الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تتضمن السمعي.
ثم افترقوا فمنهم من رجح السمعيات، وطعن في العقليات، ومنهم من عكس.
وكلا الطائفتين مقصر في المعرفة بحقائق الأدلة السمعية والعقلية.
ثم تجد هؤلاء وهؤلاء في أتباع الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم.
كلام أبي الفرج صدقة بن الحسين
وكثير من النزاع في ذلك قد يكون لفظياً.
وقد رأيت من ذلك عجائب كطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد سلكوا الطريقة الأولى، ونسبوا من خالفهم في ذلك إلى الجهل والغباوة، حتى أن بعض متأخري أصحاب أحمد، وهو أبو الفرج صدقة ابن الحسين البغدادي صنف مصنفاً سماه محجة الساري في معرفة الباري سلك فيه مسلك ابن عقيل وأمثاله من المتكلمين المنتسبين إلى السنة، مشوب من كلام المعتزلة مع مخالفتهم لهم في شعار مذهبهم، فذكر أنه سئل عن المعرفة بأي طريق تحصل؟ ومن أي طريق تجب؟ وأن يبين اختلاف الناس في ذلك.
وذكر أن الناس تنازعوا في أول واجب على الإنسان بعد سن البلوغ والعقل، هل هو النظر أو المعرفة؟ وأنهم اتفقوا على وجوب المعرفة، واختلفوا في طريقه.
قال: (فذهب أهل الحق والسنة والجماعة إلى أن طريق الوجوب هو السمع والنقل وقالت المعتزلة: طريق الوجوب هو العقل) .
ثم قال: (وهنا مزلة أقدام لبعض أصحابنا الحنابلة.
لأنهم إذا سئلوا مطلقاً عن معرفة الله، وقيل لهم: بم يعرف الله؟ قالوا: بالشرع، من غير فصل بين الوجوب والحصول) .
قال: (وقد نبهتهم على هذا غير مرة، فما هبوا من رقدتهم، ولا انتبهوا من سنتهم) .
ثم ذكر قول الإمامية والباطنية، وأن المعرفة تحصل عندهم بقول الرسول والإمام المعصوم، دون نظر العقل.
وتكلم في مسألة نفي الوجوب العقلي بما ليس هذا موضعه.
وتكلم في طرق المعلومات بالكلام المعروف لأهل هذه الطريقة، وأن منها ما لا يعلم إلا بالعقل، ومنها ما لا يعلم بالسمع، ومنها ما يعلم بهما.
فالذي لا يعلم إلا بالعقل: علمنا بأنه لا بد من موجود قديم، لأن الكل لو كان حادثاً لكان حادثاً بلا سبب.
وهذه المعرفة تتقدم على ورود الرسول، فلا حاجة فيها إلى الرسول.
بل مثاله علمنا بدلالة معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقه.
والذي يعلم بمجرد التعليم من النبي المعصوم مثل علمنا بمقادير العبادات الواجبة، وما يتعلق بالآخرة من الجنة، والنار، وعذاب القبر، والحساب، والميزان، وغير ذلك.
قال: (فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليفصل الشرع،
وليشرح أمر الآخرة.
فأما معرفة افتقار هذا العالم إلى صانع قادر على إرسال الرسل، فهو متقدم على قول الرسول، فكيف يكون مستفاداً من قول الرسول؟ فمعرفة المرسل إذاً تقدم على معرفة الرسول ومعرفة صدقه، فكيف يعرف بقول الرسول؟ قال: وأما مثال ما يدرك بالعقل والسمع جميعاً، فهو كرؤية الله تعالى، وكونه خالقاً لأعمال العباد فهذا مما يعلم بمجرد السمع وبمجرد العقل.
ثم قال: (وأما حجتنا في حصول المعرفة بمجرد العقل فقوله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت} ، وقال في موضع آخر {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ، وقال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} ، فهذا كله دعوة إلى الدلائل العقلية، وهو التأمل في الآيات الدالة على حدوث العالم، وقدم الصانع، من غير شرط، على ما نبنيه من بعد) .
قال: (ولأنه بالعقل يستدل بالشاهد على الغائب، وبالبناء على الباني، وبالكتابة على الكتاب، من غير سماع خطاب) .
قال: (وآثار صنع الباري - عزت قدرته - في الموجودات أكثر وأظهر من كل دليل.
وكل من وقف على آثار صنعته بنور عقله، يقع له العلم بوجود الصانع.
إذ لا يتصور مصنوع بلا صانع، ولا مخلوق بلا خالق) .
قال: (والدليل على أن النظر أول الواجبات هو أن سائر الواجبات من الصلاة والصيام إنما يوجد بعد المعرفة، لأن إنما يصح أن يتقرب إلى الله من يعرفه.
فصارت المعرفة متقدمة على سائر الواجبات، والنظر متقدم على المعرفة، لأنه طريق إليها، وطريق الشيء متقدم عليه، فصح أن النظر متقدم على كل شيء واجب، وهنا التقدم في النظر إنما هو في وجوده لا في وجوبه، وإلا فالواجب الأول هو المعرفة.
يعني: الواجب قصداً) .
قال: (والحاجة التي دعت إلى النظر هو أنه لا طريق إلى المعرفة إلا به.
والدليل على ذلك أن المعرفة إما تكون واقعة مبتدأة، كمعرفة العاقل أن العشرة أكثر من الخمسة، وإما أن تكون واقعةً عن طريق، كمعرفتنا بالمدركات إذا أدركناها بحواسنا الخمس، وكمعرفتنا بما غاب عنا إذا أخبرنا به خلق عظيم شاهدوه، نحو معرفتنا
بمكة من جهة الخبر، وإما أن تكون بالاستدلال، كاستدلالنا بالبناء على الباني) .
قال: (ومعلوم أن معرفة الله تعالى لا تجري مجرى معرفتنا بأن العشرة أكثر من الخمسة، لأنه لو جرت هذا المجرى لاستغنينا عن الاستدلال عليه، كما نستغني عن الاستدلال على أن العشرة أكثر من الخمسة.
ومعلوم أن نفوس العقلاء تتشوف إلى الاستدلال على الله تعالى، ولا يجوز أن تكون معرفتنا بالله تعالى لإدراك الحواس، لأنه لا يجوز أن يدرك بشيء منها في الدنيا، ولا يجوز أن تكون معرفتنا به واقعة بالخبر، لأن الخبر إنما يفضي إلى المعرفة إذا أخبر به خلق كثير عن مشاهدة، وليس أحد يخبرنا بالله عن مشاهدة.
ولا يجوز أن تكون معرفته بطريق الإلهام، كما زعمت طائفة من الصوفية وبعض الشيعة، لأن الإلهام هو تخايل يقع في القلب، قد يكون ذلك من الله وقد يكون من وسوسة الشيطان، وليس على أحدهما دليل يدل عليه، ولأن من يدعي الإلهام يمكن خصمه أن يدعي خلافه.
فإنه إذا قال: ألهمت بكذا.
فيقول خصمه: وأنا ألهمت بكذا.
فكان العمل به عملاً بلا دليل.
ألا ترى أن صاحب الشرع أمرنا بالاجتهاد عند
فقد النصوص؟ هو عمل بدلالة النصوص، كما روي في حديث معاذ) .
قال: (ولا يلزم على هذا التحري في الأواني وغيرها في الشرع، فإنه عمل بشهادة القلب، لأنه هناك ليس ثم دليل سواه.
وذلك ليس من قبل ما ذكرنا، لأن الإلهام لا يصلح حجة لإلزام الحكم على الغير، وكذلك التحري أيضاً لا يصلح للإلزام على غيره، وإنما اعتبر لجواز العمل في حق نفسه عند عدم سائر الأدلة.
أما المشروعات فلا يتصور أن تنفك عن نوع دليل: إما الكتاب، أو السنة، أو إجماع، أو قياس، فلا ضرورة في العمل بغير حجة ودليل.
فإذا بطلت هذه الأقسام كلها ثبت أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا بالنظر) .
قال: (فإن قيل: بماذا تعلمون أن في العقول حجة ودليلاً؟ قيل: بأن تبين في كل مسألة تبييناً عقلياً يفضي النظر فيه إلى العلم.
فإن قيل لم قلتم إن معرفة الله لا تنال إلا بالنظر في حجة العقل؟ قيل: الدلالة على ذلك: أن الكتاب إنما يصح أن يستدل به إذا علم أنه كلام الله الحكيم.
فيجب تقدم العلم بالله وحكمته وبأن هذا كلامه، وإنما لم يصح الاستدلال عليه بالسنة، لأنه إنما يصح الاستدلال بها إذا ثبت أنها كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكيم، فيجب تقدم العلم بالله وحكمته، وأن هذا الرسول رسوله.
وإنما لم يصح الاستدلال بالإجماع على الله، لأنه إنما يصح الاستدلال بالإجماع بعد أن يعلم أن الله ورسوله قد شهدا بأنه حجة، فيجب تقدم العلم بالله، فصح أن العلم بالله لا يستفاد بغير حجة العقل) .
قال: (فإن قيل فما الدليل الذي يؤدي النظر فيه إلى معرفة الله تعالى؟ قيل: نفسك وسائر ما تشاهدوه من الأجسام.
فوجه دلالة
الإنسان من نفسه على الله تعالى أنه قد كان نطفة، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن انتهى إلى حال الكمال، فلا بد لهذا التنقل والتغير من مغير.
ولم يكن التغير في وقت أولى من وقت.
فلا يخلو ذلك المغير إما أن يكون قد اقتضى تغيرها على سبيل الإيجاب من غير اختيار بالطبع أو القالب، أو يكون اقتضى تغيرها على سبيل الاختبار وهو الفاعل.
ولا يخلو ذلك الفاعل إما أن يكون هو الإنسان أو غيره.
وإن كان غيره فلا يخلو إما أن يكون من جنسه أو من غير جنسه.
فإن كان من جنسه فإما أن يكون أبويه أو غيرهما.
فإن كان من غير جنسه فهو قولنا.
وسنبطل سائر الأقسام، ونثبت هذا الأخير.
أما أنه لا يجوز أن يكون الإنسان قد تشكل لأجل أن الرحم على شكل القالب، فلأن الكلام فيمن شكل ذلك القالب، كالكلام فيمن شكل الإنسان، ولأن القالب يقتضي تشكيل ظاهر ما يلقى فيه.
فما الذي اقتضى تشكيل باطن الإنسان ووضع أجزاء الباطن مواضعها؟ ولا يجوز أن يكون المقتضى لتغيير الإنسان وتشكيله طبيعية غير عالمة ولا مختارة، لأن الإنسان أبلغ في الترتيب والحكمة من بناء دار وصناعة تاج.
وكما لم يجز أن يحصل ذلك ممن ليس بعالم فكذلك الإنسان.
ألا ترى أن أعضاء الإنسان مقسومة على حسب المنفعة وموضوعة مواضعها؟ ولا يجوز أن يكون الإنسان هو
الذي غير نفسه من حال إلى حال، لأنه لو قدر على ذلك في حال ضعفه لكان في حال كماله أقدر.
وإذا عجز عن خلق مثله وخلق أعضائه في حال كماله فهو عن ذلك في حال الضعف أعجز، ولا يجوز أن يكون المغير له من حال إلى حال أبويه، لأنه ليس يجري على حسب إيثارهما، ألا ترى أنهما يريدانه فلا يكون ويكرهانه فيكون؟ ويريدانه ذكراً فيكون أنثى، ويريدانه أنثى فيكون ذكراً؟ فإذا لم يكن لأبويه في ذلك تأثير فغيرهما مما لا تعلق له به أجدر.
فصح أن للإنسان فاعلاً مخالفاً له، وهو الله تعالى) .
قال: (فإن قيل: فكيف يدل غير على الله؟ قيل: إن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق.
وهذه حوادث فيجب أن يكون للجسم محدثاً إذ لم يتقدم الحوادث، والدليل على أن الأجسام محدثة هو أن الأجسام محدثة، وكل محدث يحتاج إلى محدث) .
قال: (وهذا الكلام يشتمل على أصلين: أحدهما: أن الأجسام محدثة، والثاني: أن كل محدث يحتاج إلى محدث.
أما الأصل الأول فالغرض به أن يدل على أن الجواهر والأجسام محدثة غير قديمة، ولا
يصح أن تثبت صفة لشيء وتنقى صفة عن شيء إلا وقد عرفنا ما تثبت له الصفة، والصفة التي نثبتها والصفة التي ننفيها.
فيجب أن نذكر ما الجوهر وما الجسم وما القديم وما المحدث.
ولما كان الوصلة إلى حدوث الجسم هو العرض، الذي هو الحركة والسكون، والكون والاجتماع والافتراق، ولم يصح أن يتوصل بما لا نعرفه، وجب أن نبين ما العرض، وما الكون، وما الحركة، وما السكون، وما الاجتماع والافتراق، فالجوهر هو الذي يشغل الحيز في وجوده، ويصح أن تحله الأعراض، ومعنى شغله الحيز أن يوجد في جهة ومكان فيحوزه، ويمنع مثله من أن يوجد معه بحيث هو والجسم هو المؤلف، عند قوم: هو الطويل العميق.
والقديم هو: الموجود الذي لم يزل، والذي لا أول لوجوده والمحدث هو، الذي لوجوده أول.
والعرض هو ما يعرض في الوجود ولا يكون له لبث كلبث الجواهر والأجسام.
وذلك أن ما قل لبثه بالإضافة إلى غيره سموه عارضاً.
قال الله تعالى: {هذا عارض ممطرنا} وذلك نحو الحركة والسكون.
والحركة زوال الجسم من مكان إلى مكان، والسكون لبث الجوهر في المكان أكثر من وقت واحد، والكون ما به كون الجوهر في مكان دون مكان، والاجتماع كونا جوهرين متماسين، والافتراق كونا جوهرين غير متماسين) .