المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في قوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٨

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌كلام أبي الفرج المقدسي

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الحسين البصري عن العلم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الفرج صدقة بن الحسين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام العلماء في ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن عقيل في ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الباقلاني شرحاً لكلام الأشعري

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي الحسن الطبري إلكيا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الباقلاني في بيان معنى الخلق

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في نهاية العقول عن مسألة إثبات وجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام الغزالي عن عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم

- ‌رد ابن رشد على الغزالي في تهافت التهافت

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أرسطو وأتباعه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الحامس

- ‌الوجه السادس

- ‌بقية كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فساد مذهب الفلاسفة من وجوه

- ‌الوجه الثاني

- ‌كلام ابن رشد رداً على الغزالي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أرسطو عن الحركة الشوقية والمحرك الأول

- ‌نقد كلام ابن رشد عن الحركة الشوقية للسماوات

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌عود إلى لكلام ابن رشد في الرد على الغزالي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌القول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع لوجوه

- ‌الثاني

- ‌الثالث

- ‌كلام أبي الحسن البصري في إثبات محدث العالم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌تابع كلام الأشعري في اللمع

- ‌كلام الباقلاني في شرح اللمع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود لكلام الباقلاني في شرح اللمع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الباقلاني وتعليق ابن تيمة عليه

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي يعلى في المعتمد عن وجوب النظر

- ‌بطلان استدلال الفلاسفة

- ‌كلام القاضي أبي يعلى عن معنى الفطرة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن عبد البر في التمهيد عن معنى الفطرة

- ‌كلام الطبري في تفسيره عن معنى الفطرة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الحديث حجة على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين

- ‌عود إلى كلام ابن عبد البر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أبي بكر الخلال في كتابه الجامع

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن عبد البر في التمهيد

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌الأدلة العقلية تدل على أن كل مولود يولد على الفطرة

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌فصل في قوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون

- ‌كلام أبي محمد بن عبد البصري

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية

- ‌تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية

- ‌تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية

الفصل: ‌فصل في قوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون

فإن كان الرابع: فيلزم أن يستوي عندها الصدق والكذب، والاعتقاد المطابق والفاسد، وإرادة ما ينفعها وإرادة ما يضرها، وهذا خلاف ما يعلم بالحس الباطن والظاهر وبالضرورة.

وإن كان الثالث: فيلزم أن يستوي عندها مع العمل أن تعلم وأن تجهل، وأن تهتدي وأن تضل، وأن لا يكون فيها مع استواء الدواعي الظاهرة ميل إلى أحدهما، وهوأيضاً خلاف المعلوم بالحس والضرورة.

وإن كان الثاني: فيلزم أن يستوي عندها إرادة الخير النافع والشر الضار دائماً، إذا استوت الدواعي الخارجة.

هو أيضاً خلاف الحس الباطن والظاهر، وخلاف الضرورة.

فبين أنه لا يستوى عندها هذان، بل يترجح عندها هذا وهذا جميعاً.

وحينئذ فلا تكون مفطورة لا على يهودية ولا على نصرانية، فعلى المجوسبة أولى، ويلزم أن تكون مفطورة على الحنيفية المتضمنة لمعرفة الحق والعمل به، وهو المطلوب.

‌فصل في قوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون

"

فصل في قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون

قالت الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، وللناس في هذه العبادة التي خلقوا له قولان:

أحدهما: أنها وقعت منهم.

ثم هؤلاء منهم من يقول: جميعهم خلقوا لها.

ومنهم من يقول: إنما خلق لها بعضهم.

ص: 468

والقول الثاني: أنهم كلهم خلقوا لها، ومع ذلك فلم تقع إلا من بعضهم.

وهؤلاء حزبان:

حزب يقولون: إن الله لم يشأ إلا العبادة، لكنهم فعلوا ما لا يشاؤه بغير قدرته ولا مشيئته، وهم القدرية المنكرون لعموم قدرته ومشيئته وخلقه.

والثاني يقولون: بل كل ما وقع فهو بمشيئته وقدرته وخلقه، لكن هو لا يحب إلا العبادة التي خلقهم لها، ولا يأمر إلا بذلك، فمنهم من أعانة ففعل المأمور به، ومنهم من لم يفعله.

واللام عند هؤلاء كاللام في قوله: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} ، وفي قوله:{ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين} .

وقوله تعالى: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} ، على قول الأكثرين، الذي يجعول (لعل) متعلقة بقوله:(خلقكم) كما قال {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} .

ص: 469

وقوله: {كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين} .

وقوله: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} .

وقوله: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم} .

وقوله: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} .

ومنه قوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} .

وقوله: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} ونحو ذلك مما فيه: أن الله يفعل فعلاً لغاية يحبها ويرضاها، ويأمر بها عباده، وإذا حصلت لهم كان فيها نجاتهم وسعادتهم، ثم منهم من يعينه على فعلها، ومنهم من لا يفعلها، فإن هذا قد أشكل على طائفة من الناس، وقالوا: كيف يفعل فعلاً لغاية مع علمه أنها لا تحصل؟.

ص: 470

فيقال: الغاية التي يراد الفعل لها هي غاية مرادة للفاعل، ومراد الفاعل نوعان: فإنه تارةً يفعل فعلاً ليحصل بفعله مراده، فهذا لا يفعله، وهو يعلم أنه لا يكون.

والله تعالى يفعل ما يريد، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولكن الله يفعل ما يريد.

وتارةً يريد من غيره أن يفعل فعلاً باختياره، لينتفع ذلك الفاعل بفعله، ويكون ذلك محبوباً للفاعل الأول، كمن يبني مسجداً ليصلي فيه الناس، ويعطيهم مالاً ليحجوا به ويجاهدوا به، وسلاحاً ليجاهدوا به، ويأمرهم بالمعروف ليفعلوه، وينهاهم عن المنكر ليتركوه، وهم إذا فعلوا ما أراد لهم ومنهم، كان صالحاً لهم، وكان ذلك محبوباً له، وإن لم يفعلوا ذلك، لم يكن صلاحاً لهم ولا حصل محبوبه منهم.

ثم هذا قد لا يكون قادراً على فعل ما أمروا به اختياراً.

ولهذا زعمت القدرية النافية أن الرب ليس قادراً على هدي العباد، وهو خطأ عند أهل السنة، وقد يكون قادراً، فإنه سبحانه لو شاء لآتى كل نفس هداها:{ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} .

لكن المخلوق قد يعين بعض من أمره لمصلحة له في إعانته، ولا يعين آخر، والرب تعالى قد يعين المؤمنين فيفعلوا ما أمروا به، وأحبه الله منهم، لا يعين آخرين، لما له في ذلك من الحكمة، فإن الفعل لا يوجد إلا بلوازمه وانتفاء أضداده.

ص: 471

وقد يكون في وجود ذلك فوات حكمة له، هي أحب إليه من طاعة أولئك، أو وجود شيء دفعه أحب إليه من حصول معصية أولئك.

وحينئذ فإذا أمر العباد ونهاهم، ليطيعوه ويعبدوه، ويفعلوا ما أحبه، وينالوا كمالهم الذي هو غايتهم التي خلقوا لها، جاز أن يقال:{وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} ، وأن يقال:{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} .

وأن يقال: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم} .

وأن يقال: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} ، ونحو ذلك.

وإن كان هو لم يخلق ما أمره به، وإذا خلقهم وخلق لهم ما ينتفعون به، ليعبدوه ويطيعوه، ويشكروه ويذكروه، ويبلغوا الغاية المحمودة في حقهم، التي يحبها ويرضاها لهم - صح أن يقال: إنما خلقهم ليعبدوه، وإن كان هو لم يخلق لكل منهم ما به يصير عابداً له، كما جاز أن يقال: وإنما بنيت المسجد ليصلوا فيه، وإنما أعطيتهم المال ليحجوا ويجاهدوا ونحو ذلك، فإنه ليس من شرط من فعل فعلاً لغاية يفعلها غيره، أن يكون هو فاعلاً لتلك الغاية.

ثم إذا علم أن كثيراً من هؤلاء لا يصلي ولا يحج ولا يجاهد، وإن من

ص: 472

يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لا يطيعه، لم يمنع ذلك أن يفعل ما يفعل، ويأمر بما يأمر به، لأن نفس ذلك الفعل وذلك الأمر مصلحة له، وهذا موجود في المخلوق والخالق، فإن المخلوق - كالرسول وغيره - يأمر وينهي، وإن كان يعلم أنه لا يطاع، لأن نفس أمره لهم، له فيه مصلحة ومنفعة وثواب، وفيه حكمة في حق المأمور والمنهي.

وكذلك يفعل ما يفعل لمصالح الناس، وإن علم أنهم لا يفعلون ذلك، إذا كان له في ذلك أجراً ومثوبة ومصالح أخرى، فإنه إذا كان بعض الناس يصلى في المسجد، وبعضهم لا يصلي فيه، قامت حجته على من لا يصل واستحق العقوبة، وكان قد أزاح عن نفسه العلة، بأن يقال: لم يبن لهم مسجداً يصلون فيه.

والخالق تعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأنذر العباد، وأزاح عللهم، وفعل لهم من الأسباب التي بها يتمكنون من الطاعة، أعظم مما يفعله كل آمر غيره بالمأمورين، فليس أحد أزاح علل المأمورين أعظم من الله، فلا تقوم حجة آمر على مأمور، إلا وحجة الله على عباده أقوام، ولا يستحق مأمور من آمره ذماً ولاعقاباً لمعصيته إلا واستحقاق عصاة الله لأمره أعظم استحقاقاً وذماً، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولا ييسر أمر على مأموريه ويرفع عنهم ما لا يطيقونه، إلا والله تعالى أعظم تيسيراً على مأموريه وأعظم رفعاً لما لا يطيقونه عنهم.

ص: 473

وكل من تدبر الشرائع، لا سيما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وجد هذا فيها أظهر من الشمس.

ولهذا قال في آية الصيام: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} .

وقال في آية الطهارة: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} .

وقال: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} .

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» .

وهو سبحانه يسقط الواجبات إذا خشي المريض زيادة في المرض أو تأخر البرء، فيسقط القيام في الصلاة، والصيام في شهره، والطهارة بالماء كذلك، بل المسافر مع تمكنه من الصيام أسقطه عنه في شهره، وقال:{ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} .

ص: 474

والشريعة طافحة بهذا وأمثاله، وهو سبحانه مع ذلك هو رب كل شيء ومليكه وخالقه، فلا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته، وهو سبحانه محسن متفضل إلى من أمرهم ونهاهم بقدر زائد لا يقدر عليه، ولا يفعله غيره، وهو أن جعلهم مؤمنين مسلمين مطيعين، وهذا لا يقدر عليه غيره من الآمرين الناهين، وهو في ذلك محسن إليهم منعم عليهم نعمة ثانية، غير نعمته بالإرسال والبيان والإنذار، فهذه نعمة يختصمون بها غير النعمة المشتركة.

وأما الكفار فلم ينعم عليهم بمثل ما أنعم به على المؤمنين، ومن لم ينعم ويحسن بمثل ذلك، لم يكن قد أساء وظلم مع الإقدار والتمكين وإزاحة العلل، إذا كان له في ترك ذلك حكمة بالغة، لو فعل بهم مثلما فعل بالأولين، بطلت تلك الحكمة التي هي أعظم من طاعتهم، وحصلت مفسدة أعظم من مفسدة معصيتهم.

فمن وجه ليس ذلك بواجب عليه لهم، ومن وجه له في ذلك حكمة بالغة لا تجتمع هي ومساواتهم بأولئك، فتقتضي الحكمة ترجيح خير الخيرين، بتفويت أدناهما، ودفع شر الشرين بالتزام أدناهما.

وقول القائل: كيف يفعل فعلاً لغاية مع علمه أنها لا تحصل؟

جوابه: أن ذلك إنما يمتنع إذا كان ليس مراده إلا تلك الغاية فقط،

ص: 475

فإذا لم تحصل لم يحصل ما أراده، ومن فعل شيئاً لأجل مراد يعلم أنه لا يحصل كان ممتنعاً.

وبهذا يبطل قول القدرية الذين يقولون: لم يرد إلا المأمور، وما سواه واقع بغير مراده، وخلق الخلق لذلك المراد بعينه، مع علمه أنه لا يكون، وهذا تناقض.

يقولون: يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء.

وأما أهل السنة الذين يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يقع إلا ما شاءه، وإن وقع ما لم يحبه ويأمر به، فلحكمة له في ذلك باعتبارها خلقه، ولولا الغاية التي يريدها به لم يخلقه، فلا إشكال على قولهم.

وإذا علم أن الرب له مراد بما أمره، وله مراد بما خلقه، فإذا لم يحصل ما أمر به فقد حصل ما خلقه، فما حصل إلا مراده، وهو لم يخلق ذلك المعين الذي أمر به، لئلا يستلزم عدم مراد أحب إليه منه وهو ما خلقه، وقد يكون ذلك المأمور يستلزم تفويت مأمور آخر هو أحب إليه منه.

مثاله أن فرعون لو أطاع لم يحصل ما حصل من الآيات العظيمة، التي حصل بها من المأمور ما هو أعظم من إيمان فرعون.

وصناديد قريش لو أطاعوا لم يحصل ما حصل من ظهور آيات الرسول، ومعجزة القرآن،

ص: 476

وجهاد المؤمنين الذي حصل به من طاعة الله ومحبوبه ما هو أعظم عنده من إيمان صناديد قريش.

وعلى هذا فيجوز أن يقال: إن الله إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه، فإنه هذا هو الغاية التي أرادها منهم بأمره، وبها يحصل محبوبه، وبها تحصل سعادتهم ونجاتهم، وإن كان منهم من لم يعبده، ولم يجعله عابداً له، إذا كان في ذلك الجعل تفويت محبوبات أخر، هي أحب إليه من عبادة أولئك، وحصول مفاسد أخر، هي أبغض إليه من معصية أولئك.

ويجوز أيضاً أن يقال: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} ، فإنه أراد بخلقهم صائرون إليه من الرحمة والاختلاف.

ففي تلك الآية ذكر الغاية التي أمروا بها، وهنا ذكر الغاية التي إليها يصيرون، وكلاهما مرادة له، تلك مرادة بأمره، والموجود منها مراد بخلقه وأمره.

وهذه مرادة بخلقه، والمأمور منها مراد بخلقه وأمره.

وهذا معنى ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: {إلا ليعبدون} ، قال: معناه إلا لآمرهم أن يعبدوني

ص: 477

وأدعوهم إلى عبادتي، واعتمد الزجاج هذا القول، فرواه ابن أبي نجيح عن مجاهد:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، قال: لآمرهم وأنهاهم.

وروى سليمان بن عامر عن الربيع بن أنس، قال: ما خلقتهما إلا للعبادة.

وأما من قال: المراد: المؤمنون، فروى ابن مصلح عن الضحاك في قوله:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، قال هي خاص للمؤمنين.

وأمامن قال: كلهم وقعت منهم العبادة التي خلقوا لها.

فروي الوالبي عن ابن عباس: إلا ليعبدون: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعاً وكرهاً.

وقال السدي: خلقهم للعبادة، فمن العبادة تنفع، ومن العبادة عبادة لا تنفع:{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} هذا منهم عبادة، وليس تنفعهم مع شركهم.

ص: 478

وروى ابن أبي زائدة، عن ابن جريج في قوله:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، قال: إلا ليعرفون.

روى هذه الأقوال ابن أبي حاتم بأسانيده إلا قول علي.

وذكر الثعلبي عن مجاهد: إلا ليعرفون.

قال: ولقد أحسن في هذا القول، لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده.

ودليل هذا التأويل قوله: {ولئن سألتهم من خلقهم} الآيات، قال: وروى حبان عن الكلبي: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه: قوله: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} ، فعلى هذه الأقوال أن جميع الإنس والجن عبدوه وعرفوه ووحدوه، وأقروا له بالعبودية طوعاً وكرهاً.

والأولون لا ينكرون ما أثبته هؤلاء، لكن يقولون: ليست هذه هي العبادة التي خلقوا لها، وإن كان قد وجد من جميعهم معرفة به، وإقرار به، وعبودية له طوعاً وكرهاً.

وهذا يبين أن جميع الإنس والجن مقرون بالخالق معترفون به مقرون بعبوديته طوعاً وكرهاً، وذلك يقتضي أن هذه المعرفة من لوازم نشأتهم، وأنه لم ينفك عنها أحد منهم، مع العلم بأن النظر المعين الذي يوجبه

ص: 479

الجهمية والمعتزلة لا يعرفه أكثرهم، فعلم بذلك ثبوت المعرفة والإقرار بدون هذا النظر.

وقد روى ابن جريج عن زيد بن أسلم: إلا ليعبدون قال: جبلهم على الشقاء والسعادة.

وكذلك عن وهب بن منبه: {إلا ليعبدون} قال: جبلهم على الطاعة وجبلهم على المعصية، ذكرهما ابن أبي حاتم؟

وعلى هذا فيكون المراد بالعبادة دخولهم تحت قضائه وقدره، ونفوذ ميشئته فيهم.

وقد فسر بهذا ما رواه الوالبي عن ابن عباس حيث قال: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعاً وكرهاً.

قال الثعلبي: (فإن قيل: كيف كفروا، وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟ قيل: إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم، لأن قضاءه جار عليهم، لا يقدرون على الامتناع منه إذا نزل لهم، وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمر به، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه) .

قلت: وهذا المعنى - وإن كان في نفسه صحيحاً، وقد نازعت القدرية في بعضه - فليس هو المراد بالآية.

فإن جميع المخلوقات - حتى البهائم والجمادات - بهذه المنزلة.

ص: 480

وأيضاً فالعبادة المذكورة في عامة المواضع في القرآن لا يراد بها هذا المعنى.

وأيضاً فإن قوله: {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} ، دليل على أنه خلقهم ليعبدوه، لا ليرزقوا ويطعموا، بل هو المطعم الرازق، وإطعامه لهم ورزقه إياهم، هو من جملة تدبيرهم وتصريفهم، الذي قد جعله أهل هذا القول عبادةً له، فتكون العبادة التي خلقوا لها كونهم مرزوقين مدبرين، وهذا باطل.

وأيضاً: فقوله {ليعبدون} يقتضي فعلاً يفعلونه هم.

وكونه يربيهم ويخلقهم، ليس فيه إلا فعله فقط، ليس في ذلك فعل لهم.

ويلي هذا القول في الضعف قول من يقول: إنهم كلهم عبدوه، أو أن الآية خاصة فإنه هذه أقوال ضعيفة، كما أن قول القدرية الذين يقولون: إنه ما كان منهم كان بغير مشيئته وقدرته وإنه لم يشأ إلا العبادة فقط، وما كان غير ذلك فإنه حاصل بغير مشيئته وقدرته - قول ضعيف.

والناس لما خاضوا في القدر صارت الأقوال المتقابلة تكثر فيه، وفي تفسير القرأن بغير المراد، وهو مما «نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حيث خرج عليهم وهم يتنازعون في القدر: هذا قول: ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول: ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض» .

ص: 481

والمقصود هنا أنه من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به، مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء، فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن، وأنه من لوازم خلقهم، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب، كما أن اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم، وذلك ضروري فيهم.

وهذه هو الإقرار والشهادة المذكورة في قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} .

فإن هذه الآية فيها قولان: من الناس من يقول: هذا الإشهاد كان لما استخرجوا من صلب آدم، كما نقل ذلك عن طائفة من السلف، ورواه بعضهم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره الحاكم، لكن رفعه ضعيف.

ص: 482

وإنما المرفوع الذي في السنن، كأبي داود، والترمذي، وموطأ مالك، من حديث أبي هريرة ومن حديث عمر: هو أنهم استخرجهم، ليس في هذه الكتب أنهم نطقوا ولا تكلموا.

ص: 483

ولكن في حديث أبي هريرة أنه أراهم آدم.

وفي حديث عمر وغيره أنه قال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار.

ففيها إثبات القدر وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون، وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم، وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هي وأمثالهم أو أعيانهم.

فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث المرفوعة الثابتة، ولا يدل عليه القرآن، فإن القرآن يقول فيه:{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم} ، فذكر الأخذ من ظهور بني آدم - لا من نفس آدم - وذرياتهم يتناول كل من ولده، وإن كان كثيراً، كما قال تمام الآية:{أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} .

وقال تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض} ، وقال:{ذرية من حملنا مع نوح} ، وقال:{ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون} ، إلى قوله:{وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس} ، فاسم الذرية يتناول الكبار.

ص: 484

وقوله: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} ، فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها: إقراره.

فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه.

قال تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} ، وهذا مما احتج به الفقهاء على قبول الإقرار.

وفي حديث ماعز بن مالك: فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أقر أربع مرات.

ومنه قوله تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر} ، فإنهم كانوا مقرين لما هو كفر، فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم.

وقال تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} ، فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم، وهو إذاً الشهادة على أنفسهم.

ص: 485

ولفظ شهد فلان وأشهدته: يراد به تحمل الشهادة، ويراد به أداؤها، فالأول كقوله:{فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، والثاني كقوله:{كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} .

وقوله: {وأشهدهم على أنفسهم} ، من هذا الثاني، ليس المراد أنه جعلهم يتحملون شهادة على أنفسهم يؤدونها في وقت آخر، فإنه سبحانه في مثل ذلك إنما يشهد على الرجل غيره.

كما في قصة آدم لما أشهد عليه الملائكة، وكما في شهادة الملائكة وشهادة الجوراح على أصحابها، ولما ظن بعض المفسرين هذا قال: المراد أشهد بعضهم على بعض.

لكن هذا اللفظ حيث جاء في القرآن، إنما يراد به شهادة الرجل على نفسه، بمعنى أداء الشهادة على نفسه، وهو إقراره على نفسه، فالشهادة هنا خبر.

وقولهم: {بلى شهدنا} ، هو إقرارهم بأنه ربهم، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه، ولهذا قال في الآية:{وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} ، فقولهم: بلى، معناه: أنت ربنا.

وهذا إقرار بربوبيته لهم، وهذا الإقرار هو

ص: 486

شهادة على أنفسهم، أي إنطاقهم بالإقرار بربوبيته، وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقروا به من ربوبيته.

وقوله: (أشهدهم) يقتضي أنه هو الذي جعلهم شاهدين علىأنفسهم بأنه ربهم، وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آباؤهم، وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريب فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات.

لكن لم يذكر هنا الأمهات لقوله فيما بعد: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} ، وهم كانوا متبعين لدين آبائهم، لا لدين الأمهات، كما قالوا:{إنا وجدنا آباءنا على أمة} .

ولهذا قال: {قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} ، فهو يقول: اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم، فهذا الإقرار حجة لله عليهم يوم القيامة، فهو يذكر أخذه لهم، وإشهاده إياهم على أنفسهم، إذ كان سبحانه خلق فسوى، وقدر فهدى.

فالأخذ يتضمن خلقهم، والإشهاد يتضمن هداه لهم إلى هذا الإقرار، فإنه قال:{أشهدهم} أي جعلهم شاهدين.

وقد ذكرنا أن الإشهاد يراد به تحميل الشهادة، كقوله:{وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، أي احملوا هذه الشهادة على هؤلاء المشهود عليهم.

ص: 487

وهنا لم يقل: أشهدوا على أنفسهم بما أنطقهم به، فيكون هذا إقرار مشهوداً به غير الشهادة، سواء كان شهادة بعضهم على بعض، كما قاله بعضهم أو كان شهادتهم على أنفسهم بما أقروا به، بل شهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم.

فالشهادة هي الإقرار، كما قال:{كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} ، وكما قيل لماعز: شهد على نفسه أربعاً.

فإشهادهم على أنفسهم جعلهم شاهدين على أنفسهم، أي مقرين له بربوبيته، كما قال في تمام الكلام:{ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} ، فقولهم: بلى شهدنا، هو إقرارهم بربوبيته، وهو شهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم وهم مخلوقون به، فشهدوا على أنفسهم بأنهم عبيده.

كما يقول الملوك: هذا سيدي، فيشهد على نفسه بأنه مملوك لسيده، وذلك يقتضي أن هذا الإشهاد من لوازم الإنسان، فكل إنسان قد جعله الله مقراً بربوبيته، شاهداً على نفسه بأنه مخلوق والله خالقه.

ولهذا جميع بنى آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم.

وهذا أمر ضروري لهم لا ينفك عنه مخلوق، وهو مما خلقوا عليه وجبوا عليه، وجعل علماً ضرورياً لهم، لا يمكن أحداً جحده.

ص: 488

ثم قال بعد ذلك: {أن تقولوا} أي كراهة أن تقولوا، ولئلا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين: عن الإقرار لله بالربوبية، وعلى نفوسنا بالعبودية، فإنهم كانوا غافلين عن هذا، بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم، التي لم يخل منها بشر قط، بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية، ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم، من علوم العدد والحساب وغير ذلك، فإنها إذا تصورت كانت علوماً ضرورية، لكن كثير من الناس غافل عنها.

وأما الاعتراف بالخالق فإنه علم ضروري لازم للإنسان، لا يغفل عنه أحد بحيث لا يعرفه، بل لا بد أن يكون قد عرفه، وإن قدر أنه نسيه، ولهذا يسمى التعريف بذلك تذكيراً، فإنه تذكير بعلوم فطرية ضرورية قد ينساها العبد.

كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} ، وفي الحديث الصحيح:«يقول الله للكافر: فاليوم أنساك كما نسيتني» .

ص: 489

ثم قال: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} ، ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد.

إحداهما: {أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} .

فبين أن هذا علم فطري ضروري، لا بد لكل بشر من معرفته، وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل، وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري، وهو حجة على نفي التعطيل.

والثاني: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} ، فهذا حجة لدفع الشرك، كما أن الأول حجة لدفع التعطيل.

فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه، والشرك مثل شرك المشركين من جميع الأمم.

وقوله: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} : وهم آباؤنا المشركون، وتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ وذلك لأنه قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذى الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية، ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين

ص: 490

أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم.

فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء، كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية.

كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها.

وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد، حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا.

وهذا لا يناقض قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ، فإن الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع، لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم.

ومعرفتهم بذلك، وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم، به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله، فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلاً، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني، لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذوراً في التعطيل ولا الإشراك، بل قام به ما يستحق به العذاب.

ص: 491

ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال رسول إليهم، وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول، فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب، والرب تعالى مع هذا لم يكن معذباً لهم حتى يبعث إليهم رسولاً.

والناس لهم في هذا المقام ثلاثة أقوال، قال بكل قول طائفة من المنتسبين إلى السنة، من أصحاب الأئمة الأربعة، أصحاب أحمد وغيره.

طائفة تقول: إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ولا سيئة البتة.

وكون الفعل حسناً وسيئاً إنما معناه أنه منهي عنه أو غير منهي عنه، وهذه صفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع، وهذا قول الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كالقاضي أبي يعلى وأتباعه، وهؤلاء لا يجوزون أن يعذب الله من لم يذنب قط، فيجوزون تعذيب الأطفال والمجانين.

وطائفة تقول: بل الأفعال متصفة بصفات حسنة وسيئة، وأن ذلك قد يعلم بالعقل ويستحق العقاب بالعقل، وإن لم يرد سمع، كما يقول ذلك المعتزلة، ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم،: أبي الخطابي وغيره.

ص: 492

وطائفة تقول: بل هي متصفة بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم، ولكن لا يعاقب أحداً إلا بلوغ الرسالة، كما دل عليه القرآن في قوله تعالى:{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} .

وفي قوله: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} .

وقال تعالى لإبليس: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} .

وهذا أصح الأقوال، وعليه يدل الكتاب والسنة، فإن الله أخبر عن أعمال الكفار بما يقتضي أنها سيئة قبيحة مذمومة، قبل مجيء الرسول إليهم، وأخبر أنه لا يعذبهم إلا بعد إرسال رسول إليهم.

وقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} حجة على الطائفتين.

وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه الآية على منازعيهم، فهي حجة عليهم أيضاً فإنهم يجوزون على الله أن يعذب من لا ذنب له ومن لم يأته رسول، ويجوزون تعذيب الأطفال والمجانين الذي لم يأتهم رسول، بل يقولون: إن عذابهم واقع.

وهذه الآية حجة عليهم، كما أنها حجة على من جعلهم معذبين بمجرد العقول من غير إرسال رسول.

والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح قد يعلم بالعقول، ويعلم أن هذا

ص: 493