المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الخامس والعشرون: ذات العماد شرح حديث حق الله على العباد - الأربعون العقدية - جـ ٢

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الحادى والعشرون: السنة الجارية شرح حديث الجارية

- ‌الحديث الثانى والعشرون: كشف الالتباس عن حديث أمرت أن أقاتل الناس

- ‌الحديث الثالث والعشرون: فتح البصير في بيان ما توسل به الضرير

- ‌ التوسل المختلف فيه:

- ‌الحديث الرابع والعشرون: بيان الحِكَم في شرح حديث إن الله هو الحَكَم

- ‌ الحالات التى يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله شركًا

- ‌الحديث الخامس والعشرون: ذات العماد شرح حديث حق الله على العباد

- ‌الحديث السادس والعشرون: المشكاة في شرح حديث لا تعجز واستعن بالله

- ‌الحديث السابع والعشرون: بيان الحق نفسه في شرح حديث أينا لم يظلم نفسه

- ‌الحديث الثامن والعشرون: ضوء الثريا شرح حديث من عادى لى ولياً

- ‌هل يوصف الله -تعالى- بصفة التردد

- ‌الحديث التاسع والعشرون: المعانى الراسيات شرح حديث إنى معلمك كلمات

- ‌ الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: "احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ "، وبين ما يقع لأهل الإيمان من البلاء والمحن

- ‌ أصل القضاء لا يعارض العمل:

- ‌الحديث الثلاثون: نثر الجمَّان بفوائد حديث إنهما ليعذبان

- ‌هل عذاب القبر يكون على الروح فقط، أم على الروح والبدن

- ‌الحديث الحادي والثلاثون: بلوغ الرُّبَى شرح حديث ضحك النبي تعجبا

- ‌ المخالفون لأهل السنة والجماعة في إثبات صفة اليدين:

- ‌الحديث الثانى والثلاثون: فتح الأعز الأكرم شرح حديث أي الذنب أعظم

- ‌من أتى خلاف المعهود تجاوزت عاقبته الحدود:

- ‌الحديث الثالث والثلاثون: تلخيص الخطاب شرح حديث إنك تأتى أهل كتاب

- ‌الفطرة دالة على نقض مذهب المتكلمين:

- ‌الحديث الرابع والثلاثون: درء الخوض في رد أحاديث الحوض

- ‌ حكم سب الصحابة رضى الله عنهم:

- ‌الحديث الخامس والثلاثون: البيان والتتمة شرح حديث يكون بعدى أئمة

- ‌تعريف الإمامة، وأهمية تنصيب الإمام:

- ‌ وسطية الأمة مع الأئمة:

- ‌الحديث السادس والثلاثون: ردع الجاني على حديث إن الله أفتاني

- ‌ هل السحر حقيقة أم خيال

- ‌الحديث السابع والثلاثون: دليل البيداء شرح حديث أنا أغنى الشركاء

- ‌ هل الرياء مبطل للعمل

- ‌ الشرك الخفي أشد خطورة من المسيح الدجال

- ‌أمور ليست من الرياء:

- ‌الحديث الثامن والثلاثون: نيل المأرب شرح حديث طلوع الشمس من المغرب

- ‌الحديث التاسع والثلاثون: بذل الطاقة شرح حديث صاحب البطاقة

- ‌ أليس تأويل الميزان بالعدل يستقيم لغة

- ‌ ما الذي يوزن في الميزان يوم القيامة:

- ‌ما الحكمة من نصب الموازين، مع كونه عزوجل وسع علمه أعمال العباد ومآلاتهم

- ‌ حكم من مات على الشرك الأصغر:

الفصل: ‌الحديث الخامس والعشرون: ذات العماد شرح حديث حق الله على العباد

‌الحديث الخامس والعشرون: ذات العماد شرح حديث حق الله على العباد

ص: 761

* نص حديث الباب:

عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ:

كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم -عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ:

«يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟» ، قُلْتُ:

اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: «لَا تُبَشِّرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا» ، فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذُ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.

* تخريج الحديث:

أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا، برقم (128)

وأخرجه مسلم كِتَاب الْإِيمَانَ، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، حديث رقم (30)

*

الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

الفائدة الأولى:

قوله صلى الله عليه وسلم: " حَقَّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ: أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا "

وحق الله -تعالى- على العباد، هو ما يستحقه عليهم ويجعله متحتمًا، وهو أن يعبدوه تعالى، هذا هو حق الله سبحانه وتعالى على عباده، من أولهم إلى آخرهم، كما في قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} ، وهو أول الحقوق، وآكد الحقوق. والعبادة المأمور بها هي كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

" هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة "

ويقول رحمه الله: لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي

ص: 763

تتضمن غاية الذل لله - تعالى - بغاية المحبة له.

(1)

وقوله صلى الله عليه وسلم: " ولا يشركوا به شيئاً ":

فى دلالة على أنه لا يكفي فقط العبادة، لأن الكفار كانوا يصرفون شيئاً من العبادة لله تعالى، لكنهم يشركون معه غيره، ولذلك لابد من عبادة الله - تعالى - مع عدم إشراك غيره معه.

*الفائدة الثانية:

*وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ

"

ففي تفسيرها وجوه:

1 -

هى من باب قول الرجل لصاحبه " حقك عليَّ واجب "، أي: متأكد قيامي به، ولله المثل الأعلى؛ فإن الله -تعالى - يخبر عباده عن حقهم الذي وعدهم به، ومن صفة وعده أن يكون واجب الإنجاز، فهو حق بوعده الحق، لا أنهم يستحقون ذلك بعمل عقلاً.

(2)

2 -

أنها خرجت على سبيل المشاكلة، ونظير ذلك ما ورد في حديث أَنَس بْن مَالِكٍ- رضي الله عنه لما مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«وَجَبَتْ» ، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ:«وَجَبَتْ»

(3)

، فالثناء لا يستعمل إلا في الخير، واستعماله في الشر هنا على سبيل المشاكلة.

فيكون المعنى في حديث الباب: أن حق العباد على الله -تعالى - إنما أُطلق هناعلى سبيل المقابلة لحقه عليهم، لا أنهم يستحقون عليه شيئًا.

*و الصحيح في ذلك أن حق العباد على الله -تعالى- ليس حق وجوب، بل هو حق تفضل وحق تكرُّم؛ وذلك لأنه الذي وفَّقهم وأنعم عليهم، ثم هو وعدهم -وهو لا يخلف الميعاد- أن من وحدَّه فإنه يثيبه وينعِّمه، وأنه لا يعذِّبه إذا مات على التوحيد الصحيح الصادق.

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 153)

(2)

وانظر مطالع الأنوار على صحاح الآثار (2/ 346) وتحقيق التجريد في شرح كتاب التوحيد (1/ 48)

(3)

متفق عليه.

ص: 764

فحق العباد على الله -عزوجل- إنما يحصل لأنه سبحانه أصدق قيلاً، وأحق من وفَّى بوعده، قال تعالى (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) (التوبة: 111).

*فرع:

وقد تمسَّك المعتزلة بظاهر حديث الباب فيما ذهبوا إليه من القول بمسألة " الواجب على الله "؛ فبناءً على قولهم بالحسن والقبح العقليين فقد أوجبوا على الله تعالى أموراً، بدعوى أن عدم تقديرها سيكون مخلاً بالحكمة والعدل والصلاح؛ فيكون لازماً لاقتضاء الحكمة إياه.

وهم يرون وجوب ما حكم العقل بحسنه على الله تعالى، وأن تركه نقص يتنزَّه الله عنه.

(1)

وفى ذلك يقول القاضي عبدالجبار:

"وأما علوم العدل؛ فهو أن يعلم أن أفعال الله- تعالى- كلها حسنة، وأنه لا يفعل القبيح، ولا يخل بما هو واجب عليه، وأنه لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه ".

(2)

* وعلى الجانب الآخر:

يرى الأشاعرة في مسألة الوجوب في حق الله تعالى:

أن الله - تعالى - لا يجب عليه شيء؛ ويمنعون وجوب شيء في حقه تعالى عقلاً؛ لأنه المالك على الإطلاق، وله التصرف في ملكه كيف يشاء، واتفقوا على بطلان التحسين والتقبيح العقليين، فلا حكم للأفعال قبل الشرع بالحسن أو القبح.

(3)

(1)

وأول من اشتهر عنه البحث في هذه المسألة الجهم بن صفوان، فهو الذي وضع قاعدته المشهورة:"إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع"، ثم أخذ المعتزلة بهذا القول ووافقهم عليه الكرَّامية.

وانظر بغية الطالب (ص/325) والملل والنحل (1/ 88) وأبكار الأفكار (1/ 581)

(2)

وانظر شرح الأصول الخمسة (ص/132)، وهذا ما أشار إليه الزمخشري في تفسيره لقوله تعالى

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، حيث قال: فلم قُدِّمت العبادةُ على الاستعانة؟

قلت:

لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة؛ ليستوجبوا الإجابة إليها. وانظر الكشَّاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 15)

* وكذلك يقول الزمخشري في تفسيره لقول الله تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)(النساء/100)

قال: والمعنى: قد علم الله كيف يثيبه، وذلك واجب عليه. " الكشَّاف "(1/ 558)

وكم من مواضع في تفسير " الكشَّاف" مما يقال فيها هى " نار تحت الرماد "، فظاهرها الرحمة، ومن باطنها العذاب.

(3)

وانظر شرح السنوسية الكبرى (ص/344) ونهاية الإقدام (ص/445) والأربعين في أصول الدين (2/ 350)

ص: 765

* ومما سبق يتبين لنا أنه قد ترتب على كلا القولين:

1 -

أن المعتزلة أفرطوا في تمجيد العقل، حتى أوجبوا بمقتضاه الصلاح على الله تعالى؛ وذلك يتحقق بأن يفعل الله -تعالى - الصلاح أو الأصلح لعباده، على خلاف بين معتزلة بغداد ومعتزلة البصرة.

وأن الإنسان مكلف قبل ورود الشرع بما دل عليه العقل، كوجوب شكر المنعم، ومكلف بمحاسن الأخلاق.

(1)

2 -

أن الأشاعرة قد أطلقوا القول بنفي الوجوب في حقه تعالى؛ فلم ينزهوه عن فعل شيء، بناءً منهم على نفي التحسين والتقبيح العقليين، وعليه فقد جوَّزوا على الله -تعالى- إرادة الخير والشر، دون أن يفرقوا بين دلالة الإرادة الكونية و دلالة الإرادة الشرعية.

فتراهم يقولون أن الحسن والقبح تابعان لأمر الشارع ونهيه، وأنه لو عكس الشارع القضية فقبَّح ما حسَّنه وحسَّن ما قبَّحه لجاز ذلك، فلا يقبح منه أن يعذِّب المؤمنين، ويدخل الكافرين الجنان، وهذا مبني على مسألة نفي الأشاعرة للحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى.

(2)

* وهدى الله -تعالى- الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فقالوا:

أما ما يتعلق بمسألة التحسين والتقبيح العقليين فمذهب أهل السنة في الرد على المعتزلة يتلخص في المحاور التالية:

1 -

الأول:

العقل يمكنه أن يدرك حسن وقبح كثيراً من الأشياء لصفاتها الذاتية، وذلك قبل ورود الشرع، دون أن يترتب على هذا الادراك أى حكم شرعي، حتى يرد الشرع فيحكم بذلك؛ فإن الظلم والشرك والكذب والفواحش كل ذلك قبيح قبل مجيء الرسول، لكن العقوبة لا تستحق إلا بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم.

(3)

(1)

وانظر الملل والنحل (1/ 45) ودراسة نقدية لجوهرة التوحيد (ص/334)

(2)

وانظر موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1320) وتناقضات الأشاعرة (ص/94)

(3)

انظر درء التعارض (8/ 14) ورسالة السجزى إلى أهل زبيد (ص/95) ودراسة نقدية لنظم الجوهرة (ص/338)

ص: 766

2 -

الثاني:

أن مقياس الصلاح والأصلح ليس راجعاً إلى مقياس عقول البشر، بل إن ذلك راجع إلى ما تقتضيه حكمة الله تعالى، فقد تكون على خلاف ما يراه الخلق بادئ الرأي في عقولهم القاصرة؛ فانقطاع المطر قد يبدو لكثير من الناس أنه ليس الأصلح بينما قد يكون هو الأصلح، لكنه مراد لغيره؛ لقوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].

وكذلك استدراج الكفار بالنعم، وابتلاء المسلمين بالمصائب كل ذلك يحمل في طياته ضروباً من الحكم التي لا تحيط عقول البشر إلا بأقل القليل منها.

بل إن خلق إبليس، وتقدير المعاصي، وتقدير الآلام يتضمن حكماً تبهر العقول وتُبين عن عظيم حكمة أحكم الحاكمين.

(1)

3 -

الثالث:

أن القول برعاية الصلاح أو الأصلح مبني على تشبيه الخالق بالمخلوق فيما يحسن من أفعاله ويقبح، وذلك باطل شرعاً وعقلاً؛ وذلك لأن التشبيه فى الأفعال كالتشبيه فى الذات والصفات. قال ابن القيم:

قياس أفعال الله -تعالى- على أفعال عباده من أفسد القياس وأعظمه بطلاناً؛ فإنه تعالى كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته فكذلك ليس كمثله شيء في أفعاله.

وكيف يقاس على خلقه في أفعاله فيحسن منه ما يحسن منهم ويقبح منه ما يقبح منهم، ونحن نرى كثيراً من الأفعال تقبح منا وهي حسنة منه تعالى؟!

كإيلام الأطفال والحيوان، وإهلاك من لو أهلكناه نحن لقبح منا من الأموال والأنفس وهو منه تعالى مستحسن غير مستقبح.

وترك إنقاذ الغرقي والهلكي قبيحاً منا، وهو سبحانه إذا أغرقهم وأهلكهم لم يكن قبيحاً منه، وإذا كان هذا شأنه سبحانه وشأننا، فكيف يصبح قياس أفعاله على أفعالنا؟!

(2)

(1)

مصطلحات في كتب العقائد (ص/70)

(2)

وانظر مفتاح دار السعادة (2/ 52) ومباحث في الربوبية والقدر (ص/270)

ص: 767

4 -

الرابع:

قال تعالى {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]

قال ابن القيم:

فهذا يدل على أن ما قدَّمت أيديهم سبب لنزول المصيبة بهم، ولولا قبحه لم يكن سبباً، لكن امتنع إصابة المصيبة لانتفاء شرطها، وهو عدم مجيء الرسول إليهم، فمذ جاء الرسول انعقد السبب، ووجد الشرط، فأصابهم سيئات ما عملوا، وعوقبوا بالأول والآخر.

(1)

وقال رحمه الله:

وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة بحيث استحقوا أن يصيبوا بها المصيبة، ولكنه سبحانه لا يعذِّب إلا بعد إرسال الرسل، وهذا هو فصل الخطاب.

وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه، وأن الله -تعالى- لا يعذِّب عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة.

(2)

5 -

الخامس:

فارق بين حق المخلوق على الخالق سبحانه وتعالى، الذى هو سبيله التكرُّم والتفضّل والإحسان من الخالق على عباده، وبين حق المخلوق على المخلوق الذى سبيله الاستحقاق والإيجاب.

لذا فكل نصوص الوعد هى حق للعباد على ربهم، وهو إستحقاق فضل وإنعام، لا ينافي الاختيار والاستعلاء المطلق؛ لأن الله -تعالى- قد أوجب الثواب على نفسه، والإيجاب الصادر من الذات لا يستلزم الإلجاء إلى الإنجاز أو ينافي الاستعلاء المطلق.

(3)

* وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية موقف السلف في مسألة الوجوب على الله تعالى،

حيث يقول:

وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية - أي المعتزلة - وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح

(1)

مدارج السالكين (1/ 232)

(2)

وانظر مفتاح دار السعادة (2/ 7) وانظر الوعد الأخروي (2/ 700)

(3)

الوعد الأخروي، شروطه وموانعه (1/ 220)

ص: 768

المعقول.

وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئاً.

ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال: إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرَّم الظلم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئاً كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح.

(1)

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:

كون المطيع يستحق الجزاء، هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق.

(2)

ما للعباد عليه حق واجب

كلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله أو نعموا

فبفضله وهو الكريم الواسع.

(3)

6 -

السادس:

مما يدل على تناقض المعتزلة وفساد منهجهم في هذا الباب أنهم مع القول بوجوب اختيار الأصلح على الله -تعالى- لعباده تراهم يستحسنون الحكم بالخلود في النار على صاحب الكبيرة وإن قضى حياته في فعل الخيرات، فأوجبوا على الله -تعالى - تعذيبه، واستقبحوا العفو عنه.

(4)

فأين صلاح العبد في ذلك؟!، بل أين العدل الذي هو أحد أصولكم فى الاعتقاد؟!

وقد وضَّح شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أهل الحق في هذه المسألة توضيحاً كاملًا، فقسَّم الأفعال إلى ثلاثة أنواع:

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 310)

(2)

نقله عنه تلميذه ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/ 99) وانظرالدر النضيد على أبواب التوحيد (ص/21)

(3)

طريق الهجرتين (ص/ 520)

(4)

وانظر مجموع الفتاوى (8/ 92) وموقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة (ص/325)

ص: 769

"أحدها:

أن يكون الفعل مشتملًا على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن أو قبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه ثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، وهذا ما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث الله إليهم رسولًا، وهذا خلاف النص، قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]

النوع الثاني:

أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.

النوع الثالث:

أن يأمر الشارع بشيء يمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] حصل المقصود، ففداه بالذبح، وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، فلما أجاب الأعمى قال الملك:" أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فرضي عنك وسخط على صاحبيك"، فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به.

وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع. وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب".

(1)

* ومما أشكل به المعتزلة فى زعمهم أن دخول الجنة إنما يكون بعمل العبد وسعيه، قوله تعالى (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32]، وقوله:(جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة: 17]

(2)

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 434 - 436)

(2)

ولذلك لما أتى الزمخشري إلى تفسير قوله تعالى (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)) (الأعراف/43) قال: بسبب أعمالكم، لا بالتفضل كما تقول المبطلة!!

وانظر الكشاف (2/ 116)

وهو يعنى بالمبطلة أهل السنة الذين قالوا أن العبد لا يستحق الجنة بمحض عمله؛ لقوله عليه الصلاة والسلام (لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله ولكن بفضل الله وبرحمته)

ص: 770

* والرد عليهم:

إن أشكلتهم بهذه الآيات على زعمكم الباطل، فيلزمكم أن تجيبوا عمَّا رواه أَبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

"لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُه، قَالَ رَجُلٌ: وَلَا إِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا إِيَّايَ، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَلَكِنْ سَدِّدُوا ".

(1)

فالنص صريح أن أعمال العباد لن تنجيهم عند ربهم -تعالى- يوم القيامة!!

ولكنَّ أهل السنة جمعوا بين ما ظاهره التعارض؛ لأنهم دوماً هم أسعد الناس فهماً لأدلة الشرع، وأكثرهم توفيقاً وعملاً بنصوص الوحيين.

* فيقال:

لا تعارض بين الآية وما دل عليه الحديث، بل يُجمع بينهما من وجوه:

1 -

الأول:

أنَّ دخول الجنة برحمته تعالى، ولكن انقسام المنازل بحسب الأعمال.

قَالَ ابن عيينة:

كانوا يرون النجاة من النار بعفو الله ودخول الجنة بفضله، واقتسام المنازل بالأعمال.

(2)

2 -

الثانى:

أن الآية دلت على أن الأعمال سبب لدخول الجنة، وليست ثمناً لها، وأما الحديث نفى أن تكون الأعمال ثمناً للجنة.

فالباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات، فالباء المنفية في قوله صلى الله عليه وسلم:(لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ) هى باء العِوض والمقابلة، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة، وأنَّ صاحب العمل يستحق عَلَى الله -تعالى- دخول الجنة كما يستحق من دفع ثمن سلعة إِلَى صاحبها تسليم سلعته، كما زعمت المعتزلة أن العامل مستحق دخول الجنة على ربه بعمله، بل نقول إن ذلك إنما يحصل برحمة الله وفضله.

والباء المثبتة في قوله (جَزَاء

(1)

متفق عليه.

(2)

مجموعة رسائل ابن جب"المحجة فى سير الدلجة "(ص/393)

ص: 771

بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) هى باء السببية، وقد جعل الله -تعالى- العمل سببًا لدخول الجنة، والله - تعالى- هو خلق الأسباب والمسببات، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته.

(1)

فإن دخول الجنة لا يحصل إلا بمحض رحمة الله تعالى، وهذه الرحمة إنما يستجلبها المرء بعمله وطاعته، وبيان ذلك في قوله تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)) (الأعراف/156).

(2)

* كذلك مما أشكل به المعتزلة:

ما ذكره القاضي عبدالجبار بقوله:

"اعلم أنه تعالى إذا كلفنا الأفعال الشاقة، فلابد من أن يكون في مقابلها من الثواب ما يقابله؛ بل لا يكفي هذا القدر حتى يبلغ في الكثرة حداً لا يجوز الابتداء بمثله، ولا التفضل به

وإنما قلنا: إن هذا هكذا؛ لأنه لو لم يكن في مقابلة هذه الأفعال الشاقة ما ذكرناه، كان يكون القديم تعالى ظالماً!!

(3)

* والرد عليه:

أن التكليف تصرف في عبيده ومماليكه، والمالك إذا لم يعط

(1)

وانظر مفتاح دار السعادة (2/ 92) وشرح العقيدة الطحاوية (ص/438)

(2)

ومما هو شائع في هذا الباب، لكنه صحيح المعنى ضعيف السند ما روى عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا عن جبريل عليه السلام: "إنَّ عابدًا عَبَدَ الله عز وجل عَلَى رأس جبلٍ في البحر خمسمائة سنة، ثم سأل ربه أن يَقْبِضَه ساجدًا. فيبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول الرب عز وجل:

أدخلوا عبدي الجنة برحمتي. فيقول العبد: بعملي يا رب، يفعل ذلك ثلاث مراتٍ.

ثم يقول الله - تعالى - للملائكة: قايسوا عبدي بنعمي عليه وبعمله، فيجدون نعمة البصر قد أحاطت بعبادته خمسمائة سنة، وبقيت نعم الجسد له.

فيقول: أدخلوا عبدي النار، فيُجر إِلَى النار فينادي برحمتك يا رب أدخلني الجنة، فيدخله الجنة.

أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 251)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد؛ فإن سليمان بن هرم العابد من زهاد أهل الشام، وتعقبه الذهبي فقال: لا والله، وسليمان غير معتمد، تفرد عن ابن المنكدر عن جابر بحديث العابد والرمانة. قال الأزدي: لا يصح حديثه. وقال العقيلي: مجهول وحديثه غير محفوظ.

قلت: =

=وقد ضعَّف هذا الحديث ابن حجر في لسان الميزان (4/ 180)، وانظر المغني في الضعفاء (1/ 284) ورجال الحاكم في المستدرك (1/ 408)

(3)

شرح الأصول الخمسة (ص/614)

ص: 772

مملوكه أجراً مقابل خدمته لم يعد ظلماً، ولله -تعالى- المثلى الأعلى، فله -تعالى-المشيئة المطلقة، لا يُسأل عمَّا يفعل، إن شاء أثاب العباد ورحمهم بفضله ورحمته، وإن شاء عاقبهم فبمقتضى عدله وحكمته.

(1)

*ومما يدحض قول المعتزلة بوجوب الصلاح على الله تعالى:

1 -

أن القربات من النوافل صلاح، فلو كان الصلاح واجباً لوجبت وجوب الفرائض.

2 -

أن عدم خلق إبليس أصلح للخلق، فلو كان الصلاح واجباً لما خلقه الله تعالى.

3 -

القول بأنه سبحانه لا يُشكر على فعله للأصلح للعباد، إذ كيف يُشكر على فعل ما كان واجباً عليه فعله؟!

4 -

ومنها ما قد ورد في الخبر المشهور الذى ألزم به الإمام أبو الحسن الأشعري شيخ المعتزلة أبا علي الجبائي، وذلك في المثل الذى ضربه له للإخوة الثلاثة.

(2)

* ثانياً: الرد على ما ذهب إليه الأشاعرة:

وأما مذهب إلغاء التحسين والتقبيح العقليين فهو مذهب منقوض بصحيح المنقول وصريح المعقول:

(1)

وانظرالاقتصاد في الاعتقاد (ص/ 185) والمعتزلة وأصولهم الخمسة (ص/ 216)

(2)

وحاصل هذا المثل أن أبا الحسن الأشعري قد سأل الجبائي عن ثلاثة إخوة، أمات الله -تعالى- أحدهم صغيراً، وأحيا الآخرين، فاختار أحدهما الإيمان واختار الآخر الكفر، فرفع الله درجة المؤمن البالغ على أخيه الصغير في الجنة بعمله، فقال أخوه الصغير:

يارب لم لا بلغتني منزلة أخي؟ فقال: إنه عاش وعمل عملاً استحق به هذه المنزلة، فقال: يارب فهلا أحييتني حتى أعمل مثل عمله فأبلغ منزلته؟ فقال:

كان الأصلح أن توفيتك صغيراً؛ لأني علمتُ أنك إن بلغت اخترت الكفر، فإن الأصلح في حقك أن أميتك صغيراً. قال الأشعري: فإن قال الثاني يارب: لِمَ لَمْ تمتني صغيراً لئلا أعصي، فلا أدخل النار، فماذا يقول الرب؟! فبهت الجبائى. وهذه اللوازم الباطلة لقول المعتزلة بمسألة إيجاب الصلاح.

وقد كان أبو الحسن الأشعري على مذهب الجبائي المعتزلي، ثم تاب من القول بخلق القرآن والعدل.

وانظر لوامع الأنوار البهية (ص/330) وتحقيق المقام على كفاية العوام (ص/320)

ص: 773

ا-فأما مخالفته لصحيح المنقول:

ففي القران آيات كثيرة تدل على أن الحسن والقبح ثابت للأشياء في ذاتها،

قال تعالى: {.. يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ

} (سورة الأعراف: 157)

ووجه الدلالة:

الآية صريحة في ن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها، فالمعروف الذي يأمر به الله -تعالى- ما تعرفه وتقر به العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والمنكر الذي نهاهم عنه هو ما تنكره العقول والفطر السليمة، وتقر بقبحه، ولو لم يظهر للأشياء حسن وقبح لذاتها، وإنما كان ذلك من قِبل الشارع، وأن ما أمر به الحسن وما نهى عنه هو القبيح لكان معنى الآية:(يأمرهم بما يأمرهم به، وينهاهم عما ينهاهم عنه) وهذا لا يقوله عاقل، فضلاً عن رب العالمين.

وقوله تعالى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} فيه دلالة على أن الحلال كان طيباً قبل حله، وأن الخبيث كان خبيثاً قبل تحريمه، فلو كان الحلال والخبيث إنما عُرفا بالتحليل والتحريم لكان معنى الآية (يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم) وهذا لا يليق بنظم كلام الله تعالى.

وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} (الإسراء: 32)

فدلت الآية على أن الزنى إنما تعلَّق به النهي لكونه قبيحاً وفاحشة، وهذا الوصف ثابت له قبل النهي عنه، ولو لم يكن قبيحاً وفاحشة في نفسه لكان معنى الآية:(ولا تقربوا الزنى فإنه منهي عنه)، وهذا من تعليل الشيء بنفسه وهو باطل.

(1)

ويلا حظ أن هذه الأدلة تدخل في الأدلة التي سبقت في ثبات الحكمة والتعليل في أفعاله سبحانه، فنفي الأشاعرة للحكمة والتعليل نتج عنه قولهم بنفي الحسن والقبح العقلي.

(1)

انظر منهاج السنة (3/ 179) ومفتاح دار السعادة (2/ 6 وما بعدها)

ص: 774

-قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)} (المؤمنون: 71)

فأخبر سبحانه أن الحق لو اتبع أهواء العباد فجاء شرع الله-تعالى- ودينه بأهوائهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهنَّ، ومعلوم أنَّ عند النفاة يجوز أن يرد شرع الله ودينه بأهواء العباد، وأنه لا فرق في نفس الأمر بين ما ورد به وبين ما تقتضيه أهوائهم إلا مجرد الأمر، وإنه لو ورد بأهوائهم جاز وكان تعبداً وديناً، وهذه مخالفة صريحة للقرآن، وإنه من المحال أن يتبع الحق أهوائهم، وأن أهوائهم مشتملة على قبح عظيم لو ورد الشرع به لفسد العالم أعلاه وأسفله وما بين ذلك.

ومعلوم أن هذا الفساد إنما يكون لقبح خلاف ما شرعه الله وأمر به ومنافاته لصلاح العالم عُلْوِيَّهُ وسفليه، وإن خراب العالم وفساده لازم لحصوله ولشرعه، وأن كمال حكمة الله وكمال علمه ورحمته وربوبيته يأبى ذلك ويمنع منه، ومن يقول الجميع في نفس الأمر سواء يجوز ورود التعبد بكل شيء سواء كان من مقتضى أهوائهم أو خلافها.

(1)

2 -

وأما مخالفتهم لصريح المعقول فيما ذهبوا إليه من نفي الحسن والقبح الذاتي للأفعال،:

فيقال: إذا كان العقل ليس له مدخل في معرفة حسن الأفعال وقبحها، فإن ذلك يستلزم أن تكون الأفعال الحسنة والقبيحة في حقه متساوية، كالصدق والكذب والعدل والظلم والكرم والبخل والبر والفجور، وحكم الضدين بهذه العبارة يكون باطلاً لا يقول به من له أدنى مسكة من علم وإيمان وعقل

قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28:)

وقال جل من قائل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا

(1)

مفتاح دار السعادة (2/ 11)

ص: 775

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21).

قال ابن القيم:

فدل على أن هذا حكم سيء قبيح ينزه الله عنه، ولم ينكره سبحانه من جهة أنه أخبر بأنه لا يكون، وإنما أنكره من جهة قبحه في نفسه، وإنه حكم سيء يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته لحكمته وغناه وكماله، ووقوع أفعاله كلها على السداد والصواب والحكمة، فلا يليق به أن يجعل البَر كالفاجر ولا المحسن كالمسيء ولا المؤمن كالمفسد في الأرض، فدل على أن هذا قبيح في نفسه تعالى الله عن فعله.

(1)

ومن قال: إن الأفعال ليس فيها صفات تقتضي الحسن والقبح لذاتها فهو بمنزلة قوله: ليس في الأجسام صفات تقتضي التسخين، والتبريد، والإشباع، والإرواء، فسلب صفات الأعيان المقتضية للآثار كسلب صفات الأفعال المقتضية للآثار.

(2)

-وكذلك يقال:

إن حسن الصدق وقبح الكذب أمر يدركه العقلاء، وهو مركوز في الفطر، والقول بأن الكذب قد يحسن أحياناً كما لو رتب عليه عصمة مسلم من القتل ظلماً غير مسلَّم، فتخلف القبح عن الكذب لفوات شرط، أو لقيام مانع، يقتضي مصلحة راجحة على الصدق، لا تخرجه عن كونه قبيحاً لذاته، ومن ذلك أن الله حرَّم الميتة والدم ولحم الخنزير للمفسدة في تناولها، وهي ناشئة من ذوات هذه المحرَّمات، وتخلُّف التحريم عنها عند الضرورة لا يوجب أن تكون ذاتها غير مقتضية للمفسدة التي حرِّمت لأجلها، فهذا الكذب متضمن عصمة المسلم.

(3)

* ومن الفوائد المتعلقة بحديث الباب: الفائدة الثالثة:

قوله صلى الله عليه وسلم: " وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ": هذا أحد أحاديث الوعد التى ركن إليها المرجئة فيما ذهبوا إليه أنه لا يضر مع الإيمان ذنب، إضافة إلى غير ذلك من الأحاديث التى يفيد ظاهرها هذا المعنى، مثل

(1)

المصدر السابق (2/ 11)

(2)

منهاج السنة النبوية (3/ 178)

(3)

انظر مفتاح دار السعادة (2/ 36 - 37) ومنهج المتكلمين (1/ 321).

ص: 776

الأحاديث التى نصت على أن من مات على التوحيد فمآله إلى الجنة، وإن مات مصرّاً على فعل الكبائر، كما قد ورد في حديث أَبَى ذَرٍّ -رضى الله عنه- أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال:

" مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ " قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ:

«وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ:«عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ» .

(1)

* أو الأحاديث التى أفادت تحريم النار على من مات على التوحيد، كما ورد في حديث عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ -رضى الله عنه- أن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:

" فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ "

(2)

*وعلى الجانب الآخر فقد ركن الخوارج والمعتزلة إلى أحاديث الوعيد، على اختلاف دلالاتها:

واتفقوا على أن المؤمن إذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها، استحق الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار، وسمُّوا هذا النمط: وعداً ووعيداً.

(3)

وفى ذلك يقول القاضي عبد الجبار وهو يقرر تخليد صاحب الكبيرة في النار:

فأي تشنيع علينا إذا اتبعنا الكتاب والسنة؟!!

وقال بعد أن ذكر جملة من أدلة الوعيد فى حق أصحاب الكبائر، قال:

"ويحمل قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48) على صغائر المعاصي ".

(4)

(1)

متفق عليه.

(2)

متفق عليه.

(3)

الملل والنحل للشهرستاني (ص/45) وهذا على اختلاف يسير بين الخوارج والمعتزلة في حكم فاعل الكبيرة بين الحال والمآل، فقد افترقوا في حاله في الدنيا، فقال الخوارج: هوكافر في الدنيا، وقال المعتزلة هو في منزلة بين الكفر والإيمان، فهو فاسق، ثم اتفقوا على أن مآله إلى الخلود في النار.

(4)

الأصول الخمسة (ص/107 - 177)

ص: 777

* ومن هذه الأحاديث التى قد بنوا عليها هذا الأصل:

(1)

1) أولاً:

أحاديث قد أفاد ظاهرها الحكم بالكفر على مرتكب الكبيرة:

عن جرير -رضى الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم -قال:

«لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» .

(2)

2) ثانياً:

أحاديث أفاد ظاهرها نفى الإيمان عن مرتكب الكبيرة:

كما ورد عن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

" لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ".

(3)

3) ثالثاً:

أحاديث التى أفادت التبرؤ من فاعل الكبيرة:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

" لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ "

(4)

رابعاً:

أحاديث أفادت تحريم الجنة على فاعل الكبيرة:

عن جُبَيْر بْن مُطْعِمٍ -رضى الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم قال:

«لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ»

(5)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:

«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» .

(6)

5) خامساً:

أدلة أفادت الحكم بالخلود في النار على فاعل الكبيرة:

كقوله تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا..)(النساء: 93)

(7)

(1)

وهذه الأثار قد فنَّدها واستدل بها القاضي على كفر فاعل الكبيرة.

وانظر المصدر السابق (ص/673) ومنهج المتكلمين (2/ 677)

(2)

متفق عليه.

(3)

متفق عليه.

(4)

متفق عليه.

(5)

متفق عليه.

(6)

رواه مسلم (33)

(7)

وهذه أحد أدلة المعتزلة على التكفير بالكبيرة، قال القاضي عبد الجبار: وقوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) يدل على أن قتل المؤمن على وجه التعمد يستحق به الخلود فى النار، وذلك يبطل قول من يقول: إنه يجوز ألا يدخلهم النار، «أو يخرجهم منها، لأنه تعالى جعل ذلك «حق القتل، ومن حق الجزاء أن لا يكون موصوفا بذلك إلا فى حال وقوعه. متشابه القرآن (ص/201)

ص: 778

وما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

" مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا».

(1)

* نقول:

وهكذا سلك المرجئة والخوارج مع هذه الأحاديث سبيلين مختلفين لا يصلح كل سبيل منهما لاحتواء السبيل الآخر؛ وما ذلك إلا للعوج الذى بنوا عليه فهمهم للنصوص الشرعية.

وصدق القائل:

.

* وكم من عائب قولاً صحيحاً

وآفته من الفهم السقيم *

لذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

وكانت البدعة الأولى مثل " بدعة الخوارج " إنما هي من سوء فهمهم للقرآن لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب؛ إذ كان المؤمن هو البر التقي. قالوا: فمن لم يكن براً تقياً فهو كافر وهو مخلد في النار.

(2)

* وأما أهل السنة فقد سلكوا سبيل الجمع بين هذه النصوص، فلم يقولوا بخلود أحد من أهل القبلة في النار لكبيرة قد مات مصرَّاً عليها.

عن عُبَادَةَ بْن الصَّامِتِ رضي الله عنه -أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ

(1)

متفق عليه.

(2)

مجموع الفتاوى (13/ 30)

ص: 779

وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ».

(1)

*قال المازني:

فيه رد على الخوارج الذين يكفِّرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه تحت المشيئة، ولم يقل لا بد أن يعذبه.

(2)

* والإجماع منعقد على ذلك:

فقد أجمع الصحابة -رضى الله عنهم- على عدم كفر مرتكبي الذنوب، فقد سئل جابر بن عبد الله رضى الله عنهما: هل كنتم تسمُّون أحداً من أهل القبلة كافراً؟ فقال: لا.

(3)

وعَنْ أَنَسٍ-رضى الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

«شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» .

(4)

وفى رواية ابْنِ عُمَرَ-رضى الله عنهما- قَالَ:

مَا زِلْنَا نُمْسِكُ عَنِ الاسْتِغْفَارِ لأَهْلِ الْكَبَائِرِ حَتَّى سَمِعْنَا مِنْ فِي نَبِيِّنَا- صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " أَخَّرْتُ شَفَاعَتِي لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

(5)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه

(1)

متفق عليه.

(2)

وانظرفتح الباري شرح صحيح البخاري (1/ 68) والمعتزلة وأصولهم الخمسة (ص/230)

(3)

الإيمان لأبي عبيد (ص/98)، قال الألباني في التعليق: إسناده صحيح على شرط مسلم.

(4)

أخرجه الترمذي (2435) وأبوداود (4739) وأحمد (13222) قال ابن كثير: إسناد صحيح على شرط الشيخين، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

وصححه البيهقى فى السنن الكبرى (8/ 17)، وصححه الحاكم على شرطهما، وصححه الذهبي في رسالته "اثبات الشفاعة "، وصححه الألباني في المشكاة (5599)

* وإن تعجب فعجب تحريفهم:

حينما يحرِّفون حديث النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "، فيقول أحد دعاة الاعتزال أن المراد بأهل الكبائر هم المؤمنون من أهل الصلاة؛ لأن الصلاة كبيرة، كما قال الله عز وجل {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} !!

فعندها لا نملك إلا أن نقول: "الحمد لله على العافية في العقل والدين "

(5)

كتاب السنة (1/ 398) وقد حسَّنه الألبانى. وانظر الاستيعاب فى بيان الأسباب (1/ 399)

ص: 780

الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- واستفاضت به السنن من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضاً لعموم الخلق.

(1)

قال ابن حزم:

في إجماع الأمة على أن صاحب الكبيرة مأمور بالصلاة مع المسلمين وبصوم شهر رمضان والحج وبأخذ زكاة ماله وإباحة مناكحته وموارثته وأكل ذبيحته، وتحريم دمه وماله وأن لا يؤخذ منه جزية ولا يصغر برهان صحيح على أنه مسلم مؤمن، وفي إجماع الأمة كلها دون مخالف على تحريم قبول شهادته وخبره برهان على أنه فاسق، فصح يقينا أنه مؤمن فاسق ناقص الإيمان.

(2)

قال ابن عبد البر:

فإن مات صاحب الكبيرة فمصيره إلى الله، إن شاء غفر له وإن شاء عذَّبه، وإن تاب قبل الموت وندم كان كمن لم يذنب، وبهذا كله الآثار الصحاح عن السلف قد جاءت، وعليه جماعة علماء المسلمين.

(3)

* وكذلك قد قال أهل السنة بإثبات ضرر المعاصى والذنوب مع وجود الإيمان، ولم يقولوا بنجاة جميع أهل التوحيد من أصل العذاب في الآخرة.

فعن زبيد، قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدثني عَبْد اللهِ بْن مَسْعُودٍ عبد الله -رضى الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»

(4)

(1)

مجموع الفتاوى (1/ 313)

(2)

الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 265)

(3)

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (2/ 256)

وقد نقل مثل هذا الإجماع أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر (ص/274) وانظر المسائل التى حكي فيها ابن تيمية الإجماع (ص/598)

(4)

متفق عليه. وقد أخرج النسائي من طريق أبى داود الطيالسي قال: حدثنا شعبة قال: قلت لحماد:

سمعتَ منصوراً، وسليمان، وزبيداً، يحدِّثون، عن أبي وائل، عن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» ، من تتهم؟

أتتهم منصوراً، أتتهم زبيداً، أتتهم سليمان؟ "

، قال: لا، ولكني أتهم أبا وائل، وحمَّاد وهو ابن أبي سليمان، وهو شيخ شعبة، وكان مرجئاً، فقد اتهم أبا وائل؛ لأن الحديث حجة على معتقد المرجئة أنه لا يضر مع الإيمان ذنب. وأبو وائل لو انفرد فهو مجمع على توثيقه، كما نقل ذلك ابن عبد البر، كيف وقد تابعه عن ابن مسعود:

عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وأبو الأحوص وأبو عمرو الشيبانى ومسروق هبيرة بن يريم. وكذلك فالحديث مروى عن جماعة من الصحابة:

(سعد وأبى هريرة وعبد الله بن مغفل و عقبة بن عامر والنعمان بن مقرن (أفاده سليم الهلالى في الروض الريَّان (1/ 392) وانظرفتح الباري لابن رجب (1/ 201)

ص: 781

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

فهذان القولان: قول الخوارج الذين يكفِّرون بمطلق الذنوب ويخلِّدون في النار؛ لم يذهب إليه أحد من أئمة الدين أهل الفقه والحديث بل هما من الأقوال المشهورة عن أهل البدع.

وكذلك قول من وقف في أهل الكبائر من غلاة المرجئة، وقال لا أعلم أن أحداً منهم يدخل النار هو أيضا من الأقوال المبتدعة؛ بل السلف والأئمة متفقون على ما تواترت به النصوص من أنه لا بد أن يدخل النار قوم من أهل القبلة، ثم يخرجون منها.

(1)

* مسالك الجمع بين أحاديث الوعد والوعيد:

قد تعددت وجوه الجمع بين تلك النصوص على النحو الآتى:

* أما تأويل نصوص الوعد:

وهى النصوص التى ركن إليها المرجئة فيما ذهبوا إليه من دخول الجنة لمن مات على التوحيد، وأن النار محرمة عليهم ونحو ذلك، فهذا محمولة على وجوه:

الوجه الأول:

أن هذا باعتبار المآل، فالعبد مهما بلغت ذنوبه وكثرت، ولو كانت من الكبائر التى لم يتب منها، فإن مآله إلى الجنة، مادام قد مات على التوحيد، أصابه قبل ذلك ما أصابه، وقد يعفو الله -تعالى-عنه فيغفر له كل ذنوبه، كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

قال الطبري: وقد أبانت هذه الآية أنّ كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن الكبيرة شركًا بالله.

(2)

(1)

وانظر مجموع الفتاوى (7/ 502) و مرقاة المفاتيح (4/ 1667) ومسالك أهل السنة فيما أُشكل من نصوص العقيدة (2/ 368)

(2)

جامع البيان في تأويل القرآن (8/ 450)

نقول: لكن هذا بناءً على ما كما سبق وذكرنا أن أهل السنة لم يقولوا بنجاة جميع أهل التوحيد من أصل العذاب في الآخرة.

ص: 782

قال ابن رجب تعقيباً على حديث: "وإن زنى وإن سرق":

ومعنى هذا الحديث: أن الزنى والسرقة لا يمنعان دخول الجنة مع التوحيد، وهذا حق لا مرية فيه، وليس فيه أنه لا يعذب عليهما مع التوحيد، ففي مسند البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه -مرفوعًا:" مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنْ دَهْرِهِ، أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ "».

(1)

*الوجه الثانى:

أن تحمل أحاديث دخول الجنة لأهل التوحيد من أول وهلة على من توفرت عنده الشروط وانتفت عنه الموانع، فقد يتخلف عن المرء مقتضى أحاديث الوعد لفوات شرط أو لوجود مانع. والشرع لم يجعل النجاة حاصلة بمجرد قول اللسان فقط؛ فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من العمل بمقتضاها ظاهراً وباطناً، ولا بد من قول القلب، وقول اللسان، وقول القلب يتضمن من معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله تعالى، وقيام هذا المعنى بالقلب علما ومعرفة ويقيناً، وحالاً ما يوجب تحريم قائلها على النار.

وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام.

(2)

ومن توافر الشروط تحقق ما يلى:

*أن تغلب حسناته على سيئاته، قال تعالى (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

(1)

كلمة الإخلاص (ص/10)، وأما حديث "من قال: لا إله إلا الله نفعته يوماً من دهره، ..... "

فقد قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"، مجمع الزوائد [1/ 17]). وصححه الألبانى في الصحيحة (ح/1932)

(2)

وانظر مدارج الساكين (1/ 339) وكلمةالإخلاص وتحقيق معناها (ص/10)

ص: 783

*أو أن يكون قد مات على توبة صادقة محت له ما سبق من آثام؛ لذا فقد علَّق البخاري على قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن زنى وإن سرق..» ، قال:

" هذا عند الموت، أو قبله إذا تاب وندم، وقال: لا إله إلا الله، غُفر له ".

(1)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

وكل وعيد في القرآن فهو مشروطٌ بعدم التوبة باتفاق الناس.

(2)

*أو أن تُعرض عليه ذنوبه عرضاً، دون أن يُناقش، ثم يؤول أمره إلى العفو، فعَنْ عَائِشَةَ-رضى الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

«مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّبَ» قَالَتْ: قُلْتُ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] قَالَ: «ذَلِكِ العَرْضُ»

(3)

.

وأما انتفاء الموانع فيكون بخلاف ما سبق.

الوجه الثالث:

وكذلك يقال في النصوص التي أفادت تحريم النار على من مات على التوحيد، فتأويلها أن النار التى حرَّمت عليه هى النار التى أُعدت للكافرين الذين يخلَّدون فيها.

كما خاطب الله -تعالى- بهذا المشركين المكذبين بالوحي في قوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)(البقرة/24)

فجعلها معدّة للكافرين.

ومثل هذا لا يمنع أن من مات عاصياً، بكبيرة ونحوها أنه قد يُعذَّب ولكن ليس كعذاب الكافرين لا في خلودهم، ولا في دركاتهم، وكذا يقال في تأويل حديث الباب، في قول -النبي صلى الله عليه وسلم فى حق العباد على اللَّهِ تعالى:" أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ".

قال ابن رجب:

ما فيه أنه يحرم على النار وهذا قد حمله بعضهم على الخلود فيها، أو على نار يخلد فيها أهلها وهي ما عدا الدرك الأعلى، فأما الدرك الأعلى يدخله خلق كثير من عصاة الموحدين بذنوبهم، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين،

(1)

صحيح البخاري (7/ 149) وقال نحوه الطحاوى في مشكل الأثار (10/ 161)

(2)

مجموع الفتاوى (16/ 25)

(3)

متفق عليه.

ص: 784

وبرحمة أرحم الراحمين.

(1)

* وأما تأويل أحاديث الوعيد:

وهى التى ركن إليها الخوارج والمعتزلة فيما ذهبوا إليه من تخليد صاحب الكبيرة في النار، فهذه محمولة على وجوه:

1 -

الأول:

أما الأحاديث التى حكمت بالكفر على فاعل الكببرة فهى محمولة على وجوه:

* الأول: أن ذلك الفعل من أفعال الكافرين، وهذا اختيار النووي والقاضي عياض،

ولا يلزم أن من قام به وصف من أوصاف الكافرين أن يكون كافراً.

وفى ذلك يقول أبو العباس ابن تيمية:

ليس كل من قامت به شعبة من شعب الكفر يصير كافراً الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً حتى يقوم به أصل الإيمان.

(2)

لذا قال النووي فى قوله صلى الله عليه سلم: " اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: ..... "

(3)

قال رحمه الله:

وفيه أقوال: أصحها أن معناه هما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية.

(4)

2 -

الثانى:

أما الأحاديث التى حكمت بنفى الإيمان عن فاعل الكببرة:

فهى محمولة على نفي كمال الإيمان الواجب، وليس نفى أصل الإيمان، وهو قول للإمام أحمد، وأخذ به القاضي أبو يعلى، ورجحه بقوة المروزي وقال به النووي، وابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والسفَّاريني.

(5)

(1)

كلمة الإخلاص (ص/10)

(2)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص/237)

(3)

أخرجه مسلم (67)، وأحمد (10438)

(4)

وانظر شرح النووى على مسلم (1/ 162) والإيمان لابن سلام (ص/ 43) وأحاديث العقيدة الى يوهم ظاهرها التعارض (ص/ 410)

(5)

وانظر التمهيد لابن عبد البر (9/ 243) ولوامع الأنوار البهية (1/ 416) والمباحث العقدية المتعلقة بالكبائر (ص/86)

ص: 785

قال النووي:

فالقول الصحيح الذي قاله به المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره.

وقال رحمه الله:

فهذا الحديث مع نظائره فى الصحيح مع قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفَّرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرِّين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله - تعالى - عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولًا، وإن شاء عذَّبهم ثم أدخلهم الجنة، وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه.

(1)

* وقد ذكر ابن حجر أن حديث: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن،

" مصروف عن ظاهره؛ وذلك لاختلاف الحكم في حد الزنا وتنوعه، حيث قال:

"ومن أقوى ما يحمل على صرفه عن ظاهره إيجاب الحد في الزنا على أنحاء مختلفة، في حق الحر المحصن والحر البكر وفي حق العبد، فلو كان المراد بنفي الإيمان ثبوت الكفر لاستووا في العقوبة؛ لأن المكلفين فيما يتعلق بالإيمان والكفر سواء"

(2)

وقال ابن عبد البر:

قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني

"

يريد مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك؛ بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر- إذا صلوا للقبلة وانتحلوا دعوة الإسلام - من قرابتهم المؤمنين، وهذ من أوضح الدلائل على صحة قولنا إن مرتكب الذنوب

(1)

وانظرالمنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (1/ 343) والتوضيح لشرح الجامع الصحيح (16/ 24)

(2)

فتح الباري (12/ 60)

ص: 786

ناقص الإيمان بفعله ذلك وليس بكافر.

(1)

قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي رحمه الله، وسئل، عن الإرجاء، فقال:

" نحن نقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، إذا زنى وشرب الخمر نقص إيمانه "

(2)

قال الغزالى:

والصحابة رضي الله عنهم ما اعتقدوا مذهب المعتزلة في الخروج عن الإيمان بالزنا، ولكن معناه غير مؤمن حَقًا إِيمَانًا تَاماً كَامِلاً، كما يقال للعاجز المقطوع الأطراف هذا ليس بإنسان، أي ليس له الكمال الذي هو وراء حقيقة الإنسانية.

(3)

3 -

الثالث:

أما الأحاديث التى حكمت بالتبرؤ من فاعل الكببرة:

فالمعنى: ليس على هدي المسلمين وأخلاقهم، فليس بفعله هذا من المنقادين المطيعين للرسول صلى الله عليه وسلم.

(4)

قال أبو عُبيد القاسم بن سلاّم:

والأحاديث التي فيها البراءة، كقوله:«من فعل كذا، وكذا فليس منا» ، لا نرى شيئاً منها يكون معناه التبرؤ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من ملته؛ إنما مذهبه عندنا: أنه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا.

(5)

(1)

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (9/ 244)

(2)

السنة لعبد الله بن أحمد (ص/307)

(3)

قواعد العقائد (ص/259)

(4)

ومن العلماء من آثر الإمساك عن تفسير مثل هذه النصوص، وذلك من باب الترهيب، كما روى الحافظ في تغليق التعليق (5/ 365) عن سفيان قال: سئل الزهري: عن قول النبي صلى الله عليه وسلم:

"ليس منَّا من شقّ الجيوب" ما معناه؟ فقال:

(من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم). وهو قول للإمام أحمد، وعزا شيخ الإسلام إلى عامة علماء السلف أنهم يقرون هذه الأحاديث ويمرونها كما جاءت، ويكرهون أن تتأول تأويلات تخرجها عن مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكذلك فقد عزى ابن حجر إلى كثير من السلف إطلاق لفظ الأخبار في الوعيد، وعدم التعرض لتأويله ليكون = = أبلغ في الزجر. وانظر مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى (ص/317)، ومجموع الفتاوى (7/ 674) والمباحث العقدية المتعلقة بالكبائر (ص/87)

(5)

وانظركتاب الإيمان ومعالمه (ص /43)

ص: 787

4 -

الرابع:

ومن ذلك الأحاديث التى أفادت تحريم الجنة على فاعل الكبيرة:

وقد تأول العلماء تحريم الجنة على فاعل الكبيرة على وجوه:

أ) أن المراد بذلك حرمانه من دخول الجنة من أول وهلة، بل قد يُعذب على كبيرته، ثم يكون مآله إلى الجنة لموته على أصل التوحيد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

إن المنفي هو الدخول المطلق الذي لا يكون معه عذاب؛ لا الدخول المقيد الذي يحصل لمن دخل النار ثم دخل الجنة.

(1)

ب) أن المراد بذلك حرمانه من دخول درجة في الجنة يدخلها من لم يفعل تلك الكبيرة، فلا يدخل العالي من الجنان التى يدخلها الذين لم يرتكبوا تلك الذنوب والخطايا والحوبات، إذ قد أعلم النبى صلى الله عليه وسلم أنها جنان في جنة، واسم الجنة واقع على كل جنة منها.

(2)

5 -

الخامس:

ومن ذلك الأحاديث التى أفادت الحكم بالخلود في النار على فاعل الكبيرة:

فتأويله على وجوه:

1) الوجه الأول:

أن هذا من باب الوعيد الذى قد يُخلف، وإخلاف الوعيد لا يذم بل يمدح، فيجوز على اللَّه - تعالى- إخلاف الوعيد لا إخلاف الوعد.

قال ابن الوزير:

تجويز الخلف على الله -تعالى - في الوعد بالخير متفق على المنع منه عقلاً وشرعاً وإجماعاً من الأمة الاسلامية وسائر الملل.

(3)

والفرق بينهما:

أن الوعيد حقه فإخلافه عفو وهبة وإسقاط ذلك منه من موجبات كرمه وجوده وإحسانه وامتنانه، والوعد أوجبه على نفسه بموعده، واللَّه لا

(1)

مجموع الفتاوى (7/ 678) وانظر منهج شيخ الإسلام في قضية التكقير (ص/180)

(2)

وانظرالتوحيد لابن خزيمة (ص/367) ومسالك أهل السنة فيما أُشكل من نصوص العقيدة (2/ 373)

(3)

وانظر إيثار الحق على الخلق (ص/360) وقد عدَّد صاحب الوعدالأخروي (1/ 227) أدلة الكتاب والسنة والإجماع والعقل على عدم تجويز خلف الوعد في حق الله تعالى.

ص: 788

يخلف الميعاد.

(1)

2) الوجه الثاني:

أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: " خالداً مخلداً فيها أبداً ":

على تطويل الآماد، ثم يكون خروجه من النار من آخر من يخرج من أهل التوحيد؛ ويجري هذا مجرى المثل فتقول العرب: خلَّد الله ملكك، و تقول: لأخلدن فلانًا في السجن، ولا أكلمك أبد الآبدين، ولا دهر الداهرين، وهو ينوي أن يكلمه بعد أزمان.

(2)

فذكر الخلود غاية ما فيه أن يدل على طول المكث.

قال ابن عطية:

الخلود إذا لم يقرن بقوله «أبداً» فجائز أن يراد به الزمن المتطاول، إذ ذلك معهود في كلام العرب، ألا ترى أنهم يحيّون الملوك بخلد الله ملكك، ومن ذلك قول امرئ القيس:

(1)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 387)

وقد تناظر في هذه المسألة أبو عمرو بن العلاء وعمرو بن عبيد، فقال عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو:

لا يخلف الله وعده، وقد قال {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} [النساء: 93] الآية، فقال له أبو عمرو: ويحك يا عمرو، من العجمة أتيتَ، إن العرب لا تعد إخلاف الوعيد ذماً، بل جوداً وكرماً، أما سمعتَ قول الشاعر:

" وَإِنِّي إِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ

لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي ".

وانظرإكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 387) ومدارج السالكين (1/ 399)

إشكال:

قد احتج الخوارج بأن الله إذا كان يخلف الوعيد، فلما لا يجوز أن يخلفه في حق الكفار؟

* وجوابه أن يقال:

إن الوعيد متحقق فى حق اهل الكفر لا محالة؛ لقوله تعالى (كل كذب الرسل فحق وعيد) وقوله جل وعلا

(إنه لا يبدل القول لدى وما انا بظلام للعبيد)

ولكن هذا خاص بالكافرين فهناك نصوص وردت أن الله يغفر كل شئ إلا الشرك (إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وما دون ذلك تشتمل على ذنوب كثيرة ورد فيها وعيد، ومع ذلك فإن الله -تعالى -يغفرها.

فهذا إخلاف للوعيد لا شك وهو المناسب لقوله جل وعلا (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء)

ومن دلائل إخلاف الوعيد في حق أهل التوحيد:

أحاديث الشفاعة، وحديث الرجل الذى حز يده فمات، فغفر الله له، ففيه دلالة على تحقق إخلاف الوعيد لمن مات على التوحيد. والله أعلى و أعلم.

(2)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 310) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (22/ 247)

ص: 789

وهل يعمن إلّا سعيد مخلّد

قليل الهموم ما يبيت بأوجال.

(1)

وإلى هذا أشار ابن القيم فى رده على إشكال طرحه، حيث قال:

فإن قيل: فإذا كان آدم عليه السلام قد علم أن له عمراً مقدراً ينتهي إليه، وإنه ليس من الخالدين، فكيف لم يعلم كذب إبليس في قوله (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ)، وقوله (أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)؟

فالجواب:

أن الخلد لا يستلزم الدوام والبقاء، بل هو المكث الطويل، فالخلد أعم من الدوام الذي لا انقطاع له؛ فإنه في اللغة المكث الطويل، ومكث كل شيء بحسبه، ومنه قولهم رجل مخلد إذا أسن وكبر.

(2)

3) الوجه الثالث:

أن يقال أن الخلود فى النار هو حكم ينبنى على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، فإن كانت الشروط قد تحققت - على ظاهر الأحاديث التى أفادت الحكم بالخلود فى النار على صاحب الكبيرة - فإن الموانع لم تنتف.

قال أبو العباس ابن تيمية:

إن الأحاديث المتضمنة للوعيد يجب العمل بها في مقتضاها: باعتقاد أن فاعل ذلك الفعل متوعَّد بذلك الوعيد، لكن لحوق الوعيد به متوقف على شروط؛ وله موانع.

(3)

قال النووى:

قوله صلى الله عليه وسلم: (مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ) أي وجب عليه الخلود، وهو تفسير قتادة الراوي، وهذا التفسير صحيح، ومعناه:

من أخبر القرآن أنه مخلَّد في النار وهم الكفار، كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ به)

وفي هذا دلالة لمذهب أهل الحق وما أجمع عليه السلف أنه لا

(1)

وانظر المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 65) ومنهج المتكلمين (2/ 690)

(2)

حادى الأرواح (ص/81)

(3)

وانظر مجموع الفتاوى (20/ 263) ونواقض الإيمان القولية والعملية (ص/77)

ص: 790

يخلد في النار أحد مات على التوحيد، والله أعلم.

(1)

*ومن هذه الموانع وأعظمها أن يموت المرء على التوحيد، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)) (النساء/48)

(2)

وقد استقرأ بعض المحققين موانع إنفاذ الوعيد على الذنوب فبلغوا بها نحواً من عشرة أمور، ومنها التوبة والاستغفار و والأعمال الصالحة ودعاء الصالحين والشفاعة وغير ذلك.

(3)

4) الوجه الرابع:

أن تحمل نصوص الخلود الواردة في حق أصحاب الكبائر، وذلك على ما قيَّده الله عزوجل بقوله (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)) (هود: 106 - 107)

قال أبو جعفرالطبري:

وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب، القولُ الذي ذكرنا عن قتادة والضحاك:

من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر أنه يدخلهم النار، خالدين فيها أبدًا إلا ما شاءَ من تركهم فيها أقل من ذلك، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة، وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك، لأن الله - جل

(1)

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (3/ 58)

(2)

قال ابن قتيبة:

وحدثني إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا قريش بن أنس قال: سمعت عمرو بن عبيد يقول: يؤتى بي يوم القيامة، فأقام بين يدي الله عز وجل، فيقول لي: لم قلت: إن القاتل في النار؟

فأقول: أنت قلته يا رب. ثم تلا هذه الآية {ومن يقتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} . =

=فقلت له - وما في البيت أصغر مني- أرأيت إن قال لك: فإني قد قلت: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ، من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر له؟

قال: فما استطاع أن يرد علي شيئاً. أخرجه ابن حجر في التهذيب (8/ 63) والخطيب في تاريخه (13/ 182) وسنده حسن. وقد كان عمرو بن عبيد معتزلياً قدرياً. وانظر تأويل مختلف الحديث (ص/174) بتحقيق أبى المظفر سعيد السناري.

(3)

وليراجع ذلك بأدلته في منهاج السنة النبوية (6/ 205) ومدارج السالكين (1/ 143) وإيثار الحق (ص/349) والوعد الأخروي (2/ 534)

ص: 791

ثناؤه- أوعد أهل الشرك به الخلود في النار، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغير جائز أن يكون استثناءً في أهل الشرك، وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أن الله -تعالى- يدخل قومًا من أهل الإيمان به بذنوبٍ أصابوها النارَ، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دُخُولها، مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا، وأنّا إن جعلناه استثناء في ذلك، كنا قد دخلنا في قول من يقول:"لا يدخل الجنة فاسق، ولا النار مؤمن"، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فسد هذان الوجهان، فلا قول قال به القُدْوة من أهل العلم إلا الثالث.

(1)

5) الوجه الخامس:

مما يوجب صرف قوله صلى الله وعليه وسلم:

" مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا.... " عن ظاهره، ما قد ورد عَنْ جَابِرٍ -رضى الله عنهما - قال:

لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:

مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ:

قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اللهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» .

(2)

قال النووي:

في هذا الحديث حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة: أن من قتل نفسه، أو ارتكب معصيةَ غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر، ولا يقطع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة، وهذا الحديث شرح للأحاديث الموهم ظاهرها تخليد قاتل النفس وغيره من أصحاب الكبائر في النار،

وفيه إثبات عقوبة بعض أصحاب المعاصي، فإن هذا عوقب في يديه، ففيه رد على المرجئة القائلين بأن المعاصي لا

(1)

جامع البيان في تأويل القرآن (15/ 484)

(2)

أخرجه مسلم (116) وأحمد (15024)

ص: 792

تضر. والله أعلم.

(1)

*تنبيه:

حمل أحاديث الوعيد على حال المستحل قد أنكره الإمام أحمد، كما نقل ذلك عنه ابن القيم، فقال: وقالت فرقة: بل هذا الوعيد في حق المستحل لها; لأنه كافر، وأما من فعلها معتقداً تحريمها فلا يلحقه هذا الوعيد وعيد الخلود وإن لحقه وعيد الدخول.

وقد أنكر الإمام أحمد هذا القول وقال:

لو استحل ذلك ولم يفعله كان كافراً، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال: من فعل كذا وكذا.

(2)

وكذا قال ابن حجر مستبعداً هذا التوجيه:

ولو كان مراداً لم يحصل التفريق بين السباب والقتال؛ فإن مستحل لعن المسلم بغير تأويل يكفر أيضاً.

(3)

*و ختاماً:

قول معاذ رضى الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: «لَا تُبَشِّرْهُمْ،

(1)

شرح النووى على مسلم (1/ 409)

وقد تأول الطحاوى هذا الحديث بأن الرجل قد فعل ذلك ليس من باب قتل النفس، بل فعله للعلاج ليبقى بقية يديه وتسلم له نفسه، فلم يكن في ذلك مذموماً!! (مشكل الأثار (1/ 187))

قلت:

ولا شك أن هذا التأويل خلاف ظاهر الحديث لفظاً ومعنى؛ فقد ورد فى الحديث: " أنه قد جَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ "، والجزع هو فقد الصبر مما ألم به من شدة الألم.

أضف إلى ذلك أمور:

1 -

الأول: ما ترجم به العلماء للحديث كما عند مسلم، باب:"الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر".

2 -

الثانى: أنه قد ورد في هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد دعا لهذا الرجل بالغفران، وذلك لا يكون إلا عن جناية كانت منه على يديه استحق بها العقوبة.

3 -

أن لو كان الأمر كما ذكر الطحاوى لكان هذا الرجل قد أخطأ في اجتهاده، فهو أولى بالعفو من الرجل الذى قد عفا الله -تعالى - عنه رغم شكه في قدرة الله -تعالى-على جمعه وإحياءه بعد حرقه وسحقه.

(2)

مدارج السالكين (1/ 398)

*فائدة مهمة:

قد توسَّط أهل السنة فى مسألة الفرق بين الكفر والكبيرة من حيث الحكم عليهما بالتكفير، فعند غلاة المرجئة أن من فعل كفراً -من غير عذر معتبر- لا يكفر إلا بالاستحلال، وأما عند الخوارج فقالوا بكفر فاعل الكبيرة، ولو وقعت منه من غير استحلال.

وأما أهل السنة فقالوا بكفر من أتى ناقضاً من نواقض الإيمان، ولو لم يكن مستحلاً، وأما ما دون الكفر فلا يكفر فاعله إلا بالاستحلال.

(3)

وانظرفتح الباري (1/ 113) وأحاديث العقيدة التى ظاهرها التعارض (ص/431)

ص: 793

فَيَتَّكِلُوا»، فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذُ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.

ودل صنيع معاذ -رضى الله عنه-على أنه عرف أن النهي عن التبشير كان على التنزيه لا على التحريم، وإلا لما كان يخبر به أصلاً.

أو قد عرف أن النهي مقيد بالاتكال، فأخبر به من لا يخشى عليه ذلك، وإذا زال القيد زال المقيَّد، فيكون حمل النهي على إذاعته للعموم، ورأى هو أن يخص به كما خصه هو به عليه السلام. ولهذا ترجم البخارى:" من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا "

(1)

قال ابن هبيرة:

لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة، فأما الأكياس الذين غذا سمعوا بمثل هذا ازدادوا في الطاعة ورأوا أن زيادة النعم تستدعى زيادة الطاعة، فلا وجه لكتمانها عنهم.

(2)

تم بحمد الله

(1)

انظر فتح الباري (1/ 227) وإكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 260)

(2)

الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 99)

ص: 794