المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الحادى والعشرون: السنة الجارية شرح حديث الجارية - الأربعون العقدية - جـ ٢

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الحادى والعشرون: السنة الجارية شرح حديث الجارية

- ‌الحديث الثانى والعشرون: كشف الالتباس عن حديث أمرت أن أقاتل الناس

- ‌الحديث الثالث والعشرون: فتح البصير في بيان ما توسل به الضرير

- ‌ التوسل المختلف فيه:

- ‌الحديث الرابع والعشرون: بيان الحِكَم في شرح حديث إن الله هو الحَكَم

- ‌ الحالات التى يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله شركًا

- ‌الحديث الخامس والعشرون: ذات العماد شرح حديث حق الله على العباد

- ‌الحديث السادس والعشرون: المشكاة في شرح حديث لا تعجز واستعن بالله

- ‌الحديث السابع والعشرون: بيان الحق نفسه في شرح حديث أينا لم يظلم نفسه

- ‌الحديث الثامن والعشرون: ضوء الثريا شرح حديث من عادى لى ولياً

- ‌هل يوصف الله -تعالى- بصفة التردد

- ‌الحديث التاسع والعشرون: المعانى الراسيات شرح حديث إنى معلمك كلمات

- ‌ الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: "احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ "، وبين ما يقع لأهل الإيمان من البلاء والمحن

- ‌ أصل القضاء لا يعارض العمل:

- ‌الحديث الثلاثون: نثر الجمَّان بفوائد حديث إنهما ليعذبان

- ‌هل عذاب القبر يكون على الروح فقط، أم على الروح والبدن

- ‌الحديث الحادي والثلاثون: بلوغ الرُّبَى شرح حديث ضحك النبي تعجبا

- ‌ المخالفون لأهل السنة والجماعة في إثبات صفة اليدين:

- ‌الحديث الثانى والثلاثون: فتح الأعز الأكرم شرح حديث أي الذنب أعظم

- ‌من أتى خلاف المعهود تجاوزت عاقبته الحدود:

- ‌الحديث الثالث والثلاثون: تلخيص الخطاب شرح حديث إنك تأتى أهل كتاب

- ‌الفطرة دالة على نقض مذهب المتكلمين:

- ‌الحديث الرابع والثلاثون: درء الخوض في رد أحاديث الحوض

- ‌ حكم سب الصحابة رضى الله عنهم:

- ‌الحديث الخامس والثلاثون: البيان والتتمة شرح حديث يكون بعدى أئمة

- ‌تعريف الإمامة، وأهمية تنصيب الإمام:

- ‌ وسطية الأمة مع الأئمة:

- ‌الحديث السادس والثلاثون: ردع الجاني على حديث إن الله أفتاني

- ‌ هل السحر حقيقة أم خيال

- ‌الحديث السابع والثلاثون: دليل البيداء شرح حديث أنا أغنى الشركاء

- ‌ هل الرياء مبطل للعمل

- ‌ الشرك الخفي أشد خطورة من المسيح الدجال

- ‌أمور ليست من الرياء:

- ‌الحديث الثامن والثلاثون: نيل المأرب شرح حديث طلوع الشمس من المغرب

- ‌الحديث التاسع والثلاثون: بذل الطاقة شرح حديث صاحب البطاقة

- ‌ أليس تأويل الميزان بالعدل يستقيم لغة

- ‌ ما الذي يوزن في الميزان يوم القيامة:

- ‌ما الحكمة من نصب الموازين، مع كونه عزوجل وسع علمه أعمال العباد ومآلاتهم

- ‌ حكم من مات على الشرك الأصغر:

الفصل: ‌الحديث الحادى والعشرون: السنة الجارية شرح حديث الجارية

‌الحديث الحادى والعشرون: السنة الجارية شرح حديث الجارية

ص: 645

* حديث الباب:

عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ:

كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا الذِّئْبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، فَصَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: " ائْتِنِي بِهَا "، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا:" أَيْنَ اللهُ؟ "، قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ:" مَنْ أَنَا؟، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قال: " أعتِقْها، فإنها مُؤمنةَ ".

* تخريج الحديث:

أخرجه مسلم (537)، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته. والنسائي (1218) باب: الْكَلام فِي الصلَاة، وأخرجه أحمد (23762)

* أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

الأولى: هذا الحديث من أحاديث الصفات:

ذهب جماهير أهل السنة والجماعة إلى أن حديث الباب هذا من أحاديث الصفات الدالة على صفة ذاتية لله -عزوجل - قد دل الكتاب والسنة والإجماع والفطرة والعقل على إثباتها، وهي صفة العلو، فالله -تعالى - مستوٍ على عرشه، فوق سماواته بائن من خلقه، أي منفصل عنهم. وهو قول الكلابية والكرامية ومتقدمى الشيعة الإمامية.

أولاً: أدلة القرآن:

قال تعالى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى /1) فأخبر أنه أعلى من خلقه.

وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] فأخبر أنه فوق الملائكة، ومن مقتضيات اللغة أنَّ مجيء (من) قبل الظرف (فوق) تدل بظهور على أنَّ الفوقية فوقية

ص: 647

ذات؛ لأنَّ فوقية الصفة أو القَهْرْ أو القَدْرْ لا يُؤتى فيها بـ (من)، فلا يُقَال " الذهب من فوق الحديد " ويُعنى به علو الصفة، أو" الملك من فوق الرعية " ويعنى بها من الصفات.

(1)

وقد أخبرنا الله - تعالى - أنه في السماء على العرش، فقال:{أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 16، 17]، وقال تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] فهل يكون الصعود إلا إلى ما علا؟!!

وقال لعيسى عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وقال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)) (الإنسان/23)

وقال عز وجل: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5] وقال تعالى: {ذِي الْمَعَارِجِ، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]

قوله تعالى {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (الْقَصَص/ 38)

فَفي الأية دلالة على أَن مُوسَى عليه السلام أخبر فرعون بِأَن ربه -تعالى- فَوق السَّمَاء؛ وَلِهَذَا قَالَ {وَإِنِّي لأظنه من الْكَاذِبين} .

(2)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

قد وصف الله - تعالى - نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بالعلو والاستواء على العرش والفوقية في كتابه في آيات كثيرة، حتى قال بعض أكابر أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله - تعالى - عالٍ على الخلق، وأنه فوق عباده.

(3)

* وأما أدلة السنة:

1) حديث الباب:

فقد قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: " أَيْنَ اللهُ؟ "، فقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ،

(1)

إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل (1/ 484)

(2)

النصيحة في صفات الرب جل وعلا (ص/12) وإثبات صفة العلو (ص/188)

(3)

مجموع الفتاوى (5/ 121)

ص: 648

قَالَ: " مَنْ أَنَا؟، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قال: " أعتِقْها، فإنها مُؤمنةَ "

ومعنى كونه -تعالى - في السماء:

إذا أريد بالسماء العلو فـ (في) للظرفية وهو أن الله جل وعلا في العلو بائن من خلقه سبحانه وتعالى عالٍ على مخلوقاته بائن من خلقه.

وأما إذا أريد بالسماء: السماء المبنية وهي السبع الطباق فمعنى (في) هنا: بمعنى على يعني: على السماء كما في قوله تعالى: {سِيرُواْ فِي الأَرْضِ} [سورة الأنعام: آية 11] يعني: على الأرض، وكما في قوله:{وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه: آية 71] يعني: على جذوع النخل.

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإنها مؤمنة ":

دليل على أنها لو لم تؤمن بأن الله - تعالى - في السماء لم تكن مؤمنة.

2) وعن أبي هُرَيْرَة - رضى الله عنه - أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمَلَائِكَة يتعاقبون فِيكُم، مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ، ويجتمعون فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر، ثمَّ يعرج إِلَيْهِ الَّذين باتوا فِيكُم فيسألهم، وَهُوَ أعلم بهم كَيفَ تركْتُم عبَادي؟ فَيَقُولُونَ: أتيناهم وهم يصلُّونَ، وتركناهم وَهُوَ يصلُّونَ "

(1)

3) وعن جابر -رضى الله عنه- في خطبة عرفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللهُمَّ اشْهَدْ» .

(2)

4) عَنْ أَبِي مُوسَى -رضى الله عنه - قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ:

" إِنَّ اللهَ عز وجل لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ.

(3)

5) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ

(1)

متفق عليه.

(2)

أخرجه مسلم (1218)

(3)

أخرجه مسلم (179)

ص: 649

إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ "

(1)

6) عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

«إِنَّ رَبَّكُمْ تبارك وتعالى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»

(2)

7) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تَنْفَجِرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ عز وجل.

(3)

8) عن أبي مُوسى رضي الله عنه قال:

قام فِيَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال:

«إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ، ولا ينبغِي له أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ القِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِليهِ عَمَلُ الليلِ قَبْلَ النَّهارِ، وعملُ النهار قبلَ الليل حِجَابُهُ النُّورُ، لو كَشَفَهَا؛ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كلَّ شيءٍ أَدْرَكَه بَصَرُهُ»

(4)

قال أبو سعيد الدارمى:

فإِلى مَنْ تُرْفَعُ الأعمالُ؟!!، والله بِزعمِكُم الكاذِب مع العامل بنفسه، في بيته ومسجده ومنقلبه ومثواه، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

(5)

9) حديث العروج ليلة الإسراء، وفيه يقول أَنَسُ بْن مَالِكٍ رضى الله عنه:

" لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، أجَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَعَلَا بِهِ -أى جبريل - إِلَى الجَبَّارِ

"

(6)

* الإجماع:

قال أبو الحسن الأشعري:

وأجمعوا على أنه عز وجل فوق سماواته على عرشه، دون أرضه.

(7)

(1)

متفق عليه. وهو حديث كثير الطرق، متواتر من جهة النقل، كما ذكر ابن عبد البر في التمهيد (7/ 128)

(2)

أخرجه الترمذى (3556) وأبوداود (1488) وجوّد الحافظ إسناد هذا الحديث في الفتح (11/ 143)

(3)

أخرجه البخاري (2637)، وأحمد (8402)

(4)

أخرجه مسلم (179)

(5)

الرد على الجهمية (ص/49)

(6)

متفق عليه.

(7)

رسالة إلى أهل الثغر (ص/75)

ص: 650

وقال ابن بطة:

وأجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله تبارك وتعالى على عرشه فوق سماواته بائنٌ من خلقه، وعلمه محيط بجميع خلقه لا يأبى ذلك ولا يكره إلا من انتحل مذاهب الحلولية، وهم قوم زاغت قلوبهم واستهوتهم الشياطين فمرقوا من الدين.

(1)

قال أبوحاتم وأبوزرعة:

أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمناً، فكان من مذهبهم أن الله - تعالى - على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله بلا كيف، أحاط بكل شيء علماً {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} .

(2)

*وكذلك ممن نقل الإجماع على ذلك:

شيخ الإسلام ابن تيمية وأبوسعيد الدارمي، وقد نقل الذهبي ما يزيد على المائة نيفاً من أسماء الأئمة الذين صرحوا بأن الله -تعالى - في السماء عالياً على خلقه، منذ ظهور مقالة الجهمية - نفاة العلو- إلى نهاية القرن الثالث.

(3)

* ومما ورد عن الصحابة -رضى الله عنهم- في ذلك:

قال ابن مسعود رضى الله عنه:

العرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.

(4)

وقال ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: اسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - عَلَى عَائِشَةَ -رضى الله عنها- قبل موتها، وَهِيَ مَغْلُوبَةٌ، فقَالَ:

«فَأَنْتِ بِخَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَنْكِحْ بِكْرًا غَيْرَكِ، وَنَزَلَ عُذْرُكِ مِنَ السَّمَاءِ» .

(5)

8) وعن أنس -رضى الله عنه- قال: كَانَتْ زَيْنَبُ -رضى الله عنها- تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ:

(1)

الإبانة (3/ 136)

(2)

أورده اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، برقم:(321) وانظر إثبات صفة العلو (ص/184)

(3)

وانظرمجموع الفتاوى (16/ 110) و الرد على الجهمية (ص/49) الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (7/ 136) ونقد الجوهرة (ص/240)

(4)

أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (659) والبيهقي في الأسماء والصفات (851) وقال الذهبي في " العلو ": إسناده صحيح، ووافقه الألباني في مختصر العلو (ص/103).

(5)

أخرجه البخاري (4753)

ص: 651

زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ.

(1)

*وأما العقل:

فدلالة العقل على علو الله - تعالى- من وجوه، نذكر منها وجهين:

أ) الأول:

وهو أنّ الله عز وجل موجود بالاتّفاق، الوجود قَدْرٌ مشترك، فالله عز وجل موجود، وخلق الله عز وجل أيضا موجودون، وهذان الوجودان إما أن يتمايزا، وإما أن يتداخلا:

فإن تداخلا -يعني صار أحدهما داخل الآخر-:

فإما أن يكون الخَلْقْ محيطين بالله تعالى، وإما أن يكون الخَلْقْ في داخل الله عز وجل.

وخَلْقْ الله عز وجل والكائنات منها أشياء مستقبحة ومستقذرة وقبيحة، مثل النجاسات ومثل القاذورات، وهذه لا أحد - من جميع من يبحث هذه المسائل- يقول بجواز أن تكون في داخل الله عز وجل.

فإذاً تَحَصَّلَ الأمر إلى أنَّه يتعَيَّنْ أن يكون الله عز وجل عالياً على خلقه؛ لأنَّ الإختلاط يقتضي هذا المعنى العقلي الفاسد، وكون الله عز وجل في داخل خلقه هذا فيه نَقص لله تعالى.

(2)

ب) الثانى:

ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص، فإن الله -تعالى- يوصف بالكمال منهما دون النقص، فلما تقابل الموت والحياة وُصف بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل وصف بالعلم دون الجهل، والمنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر، وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم، وعلوه القهر مضمونه أنه قادر على العالم، فإذا كان مبايناً للعالم، كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم، لا محاذياً له، ولا سافلاً عنه، ولمَّا كان العلو صفة كمال، كان ذلك كم لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عالياً عليه، لا يكون قط غير عالٍ عليه.

(3)

(1)

أخرجه البخاري (7420)

(2)

إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل (1/ 487)

(3)

انظر درء تعارض العقل والنقل (7/ 5 - 6) ومن أراد الاستزادة من دلالات العقل على ذلك فليراجع " الرد على الزنادقة "(ص/95) ومختصر الصواعق (1/ 280)

ص: 652

* الفطرة:

قال الدارمي:

وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء، حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك، إذا حزب الصبي شيء يرفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها، فكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية.

(1)

وهكذا رأينا كل من يسأل أين الله؟ يبادر بفطرته ويقول في السماء.

فلم يقل قائل: يا الله، إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو، بحيث لا يمكن دفع هذه الضرورة عن القلوب ولا يلتفت الداعي يمنة ولا يسرة، وهذا الوجه يتضمن بيان اضطرارهم إلى قصده في العلو، وتوجههم عند دعاءه إلى العلو، والأول يتضمن فطرتهم على الإقرار بأنه في العلو والتصديق بذلك، فهذا فطرة واضطرار إلى العلم والتصديق والإقرار، وذلك اضطرار إلى القصد والإرادة والعمل متضمن للعلم والتصديق والإقرار.

(2)

* والعرب في جاهليتهم- مع شركهم- كانت عندهم الفطرة السليمة في هذا المقام، حتى كان عنترة وهو من شعراء الجاهلية يقول:

يا عبل أين من المنية مهربُ

إن كان ربي في السماء قضاها.

(3)

وقال ابن القيم:

وعلوه فوق الخليقة كلها

فطرت عليه الخلق والثقلان

لا يستطيع معطل تبديلها

أبدا وذلك سنة الرحمن

كل إذا ما نابه أمر يرى

متوجها بضرورة الإنسان

نحو العلو فليس يطلب خلفه

وأمامه أو جانب الإنسان.

(4)

(1)

وانظر نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد (1/ 229)

(2)

وانظر العلو للعلى الغفار (ص/81) ودرء التعارض (7/ 5) وأقاويل الثقات في تأويل الأسماءوالصفات (ص/41)

(3)

شرح الواسطية ليوسف الغفيص (ص/249)

(4)

متن القصيدة النونية (ص/75)

ص: 653

* المخالفون لأهل السنة في هذا الباب:

*قول الجهمية:

وهم في هذا الباب طائفتان، جهمية معطلة، وجهمية حلولية: وهما يتفقان ويفترقان:

أ) أما وجه الاتفاق بينهما:

فهو في نفى صفة العلو عن الله- تعالى- بدعوى أن إثبات العلو لله -تعالى- يلزم منه القول بالحد والجهة، وهذه الأمور- حسب زعمهم- لازمها إثبات الجسمية، والأجسام حادثة، والله منزَّه عن الحوادث!!

(1)

ب) وأما وجه الافتراق فهو في إثبات المكان:

فأما المثبتة وهم الجهمية الحلولية، فيقولون:"إن الله في كل مكان "، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.

وأما النفاة وهم الجهمية المعطلة فقالوا:

أن الله منزَّه عن المكان والجهة، فلا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل.

وقد بلغ بالطائفتين أن لقبوا سلف الأمة المتمسكين بإثبات صفة العلو لله -تعالى- بلقب " الحشوية.

(2)

* وإليك بيان ذلك:

أ) الجهمية المعطلة:

ساروا على قاعدتهم في نفي صفات الله عز وجل، حيث إنهم أخلوا الله جل وعلا عن أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم الذين قالوا: إن الله ليس في السماء وإنه ليس على العرش، ومن أقوالهم أيضاً:(إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، وإنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع)، وأكثر المعتزلة على هذا القول.

(1)

كما نص على ذلك الرازي في "الأربعين في أصول الدين"(1/ 149)

(2)

فالخواص من أهل البدع يقصدون بهذا الاسم أن المسمَّى به -وهم أهل السنة- حشوٌ في الوجود، وفضلة في الناس، لا يُعْبَأ بهم، ولا يقام لهم وزن؛ إذ لم يتبعوا آراءهم الكاسدة، وأفكارهم الفاسدة.

*وأما العوام منهم فيظنون أن تسمية السلف بالحشوية لقولهم بالفوقية، وكون الإله في السماء، بمعنى أنهم اعتقدوا - وحاشاهم - أن الله تعالى حَشْوُ هذا الوجود، وأنه داخلَ الكون - تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا -، وهذا بهتان عظيم على أهل الحديث. على أن هذا القول لم يقل به أحد.

ص: 654

قال ابن حزم:

الله -تعالى- لا في مكان ولا في زمان أصلاً وهو قول الجمهور من أهل السنة!!، وبه نقول، وهو الذي لا يجوز غيره لبطلان كل ما عداه؛ ولقوله تعالى {ألا إنه بكل شيء محيط} فهذا يوجب ضرورة أنه تعالى لا في مكان، إذ لو كان في المكان لكان المكان محيطاً به من جهة ما أو من جهات، وهذا منتف عن الباري تعالى بنص الآية.

(1)

ب) الجهمية الحلولية:

وهم القائلون بالحلول العام

(2)

:

والمعنى أن الله بذاته في كل مكان، ونفوا كونه على عرشه، وهذا المذهب قد غلب على عُبَّادهم وصوفيتهم وعامتهم، وقال به النجارية من المعتزلة.

(3)

* ومن شبهاتهم في هذا الباب:

1 -

قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)(الأنعام: 3)

2 -

قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)(المجادلة: 7).

3 -

قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ (4)) (الحديد: 4)

* تنبيه:

يُلحق بالجهمية الحلولية في هذا الباب " المتصوفة الحلولية ":

وهم القائلون بحلول الله في كل مكان، وقد ذكرهم شيخ الإسلام ابن تيمية، والرازي أيضًا

(1)

الفصل في الملل والأهواء والنحل (1/ 383)

(2)

وإنما ذكرنا مصطلح "الحلول العام " تمييزاً له عما يعرف بـ " الحلول الخاص ":

وهو قول النسطورية من النصارى ومن نحا نحوهم ممن يقول: إن اللاهوت حل في الناسوت. فمصدر هذا القول إنما هو من النصارى، ولكن دخل في الإسلام بواسطة الرافضة الغلاة الذين قالوا: إن الله حل بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته، كما قال به الصوفية المنتسبة إلى الإسلام الذين يقولون بأن الله حلَّ في الأولياء.

وانظر الشرك في القديم والحديث (ص/840)

(3)

وقد أبان شيخ الإسلام ابن تيمية أن قول نفاة المكان هو قول خاصة الجهمية، وقول الحلول قول عامتهم، وقال في بيان علة التفريق:

" ولهذا كان العامة من الجهمية إنما يعتقدون أنه في كل مكان، وخاصتهم لا تظهر لعامتهم إلا هذا، لأن العقول تنفر عن التعطل أعظم من نفرتها عن الحلول، وتنكر قول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، أعظم مما تنكر أنه في كل مكان، فكان السلف يردون خير قوليهم وأقربهما إلى المعقول، وذلك مستلزم فساد القول الآخر بطرق الأولى. " انظر درء تعارض العقل والنقل (6/ 154)

ص: 655

في بعض مصنفاته.

(1)

وهؤلاء لهم جميعاً من بدع القول الكفرية والضلالات ما يستحيي القلم عن تسطيره، ونذكر من بعض أقوالهم لبيان قبح منهجهم وشؤم سيرتهم وسريرتهم:

1) قال داود بن علي: كان المريسي - لا رحمه الله يقول:

" سبحان ربي الأسفل".

(2)

2) ويقول الحلاج، وهو أول من قال بالحلول من المتصوفة في الإسلام:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

ليس في المرآة شيء غيرنا

قدسها المنشد إذ أنشده

نحن روحان حللنا بدنا

لا أناديه ولا أذكره

إن ذكري وندائي يا أنا.

(3)

*ومن الجواب عليهم:

1) قول الجهمية بنوعيهم مخالف للكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة

(1)

وقد ذكروا في أقسام المتصوفة ما يلى:

1 -

المتصوفة الحلولية: وهم القائلون بحلول الله في بعض مخلوقاته.

2 -

المتصوفة الوجودية: وهم القائلون بوحدة الوجود.

3 -

المتصوفة الإباحية: وهم القائلون بسقوط التكاليف وإباحة المحرمات.

4 -

المتصوفة القبورية: وهم الداعون إلى دعاء الأنبياء والأولياء أحياءً وأمواتًا، من دون الله أو مع الله، والمستغيثون بهم، والطالبون لكشف الكربات وقضاء الحاجات منهم. الشرك في القديم والحديث (ص/859)

(2)

العلو للعلي الغفار (ص/216)

(3)

هو الحسين بن منصور بن محمى الملقب بالحلاج، ولد عام 244 هـ، في أطراف واسط، له ضلالات كثيرة، والتى منها: اطلاق اسم الموحد العاصى على إبليس، وأن الحج لا يلزم له السفر لبيت الله الحرام،

بل لك أن تحج في بيتك، وتأتى ثالثة الأثافي حينما ادَّعى الألوهية، فقام حامد بن العباس وزير الدولة العباسية بالقبض عليه، ولما تمت مواجهته بذلك أنكر، وبالضغط على أتباعه اعترفوا عليه بذلك، حتى قالت زوجة ابنه أنه أمرها بالسجود له، فلما قالت له:

"الله فى السماء"، قال:"واحد فى السماء، وواحد فى الأرض"، حتى حُكم عليه بالجلد ألف جلدة، وصُلب وقُطعت أطرافه بباب خراسان 309 هـ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين؛ فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله:" أنا الله " ا. هـ

مجموع الفتاوى (2/ 480)

ص: 656

السليمة، كما تقدَّم ذكر ذلك في أدلة كل قسم من أدلة هذه الأقسام.

2) في قول الرسول- صلى الله عليه وسلم أين الله؟، تكذيب لقول من يقول:

هو في كل مكان، لا يوصف بأين؛ لأن شيئاً لا يخلو منه مكان؛ يستحيل أن يقال: أين هو، ولا يقال " أين " إلا لمن هو في مكان يخلو منه مكان.

(1)

3) وأما قولهم: إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع، فهذا مما قد أبطله النص والإجماع، فقد ثبت في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب يوم عرفات، جعل يقول:

(وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟»

قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ).

(2)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

الإشارة إلى فوق إلى الله في الدعاء وغير الدعاء باليد والأصبع أو العين أو الرأس أو غير ذلك من الإشارات الحسية قد تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم، واتفق عليه المسلمون وغير المسلمين.

(3)

4) زعمكم حصر العلو في" علو الشأن وعلو القهر "هو في حقيقته تعطيل لدلالات النصوص الشرعية التى أفادت قسماً ثالثاً وهو علو الذات، وبهذا يحصل العلو المطلق في حق الله تعالى دون تقييد لنوع دون آخر، والقاعدة هنا:

" اعتبار الدلالات زيادة في الكمالات "

5) قَوْلِهِ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]

فيقال للجهمي: وكيف تجلى للجبل وهو في الجبل؟!!

وكذلك: لو أن الله عز وجل لو كان في كل موضع، لكان متجلياً لكل شيء، ولجعلها دكاً كما جعل الله الجبل الذي تجلى له دكاً.

، وقال الله تعالى: {وأشرقت الأرض بنور

(1)

الردعلى الجهمية (ص/52)

(2)

سبق تخريجه قريباً.

(3)

بيان تلبيس الجهمية (4/ 497)

ص: 657

ربها} [الزمر: 69]، فيقال للجهمي:

هل الله نور؟ فيقول: هو نور كله، قيل له: فالله في كل مكان؟ قال:

نعم، قلنا: فما بال البيت المظلم لا يضيء من النور الذي هو فيه، ونحن نرى سراجاً فيه فتيلة يدخل البيت المظلم فيضيء؟!!، فعندها يتبين لك كذب الجهمي، وعظيم فريته على ربه.

(1)

6) هذا القول الفاسد الباطل أشد كفراً ونفاقاً من قول النصاري، فإذا كان معتقد النصارى أن الله -تعالى- قد حلَّ فى المسيح عليه السلام، فقد جعل الجهمية الحلولية أن الله -تعالى - قد حل في كل مخلوقاته.

7) لهذا القول الفاسد من اللوازم الباطلة ما يكفى لرده ودحضه، ومن ذلك أنه الله -تعالى - يحل أجواف العباد وأجسادهم، وأجواف الكلاب، والخنازير، والحشوش، والأماكن القذرة، تعالى الله عما يقوله أهل الزيغ والإلحاد علواً كبيراً.

8) كل آية في القرآن تبين أن لله ما في السموات والأرض وما بينهما ونحو ذلك فإنها تبطل هذا القول؛ فإن السموات والأرض وما بينهما وما فيهما إذا كان الجميع له وملكه ومخلوقه امتنع أن يكون شيء من ذلك ذاته؛ فإن المملوك ليس هو المالك والمربوب ليس هو الرب والمخلوق ليس هو الخالق؛ ولهذا كان حقيقة قول الاتحادية أن المخلوق هو الخالق والمصنوع هو الصانع لا يفرقون بينهما.

(2)

قال عبد الله بن المبارك:

نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماوات، على العرش استوى، بائن من خلقه، لا نقول كما قالت الجهمية.

(3)

5) وأما قول الجهمية المعطلة:

" إن الله - تَعَالَى - ليس داخل العالم ولا خارجه ":

(1)

وانظر الإبانة الكبرى (7/ 139) والتوحيد لابن خزيمة (ص/112)

(2)

بيان تلبيس الجهمية (2/ 252) وانظر المسائل التى حكى فيها شيخ الإسلام الإجماع (ص/ 407)

(3)

رواه البيهقي في الأسماء والصفات (رقم/903) والبخاري في خلق أفعال العباد (ص/30) وسنده صحيح.

ص: 658

فهذا نفي للنقيضين، ويقول علماء المنطق "النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان معاً "، فلا يمكن أن نقول: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يمكن أن يكون داخل العالم وخارجه في نفس الوقت، فالنقيضان يستحيل في العقل ارتفاعهما معاً، كما يستحيل في العقل اجتماعهما معاً، بل لابد من ثبوت أحدهما وانتفاء الأخر.

(1)

ولذلك قال أحد العقلاء لمن ادَّعى ذلك في الخالق:

ميِّز لنا بين هذا الرب الذي تعتقده وبين المعدوم؛ لأنه الذي لا داخل ولا خارج ولا ولا هذا هو الذي لا وجود له.

6) ولهذا القول الفاسد - قول الجهمية المعطلة - من اللوازم الباطلة ما يكفى لرده ودحضه، وذلك أن نفى قبول أحد الوصفين -الدخول والخروج- من شأنه أن ينفى إمكان وجوده، فضلاً أن يكون واجب الوجود، بل هذا يجعله من قبيل المعدوم الممتنع.

7) ومن هذه اللوازم الباطلة:

قولكم إنه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه لأنهما من خصائص الأجسام!!

مثله في البطلان كمثل قول الفلاسفة أن القيام بالنفس والقيام بالغير كلاهما منفى عن الله؛ لأنهما من خصائص الممكن، فكلاكما ينفي الإله حقيقة؛ إذ أن النفيين في ميزان العقل سواء.

(2)

*أما الرد على شبهاتهم:

فقد تأولت الجهمية قول الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7]، وقوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] فقالوا: إن الله معنا وفينا!!

* وجواب ذلك:

أن المعية في لغة العرب: معناها مطلق المصاحبة، وهي تختلف باختلاف ما أضيفت إليه، فتقول العرب: لا زلنا نسير والقمر معنا، ويقول القائل: معي زوجتي، وإن كانت زوجته في بلد وهو في بلد.

فقوله تعالى- يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ،

ثم قال: {مَا

(1)

وانظر نقد جوهرة التوحيد (ص/275) وشرح العقيدة الطحاوية د سفر الحوالى (ص/405)

(2)

وانظرتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد (ص/392) وشرح النونية لخليل هراس (1/ 181)

ص: 659

يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} يعني الله بعلمه، {وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادسهم} يعني بعلمه {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} يعني بعلمه فيهم {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليم} فعاد الوصف على العلم، وبيَّن أنه إنما أراد بذلك العلم، وأنه عليم بأمورهم كلها، فقد فتح الخبر بعلمه، وختم الخبر بعلمه.

(1)

قال أبوسعيد الدارمي:

أنكم جهلتم معناها؛ فضللتم عن سواء السبيل، وتعلَّقتم بوسط الآية، وأغفلتم فاتحتها وخاتمتها؛ لأن الله عز وجل افتتح الآية بالعلم، وختمها به؛ ففي هذا دليل على أنه أراد العلم بهم وبأعمالهم، لا بأنه نفسه في كل مكان معهم كما زعمتم، فهذه حجة بالغة لو عقلتم.

(2)

قال الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}

: هو على عرشه، وعلمه معهم أينما كانوا. قال أحمد: هذه السنة.

(3)

* والإجماع قائم على حمل هذه الآيات على معية العلم:

وقد نقل هذا الإجماع غير واحد من أهل العلم، كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره (4/ 8).

قال أبو عمر:

علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله عز وجل: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يُحتج بقوله.

(4)

قال أبو عمرو الطلمنكي الأندلسي:

وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته، مستوٍ على عرشه كيف شاء.

(5)

(1)

انظر الرد على الزنادقة (ص/296) والإبانة (3/ 144) ومقدمة رسالة العرش (ص/157)

(2)

وانظر الرَّدُّ عَلى الجَهَمِّيَة للدارمى (ص/49) وذم التأويل (ص/59) ومنهج المتكلمين (2/ 832)

(3)

أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"(7/ 139) وعبد الله بن أحمد في "السنة"(1/ 304) وابن بطة في "الإبانة"(رقم /109) والبيهقي في "الأسماء والصفات"(2/ 341/909) وإسناده حسن.

(4)

وانظر التمهيد (7/ 139) وإثبات صفة العلو (ص/166)

(5)

وانظر درء التعارض (6/ 250) واجتماع الجيوش الإسلامية (ص/76)

ص: 660

وقال مالك:

"اللهُ تعالى في السماء، وعلمه في كل مكانٍ؛ لا يخلو منه شيء".

(1)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل «القمر» آية من آيات الله، من أصغر مخلوقاته، هو موضوع في السماء، وهو مع المسافر، وغير المسافر أينما كان.

(2)

قال ابن القيم:

وقوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)) (الحديد: 4)

من أدل شيء على مباينة الرب لخلقه، فإنه لم يخلقهم في ذاته، بل خلقهم خارج عن ذاته، ثم بان عنهم باستوائه على عرشه، وهو يعلم ما هم عليه، فيراهم وينفذهم بصره ويحيط بهم علماً وقدرة وإرادة وسمعاً وبصراً، فهذا معنى كونه سبحانه " معهم أينما كانوا ".

(3)

*والحاصل مما سبق ذكره:

أن سياق هذه الأية التى شغبوا بها قد حدد المعنى المراد؛ واعتبار سياق الكلام مخصص لمدلولات الألفاظ، فالسياق كالنص في إفادة القطع وعدم قبول التأويل.

قال ابن القيم في النونية:

وأصغ لفائدة جليل قدرهَا

... تهديك للتحقيق والعرفان

إِن الْكَلَام إِذا أَتَى بسياقه

يُبْدِي المُرَاد لمن لَهُ أذنان

أضحى كنص قَاطع لَا يقبل الـ.... تأْوِيل يعرف ذَا أولو الأذهان

فسياقه الْأَلْفَاظ مثل شَوَاهِد الـ..... أَحْوَال إنَّهُمَا لنا صنْوَان

(1)

أخرجه ابن قدامة في "إثبات صفة العلو"(76) وأبو داود في " مسائل الإمام أحمد"(ص/ 263)، وسنده حسن. وانظرالصحيح المسند من أقوال الصحابة والتابعين (2/ 47)

(2)

اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة (ص/84)

(3)

وانظرحادي الأرواح (ص/295) والانتقاد الرجيح (ص/73)

ص: 661

* وعليه يقال:

أنه لا منافاة بين علوه -تعالى - وبين معيته لخلقه:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

أخبر الله في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة أنه سبحانه فوق سمواته على عرشه، عليٌ على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

(1)

* وقد ضرب الإمام أحمد لرد ظاهر هذا التعارض مثالين، فقال:

لو أن رجلاً كان في يديه قدح من قوارير صافٍ، وفيه شراب صافٍ، لكان نظر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح. والله ـ وله المثل الأعلى ـ قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه.

وخصلة أخرى:

لو أن رجلاً بنى دارًا، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان لا يخفى عليه كم بيتًا في داره، وكم سعة كل بيت من غير أن يكون في جوف الدار، فالله ـ وله المثل الأعلى ـ قد أحاط بجميع ما خلق، وعلم كيف هو من غير أن يكون في شيء مما خلق.

(2)

* فالله - تعالى - مستوٍ على عرشه استواءً لائقاً بكماله وجلاله، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل، فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام، ونفوذ القدرة سبحانه وتعالى علواً كبيراً.

ألا ترى - ولله المثل الأعلى- أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل أنه ليس داخلاً في شيء من أجزاء تلك الحبة، مع أنه محيط بجميع أجزائها، والسماوات والأرض ومن فيهما في يده - تعالى - أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى، فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته، مع أنه مستوٍ على عرشه.

(3)

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 142)

(2)

الرد على الجهمية والزنادقة (ص/149)

(3)

دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (ص/230)

ص: 662

* فإن قيل:

قد استشكل بعض المتكلمين المتأخرين ذلك وقالوا:

إن السلف وقع في كلامهم مادة من التأويل، وذلك في مسألة المعية، حيث قالوا في آيات المعية أنها معية علم!!

وجواب ذلك:

ظن المتكلمون أن هذا من باب التأويل، والأمر ليس كذلك؛ لأن التأويل باصطلاح أصحابه خروج عن المعنى الظاهر إلى المعنى الخفي لقرينة، أو خروج من حقيقة الكلام إلى مجازه، وآيات المعية ليس فيها خروج عن الحقيقة إلى المجاز؛ لأن هذا هو المتبادر إلى الذهن.

*وإذا ما تنزلنا بأن هذا تأويل، فهنا أمران:

1) لو كان تأويلاً فما نحن تأولنا، وإنما السلف الذين وجب اتباعهم؛ فإن ابن عباس والضحاك ومالكاً وسفيان وكثيراً من العلماء قالوا في قوله {وهو معكم} أي علمه. ثم قد ثبت بكتاب الله والمتواترعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أن الله - تعالى - في السماء على عرشه، وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها وهو قوله {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض} [المجادلة 7]

ثم قال في آخرها {أن الله بكل شيء عليم} فبدأها بالعلم وختمها به ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله -تعالى - بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليه.

2) التأويل هو المعنى المجازي للسياق، باصطلاح أهل التأويل، فما هو المعنى الحقيقي للسياق الذي خرجنا عنه؟

سيقال أن المعنى الحقيقى هو القول بالمعية على ظاهرها كما هو قول أهل الحلول والإتحاد، لأنه ظاهر السياق، وهذا مما لا يقال به لغة ولا عقلاً، بل المتبادر عقلاً والممكن عقلاً أن معية الله سبحانه وتعالى إنما هى معيتان:

أ) معية عامة:

وهى معية العلم، كما في قوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)(الحديد/4)

ص: 663

ب) معية خاصة:

وهى معية الحفظ النصروالحفظ والتأييد، كما في قوله تعالى {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة/40)، وقوله تعالى (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)) (طه/46)

(1)

2) ومن شبهاتهم:

قوله تعالى (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)(الأنعام/3)، وقوله تعالى

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)(الزخرف/84)

فمعنى الآية: أي هو إله من في السموات، وإله من في الأرض.

قال ابن عبد البر:

"فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، .... وقوله " وفي الأرض إله ": فالإجماع والاتفاق قد بيَّن المراد بأنه معبود من أهل الأرض، فتدبر هذا فإنه قاطع إن شاء الله.

(2)

وروى الآجري بسنده في تفسيره هذه الآية عن قتادة قوله: "هو إلهٌ يعبد في السماء، وإلهٌ يعبد في الأرض ".

(3)

قال أحمد:

إنما معنى قوله تبارك وتعالى: {وهو الله في السماوات وفي الأرض} [الأنعام: 3] يقول: هو إله من في السموات، وإله من في الأرض.

(4)

فقوله تعالى (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)

معناه: أن الله -تعالى- هو المألوه الذي تألهه القلوب، المعبود ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين في السماوات والأرض.

(1)

وانظر ذم التأويل (ص/46) وشرح الواسطية ليوسف الغفيص (ص/249)

(2)

التمهيد (3/ 342)

(3)

الشريعة (2/ 83) وقال محققه: "أثر قتادة لا بأس به"

(4)

وانظر الردعلى الزنادقة والجهمية (ص/292) وقد أجاب عن هذه الشبهة جمع من السلف، فليراجع لذلك مجموع الفتاوى (2/ 404) والرسالة الوافية (ص/132) وتفسير ابن كثير (3/ 239) والصواعق المرسلة (4/ 1300) والإبانة الكبري (7/ 143)

ص: 664

والألوهية: هي العبودية، والتأله: هو التعبُّد، وهكذا معناها الاصطلاحي، فكل كلمة إله في القرآن فإن المراد بها المعبود.

3) ومن شبهاتهم التى شغَّبوا بها:

قوله تعالى {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (الحديد الآية /3)!

قال محمد بن الحسين الآجري:

ومما يحتج به الحلولية، مما يلبسون به على من لا علم معه يقول الله عز وجل:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وقد فسر أهل العلم هذه الآية: هو الأول: قبل كل شيء؛ من حياة وموت، والآخر: بعد كل شيء؛ بعد الخلق، وهو الظاهر: فوق كل شيء -يعني ما في السموات- وهو الباطن: دون كل شيء يعلم ما تحت الأرضين، ودل على هذا آخر الآية {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

(1)

* قول الأشاعرة:

يعد الأشاعرة من نفاة علو الله تعالى، فقد شابهوا الجهمية المعطلة بنفى المكان عن الله تعالى، فقالوا أن الله لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه.

*وشبهة الأشاعرة فيما قالوه من نفى العلو أنهم قد جعلوا إثبات العلو ونفي التحيز تناقضاً، و جعلوا من لوازم إثبات علو لله -تعالى - أن يكون متحيزاً وذا جهة وحد يحده، فقالوا:

لو كان الله -تعالى- في جهة العلو بذاته لأشبه المخلوقات، لأن ذلك يعني أن يكون الله في مكان، والمكان يقتضي التحيز والتجسيم، وهذه من خصائص المخلوقين، لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته فهو مخلوق مجسم!!

قال الغزالى:

أما الحشوية فإنهم لم يتمكنوا من فهم موجود إلا في جهة، فأثبتوا الجهة حتى ألزمتهم بالضرورة الجسمية.

(2)

(1)

الشريعة (2/ 81)

(2)

الاقتصاد في الاعتقاد (ص/47)

ويكشِفُ السبكي عن مُرادِ الأشاعرةِ بالحَشويَّةِ فيقول:

" وقد عرفتَ أن الخلاف في المسألة مع الحشوية: وهم طائفة ضلوا عن سواء السبيل، وعميت أبصارهم يجرون آيات الصفات على ظاهرها " ا. هـ.

وقال القرافى وهو يتكلم عمن يثبتون الجهة والمكان، قال: =

=وهو مذهب الحشوية، ومذهب أهل الحق استحالة جميع ذلك على الله تعالى وفي تكفير الحشوية بذلك قولان والصحيح عدم التكفير.

وانظرالإبهاج في شرح المنهاج (1/ 361) والفُروقَ (4/ 271)

ص: 665

وفي ذلك يقول صاحب الجوهرة: "ويستحيل ضِدُ ذى الصفات في حقه كالكون في الجهات "

(1)

* الرد على الأشاعرة:

1) كل ما سبق ذكره في الرد على الجهمية المعطلة يقال هنا رداً على الأشاعرة. 2) الاستحالة التى يبنى عليها الأشاعرة نفيهم لصفة العلو، والتى نص عليها صاحب الجوهرة ومن يسير على طريقته

(2)

، هى استحالة عقلية اتخذها الأشاعرة ديناً حكماً على النصوص الشرعية، على طريقة " وما آتاكم العقل فخذوها، وما نهاكم عنه فانتهوا "

قال أبوالعباس ابن تيمية:

إن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر الله به ورسوله من صفاته ليس موقوفًا على أن يقوم عليه دليلٌ عقليٌّ على تلك الصفة بعينها، فإنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول- صلى الله عليه وسلم إذا أخبرنا بشيءٍ من صفات الله- تعالى - وجب علينا التصديق به، وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا، ومن لم يقرّ بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم:{قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].

ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمنًا بالرسول، ولا متلقيًّا عنه الأخبار

(1)

قال البيجوري في شرح هذا البيت (فليس -أي الله تبارك وتعالى فوق العرش ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله

فليس له فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال..) شرح جوهرة التوحيد (ص 163).

(2)

وقد نص على مثل ذلك: الباقلانى والآمدى واللقانى، كما فى الإنصاف (ص/51) وهداية المريد (ص/159) وغاية المرام (ص/301).

ص: 666

بشأن الربوبية، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيءٍ من ذلك، أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يُؤَوِّله أو يفوضه، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به، وإلا فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول وإخباره، وبين عدم الرسول وعدم إخباره، وكان ما يذكره من القرآن والحديث والإجماع في هذا الباب عديم الأثر عنده، وهذا قد صرح به أئمة هذا الطريق».

(1)

3) من التناقض البّيِن فيما انتحله الأشاعرة في هذا الباب:

أنهم مع نفيهم لعلو الله عزوجل، تراهم يقرون أن الفطرة دالة على علوه، لذا فقد حمل هذا التناقض البيَّن جملة من كبار الأشاعرة على الرجوع عن هذا اللحن الجلى لنصوص الشريعة، وإن لم يكونوا قد رجعوا إلى الحق، ولكن يكفى تركهم للباطل. فقد ذكر محمّد بن طاهر المقدسي أن أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلّم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان.

فقال الشيخ أبو جعفر:

أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرووة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط:

يا الله، إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلوّ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا، قال: فلطم أبو المعالي رأسه ونزل. وقال:

حيّرني الهمداني حيّرني.

(2)

* قلت:

وهذه ثمرة من اتبع قضية عقلية - زعموا- مخالفة للنقل والفطرة، بل وللعقل السليم، فلما كان طرحهم من عند غير الله -تعالى- وجدنا فيه اختلافاً كثيراً، وانظر ماذا فعل بهم هذا الترنح لما نفوا علو الله -تعالى - ثم زعموا إثبات رؤيته في

(1)

شرح الأصفهانية (ص 10 - 11).

(2)

وانظر البيهقي وموقفه من الإلهيات (ص/354) ومقالات في تناقض الأشعرية (ص/109)

قال الألبانى: هذه قصة مسلسلة بالحفاظ. وممن أعلّ هذه القصة تاج الدين السبكى كما في طبقات الشافعية (5/ 191) فأتى بكلام لا وزن له عند أهل التحقيق.

ص: 667

الآخرة من غير جهة، فجاءوا بقول لم يقل به أنس قبلهم ولا جآن.

3) ما ذهب إليه المتأخرون من الأشاعرة من قولهم بنفى الجهة عن الله - مع مخالفتهم لجماهير أهل السنة - قد خالفوا فيه إمامهم خاصة، وهو الإمام أبو الحسن الأشعرى الذى ذكرنا آنفاً نقله لإجماع أهل السنة على إثبات علو الله تعالى.

وكذلك خالفوا فيه أئمتهم المتقدمين أمثال: الباقلاني الذى قال بعلو الله -تعالى- على عرشه، وكذلك ممن صرح بإثبات العلو:

ابن كلاب وأبو الحسن الطبري تلميذ الأشعري والحارث المحاسبي.

وقد نقل ذلك عنهم كل من شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذيه الذهبي وابن القيم، لتقزم بذلك الحجة على منأخريهم الذين خالفوا نهج أئمتهم فقالوا بنفى الجهة، كالغزالي والجويني والآمدي وغيرهم الذين أخذوا قول الجهمية والمعتزلة فى هذا الباب.

*وإذا كان أبو الحسن الأشعري و ابن كلاب موافقان للسلف في إثبات العلو، وعليه فإن كل من يزعم الانتساب إليهما مع مخالفته لهما فدعواه باطلة.

(1)

* وأما قولهم:

أن لوازم إثبات علو لله -تعالى - أن يكون متحيزاً وذا جهة وحد يحده!!

لو كان الله -تعالى- في جهة العلو بذاته لأشبه المخلوقات، لأن ذلك يعني أن يكون الله في مكان، والمكان يقتضي التحيز والتجسيم، وهذه من خصائص المخلوقين، لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته فهو مخلوق مجسم!!

* فالجواب أن يقال:

أما قولكم أن إثبات العلو لله - تعالى - يقتضي التحيز والحد والمكان، وهذه من خصائص المخلوقين!!

(1)

انظر التمهيد للباقلانى (ص/ 301) والفتوى الحموية (ص/58) و العلو للذهبي (ص/ 168) واجتماع الجيوش الإسلامية (ص/ 111) والانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (ص/121) بتحقيق سعود بن عبد العزيز الخلف، والأشاعرة في ميزان أهل السنة (ص/466) والمنحة الإلهية في الصفات الربانية (ص/437)

ص: 668

فيقال أولاً:

أن الله - تعالى - ليس كمثله شيء من خلقه، ولا يقاس بشيء من بريته، ولا يدرك بقياس،، وقد اتفق المسلمون وكل ذي لب أن الذى ليس في مكان فهو عدم.

وقد صح في العقول، وثبت بالدلائل أنه كان في الأزل لا في مكان، وليس بمعدوم، فكيف يقاس على شيء من خلقه، أو يجري بينه وبينهم تمثيل أو تشبيه، تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علواً كبيراً.

(1)

*ثانياً:

قولهم هذا إنما ينبنى على عقول لم تعرف من الإثبات إلا تحقق المشابهة، ففرت من ذلك إلى التحريف والتعطيل، فما قدروا الله -تعالى - حق قدره.

فلا يتصور زعمهم باقتضاء العلو للتحيز والحد إلا في حق المخلوق، وأما الله -عزوجل - فلا سمَّى له، و لا نظير له.

وأى تحيز أو حد يتصور في إثبات علو الله عزوجل؟!!!

* تأملوا في عظم مخلوقات الله تعالى، فكيف بخالقها؟!!

قال ابن مسعود رضى الله عنه:

"رَأَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" سَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ»

(2)

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ "

(3)

* وهل من عاقل يخطر بفكره أن قول الجارية أن الله -تعالى - في السماء يلزم منه أن السماء تظله أو تحويه؟؟!!!

قال تعالى {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ، " فما السماوات والأرض في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في الأرض الفلاة "

(4)

، فإذا كان الكرسي قد وسع السماوات والأرض، فكيف بالعرش؟! ثم كيف بمن فوق العرش سبحانه وتعالى؟!!

(1)

"اجتماع الجيوش الإسلامية" ص 97.

(2)

متفق عليه.

(3)

أخرجه أبوداود (4727)، وانظر صَحِيح الْجَامِع (854)

(4)

ورد هذ عن مجاهد، أخرجه سعيد بن منصور في " تفسيره "وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (13/ 422)

ص: 669

* هذا خلق الله، فأرونى أى عقل جهول يتوقف افي إثبات صفات الله - كالعلو - خشية الوقوع فى القول بالتحيز أو التشبيه أو المماثلة؟!! وصدق الله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}

* وأما إطلاق لفظ المكان في حق الله تعالى:

إطلاق لفظ المكان في حق الله عز وجل نفياً أو إثباتاً من الأمور التي لم يرد بها كتاب ولا سنة، بل ينبغي الإمساك عن إطلاق هذا اللفظ، والوقوف عند ما ورد به النص من استواء الله على عرشه فوق سماواته. لأن لفظ المكان من الأمور التي تحتمل حقاً وباطلاً، ولأهل العلم تفصيل في ذلك:

2 -

فقد يراد بالمكان أمر عدمي:

وهو ما فوق العالم من العلو، والله سبحانه وتعالى فوق العالم غير مفتقر إلى شيء من مخلوقاته. فيصح إطلاق أن الله في مكان بهذا المعنى.

وإن كان الأولى الإمساك عن إطلاق هذا اللفظ نفياً أو إثباتاً، حيث أن النصوص قد انتهت إلى إثبات العلو المطلق في حقه سبحانه وتعالى، وأنه مستوٍ على عرشه كما أخبر.

2 -

وقد يراد بالمكان أمر وجودي:

وهو ما يحوي الشيء ويحيط به، أو ما يستقر الشيء عليه بحيث يكون محتاجاً إليه، والله عز وجل منزه عن المكان بهذا المعنى الذي يقتضي الإحاطة والافتقار.

(1)

* وبهذا التفصيل يتبين الوجهة عند من نفى من السلف المكان عن الله تعالى، كما ورد ذلك فى قول ابن حاتم السجزيّ:

" وعند أهل الحق أن الله - سبحانه - مباين لخلقه بذاته، فوق العرش بلا كيفية، بحيث لا مكان "

(2)

.

*وهل يصح إطلاق لفظ الجهة في حق الله تعالى؟؟

والجواب:

نقول أولاً:

أن لفظ " الجهة "مما لم يرد إثباته ولا نفيه في أدلة الشرع، ويغني عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء، كما هو وارد في حديث الباب.

ثانياً:

ننظر إلى المعتقَد للقائل بالجهة:

(1)

منهاح السنة 2/ 106" و"الألباني: مقدمة مختصر العلو (ص/ 72).

(2)

رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص/78)

ص: 670

أ) إن كان يعتقد أن الله - تعالى - في داخل المخلوقات، وتحويه المصنوعات، وتحصره السماوات، فهذا مبتدع ضال؛ فإن الكتاب والسنة مع العقل دلت على أن الله لا تماثله المخلوقات في شيء من الأشياء.

ب) وإن كان يعتقد أن الخالق -تعالى - بائن عن المخلوقات، وأنه فوق سماواته على عرشه بائن من مخلوقاته، فإنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، فهذا مصيب في اعتقاده، موافق لسلف الأمة وأئمتها.

(1)

وفي معنى الإثبات على الوجه الصحيح يقول الإمام القرطبي:

وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله - تعالى - كما نطق كتابه، وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه تعالى استولى على العرش حقيقة.

(2)

*ما ورد في طريقة أهل التحريف مع حديث الجارية:

عمد المخالفون لأهل السنة في هذا الباب إلى الخوض بالباطل حديث الجارية، بالطعن في صحته تارة، وبتحريفه تارة أخرى.

*وأما طنعهم في صحة الحديث:

فلا شك في بطلان هذه الدعوى؛ فهو حديث صحيح خرّجه جمع كبير من أئمة الحديث وحفّاظهم من طرق صحيحة كالشمس في واضحة النهار، ولكنَّ أهل البدع لا يعقلون، فيعلّون الحديث تارة بالاضطراب! وتارة بالشذوذ!! ولا اضطراب إلا في عقولهم، ولا شذوذ إلا في أفكارهم، والله المستعان وحده، ولا حول ولا قوة إلا به.

(3)

ولا شك في بطلان هذه الدعوى،

(1)

درء تعارض العقل والنقل (1/ 38)

(2)

الجامع لأحكام القرآن (7/ 219)

(3)

وممن أعل الحديث ووصفه بالإضطراب محمد زاهد الكوثري حين علَّق عليه في هامش كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، إلا أن قدحه هذا غير وارد لأنه تعسف واضح وتجن بيّن، وقد فنَّده ورد عليه الشيخ الألباني في اختصاره لكتاب العلو للذهبي (ص/82)، و الكوثري هذا صاحب مواقف مغرضة وظالمة من أئمة السلف.

وانظرتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم (2/ 67)

ص: 671

قال ابن عدوان:

وقد جاء لفظ " الأين " من قول صادق

رسول إله العالمين محمد

كما قد رواه مسلم في صحيحه

كذلك أبو داود والنسائي قد.

(1)

* وكذلك فقد عمدوا إلى تحريف الحديث تحريفاً لفظياً ومعنوياً:

*ومن التحريف المعنوى للحديث:

قالوا: إنما أراد الرسول-صلى الله عليه وسلم بالسؤال بـ " أين " الاستفهام عن المكانة لا المكان، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد سألها عن المنزلة والرتبة في صدرها، كما يقال: أين فلان من فلان؟ وأين زيد منك؟ توسّعاً في الكلام، ولا يراد بذلك إلا الرتبة والمنزلة.

ويقول الإنسان لصاحبه أين محلي منك؟ فيقول في السماء يريد أعلى محل!!! فجعلوا السؤال بأداة " أين " التى يستفهم بها عن المكان ممتنعاً في حق الله تعالى؛ لأنها لازمها إثبات الظرفية.

(2)

وقد بيَّن ذلك ابن القيم في النونية:

وتقول أين الله والأين فممتنع

عليه وليس في الإمكان

لو قلت من كان الصواب كما ترى

في القبر يسأل ذلك الملكان

أي: يقول الجهمي للرسول صلى الله عليه وسلم إنك تقول أين الله؟ والأين ممتنع على الله تعالى ومحال، وليس بممكن، والصواب أن تقول:

من الله؟ كما يسأل الملكان في القبر الميت فيقولان: من

(1)

وانظر العقيدة الواسطية بتعليق ابن مانع (ص/12)

(2)

وانظر أساس التقديس (ص/212) ومشكل الحديث (ص/60) وموقف المتكلمين (2/ 532)

ص: 672

ربك؟ وما دينك؟

ومن نبيك؟

(1)

.

* وقد تصدى العلماء لهذا التحريف البيِّن لحديث النبي صلى الله عليه وسلم:

قال الذهبى:

ففي الخبر -أى خبر الجارية - مسألتان: إحداهما شرعية، قول المسلم أين الله؟

وثانيهما: قول المسؤول " في السماء "، فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم.

(2)

قال عبد الغني المقدسي:

ومن أجهل جهلاً، وأسخف عقلاً، وأضل سبيلاً ممن يقول إنه لا يجوز أن يقال: أين الله، بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله " أين الله "؟!

(3)

ويقول محمد خليل هراس:

هذا الحديث يتألق نصاعة ووضوحاً، وهو صاعقة على رؤوس أهل التعطيل، فقد امتحن الرسول صلى الله عليه وسلم إيمانها، فكان السؤال الذي اختاره لهذا الامتحان هو (أين الله؟) ولما أجابت بأنه في السماء، رضي جوابها وشهد لها بالإيمان. ولو أنك قلت لمعطل: أين الله؟ لحكم عليك بالكفران.

(4)

*وكذلك يقال:

أما الظرفية في قول الجارية " في السماء " فليست مرادةً بإجماع العلماء، وإنّما معناها العلّو بالإجماع.

فجوابها بأن الله تعالى " في السماء " أي: في العلّو - سبحانه

(1)

وانظرتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم (2/ 67)

(2)

العلو للعلى الغفار بتحقيق الألبانى (ص/81)

(3)

الاقتصاد في الاعتقاد (ص/88)

يقول الدكتور محمد أمان الجامي: ولقد ذكرني هذا السؤال النبوي عبارة تقليدية كنت درستها وأنا طالب ضمن ما درسته في بعض كتب الأشعرية وهي: لا يسئل عن الله بالألفاظ الآتية:

1 -

أين؟ 2 - وكيف؟ 3 - ومتى؟ 4 - وكم؟

كان من مشايخنا لا يسمحون لنا بشرح هذه الألفاظ، والسؤال عن الجواب لو سئل الإنسان عنها، ويقولون: هكذا تؤخذ، ولا تناقش لأن النقاش في هذه المواضيع غير جائز.

وانظر الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه (ص/231)

(4)

انظر حاشية التوحيد لابن خزيمة (ص/121).

ص: 673

وتعالى -، لا بمعنى أن السَّماء تحويه وتحيط به، وهذا ضلال وكذب وافتراء، فالله سبحانه وتعالى لا يحيط به أي شيء.

وقد ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شبهة من يقول بأن السَّماء تحويه، وبيّن زيفها، فقال:

من توهم أن كون الله في السَّماء بمعنى أن السَّماء تحيط به وتحويه فهو كاذب ضال، وما سمعنا أحداً يفهم هذا من اللّفظ، ولو سئل سائر المسلمين هل يفهمون من قول الله ورسوله:(إن الله في السَّماء) أن السَّماء تحويه؟ لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعلّه لم يخطر ببالنا.

وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وتعالى وسع السموات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقاً يحصره ويحويه؟!

وقد قال سبحانه: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)} ، وقال:{فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} بمعنى (على)، ونحو ذلك، وهو كلام عربي حقيقة لا مجازاً، وهذا يعلمه من عرف حقائق معاني الحروف، وأنها متواطئة في الغالب لا مشتركة.

(1)

*قلت:

ويؤيد هذا ما ورد في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضى الله عنهما- عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال: " ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ "

(2)

فكما وجب تأويل قوله " مَنْ فِي الأَرْضِ "أى: من على الأرض، فكذا يقال

- ولابد - في قول النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم" مَنْ فِي السَّمَاءِ ": أى من على السماء. .

* ومن التحريف المعنوى كذلك:

أن ما تكلم به الرّسول صلى الله عليه وسلم في حديث الجارية إنما قاله على سبيل التّمثيل والتّقريب لعقول النّاس! فلمّا رسخت أقدامهم في الدّين؛ عرفوا الحقّ بأنفسهم!!!

(1)

مجموع الفتاوى (5/ 106)

(2)

أخرجه الترمذى (1924) وأبوداود (4941) قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 674

* والجواب:

هذا يلزم عليه: أنّ النّبيّ- صلى الله عليه وسلم لم يُدْخِل النّاس في الدّين إلَّا بالكذب المحض ـ والعياذ بالله ـ! وأنّهم عرفوا الحقّ من عند أنفسهم، لا من الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأنّ الرسول- صلى الله عليه وسلم لم يُبيّن للنّاس ما نُزّل إليهم؛ بل غشّهم وكتم عنهم ما فيه هدى ونور لهم! فأيّ كفر أعظم، وأيّ مصيبة أطمّ، وأيّ ذنب أقبح، وأيّ بلاء على الإسلام والمسلمين أعمّ من هذا؟!

ومن ذلك قولهم:

إنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أقرّ الجارية على قولها موافقة لها على عقلها؛ لأنّ عقلها يقصر عن معرفة أدِلّة النّظر!

فيُقال لهم:

هل أقرّها صلى الله عليه وسلم على حقّ أم باطل؟ فإن كان الأوّل:

فقد ارتفع النّزاع، ولزم أن تُجيبوا مَن سألكم بـ «أين الله؟» بقولكم: في السّماء، وتشهدون له بالإيمان، ونحن نراكم تُضلّلون وتكفّرون مَن سأل عن الله بـ «أين؟» ، والمجيب له بأنّ: الله في السّماء.

وإن كان الثّاني:

لزمكم القول بما ألزمنا سابقًا من أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقرّ النّاس على الكفر! بل يتكلّم بما ظاهره كفر صراح من غير أن يؤوّله لهم! وهل الكفر الذي ما فوقه كفر إلَّا مثل هذا؟! وهل ثَمّ تنقيص لرتبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعظم ولا أحطّ قدرًا من هذا؟!

(1)

* ومما ورد في تحريف حديث الباب:

أن حكمه صلى الله عليه وسلم بالإيمان للجارية لما أشارت إلى السماء، فقد انكشف به أيضاً إذ ظهر أن لا سبيل للأخرس إلى تفهم علو المرتبة إلا بالإشارة إلى جهة العلو، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم يظن أنها من عبدة الأوثان فاستنطقت بمعبودها"

فعرّفت بالإشارة إلى السماء أن معبودها ليس من الأصنام!!

(2)

والجواب أن يقال:

أولاً: ما ورد أن الجارية كانت خرساء، وأنها أجابت بالإشارة فهذا مما لا يصح سنده.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم سألها عن الله، ولم يسألها عن معبودها، ثم إن السؤال لو كان

(1)

الكَشْف المُبْدِي لتمويه أبي الحسن السُّبكيّ (ص/216)

(2)

نص عليه الغزالي في الاقتصاد في الاعتقاد (ص/35)

ص: 675

عن المعبود فقط لكانت الإشارة-على فرض صحتها - إلى السماء غير كافية في الدلالة على الإيمان بالله، لأن في جهة العلو من عبد دون الله، كمن عبد الشمس أو القمر أو الملائكة.

(1)

* ومن تحريفهم في هذا الباب:

قالوا: أن رفع الأيدي في الدعاء إلى السماء ليس دالاً على صفة العلو، إنما هو لكونها قبلة الدعاء، كما أن البيت قبلة الصلاة.

كما أن رفع الأيدي إلى السماء معارض لوضع الجبهة على الأرض.

(2)

* وجواب ذلك من وجوه:

"الأول:

إن القول بأن السماء قبلة الدعاء قول لم ينزل الله به سلطاناً، ولم يرد عن أحد من السلف، وهو من الأمور الشرعية الدينية التي لا يجوز أن تخفى عن الأمة وعلمائها.

الثاني:

أن هذا خلاف الثابت الصحيح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة، ومن زعم أن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة فقد ابتدع بالدين وخالف جماعة المسلمين.

(3)

* وأما القول بأن رفع الأيدي إلى السماء معارض لوضع الجبهة على الأرض.

فالرد عليه من وجوه:

1 -

الأول:

أن وضع الجبهة على الأرض لم يتضمن قصدهم لأحد في السفل، بل السجود بها يعقل أنه تواضع وخضوع للمسجود له، لا طلب وقصد ممن هو في السفل، بخلاف رفع الأيدي إلى العلو عند الدعاء، فإنهم يقصدون به الطلب ممن هو في العلو.

2 -

الثانى:

أن الواحد منهم إذا اجتهد في الدعاء حال سجوده يجد قلبه بقصد

(1)

الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار بتحقيق سعود بن عبد العزيز الخلف (ص/623)

(2)

كما نص على ذلك الغزالي في الاقتصاد في الاعتقاد (ص/32)، وفى قواعد العقائد (ص/ 165)،

قال:

فأما العوام فقد يعتقدون أن معبودهم في السماء، فيكون ذلك أحد أسباب إشاراتهم، تعالى رب الأرباب عما اعتقد الزائغون علواً كبيراً.!!!

(3)

شرح الطحاوية (ص/ 327) توضيح المقاصد وتصحيح القواعد (ص/400)

ص: 676

العلو، مع أن وجهه يلي الأرض، بل كلما ازداد وجهه ذلاً وتواضعاً، ازداد قلبه قصداً للعلو، كما قال تعالى:{واسجد واقترب} [العلق: 19].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» .

فعلم أنهم يفرقون بين توجه وجوههم في حال السجود إلى الأرض.

وتوجيه القلوب في حال الدعاء إلى من في السماء.

(1)

* ومن شبهاتهم:

قد جاء الوعيد في السنة الصحيحة في نهي المصلِّي عن النظر إلى السماء، فلو كان الله في جهة العلو لما ناسب ذلك ورود هذا النهى!!

والجواب ما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، قال رحمه الله:

وليس نهي المصلي عن رفع بصره في الصلاة رداً على " أهل الإثبات " الذين يقولون: إنه على العرش كما يظنه بعض جهال الجهمية؛ فلو كان الأمر كذلك لكان النهي عن رفع البصر شاملاً لجميع أحوال العبد، وقد قال تعالى:{قد نرى تقلب وجهك في السماء} ، فليس العبد يُنهى عن رفع بصره مطلقاً، وإنما نهي في الوقت الذي يؤمر فيه بالخشوع؛ لأن خفض البصر من تمام الخشوع، كما قال تعالى:{خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث} وقال تعالى: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} .

وأيضا فلو كان النهي عن رفع البصر إلى السماء وليس في السماء إله لكان لا فرق بين رفعه إلى السماء ورده إلى جميع الجهات.

ولو كان مقصوده أن ينهى الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو لبيَّن لهم ذلك كما بيَّن لهم سائر الأحكام، فكيف وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا في قول سلف الأمة حرف واحد يذكر فيه أنه ليس الله فوق العرش، أو أنه ليس فوق السماء أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا محايث له ولا

(1)

درء تعارض العقل والنقل (7/ 16)

ص: 677

مباين له أو أنه لا يقصد العبد إذا دعاه العلو دون سائر الجهات؟!

(1)

* بل قد جعل الإمام ابن القيم هذا الحديث حجة على علو الله تعالى، فقال: اشتد نهي النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي أن يزيغ بصره إلى السماء وتوعدهم على ذلك بخطف أبصارهم؛ إذ هذا من كمال الأدب مع من المصلي واقف بين يديه بل ينبغي له أن يقف ناكس الرأس مطرقاً إلى الأرض، ولولا أن عظمة رب العالمين - سبحانه - فوق سماواته على عرشه، لم يكن فرق بين النظر إلى فوق أو إلى أسفل.

(2)

* أضف إلى ذلك أن هذا الحديث الذى شغبوا به في هذه الشبهة من أحاديث الآحاد، فإما أن يكون صالحاً للدلالة في كل موطن، وهذا مما يخالف أصولهم، وإما أن يتركوا الاستدلال به مطلقاً، لا يستدلوا به إذا ما ظنوا أنه يوافق اعتقادهم، ويردوه إذا ظنوا خلاف ذلك.

(3)

تم بحمد الله.

(1)

وانظر مجموع الفتاوي (6/ 578)

(2)

روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص/188)

(3)

مقالات في تناقضات الأشعرية (ص/111)

ص: 678