المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث السابع والعشرون: بيان الحق نفسه في شرح حديث أينا لم يظلم نفسه - الأربعون العقدية - جـ ٢

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الحادى والعشرون: السنة الجارية شرح حديث الجارية

- ‌الحديث الثانى والعشرون: كشف الالتباس عن حديث أمرت أن أقاتل الناس

- ‌الحديث الثالث والعشرون: فتح البصير في بيان ما توسل به الضرير

- ‌ التوسل المختلف فيه:

- ‌الحديث الرابع والعشرون: بيان الحِكَم في شرح حديث إن الله هو الحَكَم

- ‌ الحالات التى يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله شركًا

- ‌الحديث الخامس والعشرون: ذات العماد شرح حديث حق الله على العباد

- ‌الحديث السادس والعشرون: المشكاة في شرح حديث لا تعجز واستعن بالله

- ‌الحديث السابع والعشرون: بيان الحق نفسه في شرح حديث أينا لم يظلم نفسه

- ‌الحديث الثامن والعشرون: ضوء الثريا شرح حديث من عادى لى ولياً

- ‌هل يوصف الله -تعالى- بصفة التردد

- ‌الحديث التاسع والعشرون: المعانى الراسيات شرح حديث إنى معلمك كلمات

- ‌ الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: "احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ "، وبين ما يقع لأهل الإيمان من البلاء والمحن

- ‌ أصل القضاء لا يعارض العمل:

- ‌الحديث الثلاثون: نثر الجمَّان بفوائد حديث إنهما ليعذبان

- ‌هل عذاب القبر يكون على الروح فقط، أم على الروح والبدن

- ‌الحديث الحادي والثلاثون: بلوغ الرُّبَى شرح حديث ضحك النبي تعجبا

- ‌ المخالفون لأهل السنة والجماعة في إثبات صفة اليدين:

- ‌الحديث الثانى والثلاثون: فتح الأعز الأكرم شرح حديث أي الذنب أعظم

- ‌من أتى خلاف المعهود تجاوزت عاقبته الحدود:

- ‌الحديث الثالث والثلاثون: تلخيص الخطاب شرح حديث إنك تأتى أهل كتاب

- ‌الفطرة دالة على نقض مذهب المتكلمين:

- ‌الحديث الرابع والثلاثون: درء الخوض في رد أحاديث الحوض

- ‌ حكم سب الصحابة رضى الله عنهم:

- ‌الحديث الخامس والثلاثون: البيان والتتمة شرح حديث يكون بعدى أئمة

- ‌تعريف الإمامة، وأهمية تنصيب الإمام:

- ‌ وسطية الأمة مع الأئمة:

- ‌الحديث السادس والثلاثون: ردع الجاني على حديث إن الله أفتاني

- ‌ هل السحر حقيقة أم خيال

- ‌الحديث السابع والثلاثون: دليل البيداء شرح حديث أنا أغنى الشركاء

- ‌ هل الرياء مبطل للعمل

- ‌ الشرك الخفي أشد خطورة من المسيح الدجال

- ‌أمور ليست من الرياء:

- ‌الحديث الثامن والثلاثون: نيل المأرب شرح حديث طلوع الشمس من المغرب

- ‌الحديث التاسع والثلاثون: بذل الطاقة شرح حديث صاحب البطاقة

- ‌ أليس تأويل الميزان بالعدل يستقيم لغة

- ‌ ما الذي يوزن في الميزان يوم القيامة:

- ‌ما الحكمة من نصب الموازين، مع كونه عزوجل وسع علمه أعمال العباد ومآلاتهم

- ‌ حكم من مات على الشرك الأصغر:

الفصل: ‌الحديث السابع والعشرون: بيان الحق نفسه في شرح حديث أينا لم يظلم نفسه

‌الحديث السابع والعشرون: بيان الحق نفسه في شرح حديث أينا لم يظلم نفسه

ص: 815

*نص الحديث:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ:

لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، [الأنعام: 82]، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ:{يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان/13)

* تخريج الحديث:

أخرجه البخاري (6937) كِتَابُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ، بَابُ {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، ومسلم (124) كتاب الإيمان، " باب: صدق الإيمان وإخلاصه ".

* أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

الفائدة الأولى: قول ابن مسعود رضي الله عنه:

لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ......

أهل العلم على أنه مما يدخل فى أقسام المرفوع حكماً ذكر سبب نزول الأية، فالصحابي إذا قال: هذه الآية نزلت في كذا، فلها حكم الرفع؛ لأن قول الصحابي بأن أية كذا نزلت في كذا لا يكون إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحاكم:

الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا فإنه حديث مسند.

(1)

ويقول الحافظ العراقي في ألفيته:

وَعَدُّ مَا فَسَّرَهُ الصَّحَابي

رَفْعَاً فَمَحْمُوْلٌ عَلَى الأسْبَاب.

(2)

(1)

معرفة علوم الحديث (ص/20)

(2)

ألفية العراقي المسماة بـ: " التبصرة والتذكرة في علوم الحديث "(ص/103)

ص: 817

* ومثاله:

ما ورد من قول جابر رضي الله عنه: كانت اليهود تقول: من أتى امرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]، الآية.

(1)

وهذا بخلاف سائر تفاسير الصحابة -رضى الله عنهم- التى لا يضاف شيء منها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهو داخل فى حكم موقوف.

*الفائدة الثانية: قول الصحابة رضى الله عنهم: أيُّنا لا يظلم نفسه؟

فالصحابة رضي الله عنهم حملوا اللفظ على عمومه، فشق عليهم إلى أن أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس كما ظننتم، بل كما قال لقمان عليه السلام. *فإن قلت: من أين حملوه على العموم؟

قلت: لأن قوله: (بظلم) نكرة في سياق النفي، فاقتضت التعميم، وفيه أن العام قد يطلق ويراد به الخاص، فقد حمل الصحابة - رضى الله عنهم- ذلك على جميع أنواع الظلم، فبيَّن الله - تعالى - أن المراد نوع منه.

(2)

قال ابن القيم:

لما أشكل علي الصحابة -رضى الله عنهم - المراد بالظلم، وظنوا أن من ظلم نفسه أي ظلم كان لا يكون آمناً، أجابهم بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك، وهذا - والله - الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل؛ فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها، والأمن والهدى المطلق هو الأمن في الدنيا والآخرة، فالظلم المطلق التام مانع من الأمن والهدى المطلق، ولا يمنع ذلك أن يكون مطلق الظلم مانعاً من مطلق الأمن ومطلق الهدى فتأمله، فالمطلق للمطلق والحصة للحصة.

(3)

قال الخطابي:

إنما قال الصحابة هذا القول لأنهم اقتضوا من الظلم ظاهره الذي هو الافتيات بحقوق الناس، أو الظلم الذي ظلموا به أنفسهم، من ركوب معصية أو

(1)

متفق عليه.

(2)

عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1/ 216)

(3)

الصواعق المرسلة (3/ 1058)

ص: 818

إتيان محرم، كقوله عز وجل:{والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} الآية

(1)

.

* الفائدة الثالثة: أقسام الظلم:

قد روى أنس بن مالك -رضى الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

" الظُّلْمُ ثَلَاثةٌ: فَظُلْمٌ لَا يَغْفِرُهُ اللهُ، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ، وَظُلْمٌ لَا يَتْرُكُهُ فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي

لَا يَغْفِرُهُ اللهُ تعالى:

فَالشِّرْكُ، قَالَ اللهُ:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ: فَظُلْمُ العِبَادِ أَنْفُسَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ عز وجل وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَتْرُكُهُ: فَظُلْمُ العِبَادِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقُتصُّ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ "

(2)

* ومما يستفاد من هذا الحديث أن الظلم أقسام ثلاثة:

1 -

الأول:

ظلم لا يغفره الله تعالى، وهو الشرك به، قال الله {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} ، والشرك لا يغفره الله -تعالى- بحال من الأحوال، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)) (النساء/48)

وقد ورد اطلاق الظلم على ما كان شركاً فى مواضع عدة من كتاب الله تعالى، قال تعالى (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)) (يونس/52)، وقال تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)) (البقرة/254)

2 -

الثاني:

وهو ظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، فيما دون الشرك، وهذا الظلم يغفره الله - تعالى- إن شاء فيدخل المرء الجنة بلا عذاب، ومن عُذِّب عليه فمآله إلى الجنة، كما قال تعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا

} (فاطر/32)

(1)

أعلام الحديث (1/ 162)

(2)

أخرجه أبو داود الطيالسي في " مسنده "(2/ 60) وعنه أبو نعيم في الحلية (6/ 309)، وصححه الألبانى في الصحيحة (1927)

ص: 819

وهذه مما قيل فيها أنها أرجى أيه في القرآن؛ فقد وردت واو الجماعة في قوله تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا

) عائدة على الأقسام الثلاثة، والتى منها

" الظالم لنفسه بما دون الشرك ".

3) الثالث:

وهو الظلم الذي لا يتركه الله تعالى، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

«مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ»

(1)

* وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

"أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ " قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ:

"إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"

(2)

* وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ".

(3)

قال سفيان الثوري:

إن لقيت الله -تعالى- بسبعين ذنباً فيما بينك وبين الله تعالى أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد.

(4)

(1)

أخرجه البخاري (2449) وأحمد (10573)

(2)

أخرجه مسلم (2581)، والترمذى (2418)

أي أن حقيقة المفلس هذا الذي ذكرت، وأما من ليس له مال، ومن قل ماله، فالناس يسمونه مفلساً، وليس هذا حقيقة المفلس؛ لأن هذا أمر يزول وينقطع بموته، وربما انقطع بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته، بخلاف ذلك المفلس، فإنه يهلك الهلاك التام. تحفة الأحوذي (6/ 208)

(3)

أخرجه مسلم (2582) والترمذى (2420)

وأما القصاص من القرناء والجلحاء فليس هو من قصاص التكليف إذ لا تكليف عليها بل هو قصاص مقابلة والجلحاء هي الجماء التي لا قرن لها.

(4)

تنبيه الغافلين (ص/380)

ص: 820

* لذا يقال فى تحقيق العلاقة بين وقوع الظلم وتحقق الأمن والاهتداء أن ذلك على حالات:

1 -

الحالة الأولى:

من تخلَّص من أنواع الظلم الثلاثة التي سلف ذكرها، فحقق الإيمان التام الذي لم تشبه شوائب الشرك الأكبر المنافي لجميعه، ولا الشرك الأصغر المنافي لكماله، ولا المعاصي المحبطة لثمراته من الطاعات، كان له الأمن والاهتداء التام المطلق، ومعنى الأمن المطلق هو الذي ليس معه عذاب.

2 -

الحالة الثانية:

أن يتخلَّص من أعظم الظلم، الذى هو الشرك، ولكنه قد وقع في الأنواع الأخرى فهذا له الأمن من الخلود في النار، وهو ما يسمى " مطلق الأمن "، أى:

أن معه أصل الأمن وأصل الاهتداء، وإن عوقب على بقية أنواع الظلم الأخرى، وهذا وفق مشيئة الله تعالى.

فالذين سلِموا من الشرك لهم الأمن، إما الأمن المطلق، وإما مطلق الأمن، والأمن المطلق هو الذي ليس معه عذاب، وأما مطلق الأمن فهذا الذي قد يكون معه شيء من العذاب على حسب الذنوب.

وهذا هو المراد بقوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ؛ فقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن المراد من هذه الأية ليس السلامة من مطلق الظلم، فمثل هذا لا ينفك عنه أحد، كما ورد عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضى الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تبارك وتعالى أَنَّهُ قَالَ:

(

يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ،

)

(1)

، وإنما المراد من هذه الأية هو السلامة من الظلم المطلق، والذى بتحققه ينتفى عن المرء مطلق الأمن والاهتداء، لا الأمن أو الاهتداء المطلق.

3 -

الحالة الثالثة:

وهذه لمن لم يسلم من الشرك الأكبر، وصاحبها ينتفى معه مطلق

(1)

أخرجه مسلم (2577)

ص: 821

الأمن والاهتداء، وهذا هو الظلم الأكبر المراد فى قوله تعالى (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)) (المائدة/72)، وفي قول لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان /13).

* وقد أجمل أبوالعباس ابن تيمية رحمه الله هذه المعانى السابقة فقال:

من سلم من أجناس الظلم الثلاثة؛ كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلمه نفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقاً، بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه نفسه. وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله {إنما هو الشرك} أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام؛ فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرَّضون للخوف لم يحصل لهم الأمن التام ولا الاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من غير عذاب يحصل لهم؛ بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولا بد لهم من دخول الجنة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم {إنما هو الشرك} إن أراد به الشرك الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وهو مهتد إلى ذلك.

(1)

قال ابن القيم:

الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها، والأمن والهدى المطلق هو الأمن في الدنيا والآخرة، فالظلم المطلق التام مانع من الأمن والهدى المطلق، ولا يمنع ذلك أن يكون مطلق الظلم مانعاً من مطلق الأمن ومطلق الهدى فتأمله، فالمطلق للمطلق والحصة للحصة.

(2)

(1)

مجموع الفتاوى (7/ 81)

(2)

الصواعق المرسلة (3/ 1058)

ص: 822

* وهذا هو الذى عليه أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بأنواع المظالم الثلاثة، وهم في ذلك وسط بين مدرستين قد ضَلَّتَا الفهم في هذا الباب:

1 -

مدرسة الخوارج والمعتزلة:

فعندهم أن أصحاب الكبائر الذين ماتوا مصرُّون عليها دون توبة مخلّدون في النار، فتراهم يكفِّرون بظلم النفس بالكبائر، وينفون عن صاحبه مطلق الأمن والاهتداء.

2 -

مدرسة المرجئة:

وهم يرون أن ظلم النفس بما دون الشرك لا يكون مؤثراً في كمال الإيمان الواجب، بل لصاحبه - وإن مات مصرَّاً على الكبائر- الأمن والاهتداء المطلق.

*الفائدة الرابعة:

شذوذ أهل البدع في تعريف الظلم:

1 -

قول الجهمية والأشاعرة:

قالوا في تعريف الظلم: أنه التصرف في ملك الغير، لذا فلو عذَّب الله -تعالى- المطيعين ونعَّم العاصين لم يكن ظالماً، لأن الظلم عندهم إنما هو التصرف في ملك الغير، والله - تعالى - مالك الملك، فأي فعل فعله ولو كان تعذيب أنبيائه وملائكته وأهل طاعته، وتكريم أعدائه من الكفار والشياطين لم يكن ظالماً؛ لأنه لم يتصرف إلا في ملكه.

(1)

قال الغزالي:

لله عز وجل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ومن غير ثواب لاحق؛ لأنه متصرف في ملكه، ولا يتصور أن يعدو تصرفه ملكه، والظلم هو عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهو محال على الله تعالى.

(2)

(1)

وقريبٌ من هذا الفهم المغلوط ما نص عليه ابن حزم في "الدرة"(ص/435):

أن الله - تعالى- ولو عذَّب أنبيائه وملائكته وأهل طاعته، وكرَّم أعدائه من الكفار والشياطين لم يكن ظالماً لهم، ولكنه لم يفعله؛ لأنه قد نفى عن نفسه فعل ذلك!!

وهذا الكلام منه على ما فيه من وجه صحة، ولكنه ناقص الحق؛ فثمة سبب آخر هو الرئيس لامتناع ما ذكر؛ وهو أنه منافٍ لعدله ورحمته وحكمته، فالله - تعالى- منزَّه عن العبث.

ولكنَّ ابن حزم إذ علَّل بما ذكر فعلْة ذلك هو سيره على قاعدته في نفي معاني الأسماء الحسنى وحقائقها.

(2)

قواعد العقائد (ص/204)

ص: 823

2 -

قول المعتزلة:

وهؤلاء يقولون: إن الظلم مقدور لله تعالى، ولكنه تعالى منزَّه عنه، وهذا حق، ولكنَّ هذا قد جرَّهم إلى القول بالقدر، فهم قدرية نفاة لخلق الله -تعالى- لأفعال العباد، فالله -تعالى- لما كان عدلاً لا يظلم أحداً فقد اقتضى ذلك -عندهم -ألا يكون خالقاً لأفعال العباد؛ لأنه لو كان خالقاً لها ثم عاقبهم عليها لكان ظالماً.

(1)

والعدل عند المعتزلة أحد الأصول الخمسة التى بنوا عليهم مذهبهم، وتعرفيه عندهم كما سبق ذكره هو القول بالقدر.

3 -

قول أهل السنة:

قالوا: الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهذا معناه في اللغة، فالظلم الذي حرمه الله - تعالى - على نفسه هو أنه سبحانه لا يحمل المرء سيئات لم يفعلها، ولا يعذِّب المرء إلا بما كسبت يداه، كما قال تعالى

(الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)) (غافر/17)، وقال سبحانه (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)) (الأنعام/160)

وكما ورد في حديث عبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو-رضى الله عنهما- أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:

" إِنَّ اللهَ عز وجل يَسْتَخْلِصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ:

" أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ قَالَ: لَا، يَا رَبِّ،

"

(2)

(1)

وقد نص القاضي عبد الجبار المعتزلى على مستند المعتزلة فى نفيهم لخلق أفعال العباد، فذكر وجوهاً تزيد عن الخمسين، ومن أراد الوقوف عليها فليراجع كتابه "المغنى في أبواب التوحيد والعدل "(8/ 180 - 220) =

=فكان مما ذكر: " وكان مما ذكر: كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم، وهو خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه فيهم؟! وانظر شرح الطحاوية (ص/497) والمعتزلةو أصولهم الخمسة (ص/179)

(2)

أخرجه أحمد (6994) والترمذي (2639) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

ص: 824

قال أبو العباس ابن تيمية:

فقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} قال أهل التفسير من السلف: لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه سيئات غيره، ولا يهضم فينقص من حسناته.

(1)

* لذا فالقول ما قاله أهل السنة:

أن معنى الظلم المنفي عن الله سبحانه وتعالى-هو وضع الشيء في غير موضعه، بأن يزيد في سيئاته أو أن يحمل عليه أوزار غيره، أو أن ينقصه من حسناته شيئاً. فالظلم المنفي عن الله - تعالى - ما هو ممكن، وليس ممتنعاً لذاته؛ لكنَّ الله -تعالى - نفاه عن نفسه ونزَّه نفسه عنه وحرَّمه على نفسه لأنه لا يليق به عز وجل؛ فإن الله - تعالى - لا يظلم لكمال عدله.

* الرد على الأشاعرة والجهمية:

1) هذا التفسير تفسير باطل، ولازمه الذى لا ينفك عنه هو نفي الحكمة عن الله عزوجل، ومعلوم أن كون الله عز وجل يعذب الناس بلا ذنب هذا عبث ولا حكمة فيه، ومثل هذا مما ينزه الله - تعالى - عنه.

قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} (ص: 28) وقال تعالى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} (الجاثية: 21).

* لذا فمن الخطأ البيِّن الذى راجع فيه أهل العلم صاحب العقيدة السفارينية فى قوله:

وَجَاز للْمولى يعذَّب الورى

من غير مَا ذَنْب وَلَا جرم جرى.

فَكل مَا مِنْهُ تَعَالَى يجمل

لِأَنَّهُ عَن فعله لَا يسْأَل.

فهذا القول الذي ذكره المؤلف ظن أنه مذهب أهل السنة، وليس هذا هو مذهب أهل السنة، بل هو مذهب الأشاعرة ومن وافقهم من متأخري بعض أهل السنة من

(1)

مجموع الفتاوى (18/ 144)

ص: 825

المالكية والشافعية والحنابلة.

قال ابن العثيمين:

ولكن هذا القول باطل؛ لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)(هود: 117)، والتعليل لذلك بقوله " فَكل مَا مِنْهُ تَعَالَى يجمل.. " تعليل باطل؛ فتعذيب المطيع القائم بأمر الله -تعالى - ليلاً ونهاراً حتى مات، لا أحد يشك في أنه ظلم وأنه غير جميل.

أما التعليل الثاني في قوله: (لأنه عن فعله لا يسأل) فهذا صحيح، فالله - تعالى - لا يسأل عما يفعل، فلا يسأل لماذا هدي هذا الرجل حتى استقام، ولماذا أضل الآخر حتى انحرف، فلا يسأل عن هذا؛ لأن الله له الحكمة فيما قدَّر، لكن بعد أن يوجد السبب المقتضي للثواب أو العقاب، فلو أن الله -تعالى - عاقبه لكان هناك سؤال عن سبب معاقبة الله لهذا الرجل، ولهذا أيضاً يسقط هذا التعليل.

(1)

* فإن قيل:

فإذا قال قائل: أليس الخلق كله ملكاً لله -تعالى - فله أن يفعل في ملكه ما شاء؟

فالجواب: بلى، ولكن نقول: هو نفسه عز وجل أخبر بأنه لا يمكن أن يظلم أحداً، ولا يمكن أن يعذب طائعاً، فيكون هذا الشيء - أي تعذيب المطيع - ممتنعاً بمقتضى خبر الله عز وجل، وبمقتضى أسمائه وصفاته، وأنه عز وجل احكم الحاكمين واعدل العادلين.

(2)

وعليه فنسبة ذلك غلط على أهل السنة، كما قرر هذا شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وكثير من محققي العلم، والمذهب المنسوب إلى السلف هو ما تقدم تقريره من أن الله لا يعذِّب إلا بذنب.

* يؤيده ما يلى:

1 -

الأدلة الشرعية التى نصت على عدم إيقاع العقاب على من كان معذوراً بجهله،

(1)

شرح العقيدة السفارينية (ص/341)

(2)

المصدر السابق (ص/341)

ص: 826

كما قال تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)) (الإسراء/15)،

وقال تعالى (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)) (الأنعام/131)

أي: إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب، لئلا يعاقب أحد بظلمه، وهو لم تبلغه دعوة، ولكن أعذرنا إلى الأمم، وما عذبنا أحداً إلا بعد إرسال الرسل إليهم.

(1)

وقال تعالى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)) (هود/117) فأخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين.

وعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ- رضى الله عنه-عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ، فَأَمَّا الْأَصَمُّ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ، فَيَقُولُ: رَبِّ، قَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونَنِي بِالْبَعَرِ، وَأَمَّا الْهَرِمُ، فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ، فَيَقُولُ: رَبِّ،

مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا".

(2)

فهذه الأدلة الشرعية قد أفادت بما لا يدع مجالاً للشك أن الله -تعالى- لا يعذِّب من فعل ذنباً -ولو كان شركاً- إذا لم تبلغه الرسالة والحجة، فكيف يعذّب أولياءه الذين عاشوا طائعين عابدين، لا يعصون الله - تعالى - ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟!!

2 -

أننا مأمورون شرعاً أن نؤمن بجميع ما صح من أسماء الله -تعالى- وصفاته، فكما أننا نؤمن باسم الله الملك، الذى له الملك المطلق، فكذلك علينا أن نؤمن باسم الحكيم، ومعناه أنه سبحانه الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلْقه وأمره، لذا فالقول أن مالك الملك لو عذَّب أهل طاعته، وكرَّم أعداءه لم يكن ظالماً؛

(1)

تفسير القرآن العظيم (3/ 341)

(2)

أخرجه أحمد (16301) وصححه الألبانى في الصحيحة" (1434)

ص: 827

لأنه لم يتصرف إلا في ملكه فهذا كلام من البطلان البيِّن؛ فهذه غفلة عظيمة عن الإيمان باسم الله الحكيم، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟!!.

* إشكال:

قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(لو أنّ الله عذَّب أهلَ سماواته وأهلَ أرضه عذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم).

(1)

الجواب:

أن معنى الحديث أن الله -تعالى- لو وضع عدله على أهل سماواته فحاسبهم بنعمه عليهم وأعمالهم لصاروا مدينين له، فلو حاسبهم على نعمة واحدة - كنعمة البصر مثلاً- لاستوفت ولرجحت على جميع ثواب أعمالهم وطاعاتهم التى بذلوها، وحينئذ يكون المرء مديناً لربه - تعالى- بسائر نعمه التى ما أدى حقها، وحينئذ

فلو عذَّبهم الله لعذبهم وهو غير ظالم لهم؛ وما ذلك إلا لتقصيرهم في شكر نعمه عليهم.

(2)

قال ابن رجب:

لا نجاة للعبد بدون المغفرة والعفو والرحمة والتجاوز، وأنه متى أقيم العدل المحض عَلَى عبد هَلك.

ومما يبين ذلك أيضًا قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، فهذا يدلُّ عَلَى أن الناسُ يسألون عن النعيم في الدُّنْيَا، وهل قاموا بشكره أم لا؟

فمن طولب بالشكر عَلَى كل نعمة من عافية وستر وصحةِ جسم وسلامة حواسٍّ وطيب عيش واستُقصي ذلك عليه، لم تَفِ أعمالُهُ كلُّها بشكر بعض هذه النعم، وتبقى سائر النعم غير مقابلة بشكر فيستحق صاحبها العذاب بذلك.

(3)

(1)

أخرجه أبوداود (4699)، وانظر صَحِيح الْجَامِع (5244)

(2)

تنبيه:

ما روي من حديث الرجل الذى عبد الله خمسمائة سنة، وأن الله سيقول:" أدخلوا عبدي الجنة برحمتي "، فيقول الله:"قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله "، فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة وبقيت نعمة الجسد فضلا عليه، فيقول أدخلوا عبدي النار فيجر إلى النار فينادي رب برحمتك أدخلني الجنة..... "

فهو حديث ضعيف، أخرجه الحاكم في المستدرك (54250) والعقيلي في " الضعفاء"(165)

، وفى سنده سليمان بن هرم، قال الحافظ الذهبي: سليمان غير معتمد. قال العقيلي: " مجهول، وحديثه غير محفوظ "، قال الأزدي: لا يصح حديثه. وانظر المغني في الضعفاء (1/ 284) ولسان الميزان (4/ 180)،

وقد وذكر الألبانى هذا حديث في ضعيف الترغيب والترهيب (ح/ 2099).

(3)

المحجة في سير الدلجة، وهى رسالة من مجموعة "رسائل ابن رجب (4/ 401) "

ص: 828

2) قولهم بأن " الظلم الذى نفاه الله - تعالى - عن نفسه ممتنع لذاته " كلام باطل من وجوه:

أ) الأول:

تفسير نفي الظلم عن الله -تعالى- بالامتناع عليه ليس فيه مدح ولا كمال، وإنما المدح والكمال أن يقال إن الله - سبحانه- منزَّه عن الظلم، وأنه لا يفعله لكمال عدله، والمدح إنما يكون بترك المقدور عليه، لا بترك الممتنع، فعلم أن من الممكنات ما هو ظلم تنزَّه الله - تعالى- عنه مع قدرته عليه، وبذلك استحق الحمد؛ لأن الحمد إنما يقع بالأمور الاختيارية من فعل أو ترك.

(1)

ب) الثانى:

قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} (طه/112)

ووجه الدلالة:

أن نفي الظلم لو كان على وجه الامتناع لم يكن ثمة فائدة من نفي الخوف من تحققه، فالذي يُخاف إنما هو الممكن.

* يؤيده:

ما ورد عن أَبِي ذَرٍّ- رضى الله عنه- أنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تبارك وتعالى أَنَّهُ قَالَ:

"يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا،

"

(2)

ووجه الدلالة:

أن الممتنع لذاته لا يُحتاج إلى تحريم؛ لأنه ممتنع لذاته، وبيان ذلك أنه ليس لشخص أن يقول -مثلاً - حرَّمت على نفسي أن أطير في الهواء؛ ولا يقال:

" إن فلاناً الأعمى يغض بصره عن النساء!! "؛ لأن هذا ممتنع لذاته، وليس رغبة عنه، فالذي يحرم لا يتوجه إلا لما كان ممكناً.

(3)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

الأمر الذى لا يمكن القدرة عليه لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته، وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادراً عليها، فعلم أن الله قادر على ما نزه نفسه عنه من الظلم وأنه لا يفعله، والذى حرَّمه على

(1)

مباحث الربوبية والقدر (ص/224)

(2)

أخرجه مسلم (2577) وأحمد (21458)

(3)

شرح السفارينية للشيخ حمد الحمد (ص/71)

ص: 829

نفسه هو أمر مقدور عليه، لكنه لا يفعله لأنه حرَّمه على نفسه، وهو سبحانه منزَّه عن فعله مقدَّس عنه.

(1)

* الرد على المعتزلة:

أما قولهم: " أن الله -تعالى- لا يظلم، وأن عدله يقتضي ألا يكون خالقاً لأفعال العباد؛ لأنه لو كان خالقاً لها ثم عاقبهم عليها لكان ظالماً لهم!!!

* فالرد من وجوه:

1) الأول:

إنه -تعالى -إنما يعذبهم على ما أحدثوه من ذنوب، وكان بمشيئتهم وقدرتهم، وكونه تعالى خالق أفعالهم لا يمنع أن تكون أفعالهم مضافة إليهم على الحقيقة، فلا تعارض بين الأمرين إلا عند من ضاق أفقه.

2) الثاني:

إن ما يبتلى به العبد من الذنوب، وإن كانت خلقاً لله تعالى، فهي عقوبة للعبد على ذنوب قبلها، وبما كسبت أيدى الناس، فالذنب يكسب الذنب، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها، فالذنوب والأمراض التي يورث بعضها بعضاً.

يبقى أن يقال:

فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب؟

يقال: هو عقوبة أيضا على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له، وفطره على محبته وتألهه والإنابة إليه، كما قال تعالى:

{فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها} [الروم: 30].

فإن لم يفعل ما خلق له وفطر عليه، من محبة الله وعبوديته، والإنابة إليه - عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، فإنه صادف قلبا خاليا قابلا للخير والشر، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر، كما قال تعالى:{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} [يوسف: 24] ....... ، وأما إذا صادفه فارغاً من ذلك، تمكن منه بحسب فراغه، فيكون جعله مذنبا مسيئا في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص. وهي محض العدل.

*فإن قلت:

فذلك العدم من خلقه فيه؟

(1)

مجموع الفتاوى (18/ 144)

ص: 830

قيل:

هذا سؤال فاسد، فإن العدم كاسمه، لا يفتقر إلى تعلّق التكوين والإحداث به، فإن عدم الفعل ليس أمراً وجودياً حتى يضاف إلى الفاعل، بل هو شر محض، والشر ليس إلى الله سبحانه.

(1)

*ومما قاله المعتزلة:

الله -تعالى -عدل لا يظلم أحداً، وأفعال العباد فيها ظلم كثير، فلو كان الله - خالقاً- لأفعال العباد لكان متصفاً بالظلم!!!

(2)

* والجواب:

هذا الإلزام غير صحيح؛ لأن كون الباري تعالى خالقاً لا يوجب أن يتصف بما خلق من ظلم وكذب وطاعة ومعصية؛ لأن هذه الصفات؛ إنما هي لمن قامت به، وليس لمن خلقها.

فالصفات وصف لمن قامت به، فالظلم مثلاً: صفة للظالم، ولا يكون صفة لله تعالى، فصح أن خلقه تعالى لهذه الصفات لا يلزم وصفه بها.

قال أبو العباس ابن تيمية:

كون الفعل قبيحاً من فاعله لا يقتضي أن يكون قبيحاً من خالقه; لأن الخالق خلقه في غيره لم يقم بذاته، فالمتصف به من قام به الفعل لا من خلقه في غيره.... والله -تعالى- إذا خلق الإنسان هلوعاً جزوعاً - كما أخبر تعالى بقوله:{إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعاً} [سورة المعارج: 19 - 21] - لم يكن هو سبحانه لا هلوعاً ولا جزوعاً ولا منوعاً، كما تزعم القدرية أنه

إذا جعل الإنسان ظالماً كاذباً كان هو ظالماً كاذباً، تعالى عن ذلك.

(3)

تم بحمد الله تعالى.

(1)

وانظر شرح الطحاوية (ص/442) والمعتزلة وأصولهم الخمسة (ص/183)

(2)

يقول القاضي عبد الجبار المعتزلى: " وفى أفعال العباد ما هو ظلم وجور، فلو كان تعالى خالقاً لها لوجب أن يكون ظالما جائراً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. (شرح الأصول الخمسة (ص/345))

(3)

منهاج السنة (2/ 294)

ص: 831