المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث السادس والعشرون: المشكاة في شرح حديث لا تعجز واستعن بالله - الأربعون العقدية - جـ ٢

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الحادى والعشرون: السنة الجارية شرح حديث الجارية

- ‌الحديث الثانى والعشرون: كشف الالتباس عن حديث أمرت أن أقاتل الناس

- ‌الحديث الثالث والعشرون: فتح البصير في بيان ما توسل به الضرير

- ‌ التوسل المختلف فيه:

- ‌الحديث الرابع والعشرون: بيان الحِكَم في شرح حديث إن الله هو الحَكَم

- ‌ الحالات التى يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله شركًا

- ‌الحديث الخامس والعشرون: ذات العماد شرح حديث حق الله على العباد

- ‌الحديث السادس والعشرون: المشكاة في شرح حديث لا تعجز واستعن بالله

- ‌الحديث السابع والعشرون: بيان الحق نفسه في شرح حديث أينا لم يظلم نفسه

- ‌الحديث الثامن والعشرون: ضوء الثريا شرح حديث من عادى لى ولياً

- ‌هل يوصف الله -تعالى- بصفة التردد

- ‌الحديث التاسع والعشرون: المعانى الراسيات شرح حديث إنى معلمك كلمات

- ‌ الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: "احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ "، وبين ما يقع لأهل الإيمان من البلاء والمحن

- ‌ أصل القضاء لا يعارض العمل:

- ‌الحديث الثلاثون: نثر الجمَّان بفوائد حديث إنهما ليعذبان

- ‌هل عذاب القبر يكون على الروح فقط، أم على الروح والبدن

- ‌الحديث الحادي والثلاثون: بلوغ الرُّبَى شرح حديث ضحك النبي تعجبا

- ‌ المخالفون لأهل السنة والجماعة في إثبات صفة اليدين:

- ‌الحديث الثانى والثلاثون: فتح الأعز الأكرم شرح حديث أي الذنب أعظم

- ‌من أتى خلاف المعهود تجاوزت عاقبته الحدود:

- ‌الحديث الثالث والثلاثون: تلخيص الخطاب شرح حديث إنك تأتى أهل كتاب

- ‌الفطرة دالة على نقض مذهب المتكلمين:

- ‌الحديث الرابع والثلاثون: درء الخوض في رد أحاديث الحوض

- ‌ حكم سب الصحابة رضى الله عنهم:

- ‌الحديث الخامس والثلاثون: البيان والتتمة شرح حديث يكون بعدى أئمة

- ‌تعريف الإمامة، وأهمية تنصيب الإمام:

- ‌ وسطية الأمة مع الأئمة:

- ‌الحديث السادس والثلاثون: ردع الجاني على حديث إن الله أفتاني

- ‌ هل السحر حقيقة أم خيال

- ‌الحديث السابع والثلاثون: دليل البيداء شرح حديث أنا أغنى الشركاء

- ‌ هل الرياء مبطل للعمل

- ‌ الشرك الخفي أشد خطورة من المسيح الدجال

- ‌أمور ليست من الرياء:

- ‌الحديث الثامن والثلاثون: نيل المأرب شرح حديث طلوع الشمس من المغرب

- ‌الحديث التاسع والثلاثون: بذل الطاقة شرح حديث صاحب البطاقة

- ‌ أليس تأويل الميزان بالعدل يستقيم لغة

- ‌ ما الذي يوزن في الميزان يوم القيامة:

- ‌ما الحكمة من نصب الموازين، مع كونه عزوجل وسع علمه أعمال العباد ومآلاتهم

- ‌ حكم من مات على الشرك الأصغر:

الفصل: ‌الحديث السادس والعشرون: المشكاة في شرح حديث لا تعجز واستعن بالله

‌الحديث السادس والعشرون: المشكاة في شرح حديث لا تعجز واستعن بالله

ص: 795

** نص حديث الباب:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وفي رواية: " قَدَّرَ اللهُ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ"؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»

تخريح الحديث:

أخرجه مسلم (2664)" باب في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله "، والإمام أحمد في المسند (8791)

* أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

1 -

معنى المؤمن القوى:

وقوة المؤمن تتمثل في حرصه على القيام لدين الله -تعالى- اعتقاداً وقولاً وعملاً، فتراه قلما صادف باباً من أبواب الشريعة إلا وقد ولجه ليضرب فيه بسهم.

فالقوة في طلب الحق والقيام به مطلب شرعى، قال تعالى (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم: 12]، والله وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم:" أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا "[الفتح: 29]، والجلَد على الطاعة، والصبر على ذلك كله من القوة التي يحبها الله تعالى.

قال القرطبي:

أي المؤمن القوي البدن والنفس، الماضي العزيمة، الَّذي يصلح للقيام بوظائف العبادات من الصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ص: 797

والصبر على ما يصيبه في ذلك، وغير ذلك مما يقوم به الدين وتنهض به كلمة المسلمين فهو الأفضل والأكمل.

(1)

فالإشارة بالقوة ها هنا إلى العزم والحزم والإحتياط، لا إلى قوة البدن.

وهذا المعنى هو ما نص الشاعر في قوله:

لَيْسَ الشجاع الَّذِي يحمي كتيبته

يَوْم النزال ونار الْحَرْب تشتعل

لَكِن فَتى غض طرفاً أَو ثنى بصراً

عَن الْحَرَام، فَذَاك الْفَارِس البطل.

(2)

وقال الطيبيّ:

قيل: أراد بالمؤمن القويّ: الذي قوي في إيمانه، وصَلُب في إيقانه بحيث لا يرى الأسباب، ووَثِق بمسبِّب الأسباب، والمؤمن الضعيف بخلافه، وهو أدنى مراتب الإيمان. قال: ويمكن أن يُذهَب إلى اللفّ والنشر، فيكون قوله:"احرص على ما ينفعك" بيانًا للقويّ، وقوله:"ولا تعجز" بيانًا للضعيف.

(3)

* ومن علامات المؤمن القوى:

أن يكون قوّاماً لله -عزوجل- ولرسوله صلى الله عليه وسلم، حافظاً لأمر الله تعالى، قال تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) (النساء: 135)

وكما فى قوله صلى الله عليه وسلم.:

" احفظ الله يحفظك "

(4)

، وحفظ أمر الله - تعالى - على نوعين:

أ) حفظ أمر الله القدري:

وذلك بالصبر على الأقدار، فهذه من علامات صدق الإيمان، فعَنْ صُهَيْبٍ -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

" عَجِبْتُ مِنْ أَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، كَانَ ذَلِكَ لَهُ

(1)

وانظر المفهم (6/ 682) وكشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 552)

(2)

ذم الهوى لابن الجوزى (ص/ 143)

(3)

الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3334)

(4)

أخرجه أحمد (2669) والترمذي (2516) وقال الترمذي: حسن صحيح.

ص: 798

خَيْرًا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ، كَانَ ذَلِكَ لَهُ خَيْرًا ".

(1)

فجعل الصبر على القدر لا يحصل إلا للمؤمن.

ب) حفظ أمر الله الشرعى:

وذلك بالقيام بحق الشرع، بامتثال الأوامر واجتناب النواهى.

كما قال تعالى (َالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)) (الأنفال /74)

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)) (المؤمنون/61).

* والذى يتنبه لدلالات ألفاظ القرآن والسنة يجد أنها قد حثت في أبواب الآخرة على الجد والسعي والمبادرة، وأما فى أمور الدنيا فقد جاء الأمر بالتمهل والإجمال.

قال الله تعالى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)(البقرة: 148)

وقال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(آل عمران: 133)

وفى حديث أبي هريرة-رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» .

(2)

فالحديث فيه الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذّرها، والاشتغال عنها بما سيقع من الفتن الشاغلة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم.

وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى في أصحابه

(1)

أخرجه مسلم (2999)

(2)

أخرجه مسلم (118)

ص: 799

تأخراً عن الحضور للمسجد قال لهم:

" لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله "

(1)

* وأما في أمور الدنيا فقد أمر الله - تعالى- فيها بالتؤدة:

فقد قال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)) (الملك/15)

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(" إِنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا ".

(2)

وفى حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ-رضى الله عنه- قَالَ:

كَانَ أَخَوَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْآخَرُ يَحْتَرِفُ، فَشَكَا المُحْتَرِفُ أَخَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ ".

(3)

* عودٌ إلى قوله صلى الله عليه وسلم:

" الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ":

* وهنا قد يرد إشكال:

قد ورد في حديث الباب ما يُفهم منه ذم المؤمن الضعيف، فظاهره قد يعارض في الفهم ما رواه حَارِثَةُ بْنَ وَهْبٍ - رضى الله عنه- عن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:

«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ صلى الله عليه وسلم:

«كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ» ".

(4)

قال زين الدين المناوي:

وعند التأمل لا تدافع؛ إذ المراد بمدح الضعف لين الجانب ورقة القلب والانكسار بمشاهدة جلال الجبار، وبذم الضعف ضعف العزيمة في القيام بحق الواحد القهار، على أنه لم يقل هنا أنهم ينصرون بقوة الضعفاء، وإنما مراده بدعائهم أو بإخلاصهم.

(5)

(1)

أخرجه مسلم (438)

(2)

أخرجه الحاكم (2135) و البيهقى (10185)، انظر صحيح الجامع (2085)، والإجمال: هو الطلب بقصد واعتدال، مع عدم انشغال القلب.

(3)

أخرجه الترمذى (2345) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(4)

متفق عليه.

(5)

فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/ 82)

ص: 800

* قلت:

وقد ورد في حديث البخاري «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ»

(1)

، وفى رواية له

عند النسائي «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ» .

(2)

وفيها زيادة فائدة وهى أن ضعفهم ليس ضغفاً في الإيمان، بدلالة وقوع النصر للأمة قد حصل بدعواتهم وصلاتهم؛ لصفاء ضمائرهم وقلة تعلقهم بزخرف الدنيا فيغلب عليهم الإخلاص في العبادة ويستجاب دعاؤهم.

* وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " وفي كلٍ خيرٌ":

فمعناه في كُلٍّ مِنَ الْقَوِيِّ والضعيف خير؛ لاشتراكهما في أصل الإيمان، مع ما يأتي به الضعيف من العبادات.

(3)

قال ابن العثيمين:

قال عليه الصلاة والسلام: (وفي كل خير) لئلا يتوهم أحد من الناس أن المؤمن الضعيف لا خير فيه، بل المؤمن الضعيف فيه خير، فهو خير من الكافر لا شك.

وهذا الأسلوب يسميه البلاغيون الاحتراز، وهو أن يتكلم الإنسان كلاماً يوهم معنى لا يقصده، فيأتي بجملة تبين أنه يقصد المعنى المعين، ومثال ذلك في القرآن قوله تبارك وتعالى:

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)(الحديد: 10)

ومن ذلك قوله تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)(الأنبياء: 79)

لما كان هذا يوهم أن داود -تعالى-عنده نقص، قال تعالى (وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً).

(4)

* وأما قوله صلى الله عليه وسلم:

" احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ ":

وهذه من

(1)

أخرجه البخاري (2896)

(2)

أخرجه النسائي (3178)

(3)

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (8/ 467)

(4)

شرح الصالحين (2/ 87)

ص: 801

جوامع الكلم التى أوتيها الرسول صلى الله عليه وسلم، فهى جملة جامعة بين أصلين مهمين، وهى حسن تعلّق القلب بالله تعالى، مع سعي الجوراح في الأخذ بالأسباب المادية فقوله صلى الله عليه وسلم:«استعن بالله» : هذا هو التوكل.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «وَلَا تَعْجَزْ ": وهذا هو الأخذ بالأسباب.

(1)

فسعي المرء حرصاً على ما ينفعه في أمر معاشه لا ينسّيه أن يكون حال سعيه مستعيناً بالله تعالى.

قال أبو العباس ابن تيمية:

في قوله صلى الله عليه وسلم " {احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ} أمر بالتسبَّب المأمور به وهو الحرص على المنافع، وأمر مع ذلك بالتوكل، وهو الاستعانة بالله تعالى، فمن اكتفى بأحدهما فقد عصى أحد الأمرين، ونهى عن العجز الذي هو ضد الكيس.

(2)

وقال رحمه الله:

لا تعجز عن مأمور ولا تجزع من مقدور، والإنسان بين أمرين:

أمر أُمِر بفعله فعليه أن يفعله ويحرص عليه ويستعين الله ولا يعجز، وأمر أصيب به من غير فعله فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه؛ ولهذا قال بعض العقلاء ابن المقفع أو غيره الأمر أمران: أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه.

(3)

قال ابن القيم:

«التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة؛ فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة.

(4)

ومن ترك الاستعانة بالله - تعالى-

(1)

وقد ذكرنا في شرح حديث " السبعين الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب " أدلة الكتاب والسنة على أنه لا تعارض بين التوكل والأخذ بالأسباب، وأنه لا تعارض بينهما بحال. مما يغنى عن إعادة ذكره هنا.

(2)

مجموع الفتاوى (18/ 182)

(3)

المصدر السابق (16/ 39)

(4)

مدارج السالكين (2/ 114)

ص: 802

واستعان بغيره وكله الله -تعالى- إلى من استعان به فصار مخذولًا.

و كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: " لا تستعن بغيرِ اللَّهِ فيكِلَكَ اللَّهُ إليهِ ".

(1)

وفي حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:

كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يَقُولُ دَعَوَاتٍ لَا يَدَعُهُنَّ:

كَانَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ ".

(2)

"قال العلامة السِعدى:

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الإيمان بالقضاء والقدر والعمل بالأسباب النافعة، وهذان الأصلان دل عليهما الكتاب والسنة في مواضع كثيرة، ولا يتم الدين إلا بهما بل لا تتم الأمور المقصودة كلها إلا بهما؛ لأن قوله:"احرص على ما ينفعك" أمر بكل سبب ديني ودنيوي بل أمر بالجد والاجتهاد فيه، والحرص عليه نية وهمة وفعلاً وتدبيراً.

وقوله: "واستعن بالله" إيمان بالقضاء والقدر، وأمر بالتوكل على الله الذي الاعتماد التام على حوله وقوته تعالى في جلب المصالح، ودفع المضار مع الثقة التامة بالله في نجاح ذلك.

فالمتبع للرسول صلى الله عليه وسلم يتعين أن يتوكل على الله في أمر دينه ودنياه وأن يقوم بكل سبب نافع بحسب قدرته وعلمه ومعرفته.

(3)

*فرع:

فإن الاستعانة معناها طلب العون، والاستعانة على أقسام:

1) القسم الأول: الاستعانة التوحيدية التعبدّية:

وهى طلب العون من الله - تعالى - فيما لا يقدر عليه إلا الله، وثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس رضى الله عنهما:

«إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» .

(4)

وهذه التى نسأل الله -تعالى- إياها في كل صلاة فى قولنا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

(1)

روائع التفسير (1/ 74)

(2)

متفق عليه.

(3)

بهجة قلوب الأبرار (ص/37)

(4)

أخرجه الترمذى (2516) و أحمد (1/ 308) وقال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 803

نَسْتَعِينُ (5)) (الفاتحة/5)، وهى أية عظيمة جامعة لنوعيى التوحيد: فقولنا " إيَّاكَ نَعْبُدُ " مبنية على توحيد الألوهية، وقولنا " وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " مبنية على توحيد الربوبيّة.

قال الشنقيطى:

قوله: (إياك نعبد) فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة; لأن غيره ليس بيده الأمر، وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبيَّناً واضحاً في آيات أخر، كقوله:(فاعبده وتوكل عليه)، وقوله:(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

(1)

* وقد ورد عن أبي هريرة -رضى الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، .... ، فإذا قال:{إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي....).

(2)

وقد بيَّن ذلك ابن رجب معنى قوله تعالى (هذا بيني وبين عبدي)، فقال:

فالعبادة حق الله -تعالى-على عباده، ولا قدرة للعباد عليها بدون إعانة الله لهم، فلذلك

كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده، لأن العبادة حق الله على عبده، والإعانة من الله فضل من الله على عبده.

(3)

قال ابن كثير:

قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة:{إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عز وجل.

(4)

وهنا فوائد:

1) الأولى:

قد خص الله -تعالى - الاستعانة بالذكر رغم أنها داخلة في معنى

(1)

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/ 35)

(2)

أخرجه مسلم (395)

(3)

روائع التفسير (1/ 69)

(4)

تفسير القرآن العظيم (1/ 135)

ص: 804

العبادة، وما ذلك إلا لأهميتها، فالقاعدة "أن ذكر الخاص بعد العام إنما يكون للتأكيد "، وذلك نظير قوله تعالى (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)) (البقرة/98)، وقوله النبي صلى الله عليه وسلم:

"إِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَة، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ ".

(1)

2) الثانية:

قوله تعالى: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيه بيان أن الاستعانة التوحيدية لا تكون إلا بالله تعالى، ووجه الدلالة أن في الأية أسلوب الحصر، وذلك من خلال تقديم ما حقه التأخير، فلم يقل " أعبد إيَّاك"، وذلك لأن " تقديم المعمول من صيغ الحصر ".

، ونظير ذلك قوله تعالى {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} وهذا أبلغ في الحصر، وقوله تعالى (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ) ففيه تقديم ما حقه التأخير لبيان حصر الملْك لله - تعالى - دون غيره.

2 -

القسم الثاني: الاستعانة المباحة:

وهى الاستعانة بالمخلوق، وهذه لا تشرع إلا بشروط ثلاثة:

أن يكون المستعان به: " حياً، حاضراً، قادراً "، فذكر الحي احترازاً من الاستعانة بالميت، وذكر الحاضر احترازاً من الاستعانة بالغائب، وذكر القادر احترازاً من الاستعانة بالمخلوق على أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى.

فإذا ما انتفى واحد من هذه الشرط الثلاثة صارت الاستعانة شركية، ومما يدل على مشروعية الاستعانة المباحة قوله صلى الله عليه وسلم:

" وَاللَّهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ".

(2)

ومن هذا الباب ما ورد عن أبي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ-رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ غُلَامَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ، قَالَ: فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِرَسُولِ اللهِ، فَتَرَكَهُ، فَقَالَ

(1)

أخرجه مسلم (2742)

(2)

أخرجه مسلم (2699)

ص: 805

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

"وَاللهِ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ"، قَالَ: فَأَعْتَقَهُ ".

(1)

3 -

القسم الثالث: الاستعانة الشركية:

لما كانت الاستعانة عبادة من أعظم العبادت التى يتوجه بها العبد إلى ربه عزوجل، فقد صار صرفها لغير الله -تعالى- من الشرك المخرج من الملة، فالقاعدة هنا:

" أن كل ما ثبت بالكتاب أو السنة أنه عبادة فصرفه لله -تعالى - توحيد، وصرفه لغير الله شرك ".

وذلك يتمثل في الاستعانة بالغائب أو الميت أو بالمخلوق في أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وهذا من الشرك في الربوبية.

قال ابن عبد الهادي:

ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به، كان هذا شركاً محرَّماً بإجماع المسلمين.

(2)

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن:

إن الاستمداد بالأموات والغائبين هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الاستمداد عبادة، والعبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله، ..... والاستمداد طلب المدد بالقلب، واللسان، والأركان ولا بد، وهذه الأعمال هي أنواع العبادة، فإذا كانت لله -تعالى-وحده فقد آلَّهه العبد، فإذا صرف لغير الله - تعالى- صار مألوهاً.

(3)

* وكم من فئامٍ من الناس في هذه الأمة أشركوا بالله -تعالى- لما قاموا بالاستعانة بغير الله -تعالى - في الأمور التي تختص فيها الاستعانة به سبحانه، بحجة التوسل بهؤلاء الأشخاص والأموات إلى الله جل شأنه.

ومن هذا ما كان يفعله بعض مشركي العرب إذا نزل وادياً مقفراً، فتراه يتقرَّب إلى سيد القوم من الجن في ذلك الوادي، ليقيَه الضُّرَّ، فيكون تعظيماً للجن، وهو شرك لكون الاستعانة - بما لا يقدر عليه إلا الله - عبادة لغير الله سبحانه.

قال تعالى (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ)(الجن: 6)

(1)

أخرجه مسلم (1659)

(2)

الصارم المنكي (ص/346)

(3)

الدرر السنية في الأجوبة النجدية (11/ 416)

ص: 806

قال الطبري:

يقول تعالى ذكره مخبراً أنه كان رجال من الإنس يستجيرون برجال من الجن في أسفارهم إذا نزلوا منازلهم.

(1)

قال القرطبي: ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك.

(2)

وكذلك ما يفعله السحرة من الاستعانة بالأرواح الأرضية - وهم الجن و الشياطين،

وهو ما يُعرف بالعزائم والتسخير وكتب السحر مملوءة من الأقسام والعزائم على الجن بساداتهم الذين يعظمونهم، فدل هذا على أن السحر يكون من الاستعانة بالشياطين، وليس كما يدَّعى ابن سينا وغيره أن السحر من قبيل القوى النفسانية، فهو قول باطل.

* شبهة الجواب عليها:

قد استدل المجوِّزون للاستعانة الشركية ببعض الآيات القرآنية التي هي ليست في محل النزاع: مثل قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) قالوا: أمرنا الله بالاستعانة بالأعراض!!!

*ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي:

إن هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بجواز الاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله رب العالمين، بل هذه الآية من أقوى الأدلة على وجوب الالتجاء إلى الله والاستغاثة به عند الملمَّات، والتوسل إلى الله بالأعمال الصالحة، إذ الصلاة والصبر من أعظم الأعمال الصالحات التي يتوسل بها إلى الله -تعالى-عند الكربات، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر توسل إلى الله بالصلاة.

بل الآية من قبيل قوله تعالى: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)؛ فكما أن المراد منها الاعمال الصالحة على تفسير السلف من الأثر والرأي، هكذا هنا المراد من هذه الآية: التوسل بالأعمال الصالحة.

(3)

(1)

جامع البيان في تأويل القرآن (23/ 654)

(2)

انظر الجامع لأحكام القرآن (19/ 10) والتحصين من كيد الشياطين (ص/32)

(3)

الشرك في القديم والحديث (2/ 1255)

قال صالح بن عبد العزيز آل الشيخ:

وقد بَلَغَنِي بيقين عن بعض من يتعاطى القراءة وهو من الجَهَلَة، ليس من أهل العلم ولا من طلبة العلم ممن فَتَحَ هذا الباب فسَيْطَرَ عليه الجن وهو لا يعلم في هذا، وأصبح يأمرونه بأشياء وينهونه عن أشياء، وربما أَذَلُّوهُ في بعض الأمور، فَسَدُّ الذريعة في هذا واجبٌ ولا يجوز التساهل به. ا. هـ

وانظر الآداب الشرعية (198/ 1) وإتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل (1/ 709) والتوضيح الرشيد في شرح التوحيد (ص/92)

ص: 807

* فرع: مسألة الاستعانة بالجن المسلم:

وأما هذه المسألة فقد يفهم جواز ذلك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد ذكر مثل هذا، ووضع جملة من الضوابط لذلك. يقول رحمه الله:

" ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له، فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم ويستعملهم في مباحات له "،

وقال رحمه الله:

" ومنهم من يستخدمهم - أي الجن - في أمور مباحة إما إحضار ماله، أو دلالة على مكان فيه مال ليس له مالك معصوم، أو دفع من يؤذيه ونحو ذلك، فهذا كاستعانة الإنس بعضهم ببعض في ذلك ".

ومن الضوابط التى حددها لذلك:

" يعني يستعين بهم فيما يقدرون عليه، كون السبب مباحاً، ألا تفضي هذه الاستعانة إلى محرم، أن يكون المستعين بالجنى من الموحدين الصالحين، وعلى معرفة التوحيد وما يضاده.

(1)

* الراجح في ذلك -والله أعلم-هو المنع، وهذا عليه جماهير أهل العلم؛ وذلك لأمور:

1 -

أن هذا الأمر داخل في الاستمتاع الذي حرَّمه الله عز وجل، كما في قوله عز وجل:

{رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: 128]، فجاء على سبيل الذم على ما فعلوه.

فاستمتاع الإنس بالجن محرَّم على أي نحو كان، ولم يرد الدليل بالاستثناء ولا

(1)

ويراجع لذلك مجموع الفتاوى (11/ 307) و (13/ 87) والنبوات (1/ 278)

ص: 808

بالتخصيص، فبقاء الأمر على عمومه بما يشمل الجميع، فهذا هو الأصل وهو المتَعَيِّن.

قال صالح بن عبد العزيز آل الشيخ:

الاستعانة بالجن من أسباب إغراء الإنسي بالتوسل إلى الجني، وبرفعة مقامه وبالاستمتاع به، وقد قال جل وعلا {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128]

ويحصل الاستمتاع من الإنسي بالجني بأن يخدمه الجني، وقد يكون مع ذلك الاستمتاع ذبح من الإنسي للجني، وتقرب بأنواع العبادات؛ ولهذا نقول:

إن تلك الاستعانة بجميع أنواعها لا تجوز، فمنها ما هو شرك - كالاستعانة بشياطين الجن- يعني: الكفار منهم - ومنها ما هو وسيلة إلى الشرك، كالاستعانة بمسلمي الجن.

(1)

2 -

أن الجن في زمن النبوة كان منهم من لقي النبي صلى الله عليه وسلم، واستمع إليه، وأسلم معه، ومعلوم أن عندهم من القدرات والإمكانات التي أعطاهم إياها الله - تعالى- ما ليس لغيرهم؛ وقد مضى زمن النبوة وزمن الصحابة رضى الله عنهم، ولم يجر فيه الاستعانة بالجن - حتى المسلم منها - فكان هذا الأمر بمثابة إجماع منهم على عدم مشروعيته.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

فلم يستخدم الجن أصلاً - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن دعاهم إلى الإيمان بالله، وقرأ عليهم القرآن، وبلَّغهم الرسالة، وبايعهم كما فعل بالإنسى.

(2)

3 -

قد ورد في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبى هريرة رضى الله عنه:

«صدقك وهو كذوب، ذاك شيطان»

(3)

فالأصل في الشياطين الكذب، فلا يؤمن كذب من يزعم منهم أنه مسلم

(1)

التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص/615)

(2)

مجموع فتاوى (13/ 89).

(3)

أخرجه البخاري (3275)

ص: 809

أو صالح؛ فهم يوقعون العداوة بين الناس في كذبهم.

لذا ولكثرة الكذب فى هذا الباب فقد أغلقه الشرع مع الدجالين والعرَّافين من الإنس، قال صلى الله عليه وسلم:" من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة ".

(1)

وقال صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ".

(2)

4 -

أن الأصل فى ذلك هو سد الذريعة وحسم المادة؛ فقد تؤدي الاستعانة بالجن إلى حصول خلل في العقيدة؛ فترى المستعين يلجأ إليهم ويتعلق بهم تعلقاً يبعده عن الخالق سبحانه وتعالى، الواقع والتجربة شاهدان على ذلك.

(3)

والمتتبع لحال كثير من الرقاة والمعالجين بالقرآن يرى كم الدجل والشركيات التى وقعوا فيها في هذا الباب.

قال أحمد في الرجل يزعم أنه يعالج المجنون من الصرع بالرقى والعزائم، أو يزعم أنه يخاطب الجن ويكلمهم، ومنهم من يخدمه؛ قال:

ما أحب لأحد أن يفعله، تركه أحب إليَّ.

(4)

وهذا يراد به التحريم، كما هو المعلوم من نصوص الإمام أحمد وألفاظه.

*تنبيهات:

1 -

أما ما يُنقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية من تجويز ذلك فهو محمول -والله أعلم- على ما إذا فعلوا شيئاً من غير أن يطلب منهم، أو أخبروا الشخص وهو قادر على أن

(1)

أخرجه مسلم (2230)

(2)

أخرجه أحمد (9532) وأبوداود (3904)، وانظر صحيح الجامع (5939)

(3)

قال صالح بن عبد العزيز آل الشيخ:

وقد بَلَغَنِي بيقين عن بعض من يتعاطى القراءة وهو من الجَهَلَة، ليس من أهل العلم ولا من طلبة العلم ممن فَتَحَ هذا الباب فسَيْطَرَ عليه الجن وهو لا يعلم في هذا، وأصبح يأمرونه بأشياء وينهونه عن أشياء، وربما أَذَلُّوهُ في بعض الأمور، فَسَدُّ الذريعة في هذا واجبٌ ولا يجوز التساهل به.

(4)

وانظر الآداب الشرعية (198/ 1)

ص: 810

يعرف صدقهم من كذبهم، فهذا هو المحتمل، وليس أن يطلب منهم قضاء الحاجات.

2 -

إذا جاءت الخدمة من الجني بدون اتفاق وعهد فلا حرج فيها؛ لأنه قد تكون من الكرامة للإنسان.

(1)

* عودٌ إلى حديث الباب:

قوله صلى الله عليه وسلم: " وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا ":

، وفيه من الفوائد أنه إذا وقع بعد حرصه على طلب ما ينفعه خلاف مطلوبه،

لا ينبغي له التأسّف، وقول:" لو أني فعلتُ كذا كان كذا " تسخّطًا لقدر الله

تعالى، بل الواجب أن يستسلم لقضائه وقدره، ولا يتسخّط؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلمُ بمصالح عباده، فربما يكون عكس ما حرص عليه خيرًا إما في الدنيا، وإما في الآخرة، قال الله عز وجل:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].

وقال: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]،

بل الواجب عليه حينئذ أن يقول: "قدّر الله، وما شاء فعل".

والحاصل:

أن نزول المكروه الدنيوي على العبد المؤمن خير له؛ لأنه

إنما أصابه بما كسب من المخالفات، كما قال الله سبحانه وتعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]

ثم إن هذا الذي أصابه إما أن يكون تكفيرًا لِمَا اقترفه من السيئات، وهذا مطلب عظيم، وإما أن يكون رفعًا لدرجاته، وهذا أعلى وأغلى، والله تعالى أعلم.

(2)

**عودٌ إلى حديث الباب:

قوله صلى الله عليه وسلم: " وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر

(1)

ويراجع في هذه المسألة: إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل (1/ 709) والتوضيح الرشيد في شرح التوحيد (ص/92)

(2)

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (41/ 547)

ص: 811

الله وما شاء الله فعل ":

فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفويض الأمر إلى قدر الله بعد فعل الأسباب التي يحصل بها المطلوب ثم يتخلف.

وإنما هذا من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب، لا على المعايب، ونظير ذلك ما قاله آدم عليه السلام لما احتج بقدر الله -تعالى-على المصيبة التي حصلت له ولبنيه وهي الإخراج من الجنة، فقال لموسى عليه السلام:

" أتلومني على أمر قدَّره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة"

(1)

*عودٌ إلى حديث الباب:

قوله صلى الله عليه وسلم: " فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ":

قد ورد في حديث الباب النهى عن استعمال كلمة " لو"؛ لأنها تفتح على المرء باباً من خطرات الشيطان التى يؤلم بها القلب ويحسره على ضياع ما فات، مما يضيّع على المرء مرتبة فاضلة وهى الاستسلام لقدر الله -تعالى- النافذ.

لذا فقد ورد النهى عن استعمال كلمة "لو" فى هذا المقام.

* وهنا يرد إشكال:

قد ورد في جملة من النصوص الشرعية ما يعرض في الظاهر النهى الوارد في حديث الباب عن كلمة "لو"، كما ورد فى قولَه صلى الله عليه وسلم:

«لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ» ، و قوله صلى الله عليه وسلم:

" لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي "

*والجواب من وجوه:

الأول قد ذكره النووي فقال:

وقد جاء من استعمال لو في الماضي، قوله صلى الله عليه وسلم:" لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي "، وغير ذلك فالظاهر أن النهي إنما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، فيكون نهي تنزيه لا تحريم. فأما من قاله تأسّفاً على مافات من طاعة الله تعالى، أو ماهو متعذّر عليه من ذلك ونحو هذا فلا بأس به،

(1)

متفق عليه.

ص: 812

وعليه يحمل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث، والله أعلم.

(1)

الوجه الثاني:

أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (لا يقولنَّ أحدُكم: لو؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) فمحمول على من يقول ذلك معتمدًا على الأسباب، مُعرضًا عن المقدور، أو متضجرًا منه، كما حكاه الله تعالى من قول المنافقين حيث قالوا:{لَو أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} ثم ردَّ الله قولهم، وبيَّن لهم عجزهم، فقال:{قُل فَادرَءُوا عَن أَنفُسِكُمُ المَوتَ إِن كُنتُم صَادِقِينَ} .

(2)

* وقد ذكر الشيخ ابن العثيمين تفصيلاً في هذا الباب، فقال أن استعمال "لو" تأتي على وجوه:

الوجه الأول:

أن تستعمل في الاعتراض على الشرع، وهذا محرَّم، قال الله تعالى:{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} في غزوة أحد حينما تخلف أثناء الطريق عبد الله بن أبي في نحو ثلث الجيش، فلما استشهد من المسلمين سبعون رجلا اعترض المنافقون على تشريع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا:

لو أطاعونا ورجعوا كما رجعنا ما قتلوا، فرأينا خير من شرع محمد، وهذا محرم وقد يصل إلى الكفر.

الثاني:

أن تستعمل في الاعتراض على القدر، وهذا محرَّم أيضا، قال الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} (آل عمران: 156)

أي: لو أنهم بقوا ما قتلوا; فهم يعترضون على قدر الله.

الثالث:

أن تستعمل للندم والتحسر، وهذا محرم أيضا; لأن كل شيء يفتح الندم عليك فإنه منهي عنه; لأن الندم يكسب النفس حزنا وانقباضا، والله يريد منا أن نكون في انشراح وانبساط، قال صلى الله عليه وسلم:

" احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن

(1)

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (9/ 113)

(2)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 638) والشرك في القديم والحديث (1/ 621)

ص: 813

أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا; فإن لو تفتح عمل الشيطان ".

مثال ذلك:

رجل حرص أن يشتري شيئا يظن أن فيه ربحا فخسر، فقال: لو أني ما اشتريته ما حصل لي خسارة; فهذا ندم وتحسر، ويقع كثيراً، وقد نهي عنه.

الرابع:

أن تستعمل في الاحتجاج بالقدر على المعصية; كقول المشركين {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} وقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} ، وهذا باطل.

الخامس:

أن تستعمل في التمني، وحكمه حسب المتمنى: إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر، وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة النفر الأربعة قال أحدهم:

" لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان " فهذا تمنى خيراً، وقال الثاني:

"لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان "، فهذا تمنى شراً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الأول:" فهو بنيته، فأجرهما سواء "وقال في الثاني:

" فهو بنيته، فوزرهما سواء ".

(1)

تم بحمد الله.

(1)

القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 362)

ص: 814