كان فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل، وهو أن يتقدمها العلم بأصناف الممكنات: الوجود في الجوهر، والعلم بأصناف الواجبة الوجود في الجوهر.
وهذه الطريقة هي أن نقول: إن الممكن الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود في الجوهر الجسماني، وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق، وهو الذي لا قوه فيه أصلاً: لا في الجوهر، ولا في غير ذلك من أنواع الحركات.
وما هكذا فليس بجسم.
مثال ذلك أن الجرم السماوي قد يظهر من أمره أنه واجب الوجود في الجوهر الجسماني، وإلا لزم أن يكون هنالك جسم أقدم منه، وظهر منه أنه
ممكن الوجود في الحركة التي في المكان، فوجب أن يكون المحرك له واجب الوجود في الجوهر، وألا يكون فيه أصلاً: لا على حركة، ولا على غيرها، فلا يوصف بحركة ولا سكون، ولا يغير ذلك من أنواع التغيرات.
وما هو بهذه الصفة فليس بجسم أصلاً، ولا قوة في جسم، وأجزاء العالم الأزلية إنما هي واجبة الوجود في الجوهر: إما في الكلية كالحال في الاسطقسات الأربع، وإما بالشخص كالحال في الأجرام السماوية) .
قلت: المقصود ذكر طرق هؤلاء، ومنتهى نظرهم ومعرفتهم، وأن خيار ما في كلام ابن سينا وأمثاله، إنما تلقاه من طرق المتكلمين، كالمعتزلة ونحوهم مع ما فيهم من البدعة.
وأما ما ذكره هذا من طريقة الفقهاء، فهي أضعف وأقل فائدة في العلوم الإلهية من طريقة ابن سينا بكثير، فإن ابن سينا أدخل الفلسفة من المعارف الإلهية التي ركبها من طرق المتكلمين، وطرق الفلاسفة والصوفية.
ما كسا به الفلسفة بهجة ورونقاً، حتى نفقت على كثير من أهل الملل، بخلاف فلسفة القدماء، فإن فيها من التقصير والجهل في العلوم الإليهة ما لا يخفى على أحد.
وإنما كلام القوم وعلمهم في العلوم الرياضية والطبيعية، وكل فاضل يعلم أن كلام أرسطو وأمثاله في الإلهيات قليل نزر جداً، قليل
الفائدة إذاكان صحيحاً، مع أنه لا يوصل إليه إلا بالتعب كثير، مع أنه يقول: هذا غاية فلسفتنا ونهاية حكمتنا.
وهوكما قيل: لحم جمل غث على رأس جبل وعر، ولا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل.
وهذا الذي ذكره ابن رشد في إثبات واجب الوجود، مضمونه: أن الممكن الوجود، هو في اصطلاحه الذي ذكره عن القدماء: المحدث بعد عدم، يجب أن تتقدمه واجب الوجود، وهو القديم الذي لم يسبقه عدم.
وهذا هو بعينه قول المتكلم: إن المحدث مفتقر إلى قديم.
ثم قال: (وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق، وهو الذي لا قوة فيه أصلاً، وليس بجسم) .
وهذا لم يذكر عليه دليلاً صحيحاً.
وقوله: (إن الفلك يظهر من أمره أنه واجب الوجود) أي قديم في جوهره، (وأنه ممكن الوجود في الحركة) هو قول الفلاسفة الدهرية، الذي يقولون: إن الأفلاك قديمة وحركتها دائمة.
وهذا لا دليل له أصلاً، بل جميع ما يذكرونه من الأدلة في
قدم العالم لا يدل شيء منها على قدم الأفلاك، بل غاية ما يدل على أن الله لم يزل فاعلاً، وأنه لا بد قبل الأفلاك من شيء آخر موجود، ونحو ذلك مما لا يدل على قدم الأفلاك.
ثم إذا قدر ثبوت ذلك فقوله: يجب أن يكون المحرك للفلك واجب الوجود في الجوهر، وألا يكون فيه أصلاً لا على حركة ولا غيرها، فلا يكون جسماً، أي لا يقوم له فعل من الأفعال - دعوى مجردة.
ثم لم قدر أنه لا يقوم به فعل، فلم قال: إن ما لا يقوم به فعل لا يكون جسماً؟ يقال: غاية ما ذكره أن يكون ما قاله ممكناً.
فيقال: كما أنه يمكن ذلك فيمكن نقيضه.
فإنه كما يجوز أن يكون المحرك له غير متحرك.
فالمحرك المتحرك أولى بالجواز والإمكان.
ثم يقال: بل ما ذكرته هو على نقيض قولكم أدل منه على قولكم، وذلك لأن الفلك إذا كان دائم الحركة - وقد قررت أن المحرك له غيره - فالمحرك له إما أن يكون متحركاً وإما أن لا يكون.
فإن لم يكن متحركاً كان محركاً لغيره بدون حركة فيه.
وهذا إما أن يكون ممكناً وإما أن يكون ممتنعاً.
فإن كان ممكناً بطل مذهبهم، وإن أمكن فالفلك نفسه: إما أن يكون واجباً بنفسه، وإما أن يكون ممكناً، فإن كان واجباً بنفسه وحركته ممكنة، وهو محتاج في حركته
إلى محرك منفصل، كان واجب الوجود بنفسه جسماً متحركاً بحركة تقوم به، يفتقر فيها إلى غيره.
وحينئذ فيمكن أن يقال: المحرك للفلك هو أيضاً جسم متحرك بحركة فيه، سواء احتاج فيها إلى غيره أولم يحتج.
وإذا لم يتحج إلى غيره كان أولى.
وإن قيل: إن الفلك ممكن الوجود، فلا بد له من الواجب، فيكون الواجب علة موجبة له.
فلا بد أن يكون علة تامة في الأزل له، لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن كذلك.
والعلة التامة لا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها، فإن كان علة تامة لحركة الفلك لزم وجودها في الأزل، وهو ممتنع.
وإن لم يكن علة تامة له، لم يكن بد من أمر يتجدد يصير به علة تامة لحدوث ما يحدث من الحركة.
وذلك المتجدد إن كان منه فقد بطل قولهم، وإن كان من الممكن كان قولهم أبطل وأبطل، فإن ما من الممكن لا بد أن يكون له من الواجب، إذ لا شيء له من نفسه.
وهذا يصلح أن يكون حجة في أول هذه المسألة، وهو أن الحركة الدائمة في الفلك، إذا كانت صادرة عن موجب، فالموجب لها: إن كان علة تامة لها في الأزل لم يتأخر عنها شيء من معلولها، وإن لم تكن تامة في الأزل صار موجباً بعد أن لم يكن.
وذلك التمام: إن كان له من نفسه كان متحركاً، وهو خلاف ما زعموه، وإن كان من غيره كان واجب الوجود بنفسه، مفقتراً في تمام فعله إلى غيره.
وهذا أعظم عليهم: وهو أن يكون متحركاً بحركة من غيره.
وإذا قيل: نقول في صدور الفعل الدائم الذي في الفلك عن الواجب ما يقال لو كان ذلك الفعل في الواجب.
قيل: الفعل إذا كان قائماً في الواجب بنفسه، لم يكن على هذا القول يمتنع أن تقوم به الأفعال التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولا يكون مفتقراً في شيء من ذلك إلى شيء من مخلوقاته، بل كل ما سواه فقير إليه.
وأما على قولهم: فهم يقولون: إنه يمتنع أن يقوم بالمبدأ الأول شيء من الأفعال، ويقولون: إن الفعل الدائم القائم بالفلك صادر عنه شيئاً بعد شيء.
فيقال لهم: الفلك إن كان واجباً بنفسه، فقد قام بالواجب بنفسه حركات شيئاً بعد شيء، فامتنع أن يقولوا: إن الواجب بنفسه لا تقوم به الأفعال.
وإن كان الفلك ليس واجباً بنفسه، لم ممكن بنفسه، فهو صادر عن الأول: ذاته وصفاته وأفعاله.
فإذا قدر قديماً لزم أن يكون المقتضى التام له قديماً، والفلك الممكن قابل للحركة شيئاً بعد شيء، فلا بد له من واجب، والحركة ممكنة لا واجبة بنفسها، فلا بد لها من فاعل يفعلها شيئاً بعد شيء، فإذا قدر الفاعل الفلك، ففاعله الفلك ممكنة، فإذا حدثت شيئاً بعد شيء لم يكن
لها بد من فاعل.
وحدوث الحوادث شيئاً بعد شيء عن علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من موجبها ممتنع، فوجب أن يكون لحدوث تلك الحوادث أمراً يتعلق بالواجب، وذلك من لوازم الواجب، لا يفتقر إلى غير الواجب، وما منه بخلاف ما يقوم بالممكن، فإن الممكن نفسه مفتقر إلى غيره، فما فيه أولى أن يفتقر إلى غيره.
وهذا قد بسط في موضع آخر، وبين أنهم يلزمهم التناقض وفساد قولهم، سواء قدر الفلك واجباً بنفسه، أو قدر ممكناً واجباً بغيره.
والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طرق الطوائف في إثبات الصانع، وأن ما يذكره أهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة، فإما أن يكون طويلاً لا يحتاج إليه، أو ناقصاً لا يحصل المقصود، وأن الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها، وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة، وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما نيقصون به عن أهل الإيمان نقصاً عظيماً إذا عذروا بالجهل، وإلا كانوا من المستحقين للعذاب، إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة، فهم بين محروم ومأثوم.
وهذه الطرق التي أخدها، ابن سينا عن المتكلمين، من المعتزلة ونحوهم، وخلطها بالكلام سلفه الفلاسفة، صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة، يستطيل بها على المسلمين، ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين.
وليس الأمر كذلك.
وإنما هو قول مبتدعتهم، وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية: صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقهم عليه مما هو مخالف للنصوص ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية.
ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين، الذين قال الله تعال فيهم:{يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان، والشرك بالرحمن مثل دعوة الكواكب والسجود لها، أو التصنيف في ذلك كما صنفه الرازي وغيره في ذلك.
والذي أحدثه الفلاسفة، كابن سينا وأمثاله، عن المعتزلة: منه ما هو صحيح، ومنه ما هو باطل.
فالصحيح كقولهم: إن تخصيص شيء دون
شيء بالحدوث في وقت دون وقت لا بد له من مخصص.
والباطل نفي الصفات.
وركب ابن سينا من الأمرين ما دار به على المعتزلة، ونحوهم من المتكلمين، ولم يقتصر على مجرد ما قالوه، بل وسع القول فيه، حتى وصله كلام سلفه الدهرية.
فالأول: وهو أن تخصيص الحدوث بوقت لا بد له من مخصص، ضم إليه: أن كل ممكن، وإن كان قديماً، لا يترجح إلا بمرجح، وبنى على ذلك إثبات واجب الوجود.
وهي الطريقة التي أحدثها في الفلسفة، وهي مركبة من كلام الفلاسفة المعتزلة.
والمعتزلة لا تقتصر في أن التخصيص لا بد له من مخصص على تخصيص الحدوث، بل تقول ذلك فيما هو أعم من ذلك، ولا تفرق بين الاختصاص الواجب والاختصاص الممكن.
وابن سينا وافقهم على ذلك، فتناقضت عليه أصوله، وأما الأصل الفاسد الذي أخذه عنهم، فهو نفي الصفات، ولما كانت المعتزلة تنفي الصفات وتسمي إثباتهما تجسيماً، والتجسيم تركيباً، ويقولون: إن المركب لا بد له من مركب، فلا يكون مركباً، فلا يكون
جسماً لأن الجسم مركب، فلا يقوم به صفة، لأن الصفة لا تقوم إلا بجسم، ولا يكون فوق العالم، لأنه لا يكون فوق العالم إلا جسم.
ولا يرى في الآخرة، لأن الرؤية إنما تقع على جسم، أو عرض في جسم.
وكلامه مخلوق، لأن لو قام به الكلام لكان جسماً.
أخذ ابن سينا وأمثاله هذه الأصول، وألزمهم ما هو أبلغ من ذلك، فزاد في نفي الصفات عليهم، حتى كان أظهر تعطيلاً منهم، بل أبلغ تعطيلاً من الجهم رأس نفاة الصفات.
وخالف ابن سينا وأمثاله المعتزلة في أمور: بعضها أصابوا في مخالفتهم، وبعضها أخطأوا في مخالفتهم، لكن الذي أصابوا فيه، منه ما صاروا يحتجون به على باطلهم، لضعف طريق المعتزلة الذي به يردون باطلهم.
وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا كـ الإشارات وغيرها، ويتبين للفاضل أنه إنما بنى إلحاده في قدم العالم على نفي الصفات، فإنهم لما نفوا الصفات والأفعال القائمة بذاته، وسموا ذلك توحيداً، ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيداً، بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل، وأظهر تناقضهم.
ولكن قوله في قدم العالم أفسد من قولهم، ويمكن أظهار تناقض قوله، أكثر من إظهار تناقض أقوالهم.
فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها، ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي، ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر، مع ظهور ترجيحه لقول القائلين بالقدم.
وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها، ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه، فإنهم يوافقون عليها، وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم، وبها تمكن من إنكار المعاد، وتحريف الكلم عن مواضعه، وقال: نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات، وقال: كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد، يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة، وهو نفي الصفات بناءً على نفي التجسيم والتركيب، فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في أمر المعاد.
وبنى ذلك على أن الإفصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به، وإنما
يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه، كما تقدم كلامه.
وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين ألحدوا في اسماء الله وآياته، وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق، وتكذيب رسله، وإبطال دينه.
ودخل في ذلك باطنية الصوفية، أهل الحلول والاتحاد وسموه تحقيقاً ومعرفة وتوحيداً.
ومنتهى أمرهم هو إلحاد باطنية الشيعة، وهو أنه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء.
وكلام ابن عربي، صاحب فصوص الحكم وأمثاله من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، يدور على ذلك لمن فهمه، ولكن يسمون هذا العالم الله، فمذهبهم في الحقيقة مذهب المعطلة، كفرعون وأمثاله، ولكن هؤلاء يطلقون عليه هذا الاسم، بخلاف أولئك.
وأيضاً فقد يكون جهال هؤلاء وعوامهم يعتقدون أنهم يثبتون خالقاً مبايناً للمخلوق، مع قولهم بالوحدة والاتحاد، كما رأينا منهم طوائف، مع ما دخلوا فيه من العلم والدين، لا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء، لما في ظاهره من الإقرار بالصانع ورسله ودينه.
وإنما يعرف ذلك من كان ذكياً خبيراً بحقيقة مذهبهم، ومم كان كذلك فهو أحد رجلين: إمامؤمن عليهم: علم أن هذا يناقض الحق، وينافي دين الإسلام، فذمهم وعاداهم.
وإما زنديق منافق: علم حقيقة