الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال القرطبي:
نقف عن التعيين؛ لاضطراب الأثر والتفصيل، والله بحقائق الأمور عليم.
(1)
*ومعلوم أن قاعدة شيح المفسِّرين الإمام الطبري أنه إذا اختلف في تفسير آية وللصحابة رضي الله عنهم فيها قول ولمن بعدهم قول، فإنه يؤخذ بمذهب الصحابة رضي الله عنهم، إلا أنه لما ذكر تفسيرهم لأهل الأعراف فقد توقَّف فيهم، وهذا موجبه أنه لم يصح عند ابن جرير شيء من هذه الروايات عن الصحابة رضي الله عنهم.
*أضف إلى ذلك أن الذي في الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف هو الإيمان بالموازنة، ولكنَّ الإيمان بالشئ المجمل لا يستلزم العلم به مفصَّلاً، بل مرد ذلك إلى عدل الله -تعالى- ورحمته وحكمته.
…
* المسألة الثانية:
حكم من مات على الشرك الأصغر:
اختلف العلماء فيمن مات على الشرك الأصغر دون توبة منه:
هل يكون هذا الشرك الأصغر داخلاً تحت المشيئة الواردة في قوله تعالى (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، فيكون مثله في ذلك كمثل من مات مصرَّاً على كبيرة من الكبائر مثلاً؟
أم يقال أن الشرك الأصغر داخل تحت قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ)، فلابد وأن يدخل في الموازنة، وإن كان مآل صاحبه إلى الجنة، وبهذا يفترق عن الشرك الأكبر.
فالكل متفق على أنَّ صاحب الشرك الأصغر لا يُخلَّد في النار، وإنما موطن النزاع:
هل هو تحت المشيئة، فيقال قد يُغفر له فلا يدخل النار أصلاً، أم أنه لا بد وأن يُعاقب صاحبه جزماً؟
قولان لأهل العلم:
1 -
القول الأول:
أن من مات على الشرك الأصغر دون توبة منه لا يكون داخلاً تحت المشيئة، بل لابد وأن يدخل في الموازنة.
ودليل ذلك من الكتاب قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
(1)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 136)
لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)
وجه الاستدلال من الآية:
أن قوله: "لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ":
(يُشركَ) فعل مضارع منصوب بأن المصدرية، فأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر، هذا المصدر إن قدَّرناه نكرة صار (إشراكاً به)، كانت هذه النكرة في سياق النفي المتقدِّم في قوله {لا يغفر} ، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، كما هو مقرر في بابه من علم الأصول، فيكون تقدير الكلام:" إن الله لا يغفر أيّ إشراكٍ به "، فيدخل الشرك الأصغر في هذا العموم، وعليه يستحق صاحبه العذاب، فلا تشمله المشيئة التي في آخر الآية.
قالوا:
فهذا يدل على أن الشرك الذي نفت الآية مغفرته هو الشرك الأكبر والأصغر، لكن مع الفرق في المآل، فصاحب الشرك الأكبر مخلَّد في النار، وأما صاحب الشرك الأصغر فهو داخلٌ في الموازنة، ثم مآله إلى الجنة.
*ومعنى الموازنة:
1 -
أن من غلبت حسانته على سيئاته فإنه لا يعذَّب على الشرك الأصغر، بل ينقص من حسناته بقدر ما يمحى به هذا الشرك فيدخل الجنة، وهذا لا بد فيه من حسنات عظام حتى ترجح حسانته على سيئاته، والتي فيها شرك أصغر.
2 -
وأما إن غلبت سيئاته، والتي فيها الشرك الأصغر، ولم تفِ الحسنات لتكفير هذا الشرك الأصغر، فلا بد أن يعذَّب على هذا الشرك، ثم يكون مآله إلى الجنة خالداً فيها، بعد وقوع التطهير له بالعذاب، فالجنة لا تدخلها إلا النفس المؤمنة الطاهرة من شوائب الشرك كما جاء في الخبر. والله اعلم.
* ومن أدلة السنة:
1 -
ما رواه جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ؟، فَقَالَ:
" مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا
دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ ".
(1)
ووجه الدلالة ظاهر في قوله صلى الله عليه وسلم: " منْ مات يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا":
فهي من أعم العمومات، وهي نكرة في سياق الإثبات فتفيد الإطلاق؛ أي أنَّ مطلق الشرك يوجب دخول النار، فيدخل فيه الأصغر.
2 -
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
…
(2)
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وأكثر علماء الدعوة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وأعظم الذنوب عند الله -تعالى- الشرك به، وهو سبحانه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، والشرك منه جليل ودقيق، وخفي وجلي.
(3)
ويقول بعبارة أصرح من السابقة:
" وقد يقال: الشرك لا يغفر منه شيء لا أكبر ولا أصغر على مقتضى القرآن، وإن كان صاحب الشرك -أي الأصغر- يموت مسلماً، لكن شركه لا يغفر له، بل يعاقب عليه، وإن دخل بعد ذلك الجنة ".
(4)
2 -
القول الثاني:
أن صاحب الشرك الأصغر يدخل تحت المشيئة؛ ويكون تأويل قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ به)(النساء: 48)، أن قوله "أن يشرك": المكوّن من أن والفعل المضارع، فتقوم هي والفعل الوارد بعدها مقام المصدر من حيث المعنى، ويقدَّر معرفةً (الإشراك به)، فينصرف لفظ الإشراك إلى الشرك المعهود ذكره في القرآن وهو الأكبر فتكون (ال) للعهد
(1)
متفق عليه.
(2)
أخرجه مسلم (199)
(3)
جامع الرسائل (2/ 254)
(4)
الرد على البكري (تلخيص كتاب الاستغاثة)(ص /146)،
الذكري، وعليه يكون الشرك الذي نص عليه في الآية بأنه لا يُغفر هو الشرك الأكبر، ويبقى الشرك الأصغر داخلاً تحت عموم المشيئة.
* يؤيده:
أننا وجدنا بالاستقراء أنّ الشرك الوارد في أكثر النصوص عند الإطلاق يراد بالشرك فيها الشرك الأكبر، دون الأصغر، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:
(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)) (الزمر: 65)، وقال تعالى (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة: 72)
فهذه مواطن لا يراد بها الشرك الأصغر بالإجماع؛ لأن حبوط العمل وتحريم دخول الجنة إنما يكون لمن مات على الشرك الأكبر.
* يؤيده:
أنّا وجدنا أنّ الشرك الأصغر يخالف الشرك الأكبر في كثير من الأحكام؛ منها:
1 -
أنّ الشرك الأكبر يُخرج من الملة، أمّا الشرك الأصغر فلا يخرج من الملة.
2 -
أنّ الشرك الأكبر موجِب للخلود في النار لمن مات عليه، أمّا الشرك الأصغر فليس موجباً للخلود في النار لمن مات عليه، حتى لو دخل النار فإنه يُخرَج منها.
3 -
أنّ الشرك الأكبر لا يدخل تحت الموازنة، فمن مات على الشرك الأكبر فليس له عمل صالح حتى يدخل تحت الموازنة، بخلاف الشرك الأصغر فإنه يدخل تحت الموازنة بالاتفاق، حتى الذين يقولون إنه لا يُغفر ولا يدخل تحت المشيئة يقولون يوضَع في الميزان.
*إذن وجدنا أنّ الشرك الأصغر يخالف الشرك الأكبر في أكثر أحكامه، ولم تبق إلا هذه المسألة، وهي مسألة محتمِلة بالنسبة للآية؛ فلأن تُلحَق ببقية المسائل أولى من أن تلحق بالشرك الأكبر في
مسألة واحدة.
*وهذا هو الراجح، والله أعلم، ويجاب عن أدلة القول الأول من وجوه:
1 -
الوجه الأول:
أنَّ آيتي (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ به) وردتا في سياق الكلام
على أهل الكتاب والمشركين والمنافقين، وهؤلاء شركهم أكبر، فناسب أن يكون الحديث في عدم المغفرة عن الشرك الأكبر، لا الأصغر.
2 -
الوجه الثاني:
لو تنزَّلنا أن قوله تعالى (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) دالٌ على عموم نوعيّ الشرك، فهذا من العام الذي أريد به الخصوص، فيكون المراد بهذا العموم خصوص الشرك الأكبر دون غيره، وأما ما دون الشرك الأكبر، فإنه داخل تحت المشيئة.
* وأما الجواب على ما استدلوا به من قوله صلى الله عليه وسلم:
"من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار "
فيقال: لا يلزم منه الجزم بدخول صاحب الشرك الأصغر النار، وإلا للزم مثله في قوله صلى الله عليه وسلم:
"لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ".
(1)
فوعيد الله -تعالى- بإدخال النار أقواماً هو من حيث العموم لا الأعيان؛ والله -تعالى- يُنجز وعده، وأما وعيده فإنْ شاء أنجزه، وإنْ شاء تركه.
* ثم يقال:
ومما يرجّح دخول الشرك الأصغر تحت المشيئة أن يصدر من خواص الأمة؛ إذ لا يسلم منه غالبًا إلاَّ من عصمه الله تعالى، وهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لذا فالقول بعدم دخوله تحت المشيئة مما يوقع عموم الأمة في الحرج الشديد.
* ثم يقال:
إن شيخ الإسلام ابن تيمية قد ذكر تفصيلاً آخر، فقد قال:
والشرك نوعان: أكبر وأصغر: فمَنْ خلص منهما وجبت له الجنة، ومَنْ مات على الشرك الأكبر وجبت له النار، ومَنْ خلص من الأكبر وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة، ومَنْ خلص من الشرك الأكبر ولكن كبُرَ شركه
(1)
أخرجه أبوداود (4914) وصححه الألباني.
الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار.
فالشرك يؤاخذ به العبد إذا كان أكبر، أو كان كثيراً أصغر؛ فالأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يؤاخذ به، والخلاص من الأكبر ومن أكثر الأصغر - الذي يجعل السيئات راجحة على الحسنات - فصاحبه ناجٍ، ومن نجا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله ورجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة.
(1)
فواضح من كلامه -رحمه الله تعالى- أنَّ الشرك الأصغر منه الكثير الذي إنْ رجحت به السيئات دخل صاحبه النار، وإن كان يسيراً وكانت حسنة التوحيد بإخلاص وصدق وعبودية ورجحت حسناته دخل الجنة؛ فالمغفرة وعدمها مبنية على رجحان الحسنات أو السيئات، ويؤثر في ذلك كثرة الشرك الأصغر أو قلته.
ويقول ابن القيم:
فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلَّظة ونجاسة مُخَفَّفَة، فالمغلَّظة الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تعالى، فإن الله -تعالى- لا يغفر أن يشرك به، والمخففة الشرك الأصغر كيسير الرياء.
(2)
وقال: "الشرك الأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه ".
(3)
* تنبيه مهم:
المسألة وإن كانت خلافية بين أهل السنة، فإن هذا يوجب الخوف من الشرك على جميع أقسامه، كبيره وصغيره، فيخشى المرء أن يقع في الشرك الأصغر من حيث لا يدري، كيسير الرياء والحلف بغير الله، إن لم يقصد قائله تعظيم غير الله -تعالى- كتعظيم الله تعالى، أو تعليق التمائم، وقول الرجل "ما شاء الله وشئتَ"، وكذلك نسبة المطر إلى النوء على سبيل السببية، وغير ذلك.
(4)
(1)
وانظر " تفسيرآيات أَشكلت على كثير من العلماء"(ص/364)
(2)
وانظر إغاثة اللهفان (1/ 98) والجواب الكافي (ص /177)
(3)
مدارج السالكين (1/ 339)
(4)
قد وضع الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله ضابطاً للشرك الأصغر بما يلي:
" كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر، من الإرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة "،
…
وانظر القول السديد في مقاصد التوحيد (ص/ 43)
وإذا كان الخليل الأول الذي هدَّم الأصنام على روؤس أصحابها يخشى الفتنة على نفسه فيدعو ربه قائلاً {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} ، فمن يأمن الفتنة بعد إبراهيم عليه السلام؟!
* وختاماً: فقد طاشت السجلات:
ترى يا صاحب البطاقة حدِّثنا: أيُ إخلاصٍ هذا الذي وافيتَ به ربك عزوجل، أي يقينٍ، أي صدقٍ في شهادتك حتى تطيح بهذه السجلات الذي بلغت تسعة وتسعين سجلاًّ، مائة إلا واحداً؟!
ما الذي وقرَّ في قلبك حتى يرجح عند ربك؟!
فكم من أناس وافوا ربهم بالشهادة، ولكنَّ سيئاتهم قد رجحت فدخلوا النار، حتى أدركتهم شفاعة الشافعين.
قال أبو العباس ابن تيمية عن صاحب البطاقة:
فهذه حال من قالها -أي الشهادتين- بإخلاص وصدق، كما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ولم يترجّح قولهم على سيئاتهم، كما ترجَّح قول صاحب البطاقة.
(1)
وقال رحمه الله:
فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق والإخلاص والصفاء وحسن النية؛ إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في الصورة الظاهرة فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتاً عظيماً، ومثل هذا الحديث الذي في حديث: المرأة البغيّ التي سقت كلباً فغفر الله -تعالى- لها؛ فهذا لما حصل في قلبها من حسن النية والرحمة.
(2)
قال ابن رجب:
فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه، وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه،
(1)
منهاج السنة النبوية (6/ 220)
(2)
مجموع الفتاوى (10/ 735)
أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيماً وإجلالًا ومهابة وخشية ورجاء وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات، فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضع منه ذرة على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات.
(1)
تم بحمد الله.
(1)
جامع العلوم والحكم (2/ 417)
* نَصّ حديث الباب:
عَنْ أَبِي مُوسَى- رضي الله عنه قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ:
«إِنَّ اللهَ- عز وجل لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ- وَفِي رِوَايَةٍ: «النَّارُ» - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ».
* تخريج الحديث:
أخرجه مسلم (179) كتاب الإيمان، باب في قوله- عليه السلام:
«إن الله لا ينام» ، وفي قوله:«حجابه النور» .
* أهمّ الفوائد المستنبطة من حديث الباب:
1 -
الفائدة الأولى:
قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ- عز وجل لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ
…
»:
فذكرَ صفة من الصفات التي ينزَّه اللهُ تبارك وتعالى عنها، وهي النوم، فهو سبحانه منزَّه عن ذلك؛ لكمال حياته وقيّوميّته، كما في قوله تعالى:{اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255].
فالنوم مُحالٌ عليه- تعالى-؛ لأن النوم موتٌ، كما قال تعالى:
…
{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60]، وعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ رضي الله عنه قَالَ:
"كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ".
(1)
(1)
متفق عليه.
وصفات النقص المنفية عن الله- عز وجل مِثل النوم والوَلَد واللُّغوب والظلم ونحو ذلك- لِأهل السنة فيها قاعدة معروفة، هي أن:"نفْي صفات النقص عن الله - تعالى- لا يكون كمالًا إلا مع إثبات كمال الضِّدّ"، فالنفي المَحْض ـ الذي لا يتضمن معنىً ثبوتيًّا ـ ليس مدحًا، فقد يُنفى الظلم- مثلًاـ عن الشخص لا لعدله، وإنما لعجزه وضعفه عن فِعله.
*ومن النظائر التي تدل على هذا المعنى، الذي هو نفْي النقص عن الله -تعالى- مع إثبات كمال الضد:
1 -
قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44].
2 -
قوله- صلى الله عليه وسلم يرفعُه: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا» .
(1)
فقوله- تعالى-: «وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا» بعد إخباره عن تحريم الظلم على نفسه قد أظهر أنه- تعالى- إنما تركَ إيقاع الظلم وتقديرَه ليس لعجزه عنه سبحانه، بل لِما في الظلم من القُبْح والسوء.
* وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب:
«ولَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ» بعد نفيه للنوم عنه سبحانه- دلَّ أنه لا يفعله؛ لكمال حياته وقيّوميّته؛ فهو متضمِّن لنفي النقص، الذي هو النوم، مع إثبات كمال الضد، وهو كمال الحياة والقَيّوميّة.
والرب- تبارك وتعالى حيٌّ حياةً كاملةً لم يسبقها عَدَمٌ، ولا يعتريها نقصٌ، ولا يَعقُبها فَناءٌ؛ حياةً أزَليةً أبَديةً، أيْ لا يزال حيًّا، ثم هي حياةٌ أيضًا كاملةٌ لا يعتريها نقصٌ بوجهٍ من الوجوه.
(1)
أخرجه مسلم (2577).
فهو سبحانه الحي القيّوم الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم، وهاتان الصفتان ذاتيتان لله سبحانه، وثابتتان بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
*من أدلة القرآن:
قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255]،
وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111].
*ومن أدلة السنة:
عَنْ أَبِي يَسَارٍ زَيْدٍ مَوْلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: "أَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ" غُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» .
(1)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ".
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"فَنَفْيُ أخذ السِّنة والنوم له- مستلزمٌ لكمال حياته وقيوميته؛ فإنَّ النوم ينافي القيومية، والنوم أخو الموت؛ ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون".
(3)
قال حافظ الحكمي:
"فالله- عز وجل لا ينام؛ فإن ذلك نقْص في حياته وقيوميته؛ ولهذا أَرْدَفَ هذين الاسمين بنفْي السِّنة والنوم، فقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا
(1)
أخرجه الترمذي (3577)، وصححه الألباني.
(2)
أخرجه الترمذي (3524)، وابن السُّنِّي في عمل اليوم والليلة (337). قال الترمذي:"هذا حديث غريب". والرقاشي هو يزيد بن أبان، ضعيف كما قال في التقريب. وله شاهدٌ أخرجه الحاكم (1/ 509) من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود، وقال:"حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي بقوله:"عبد الرحمن لم يسمع من أبيه، وعبد الرحمن ومَن بعده ليسوا بحُجّة".
والحديث بهذا الشاهد حسنٌ، كما بيَّن ذلك الشيخ الألباني في تعليقه على الكلِم الطيب (رقْم: 118).
(3)
مجموع الفتاوى (17/ 109).
تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255]،
أي: لا تَغلِبه سِنة- وهو الوَسَن والنُّعاس- ولا نومٌ، ونفْيُهُ من باب أولى لأنه أقوى من السِّنة، بل هو قائمٌ على كل نفس بما كسبتْ، شهيد على كل شيء، ولا يَغيب عنه شيء، ولا تَخفى عليه خافيةٌ".
(1)
* وقَوله صلى الله عليه وسلم: «وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ
…
»:
فقوله: «لا ينبغي» هذه تقال عند الاستحالة والتبعيد، ونظير ذلك:
ما ورد في قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92]،
وقوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18].
* الفائدة الثانية:
قوله صلى الله عليه وسلم: «يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ» :
والمعنى: أنه سبحانه يخفض المِيزان ويرفعه. وسُمِّي الميزان قِسْطًا؛ لأن القسطَ العدلُ، وبالميزان يقع العدل.
والمراد أن الله - تعالى- يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة، وما يوزن من أرزاقهم النازلة.
وقيل: المراد بالقسطِ الرزقُ الذي هو قسط كل مخلوق، يخفضه فيُقتره، ويرفعه فيوسعه، والله أعلم.
(2)
* وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ
…
»:
قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]،
وهذا ما ورد في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الفَجْرِ وَصَلاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ،
(1)
معارج القبول (1/ 157).
(2)
وانظر شرح السنة للبغوي (1/ 160)، والمنهاج للنووي (2/ 16).
فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ:
تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ».
(1)
* الفائدة الثالثة:
قوله صلى الله عليه وسلم: «حِجَابُهُ النُّورُ- وَفِي رِوَايَة: «النَّارُ» - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»:
وقوله صلى الله عليه وسلم: «حِجَابُهُ النُّورُ
…
»:
قد ورد ذكر الحجاب في عِدّة نصوصٍ، منها:
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]،
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(2)
وعن صُهَيْبٍ- رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ:
أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ- عز وجل».
(3)
* وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: «سُبُحَاتُ وَجْهِهِ» :
بضم السين والباء: جمع "سُبُحة" بضمّهما أيضًا، وهي النور والجَلال، وما في معناها من نُعوت الكمال والبهاء والكبرياء، وكل هذا من صفات وجه الله تعالى.
والمعنى: أن هذا الحجاب الذي هو النور أو النار- وهو حجاب حقيقي- هو
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
رواه مسلم (181).
الذي يحُول بين جلال وجه الله- تعالى- وبهائه ونُوره وبين خلْقه، فلو كشف هذا الحجاب لأحرقت سبحات وجهه- عز وجل ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبَصَرُهُ ينتهي إلى جميعِ مَنْ خَلَقَ.
قال ابن القيم:
"فإذا كانت سبحات وجهه الأعلى لا يقوم لها شيء من خلقه، ولو كشف حجاب النور عن تلك السُّبُحات لَاحترقَ العالَمُ العُلْوي والسُّفْلي، فما الظن بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله وجلاله؟! ".
(1)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ:
"لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ:«أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟»
فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:
(2)
قال ابن عمر رضي الله عنهما:
"احتجَبَ الله مِن خَلْقه بأربعٍ: بنارٍ، وظُلمةٍ، ونورٍ، وظُلمةٍ".
(3)
قال الدارمي:
"إنما نقول: احتجب الله بهذه النار عن خلقه بقدرته وسلطانه، ولو قدَّر كشْفها لأحرق نورُ الرب وجلاؤه كلَّ ما أدركه بصرُه، وبصرُه مُدرِك كلّ شيء، كما أنه حين تجلَّى لذلك الجبل خاصّةً مِن بين الجبال، ولو تجلَّى لجميع جبال الأرض لصارت كلها دَكًّا كما صار جبل موسى، ولو تجلَّى لموسى كما تجلَّى للجبل جعَلَه دَكًّا، وإنما خرَّ موسى صَعِقًا مِمّا هاله من الجبل؛ مِمّا رأى مِن صوته حين دُكَّ فصار في الأرض".
(4)
* فرع:
يَظهر مما سبق أن أهل السنة قالوا بظاهر النص، فأثبتوا الحجاب الذي يحُول بين
(1)
مختصَر الصواعق (1/ 173).
(2)
أخرجه الترمذي (3010)، وحسّنه.
(3)
أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية (ص/ 37)، والحاكم (3244). قال الحاكم:"هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
(4)
نقض الدارمي على المريسي (ص/ 293).
نور وجه الله- تعالى- وبين خلْقه.
وقد خالف في ذلك دُعاةُ التنزيه، فقالوا:
1 -
إن الله يَسْتحيلُ عليه أن يحيط به حجاب؛ إذ يَلزم منه أن يكون مقدَّرًا محصورًا، فيحتاج إلى مقدِّر ومخصِّص، ويَلزم منه حُدوثُه!!
2 -
وإن الحجاب ليس على حقيقته، بل المراد أن الله - تعالى- لا يَخلق في العينِ الرؤيةَ له سبحانه.
3 -
وإن المراد بالحجاب المنصوصِ عليه في الآثار حجابٌ معنوي، وليس حجابًا حسّيًّا.
(1)
*فالجواب الإجمالي أن يقال:
لا شك في بُطلان هذه المَزاعم؛ فالحجاب الذي ورد في حديث الباب هو من الغيبيات التي لا مَجال لنفيها بناءً على مقدِّمات باطلة، ودعاوَى ساقطةٍ.
فكم جَنَتْ حَبائلُ التنزيه المزعوم على نصوص الوحي، فأوْدت بها في غَيابات التعطيل!
فأهل السنة عَمِلوا بالآثار، فأثبتوا ما جاءت به النصوص، وأمّا النفاة فقد ضاقت فُهومُهم ولم يرفعوا لها رأسًا، فشَتّانَ بينَ أفهامٍ تاهت في بئرٍ معطَّلة، وأخرى تَحيا في قَصْرٍ مَشيد.
*ومن حيث التفصيلُ يقال: إن الحجاب يأتى في اللغة على معنيينِ:
1 -
حجاب معنوي:
كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45]
فالحجاب ها هُنا حجاب معنوي مستور عن الأعيُن،
(1)
وقد ذكرَ هذه الأوجُهَ ابنُ حجر في الفتح، وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية جميعَ هذه الفِرَى مِنْ نحوِ أربعينَ وجهًا. وانظر فتْح الباري (13/ 610) وبيان تلبيس الجهمية (8/ 122).
ساتر للنبي صلى الله عليه وسلم فلا ينظرون إليه.
وكما حكى الله -تعالى- عن المشركين: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، أيْ: حاجبٌ وحاجزٌ، لا يصل كلامك إلينا ولا نستمع إليه ولا نفْقهه.
2 -
حجاب حِسّي:
كما في قوله تعالى: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} [الأحزاب: 53].
والحجاب الذي احتجب الله- تعالى- به عن خلْقه هو حجاب حسي حقيقي، والذي جعلَنا نَحمله على ذلك أمورٌ:
الأول:
أنه ثبت في الحديث قوله: «فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ- عز وجل»
(1)
، وكشْف الشيء: إزالته ورفْعه، وهذا لا يوصف به المعدوم؛ فإنه لا يُزال ولا يُرفع، وإنما الذي يُزال ويُرفع: الموجود.
الثاني:
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: «حِجَابُهُ النُّورُ» ، وَفِي رِوَايَة:«النَّارُ» ؛ فذِكر رواية «النارُ» قد دل على أنه حجاب حسّي حقيقي.
الثالث:
قول النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سُئل: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: «رَأَيْتُ نُورًا»
(2)
، والمراد بالنور الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المِعراج هو نور الحجاب، فلو كان هذا الحجاب معنويًّا- كما يدَّعي النُّفاة- لَما كان له نُورٌ يُرى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"فقول القائل: "فهم محجوبون عنه بحجاب يَخلُقه
(1)
سبق تخريجه قريبًا.
(2)
أخرجه مسلم (178).
فيهم، وهو عدمُ الإدراك في أبصارهم" كلام باطل، وفي الحديث الصحيح: «حجابه النور»، وفي الرواية الأخرى: «النارُ»، ومعلوم أن عدم الرؤية لا يسمَّى نورًا ولا نارًا، لا حقيقةً ولا مجازًا".
(1)
4 -
الفائدة الرابعة:
قوله صلى الله عليه وسلم: «حِجَابُهُ النُّورُ
…
»:
وهذا الحجاب الذي هو نور- وفي رواية: نار- هو حجاب بين العباد وربهم، يحول بينهم وبين رؤية الله عز وجل، وأمّا العكسُ فغيرُ مُرادٍ قطعًا؛ فإن الله- تبارك وتعالى لا يَحجُبه شيء عن رؤية خلقه، ومن المعلوم أنّ بصر الله- تعالى - لا يحجُبه شيء، ولا يُمكن أن يستتر عن بصره شيءٌ، وأمّا هو سبحانه فقد احتجب عن خلقه بالنور وبالكبرياء، وبما شاء من الحُجُب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حِجَابُهُ النُّورُ- أَو: النَّارُ- لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» ، فهي حُجُب تَحْجُبُ العباد عن الإدراك، وأمّا حجْبها لله عن أن يَرى ويُدرِك فهذا لا يقوله مسلمٌ؛ فإنّ الله لا يخفى عليه مثقالُ ذرّةٍ في الأرض ولا في السماء، وهو يرى دَبيب النملة السوداء على الصخرة الصَّمَّاء في الليلة السوداء، ولكن يَحجُبُ أن تصل أنوارُه إلى مخلوقاته؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:
«لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» ،
فالبصر يدرك الخلْقَ كلهم، وأمّا السُّبُحات فهي محجوبة بحجابه النُّور
أوالنار".
(2)
5 -
الفائدة الخامسة:
حديث الباب أحد الأدلة على نفْي رؤية الخلق لله- تعالى- في الدنيا حالَ اليَقَظة:
فقوله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ
…
» قد أظهر العلة من عدم حدوث هذه الرؤية البصَرية في الحياة الدنيا، وهي كونُ البَشَر لا يُطيقون ذلك.
(1)
بيان تلبيس الجهمية (8/ 121).
(2)
مجموع الفتاوى (6/ 10).
قال القرطبي:
"ومعنى الكلام: أن الله - تعالى - لو كشف عن خلْقه ما منعهم به من رؤيته في الدنيا لَما أطاقوا رؤيته وَلَهَلَكُوا؛ كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]
ويفيد أنّ تركيبَ الخلق وضعْفَهم في هذه الدار لا يحتمل رؤية الله فيها، فإذا أنشأهم الله- تعالى- للبقاء وقوّاهم حَمَلُوا ذلك".
(1)
فالرؤية عند أهل السنة لا تكون في الدنيا ولا في البَرْزخ، وإنما هي يومَ القيامة بقوةٍ يجعلها الله- جلّ وعلا- في أعيُن المؤمنين.
* وأمّا أدلة عدم وقوع رؤية الله- تعالى- بالبصر في الدنيا:
فمن القرآن:
1 -
فلو كانت رؤيته- سبحانه وتعالى ممكِنة لَحَصلتْ لِلكَلِيمِ موسى عليه السلام، وهو الذي اصطفاه الله - تعالى- على الناس برسالاته وبكلامه.
* ومن السنة: عن عَبْد اللهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ- عز وجل حَتَّى يَمُوتَ» .
(2)
* والإجماع:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وقد ثبت بالنصوص الصحيحة واتفاقِ سلف الأمة أنه لا يرى اللهَ أحدٌ في الدنيا بِعَينه".
(3)
(1)
المُفْهِمُ (1/ 411).
(2)
أخرجه مسلم (169).
(3)
مجموع الفتاوى (6/ 510). وهذا إجماعٌ نقله أيضًا الدارميُّ وابنُ أبي العز، باستثناء النزاع الذي وقع في رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم لربه ليلةَ المعراج، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن هذا الخلاف بين الصحابة- رضي الله عنهم في هذا الباب ليس خلافًا حقيقيًّا، بل هو من باب اختلاف عبارات النقل عنهم، على أنّه لم يصرِّح أحد من الصحابة- رضي الله عنهم بأنّ رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج كانت رؤية بصرية.
وأمّا من صرح بذلك من أهل العلم فهذا بناء منهم على ما فهِموه من أقوال الصحابة- رضي الله عنهم التي ورد فيها إطلاق الرؤية.
ولمراجعة المسألة بأقوالها انظرْ أحاديثُ يُوهِمُ ظاهرُها التعارُضَ (ص/ 343).
* يؤيده:
لو كانت رؤيته تعالى في الدنيا ممكنة لَحصلتْ لِخير الخلق أجمعينَ، محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فقد سُئل: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: «نُورٌ، أَنَّى أَرَاهُ» ، وفي رواية:«رَأَيْتُ نُورًا» .
(1)
فالمعنى:
أن الذي حالَ بين النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيةِ وجه الله تعالى هو ذلك النور العظيم، وهو نور الحجاب، وهو نورٌ مخلوقٌ، وهو المراد في قوله صلى الله عليه وسلم:«رَأَيْتُ نُورًا» ، وليس المراد هنا أن هذا النورَ هو نورُ وجه الله تعالى، ولو كان هذا الحجاب هو النور الذي هو صِفَتُهُ سبحانه لَكانَ النبيُّ- صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه.
فهذا كله صريح في نفي الرؤية البصرية، إنما كانت رؤيته لربه ليلةَ المعراج رؤيةً قلبية، والله أعلم.
* ومما يؤيد عدمَ الرؤية البصرية ليلةَ المعراج:
1 -
أنّ قوله صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ- عز وجل حَتَّى يَمُوتَ»
(2)
يشمل النبيَّ- صلى الله عليه وسلم وغيرَه.
2 -
لو كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه -تعالى- ليلةَ المعراج رؤيةً بصرية لَما سكتَ الشرعُ عن ذِكرها بالتنصيص؛ فهي- لا شكَّ- مَنْقَبةٌ عظيمة لا يَسكتُ الشرع عن التصريح بمثلها.
3 -
قال ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما:
قَالَ تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]، قَالَ:"رَآهُ بِفُؤادِهِ مَرَّتَيْنِ"، وفي رواية قَالَ:"رَآهُ بِقَلْبِهِ".
(3)
(1)
سبق تخريجه قريبًا.
(2)
سبق تخريجه قريبًا.
(3)
أخرجه مسلم (176).
وقال- رضي الله عنهما:
"أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ- عليه السلام، وَالْكَلَامُ لِمُوسَى- عليه السلام، وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم؟ ".
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وأمّا الرؤية فالذي ثبتَ في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين"، وعائشة أنكرت الرؤية؛ فمن الناس من جمعَ بينهما، فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد.
والألفاظ الثابتة عن ابن عباس هي مطلَقة ومقيَّدة بالفؤاد؛ تارةً يقول: "رأى محمد ربه"، وتارة يقول:"رآه محمد".
ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه.
وكذلك الإمام أحمد تارةً يُطْلِق الرؤية، وتارة يقول: رآه بفؤاده، ولم يقل أحد:
إنه سمع أحمد يقول: رآه بعينه؛ لكنّ طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلَق ففهِموا منه رؤية العين، كما سمع بعضُ الناس مطلق كلام ابن عباس ففهِم منه رؤية العين.
وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبتَ ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدلّ على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدلُّ؛ كما في صحيح مسلم عن أبي ذرٍّ- رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال:
«نورٌ، أنَّى أراهُ» ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَرَاهُ نَفْسَهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ قوله:
{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} ، وقوله تعالى:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ، وَلَوْ كَانَ رَآهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى.
(2)
قال ابن حجَر بعد ذكر الخلاف في رؤية النبي لربه ليلةَ المعراج:
"فيمكن الجمع بين
(1)
أخرجه النَّسائي (11539)، والحاكم (3114). قال الحاكم:"هذا حديث صحيح على شرط البخاري"، ووافقه الذهبي.
(2)
مجموع الفتاوى (6/ 509).
إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يُحملَ نفيُها على رؤية البصر، وإثباتُه على رؤية القلب".
(1)
* وقوله صلى الله عليه وسلم: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» :
قد تضمنت هذه العبارة نوعين من النور:
1 -
الأول:
النور الذي هو صفة وجه الله- تعالى-، والوارد في قوله- صلى الله عليه وسلم: «لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ
…
».
2 -
الثاني:
النور المخلوق، وهو نور الحجاب، وهو المراد في قوله صلى الله عليه وسلم ليلةَ المِعراج:«رأيتُ نُورًا» .
6 -
الفائدة السادسة:
من الأسماء الحسنى الثابتة لله- تعالى-: اسم النور؛ قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35].
قال الطبري:
"هادي مَن في السماوات والأرض، فَهُمْ بنوره إلى الحق يهتدون، وبهُداهُ مِن حَيْرة الضلالة يعتصمون".
(2)
قال السِّعْدي:
"النور: نور السموات والأرض، الذي نوَّر قلوبَ العارفين بمعرفته والإيمانِ به، ونوَّرَ أفئدتهم بهدايته، وهو الذي أنار السموات والأرض بالأنوار التي وضَعها".
(3)
وعن ابْن عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما قَالَ:
"كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ
(1)
فتح الباري (8/ 648).
(2)
جامع البيان في تأويل القرآن (19/ 177).
(3)
وانظر تيسير الكريم الرحمن (2/ 948)، والنهْج الأسمى (ص/ 484).
وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ
…
".
(1)
قال ابن القيم:
"النور: جاء في أسمائه تعالى، وهذا الاسم مما تلقّتْه الأمّة بالقَبول، وأثبتوه في أسمائه الحسنى، ولم ينكره أحدٌ من السلف ولا أحد من أئمة أهل السنة".
(2)
7 -
الفائدة السابعة:
إثبات صفة الوجه لله:
و"الوجه" معناه في اللغة معلوم، لكنّ كيفيته مجهولة، لا نعلم كيفَ وجْه الله عز وجل، لكننا نؤمن بأنّ له وجهًا، وردَ في الشرعِ وصْفُه بالجلال والإكرام والبهاء والعظمة والنور العظيم.
فمن أدلة القرآن:
قال الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]،
وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27].
قال ابن العثيمين:
"وقوله "ذُو" صفةٌ لـ "وَجْهُ"، والدليل: الرفعُ، ولو كانت صفةً للرَّبِّ لَقالَ: "ذِي الجِلالِ"، كما قال في نفس السورة: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 78]، فلمّا قال: {ذُو الْجَلالِ} علِمنا أنه وصفٌ للوجه".
(3)
*ومن أدلة السنة:
-عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» ، قَالَ:{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65]، قَالَ:
«أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» ، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65]، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هَذَا أَيْسَرُ» .
(4)
(1)
أخرجه البخاري (1120).
(2)
مختصَر الصواعق المرسلة (2/ 398).
(3)
شرح العقيدة الواسطية (ص/ 182).
(4)
أخرجه البخاري (7406) في كتاب التوحيد، باب {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88].
وقَوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك» فيه إثبات الوجه لله عز وجل؛ فقد ورد ذكره في مقام الاستعاذة به، والاستعاذة لا تكون بمخلوق.
-وَعَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ- تعالى- أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا- عليه السلام بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فقال منها:
…
وَإِنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فلَا تَلْتَفِتُوا؛ فَإِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ».
(1)
-وعن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ- رضي الله عنه قال:
"كَانَ رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فيقولُ: اللهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ".
(2)
* الإجماع:
قال ابن خُزيمة:
"فنحن وجميعُ علمائنا مِن أهل الحجاز وتهامةَ واليمَن والعراق والشام ومصرَ مذهبُنا: أنّا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نُقرّ بذلك بألسنتنا، ونصدّق ذلك بقلوبنا، مِن غيرِ أن نشبِّه وجهَ خالقنا بوجهِ أحدٍ من المخلوقين. عزَّ ربُّنا عن أن يُشْبِهَ المخلوقين، وجلَّ ربُّنا عن مَقالة المعطّلينَ".
(3)
قال أبو الحسَن الأشعري:
"فمن سألَنا فقال: أتقولون: إنّ لله سبحانه وجهًا؟ قيل له: نقول ذلك، خِلافًا لِما قاله المبتدعون، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] ".
(4)
(1)
أخرجه أحمد (17170)، والترمذي (2863)، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح غريب".
(2)
أخرجه أحمد (18325)، والنسائي (1305)، وصححه الألباني.
(3)
التوحيد (ص/ 11).
(4)
وانظر الإبانة عن أصول الدِّيانة (2/ 1004)، والآثار الواردة عن السلف في العقيدة (1/ 190).
* المخالفون في هذا الباب:
صفة "الوجْه" من صفات الذات الثابتة لله تعالى بنصوص الكتاب والسنة، ودلالتُها عليها في غاية الصراحة والوضوح، ولذلك لم يجد بعضُ المؤوِّلة سبيلًا إلى تأويلها:
*فالمعتزلة:
قالوا: وجْه الله هو ذاته، لا غير.
ومنهم من يثبت الوجه توسُّعًا، وليس على سبيل إضافة صفة إلى موصوف.
(1)
قال القاضي عبد الجبّار:
"وقد يُذكر الوجْه ويراد به ذات الله، وقد يقول القائل لغيره، وقد سألَه حاجةً: أُحِبُّ أن تفعل ذلك لوجه الله، أيْ تقرُّبًا إلى الله".
(2)
*وأما الأشاعرة- وهم من رُوَّاد منهج التأويل-:
فقد خالفوا إمامهم أبا الحسن الأشعريَّ، فعطَّلوا صفة الوجه، وحرَّفوا نصوصها بأنواع من التأويلات، مع أن بعضهم يُصرِّح بأنّه لا سبيل إلى تأويل هذه الصفة، كما يقول ابن فُورَك الذي تصدَّى لتأويل أحاديث الصفات على مقتضَى العقل، يقول عن صفة الوجه:
"اعلمْ أنّ إطلاق وصْف الله عز وجل بأنّ له وجهًا- قد وردَ به نصّ الكتاب والسنة، وذلك من الصفات التي لا سبيل إلى إثباتها إلا من جهة النقل
…
وذهب أصحابنا إلى أن الله- عز وجل ذو وجهٍ، وأن الوجه صفة من الصفات القائمة به".
(3)
وكذلك قد نقلَ شيخ الإسلام ابن تيمية عن القاضي الباقلّاني إثباتَه لصفة الوجه على الحقيقة، قال شيخ الإسلام:
"وقال القاضي أبو بكرٍ الباقلّانيُّ، وهو أفضل المتكلمين
(1)
وانظر مقالات الإسلاميين (ص/ 100).
(2)
وانظر تنزيه القرآن عن المَطاعن (ص/ 52)، والتأويل في الصفات (ص/ 187).
(3)
وانظر مُشكلُ الحديث وبيانُه (ص/ 356)، ودفْع إيهام التشبيه (ص/ 198).
المنتسبين إلى الأشعريّ، في كتاب «الإبانة» تصنيفه: فإن قال:
فما الدليل على أنّ لله وجهًا ويدًا؟ قيل له: قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 72]، وقوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، فأثبتَ لنفسه وجهًا ويدًا.
فإن قال: فلمَ أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحةً إذ كنتم لا تَعقلون وجهًا ويدًا إلا جارحةً؟ قلنا: لا يجب هذا، كما لا يجب إذ لم نعقل حيًّا عالِمًا قادرًا إلا جِسمًا أن نَقضيَ نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه".
(1)
في حين أنه قد ذهب جماعة آخرون من أئمة الأشاعرة إلى صرْف هذه النصوص عن دلالتها بتأويلها عن ظاهر معناها، كما فعل البَغدادي والآمِدِيّ اللّذينِ أوَّلا الوجهَ بالذات.
(2)
*الرد على المخالف:
لا شكَّ في أن منهج التأويل منهج ضالّ، وذلك لجنايته على العقيدة الإسلامية الصحيحة التي نهَجها أئمة السلف الذين أثبتوا ما أثبته الله- تعالى- لنفسه وأثبته له رسوله- صلى الله عليه وسلم، فأثبتوا صفة الوجه صفةً لله- تعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته، {ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
* أمّا الفريق الأول من الأشاعرة الذين أثبتوا لله - تعالى- الوجه:
فانظرْ كيف يتلاعبُ فسادُ المنهج بأصحابه! حيث ترى أنّ من أثبت الوجه لله
(1)
الفتوى الحَمَوية الكبرى (ص/ 508).
(2)
وممن ذهب إلى هذا القول: النووي، فقد قال في شرحه على مسلم:"والمرادُ بالوجهِ الذاتُ"، وقال:"لو أزال المانعَ من رؤيته، وهو الحجابُ، وتجلَّى لخَلْقه لَأحرقَ جَلالُ ذاته جميعَ مخلوقاته".
وانظر المنهاج (2/ 18)، وأصول الدين (ص/ 110)، وغاية المَرام في علم الكلام (ص/ 140)، ومقالات الإسلاميين (1/ 245).
- تعالى- من الأشاعرة لم يقولوا به اتّباعًا للنص- كما هي طريقة الراسخين في العلم- بل قالوا به لعجْزالعقل- زَعَمُوا- عن تأويله، فصار المقياس عند القوم: "وما آتاكُمُ العقلُ فخُذوه
…
"! وكذبوا في تأسيسهم، وتناقضوا في تأصيلهم:
1 -
أمّا الكذب في التأسيس:
فلِأنّ العقلَ الصحيح لا يُناقض النصَّ الصحيح؛ وإنّما تقع المناقضة حينما تُعارَض النصوص بالعقول التي يجرّها الهوى، ويُصادَم الوحي بالمناهج الأرضية المحْدَثة تحتَ دعوى التنزيه والتقديس، وهُنا يصدُق فيهم قوله تعالى:{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23].
2 -
وأمّا التناقض في التأصيل:
فيقال: إذا أثبتّم صفة الوجه لله- تعالى- بدعوى أنه لا يمكن للعقل تأويلُها على غير ظاهرها، فكذا يقال في سائر الصفات، فالقول في بعض الصفات كالقول في سائر الصفات، وأمّا أن تُثبتوا الشيء وتَنْفُوا نَظيرَه فهذا هو عينُ التناقض.
* وأما الرد على القائلين: إنّ الوجه هو الذات:
وقد استدلوا بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وقالوا: إذْ لا خُصوصَ للوجه في البقاء وعدمِ الهلاك.
(1)
* فالردُّ أن يقال:
الاستدلال بهذه الآية على أن الوجه هو الذات استدلالٌ مردود؛ لأنه لو لم يكن لله- تعالى- وجهٌ على الحقيقة لَما جازَ استعمالُ هذا اللفظ في معنى الذات.
(1)
وهذه الآية قد شذَّ فيها طائفتان:
(أ) البيانيّة: أتباع بيان بن سمعانَ، الذي كان يقول: إنّ معبوده نور، صورته صورة إنسان، وله أعضاء كأعضاء الإنسان، وإن جميع أعضائه تَفنى إلا الوجهَ.
(ب) الأشاعرة: الذين فسَّروا الوجه بالذات، فقالوا:"كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا ذاتَه".
وانظر التبصير في الدين (ص/ 322)، والفرْق بين الفرَق (ص/ 198).
يقول محمد خليل هرَّاس:
"اللفظ الموضوع لمعنًى لا يمكن أن يستعمل في معنًى آخرَ إلا إذا كان المعنى الأصلي ثابتًا للموصوف، حتى يمكن للذهن أن ينتقل من الملزوم إلى لازمه".
(1)
* والتوجيه الثاني للآية:
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} أي: إلا ما أُريدَ به وجهُه؛ ذلك لأن سياق الآية يدل على ذلك: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} ، كأنه يقول: لا تَدْعُ مع الله إلهًا آخرَ فتُشركَ به؛ لأنّ عملك وإشراكك هالكٌ- أي: ضائعٌ سُدًى- إلا ما أخلصتَه لوجه الله، فإنه يَبقى؛ لأن العمل الصالح له ثوابٌ باقٍ لا يَفنى في جنات النعيم.
(2)
*ثم يقال:
تَزعُمون أنّ إثبات الوجه يَلزم منه المُشابَهة والتجسيم وما شابَهَ ذلك؛ وعليهِ فقدْ فسّرتُمُ النصوص الواردة في ذلك بأن الوجه هو الذات، فيقال جَرْيًا على تأصيلكم: إنّ إثبات الذات لله- عز وجل يَلزم منه مشابهةُ الخالق للمخلوق، فإنْ قلتم: ذاتُه ليست كذات البشر، قيل:
يَلزمكم كذلك أن تثبتوا لله- تعالى- وجهًا ليس كوجْه البشر، فالقول في بعض الصفات كالقول في سائر الصفات.
فالقول بنفي الصفات عن الذات هو- في الحقيقة- فرارٌ ممّا يمكن تصوُّره إلى ما يَستحيل تصوُّره عقلًا وشرعًا.
*ثم يقال:
قولكم بإثبات الذات لله- عز وجل دونَ إثبات الصفات- التي منها: الوجهُ- هو قولٌ في حقيقته يعود عليكم بالبُطلان؛ فالقول بالذات المجرَّدة عن الصفات هو فرْضٌ ذِهني تجريدي لا حقيقةَ له، فإنّ الذات المجرَّدة عن الصفات لا حقيقة لها، ونفْي الصفات يستلزم نفيَ الذات.
فإن قيل:
استعمال الوجه بمعنى الذات مشهور في اللغة، يقال: وَجْهُ هذا الثوبِ
(1)
شرح العقيدة الواسطية (ص/ 114).
(2)
وانظر شرح الواسطية لابن عثيمين (ص/ 285).
جَيِّدٌ: أيْ ذاتُهُ جيِّدةٌ
…
(1)
فالجواب:
قال ابن القيم:
"يقال لهذا المعطِّل المشبِّه: ليس الوجه في ذلك بمعنى الذات، بل هذا مُبطلٌ لقولك؛ فإنّ وجْه الحائط: أحدُ جانبَيه، فهو مقابلٌ لدُبُرِهِ، وكَمِثْلِ هذا:
وَجْهُ الكعبة ودُبُرُها، فهو وجهٌ حقيقةً ولكنه بحسب المضاف إليه، فلمّا كان المضاف إليه بناءً كان وجهُهُ مِن جنسه، وكذلك وجْهُ الثوب: أحدُ جانبيه، وهو من جنسه، وكذلك وجهُ النهار: أوّلُه، ولا يقال لجميع النهار. والوجه في اللغة: مستقبلُ كل شيء؛ لأنه أولُ ما يُواجهُ منه، ووجْه الرأي والأمْر: ما يَظْهَرُ أنّه صوابُهُ، وهو في كل محلٍّ بحسب ما يضاف إليه، فإنْ أضيف إلى زمنٍ كان الوجهُ زمنًا، وإن أضيف إلى حيَوانٍ كان بحسبه، وإن أضيف إلى ثوب أو حائط كان بحسبه، وإن أضيف إلى مَن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] كان وجهُهُ- تعالى- كذلك".
(2)
والقاعدة هنا:
" اتفاق الأسماء لا يَلزم منه اتفاقُ الحقائق والمسمَّيات ".
وأمّا قولُهم: إنّ الوجه هو الثواب- فهو مردودٌ بما يلي:
أولًا: أنه مخالف لظاهر اللفظ؛ فإنّ ظاهر اللفظ أنه وجهٌ لله تعالى وصفةٌ له، وليس هو الثوابَ.
ثانيًا: أنه مخالف لإجماع السلف الذي أثبت الوجه لله- تعالى- على الحقيقة، فلم يقل أحد من الصحابة أو التابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ: إنّ الوجه هو الثواب.
ثالثًا: قد وصف الله- تعالى- وجهَهُ بصفات، منها: قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، فهل يوصف الثواب- وهو مخلوق- بهذه الصفات
(1)
وانظر شرح الأصول الخمسة (ص/ 227) والمنحة الإلهية (ص/ 596).
(2)
مختصر الصواعق المرسلة (2/ 388).
العظيمة؟! وكذلك قوله- صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» ، فهل يقال في الثواب: إنّ له نورًا يحرق ما انتهى إليه بصرُ الله- تعالى- من الخلْق؟!
رابعًا: قد ورد في الآثار تعوُّذُ النبي- صلى الله عليه وسلم بوجه الله تعالى، ومِثلُ هذا لا يكون إلا بالله- تعالى- وبصفاته.
قال الدارمي:
"أفَيجوزُ- أيُّها المُعارِضُ- أنْ يُتأوَّلَ هذا: "أعوذ بثوابك والأعمالِ التي يُبتغى بها وجهُك وبوجْهِ القِبلة"؟ فإنه لا يجوز أن يستعاذ بوجهِ شيءٍ غير وجه الله تعالى، وبكلماته، لا يستعاذ بوجه مخلوق".
(1)
خامسًا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يقول فِي دُعَائِهِ: «أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، والشَّوْقَ إلَى لِقائِكَ» ، ولم يكن لِيسألَ لذةَ النظر إلى الثواب، ولا يُعرف تسمية ذلك وجهًا لغةً ولا شرعًا ولا عُرْفًا.
(2)
* فإن قيل:
قد أَطْبَقَ علماءُ التفسير على أنّ المراد بقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] أي: رجاءَ ثوابِ الله تعالى،
فالرد أن يقال:
لا يَمتنعُ لغةً أن يُطلَقَ الوجه ويراد به الثواب، ولكنّ هذا لا يمنع أن نُثبت لله- تعالى- صفة الوجه على الحقيقة، وذلك للأدلة الأخرى التي لا تحتمل أيَّ تأويلٍ أو صرْفٍ للّفظ عن ظاهره.
وفارِقٌ بين أن نأتيَ موضعًا من مواضع الصفات فنفسّرَه بحسب السياق مع إثبات أصل الصفة من المواضع الأخرى، وبينَ أن نَعْمِدَ إلى هذا الموضع فنتأخّذَه ذَريعةً لنفي الصفة عن الله تعالى.
* ومن اللوازم الباطلة لإنكار صفة الوجه: إنكار رؤيته سبحانه في الآخرة.
(1)
نقض أبي سعيد على المريسي العنيد (ص/ 424).
(2)
مختصر الصواعق (2/ 389).
وهذا اللازم الباطل إنما هو من شُؤْمِ مخالَفة السُّنن، فالبدَع تنادي أخَواتِها؛ فإنّ لازِمَ إنكارِ وجْه الله- عز وجل إنكارُ أصلٍ آخرَ من أصول أهل السنة، والذي هو رؤية وجه الله- تعالى- في الآخرة.
قال ابن القيم:
"أن الصحابة- رضي الله عنهم والتابعين وجميعَ أهل السنة والحديث والأئمة الأربعة وأهل الاستقامة من أتباعهم متفقون على أن المؤمنين يرَون وجه ربهم في الجنة
…
فمن أنكر حقيقة الوجه لم يكن لِلنَّظر عندَه حقيقةٌ، ولا سِيَّما إذا أَنكرَ الوجه والعلوّ؛ فيعودُ النظرُ عنده إلى خيالٍ مجرَّدٍ".
(1)
* وهنا سؤال:
هل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [البقرة: 115] من آيات الصفات؟
*والجواب:
إن هذه الآية واحدةٌ ممّا شغَّب به أهلُ البدع في زعْمهم أنّ السلف يؤوّلون آياتِ الصفات، وجعلوا ذلك ذريعة للخوض بالباطل في تعطيل الصفات الإلهية التي ثبتت لله- عز وجل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
قال أبو العباس ابنُ تيمية:
"أمّا قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] فالمراد بالوجه هنا: القِبلة، أيْ قِبلةُ الله؛ لدلالة السياق على ذلك، فإنّ "أينَ" ظرفُ مكان، و"تُوَلُّوا" معناه: تَستقبلوا؛ فهذه الآية ليست من آيات الصفات، وهذا من المواضع التي قد يقع فيها الغلَط، فيُستدل بالآية على الصفة وهي لا تدل عليها، فالدلالة في كل موضع بحسب سياقه وما يَحُفُّ به من القرائن اللفظيّة والحاليّة؛ ولذلك لا يصح أن يُستدل بمثل هذه الآية على صحة التأويل؛ لأن المعنى هنا دلّ السياقُ عليه،
(1)
المصدر السابق (2/ 390)، وانظر التأويل في الصفات (ص/ 326).
وليست هذه الآية من آيات الصفات أصلًا حتى يُستدل بها على صحة التأويل".
(1)
* وهنا إشكال:
قد أورد البخاري قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ثم قال:"إِلَّا مُلْكَهُ"، فهل في هذا مخالَفة لقول أهل السنة؟
* والجواب أن يقال:
مما لا شك فيه: أن البخاري ممن يُثبت صفة الوجه لله- تبارك وتعالى على الحقيقة، ويدل على ذلك: أنه قد أورد هذه الآية مبوِّبًا لها في صحيحه في كتاب التوحيد- الذي هو مَظِنّة التنصيص على الأمور الاعتقادية- ثم أتبعَها بالحديث «أعوذُ بوجْهكَ» .
وأمّا قوله "إلّا مُلكَه" فقد أورده في كتاب التفسير، وذلك عند تفسير سورة القَصص، ومعلومٌ أنه يريد بذلك أنّ هذا مِن تفسيرها الذي تُفسَّرُ به، والذي هو قول أئمّة اللغة والسلف في التفسير.
وهذا منهج يقوم على: تفسير معاني الآيات بالقرآن والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم، والمَعرفةِ بأساليب اللغة العربية، وليس ما ذهب إليه المتكلمون، وهو صرفُ اللفظ عن ظاهره إلى معنًى آخر مع عدم إثبات الصفة.
كما أن تأويل الوجه بالمُلك قد ذكره غيرُ واحد من السلف، كما نقله شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في الفتاوى عن طاووس بن كيسانَ، فالبخاري ناقلٌ عن إمام من أئمة السلف، وهذه طريقته.
تَمَّ بحمد الله
(1)
مجموع الفتاوى (6/ 14 - 17).