المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من أتى خلاف المعهود تجاوزت عاقبته الحدود: - الأربعون العقدية - جـ ٢

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الحادى والعشرون: السنة الجارية شرح حديث الجارية

- ‌الحديث الثانى والعشرون: كشف الالتباس عن حديث أمرت أن أقاتل الناس

- ‌الحديث الثالث والعشرون: فتح البصير في بيان ما توسل به الضرير

- ‌ التوسل المختلف فيه:

- ‌الحديث الرابع والعشرون: بيان الحِكَم في شرح حديث إن الله هو الحَكَم

- ‌ الحالات التى يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله شركًا

- ‌الحديث الخامس والعشرون: ذات العماد شرح حديث حق الله على العباد

- ‌الحديث السادس والعشرون: المشكاة في شرح حديث لا تعجز واستعن بالله

- ‌الحديث السابع والعشرون: بيان الحق نفسه في شرح حديث أينا لم يظلم نفسه

- ‌الحديث الثامن والعشرون: ضوء الثريا شرح حديث من عادى لى ولياً

- ‌هل يوصف الله -تعالى- بصفة التردد

- ‌الحديث التاسع والعشرون: المعانى الراسيات شرح حديث إنى معلمك كلمات

- ‌ الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: "احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ "، وبين ما يقع لأهل الإيمان من البلاء والمحن

- ‌ أصل القضاء لا يعارض العمل:

- ‌الحديث الثلاثون: نثر الجمَّان بفوائد حديث إنهما ليعذبان

- ‌هل عذاب القبر يكون على الروح فقط، أم على الروح والبدن

- ‌الحديث الحادي والثلاثون: بلوغ الرُّبَى شرح حديث ضحك النبي تعجبا

- ‌ المخالفون لأهل السنة والجماعة في إثبات صفة اليدين:

- ‌الحديث الثانى والثلاثون: فتح الأعز الأكرم شرح حديث أي الذنب أعظم

- ‌من أتى خلاف المعهود تجاوزت عاقبته الحدود:

- ‌الحديث الثالث والثلاثون: تلخيص الخطاب شرح حديث إنك تأتى أهل كتاب

- ‌الفطرة دالة على نقض مذهب المتكلمين:

- ‌الحديث الرابع والثلاثون: درء الخوض في رد أحاديث الحوض

- ‌ حكم سب الصحابة رضى الله عنهم:

- ‌الحديث الخامس والثلاثون: البيان والتتمة شرح حديث يكون بعدى أئمة

- ‌تعريف الإمامة، وأهمية تنصيب الإمام:

- ‌ وسطية الأمة مع الأئمة:

- ‌الحديث السادس والثلاثون: ردع الجاني على حديث إن الله أفتاني

- ‌ هل السحر حقيقة أم خيال

- ‌الحديث السابع والثلاثون: دليل البيداء شرح حديث أنا أغنى الشركاء

- ‌ هل الرياء مبطل للعمل

- ‌ الشرك الخفي أشد خطورة من المسيح الدجال

- ‌أمور ليست من الرياء:

- ‌الحديث الثامن والثلاثون: نيل المأرب شرح حديث طلوع الشمس من المغرب

- ‌الحديث التاسع والثلاثون: بذل الطاقة شرح حديث صاحب البطاقة

- ‌ أليس تأويل الميزان بالعدل يستقيم لغة

- ‌ ما الذي يوزن في الميزان يوم القيامة:

- ‌ما الحكمة من نصب الموازين، مع كونه عزوجل وسع علمه أعمال العباد ومآلاتهم

- ‌ حكم من مات على الشرك الأصغر:

الفصل: ‌من أتى خلاف المعهود تجاوزت عاقبته الحدود:

*نص حديث الباب:

عن عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضى الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:

أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ» ، قُلْتُ:

إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ»

*تخريح الحديث:

أخرجه البخارى (4477) كتاب تفسير القرآن، بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]

ومسلم (86) كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب، وبيان أعظمها بعده. (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك).

* أهم الفوائد المستنبطة من حديث الباب:

1 -

الفائدة الأولى:

‌من أتى خلاف المعهود تجاوزت عاقبته الحدود:

والمعنى:

أن المرء إذا ما أتى خلاف ما يُعهد من حاله، سواء أكان ذلك بالخير أو بالسوء، فإن عاقبته تكون عظيمة، فإن كان فعله هذا فى باب الطاعات كان أجره عظيماً، وإن كان فعله هذا فى باب السيئات كان وزره عظيماً، وهذا مما يُستقرأ من أدلة الشرع، ولهذا أمثلة كثيرة، نذكرمنها ما يلى:

1 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ"

(1)

فكل واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه، وعدم ضرورته

(1)

أخرجه مسلم (107) والنسائى (2575)

ص: 931

إليها، وضعف دواعيها عنده - وإن كان لا يعذر أحد بذنب - لكن لمَّا لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مزعجة، ولا دواعي معتادة، أشبه إقدامهم عليها المعاندة والاستخفاف بحق الله تعالى، وقصد معصيته، لا لحاجة غيرها؛ فإن الشيخ لكمال عقله، وضعف أسباب الجماع والشهوة للنساء، عنده ما يريحه من دواعي الحلال في هذا، فكيف بالزنا الحرام؟!

وكذلك الإمام لا يخشى من أحد من رعيته، ولا يحتاج إلى مداهنته ومصانعته؛ فإن الإنسان إنما يداهن ويصانع بالكذب وشبهه من يحذره، ويخشى أذاه ومعاتبته، أو يطلب عنده بذلك منزلة أو منفعة، وهو غني عن الكذب مطلقاً.

وكذلك العائل الفقير، قد عُدِم المال، وإنما سبب الفخر والخيلاء والتكبر والارتفاع على القرناء، الثروة في الدنيا، لكونه ظاهراً فيها؛ فإذا لم يكن عنده أسبابها، فلماذا يستكبر ويحتقر غيره؟!

فلم يبق فعله، وفعل الشيخ الزاني، والإمام الكاذب، إلا لضرب من الاستخفاف بحق الله تعالى.

(1)

2 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: .. وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ ".

(2)

وإنما خص الشاب لكونه مظنة غلبة الشهوة، لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى؛ فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد، لذا فقد ورد عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ-رضى

الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

" إِنَّ اللهَ لَيَعْجَبُ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ ".

(3)

3 -

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ثَلَاثَة يُحِبهُمْ الله، ويضحك إِلَيْهِم، ويستبشر بهم:

الَّذِي إِذا انكشفت فِئَة، قَاتل وَرَاءَهَا بِنَفسِهِ لله عز وجل؛ فإمَّا أَن يُقتل، وَإِمَّا أَن ينصره الله عزوَجل، ويكفيه؛ فَيَقُول: انْظُرُوا إِلَى عَبدِي هَذَا، كَيفَ صَبر لي بِنَفسِهِ،

(1)

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (1/ 393)

(2)

متفق عليه.

(3)

أخرجه أحمد (17371)، انظر الصحيحة (2843)

ص: 932

وَالَّذِي لَهُ امْرَأَة حَسَنَة، وفراش لين حسن؛ فَيقوم من اللَّيْل، فَيَقُول:

يذر شَهْوَته، ويذكرني، وَلَو شَاءَ رقد، وَالَّذِي إِذا كَانَ فِي سفر، وَكَانَ مَعَه ركب، فسهروا، ثمَّ هجعوا؛ فَقَامَ من السحر، فِي ضراء وسراء.

(1)

* وحديث الباب شاهد لهذه القاعدة:

فإن المشرك يعلم قطعاً ويقيناً أن الله -تعالى- هو خالقه، ورغم ذلك تراه يتوجه لغير الله -تعالى- بالعبادة والدعاء.

وهذا نحو قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، ومعناه:

أن اتّخاذ الإنسان إلهًا غير خالقه المنعم عليه، مع علمه بأن ذلك المتَّخَذ ليس هو الذي خلقه، ولا الذي أنعم عليه، من أقبح القبائح، وأعظم الجهالات، وعلى هذا، فذلك أكبر الكبائر، وأعظم العظائم.

(2)

قال الطبرى:

نهاهم الله -تعالى-أن يشركوا به شيئاً، وأن يعبدوا غيره، أو يتخذوا له نداً وعدلًا في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم، ونعمي التي أنعمتها عليكم فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكا وندا من خلقي، فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم فمني.

(3)

وكذلك الذي يقتل ولده مخافة أن يطعم معه، وهو في نفسه يطلب من الله طعمته، فماذا عليه من غيره حتى يقتله؟!

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ»

قال النووي:

ومعنى تزاني: أى تزني بها برضاها، وذلك يتضمن الزنى وإفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني، وذلك أفحش وهو مع امرأة الجار أشد قبحاً

(1)

رواه الحاكم في "المستدرك"(68)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(931)، وقال الهيثمي في "المجمع" (2/ 525):" رجاله ثقات "، وحسنه الألباني في "الصحيحة"(3478)، وفي "صحيح الترغيب والترهيب"(629).

(2)

المفهم (1/ 280)

(3)

جامع البيان في تأويل القرآن (1/ 370)

ص: 933

وأعظم جرماً؛ لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنى بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية من القبح.

(1)

وقد كان العرب يتشددون في حفظ ذمة الجار، ويتمادحون بحفظ امرأة الجار، كما قال عنترة:

* وَأَغُضُّ طَرفِي مَا بَدَت لِي جَارَتِي

حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي مَأوَاهَا *

وقال مسكين الدارمي:

أَعْمَى إذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ

حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي الْخِدْرُ.

*الحاصل:

أن حديث الباب لما نص على مخالفات حرمها الله تعالى، وكانت تخالف المنقول: حيث حرَّمت الشريعة هذه الأمور، وتخالف المعقول: حيث مجيئها على خلاف المعهود، ناسب ذلك أن تكون هى أعظم الذنوب عند الله تعالى.

وقد ذكر ابن مسعود رضي الله عنه أن رَسُول- اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لما سئل: أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ؟

، فقَالَ:«أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قُيل: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ:

«ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قُيل: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ»

قَالَ ابن مسعود رضى الله عنه:

وَنَزَلَ قوله تعالى {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ

اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(2)

*عودٌ إلى حديث الباب:

قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل: " أيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ "؟

قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ» :

والمعنى:

أن الذى خلق -سبحانه- هو الأحق أن يُفرد بالعبادة، فلا يُشرك معه غيره من خلقه، ولا يُجعل معه سميٌ؛ فإن الله -تعالى- لا سمي له، ولا كفء له ولا ند

(1)

وانظر المنهاج للنووى (1/ 357) والتوضيح لشرح الجامع الصحيح (22/ 27)

(2)

متفق عليه. وانظر الاستيعاب في بيان الأسباب (2/ 16)

ص: 934

له، ولا يُقاس بخلقه.

ولذا فحديث الباب يوضح لنا واحدة من العلاقات المهمة بين أقسام التوحيد.

* العلاقة بين أقسام التوحيد:

هي أنواع ثلاثة: علاقة تلازم، وعلاقة تضمن، وعلاقة شمول.

1 -

توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية.

2 -

توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية.

3 -

توحيد الأسماء والصفات شامل للنوعين معًا.

*وللتوضيح نضرب الأمثلة على ذلك كما يلى:

1 -

الأمر الأول:

*توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية*

فلا شك أن المقر لربه -تعالى- أنه خالقه ورازقه ومحييه ومميته ومدبر أمره، فلا بد أن يفرده بالعبادة.

فالمقدمة الأولى مستلزمة بلا شك لهذه النتيجة؛ ولهذا كانت هي محل خطاب الأنبياء والرسل لأقوامهم لإقامة الحجة عليهم.

ففى مناظرة إبراهيم عليه السلام قد أبان لهم هذه الحجة التى يذعن لها كل منصف، ففى ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

قال تعالى حاكياً عن ذلك (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)) (الشعراء 75 - 81)

وفى قصة مؤمن آل ياسين قال (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)) (يس: 22 - 23)

وقال الله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)) (الفاتحة /2)، فكل الحمد لله عزوجل -وهذا من توحيد الألوهية- لأنه رب العالمين.

وفى أول أمر فى كتاب الله، قال عزوجل (يَاأَيُّهَا

ص: 935

النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)) (البقرة/21)

وفي سورة النمل مثالٌ رائع للإلزام الإلهي بإفراد العبادة له استدلالاً بربوبيّتة وذلك في آياتٍ متتاليات: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)) (النمل/60)

* ومن الأمثلة القرآنية البديعية فى تقرير وإرساء هذا المعنى ما ورد فى قوله تعالى:

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)} (النحل: 28)

فهل أحد من عبيدكم وإمائكم الأرقاء يشارككم في رزقكم، وترون أنكم وهم فيه على حد سواء؟!!

وهذا من أعجب الأشياء ومن أدل شيء على سفه من اتخذ شريكاً مع الله -تعالى- وأن ما اتخذه باطل مضمحل ليس مساوياً لله -تعالى-ولا له من العبادة شيء.

(1)

* ومن السنة:

حديث الباب، حيث جاء الإنكار على من يجعل لله -تعالى- نداً، على الرغم من أن الله -تعالى- هو الذى خلق العبد (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)) (لقمان/11)

قال القرطبي:

قوله صلى الله عليه وسلم: " أن تدعو لله نداً وهو خلقك " الند: المثل، وجمعه: أنداد، وهو نحو قوله تعالى:(فَلَا تَجعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُم تَعلَمُونَ)

ومعناه: أن اتخاذ الإنسان إلهاً غير خالقه المنعم عليه، مع علمه بأن ذلك المتخذ ليس هو الذي خلقه، ولا الذي أنعم عليه: من أقبح القبائح، وأعظم الجهالات؛ وعلى هذا فذلك أكبر الكبائر، وأعظم العظائم.

(2)

قال ابن القيم:

والإلهية التى دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها: هى العبادة

(1)

تيسير الكريم الرحمن (ص/640)

(2)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 280)

ص: 936

والتأليه، ومن لوازمها: توحيد الربوبية الذى أقر به المشركون، فاحتج الله -تعالى- عليهم به، فإنه يلزم من الإقرار به الإقرار بتوحيد الإلهية.

(1)

وبناء على علاقة الاستلزام بين توحيد الإلوهية وتوحيد الربوبية فقد حكم القرآن بكفر من جعل لله -تعالى - نداً فى الدعاء، وإن كان مقراً فى الجملة بتوحيد الربوبية.

فلم يك ينفعهم إيمانهم بالله -تعالى- الرب المدبر المحيي المميت مع إشراكهم به فى الدعاء، بالتوجه إلى الوسائط ودعائها من دون الله تعالى.

فإن الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتقدوا فى اللات والعزة ومناة قدرة على الخلق ولا الإحياء ولا التدبير، ولا غير ذلك من صفات الربوبية، بل جعلوها قربة وقبلة لدعائهم يتقربون بها الله -تعالى- زلفى، وقالوا " مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى".

ومع ذلك فقد حكم الله -تعالى- عليهم بالكذب فى دعواهم وبالكفر في دعائهم، فقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)) (الزمر: 3).

قال ابن أبي العز:

فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء النظَّار؛ ويفنى فيه كثير من أهل التصوف؛ ويجعلونه غاية السائلين، وهو مع ذلك لم يعبد الله وحده، ولم يتبرأ من عبادة ما سواه كان مشركًا، من جنس أمثاله من المشركين.

(2)

قال عكرمة في قوله تعالى (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وهم مشركون)(يوسف/106) قال:

يسألهم من خلقهم ومن خلق السماوات والأرض فيقولون الله، فذلك إيمانهم،

وهم يعبدون غيره.

(3)

(1)

إغاثة اللهفان (2/ 135)

(2)

شرح العقيدة الطحاوية (ص/36)

(3)

ذكره ابن حجر فى الفتح (13/ 494) وقال: بأسانيد صحيحة عن عطاء وعن مجاهد نحوه.

كما ذكرها ابن كثير فى تفسير القرآن العظيم (4/ 419) عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

ص: 937

قال أبو العباس ابن تيمية:

والشرك في الربوبية هو إثبات فاعل مستقل غير الله، وجمهور العرب لم يكن شركها من هذا الوجه، بل كانت مقرة بأن الله -تعالى- خالق كل شيء وربه ومليكه، وإنما كان من شرك فى الإلهية، فإثبات التوحيد في النوع الثاني يتضمن الأول، من غير عكس.

(1)

وقال رحمه الله:

كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمروالكواكب، ويدعوها كما يدعو الله تعالي، ويصوم لها، وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول:

إن هذا ليس بشرك: وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك.

(2)

لذا فمن الغلط البيِّن ما ادعاه مرجئة المتكلمين من الزعم أن دعاء غير الله -تعالى- لا يكون شركاً إلا إذا اعتقد فيمن يدعوه من دون الله -تعالى- أنه شريك مع الله فى أفعاله أو في صفاته أو ذاته.

(3)

2 -

الأمر الثانى:

توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية:

فتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس، فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزاً، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، كما قال تعالى {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)}. (الإسراء: 42)

*وكذلك:

فإن من عبد الله -تعالى- ولم يشرك به شيئًا فهذا يدل ضمناً على اعتقاده وإقراراه بأن الله -تعالى- هو ربه ومالكه الذي لا رب غيره.

3 -

الأمر الثالث:

*توحيد الأسماء والصفات فهو شامل للنوعين معاً*

وذلك لأنه يقوم على إفراد الله - تعالى- بكل ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى التي لا تنبغي إلا له سبحانه وتعالى، والتي من جملتها:

" الرب - الخالق -

(1)

درء التعارض (7/ 186)

(2)

المصدر السابق (1/ 227)

(3)

وانظر نواقض الإيمان القولية والعملية (ص/143) وضوابط التكفير (ص/173)

ص: 938

الرازق - الملك.. "، وهذا هو توحيد الربوبية.

ومن جملتها: " الله - الغفور- الرحيم - التواب.... "، وهذا هو توحيد الألوهية.

*توحيد الألوهية رأس الأمر وذروة سنامه:

فتوحيد الألوهية هو الذي وقع فيه شرك غالب البشر، إذ إن المشركين كانوا يعترفون بأن الله -تعالى- هو الخالق لجميع الموجودات، ومعلوم أن الأنبياء والرسل قد جاؤوا بتقرير توحيد الربوبية، ففي القرآن المجيد أدلة قاطعة في إثباته، ولكن إذا تأملت عموم كتب الأنبياء، والقرآن خصوصاً وجدتها قد جعلت إثبات توحيد العبادة هو قطب الرحى، فهو أساس دعوة القرآن، وهو خلاصة معنى لا إله إلا الله، يقول تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)

فبعثة الرسل إنما كانت لتقرير توحيد العبادة، لا الإثبات أنه تعالى خالق لجميع المخلوقات فقط، إذ المشركون كانوا يقرون بالخالقية لله وحده.

ولهذا وردت آيات من القرآن في تقرير انفراده تعالى بالخلق بصيغة الاستفهام الإنكاري؛ لأن المشركين لم ينكروا ذلك بل يعترفون به، قال تعالى:

(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)) (فاطر: 3)، وقال تعالى (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (إبراهيم: 10)

فهذه الآيات تشير إلى أن المشركين لم يجعلوا مع الله -تعالى- شركاء في خلقه للسماوات والأرض، ومثلهم النصارى عندما أشركوا بالمسيح ومريم عليهما السلام، وكذلك الذين أشركوا بالكواكب والملائكة لم يعتقدوا أنها الرازق المحيي المميت، بل جعلوها شريكا مع الله تعالى في عبادتهم واتخذوها شفعاء، كما حكى الله تعالى قولهم:(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)(يونس: 18)

(1)

(1)

توحيد العبادة لشريعت سنكلجى (ص/43)

ص: 939

*عودٌ إلى حديث الباب:

- الفائدة الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدّاً، ..

تعريف الشرك في الاصطلاح:

مساواة غير الله -تعالى-فيما هو من خصائص الله -تعالى- من الأسماء أو الصفات أو الربوبية أوالألوهية، كما في قوله تعالى:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين} (سورة الشعراء: 97 - 98.)

*أقسام الشرك:

والشرك شركان: شرك أكبر يخرج من المِلَّة، وشرك أصغر لا يخرج من الملة.

وحدَّ الشرك الأكبر:

أن يصرف العبد نوعا أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله، فكل: اعتقاد، أو قول، أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله-تعالى- وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر، وهذا ضابط للشرك الأكبر لا يشذ عنه شيء.

ويمكن أن يختصر فى قولنا: "أن يجعل الإنسان لله -تعالى-نداً في ربوبيته، أو ألوهيته، أو أسمائه وصفاته".

* وعليه فحديث الباب يؤسس تعريفاً جامعاً لمعنى الشرك، بقوله صلى الله عليه وسلم:"أن تجعل لله نداً وهو خلقك "، والند: المثل والشبيه، فمن صرف شيئا من العبادات لغير الله، فقد أشرك به، شركاً يبطل التوحيد وينافيه.

*وأما حدّ الشرك الأصغر فهو:

كل وسيلة وذريعة يتطرّق منها إلى الشرك الأكبر، من: الإرادات، والأقوال، والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة.

(1)

*وكما أن التوحيد يتحقق بحصوله فى أقسامه الثلاثة:

"الربوبية والإلوهية، والأسماء والصفات"، فكذلك الشرك الأكبر يحصل بنقض واحدة من هذه الثلاث:

(1)

القول السديد في مقاصد التوحيد (ص/31)

ص: 940

أ) شرك في الربوبية:

وذلك بأن يجعل لغير الله -تعالى- معه تدبيرًا أو خلقاً أو إحياءً، كما قال سبحانه:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22]

ويدخل فى ذلك شرك المتصوفة القائلين بالغوث والقطب والأوتاد والأبدال المعتقدين فيهم التصرف والتدبير.

قال أبوالعباس ابن تيمية:

الرب سبحانه هو المالك المدبر المعطي المانع الضار النافع الخافض الرافع المعز المذل فمن شهد أن المعطي أو المانع أو الضار أو النافع أو المعز أو المذل غيره فقد أشرك بربوبيته.

(1)

ب) شرك في الإلهية:

بأن يدعو غير الله -تعالى- دعاء عبادة، أو دعاء مسألة كما قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، أو يُتوجه لغيره عزوجل مما لا يصرف إلا لله -عزوجل- من نذر أو ذبح أو سجود، ونحو ذلك.

قال أبوالعباس ابن تيمية:

الشرك في الإلهية فهو: أن يجعل لله نداً - أي: مثلا في عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه أو إنابته.

(2)

وقال رحمه الله:

فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات: فهو كافر بإجماع المسلمين.

(3)

قال عبد الرحمن بن حسن:

واعلم أن اتخاذ الند على قسمين:

الأول: أن يجعله لله -تعالى - شريكاً في أنواع العبادة أو بعضها، وهو شرك أكبر.

والثاني: ما كان من نوع الشرك الأصغر، كقول الرجل:" ما شاء الله وشئتَ "، " ولولا الله وأنت"، وكيسير الرياء.

(1)

مجموع الفتاوى (1/ 92)

(2)

المصدر السابق (1/ 91)

(3)

مجموع الفتاوى (1/ 124)

ص: 941

ثم أوضح رحمه الله الفرق بين استخدام "الواو" و "ثم"، فقال:

وذلك لأن المعطوف بالواو يكون مساوياً للمعطوف عليه، لكونها إنما وضعت لمطلق الجمع، فلا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً،

بخلاف المعطوف بـ " ثم "؛ فإن المعطوف بها يكون متراخياً عن المعطوف عليه بمهملة، فلا محذور لكونه صار تابعاً.

(1)

ج) شرك الأسماء والصفات:

وذلك أن يسمِّى الله -تعالى- أو يصفه بصفات البشر، أوالعكس، كما وصفت اليهود يد الله أنها مغلولة، وكما اشتق مشركو العرب لأصنامهم أسماء من أسماء الله تعالى، كما قال تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) (النجم: 19 - 20)، وكما زعمت الحلولية أن الله - تعالى- يحل فى مخلوفاته.

*هناك فروق بين الشرك الأكبر والأصغر، منها:

1 -

أن الشرك الأكبر لا يغفر الله -تعالى- لصاحبه إلا بالتوبة منه، قال تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)) (البقرة/217)

وأما الشرك الأصغر فقد اختلف فيمن مات وهو في صحيفته دون توبة منه، فقيل:

إنه تحت المشيئة، وقيل: إن صاحبه إذا مات فلابد أن يعذَّبه الله -تعالى- عليه، لكن لا يخلد في النار.

2 -

الشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال، وأما الشرك الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه.

3 -

الشرك الأكبر مخرج عن الملة، وأما الشرك الأصغر فلا يخرج منها، ولذا فمن أحكامه: أن يعامل صاحبه معاملة المسلمين؛ فيناكح، وتؤكل ذبيحته، ويرث ويورث، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين.

4 -

أن الشرك الأكبر صاحبه خالد مخلد في النار، وأما الأصغر فلا يخلد في

(1)

فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص/492)

ص: 942

النار، وإن دخلها فمآله إلى الجنة.

5 -

أن الشرك الأكبر صاحبه غير معصوم النفس والمال، بعكس الشرك الأصغر، فإن صاحبه مسلم مؤمن ناقص الإيمان، فاسق من حيث الحكم الديني، معصوم النفس والمال.

**عودٌ إلى حديث الباب:

- الفائدة الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدّاً وهو خلقك، ..

وهنا سؤال:

هل اتخاذ الأنداد مع الله -تعالى- يعد من الشرك الكبر، أم من الشرك الأصغر؟

*والجواب على تفصيل:

1 -

اتخاذ الأنداد قد يكون شركاً أكبر:

اتخاذ الأنداد مع الله -تعالى- قد يكون شركاً أكبر، والند هو النظير والمثيل، فكل من دعا غير الله أو استغاث به أو نذر له أو ذبح له أو صرف له شيئاً من العبادة فقد اتخذه نداً لله، سواء كان نبياً أو ولياً أو ملكاً أو جنياً أو صنماً أو غير ذلك من المخلوقات.

ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (الزمر/8)

ويدل عليه أيضاً حديث الباب، حيث سئل الرسول صلى الله عليه وسلم:

" أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ فقَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ»

والأصل فى اتخاذ الأنداد أن تكون من الشرك الأكبر، كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:

وأصل الشرك أن تعدل بالله - تعالى- مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده، فإنه لم يعدل أحد بالله -تعالى- شيئاً من المخلوقات في جميع الأمور، فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك به.

(1)

قال ابن القيم فى النونية:

والشرك فاحذره فشرك ظاهر

؛؛؛

ذا القسم ليس بقابل الغفران

(1)

الاستقامة (1/ 244)

ص: 943

وهو اتخاذ الند للرحمن

؛؛؛

أيا كان من حجر ومن إنسان

يدعوه أو يرجوه ثم يخافه؛؛؛

ويحبه كمحبة الرحمن.

قال ابن القيم:

والشرك الأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله نداً، يحبه كما يحب الله تعالى، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98] مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت، وإنما كانت

هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم.

(1)

*ومن الحالات التى يكون اتخاذ الأنداد فيها شركاً أكبر:

أ) من تقرَّب لغير الله -تعالى- بعبادة قلبية أو بدنية، كدعاء أو استغاثة أو نذر أو حب.. ، فقد جعل لله -تعالى- نداً من خلقه فيما يستحقه تعالى من توحيد الألوهية، وذلك كفر بإجماع الأمة.

قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن:

والشرك جعْل شريك لله -تعالى- فيما يستحقه، ويختص به من العبادة الباطنة والظاهرة، كالحب والخضوع، والتعظيم والخوف والرجاء والإنابة، والتوكل والنسك والطاعة، ونحو ذلك من العبادات; فمتى أشرك مع الله -تعالى- غيره في شيء من ذلك، فهو مشرك بربه، قد عدل به سواه، وجعل له ندا من خلقه، ولا يشترط في ذلك أن يعتقد له شركة في الربوبية، أو استقلالاً بشيء منها.

(2)

ويقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السِعدى فى بيان حقيقة الشرك:

هو أن يجعل لله -تعالى-نداً يدعوه كما يدعو الله تعالى، أو يخافه، أو يرجوه، أو يحبه كحب الله تعالى،

(1)

مدارج السالكين (1/ 339)

(2)

الدرر السنية في الأجوبة النجدية (12/ 205)

ص: 944

أو يصرف له نوعاً من أنواع العبادة، فهذا الشرك لا

يبقى مع صاحبه من التوحيد شيء، وهذا المشرك الذي حرَّم الله -تعالى- عليه الجنة ومأواه النار.

(1)

ولذلك عدة صور ومظاهر، نذكر منها:

1 -

الأولى: التوجه بكلية العبادة للأنداد بشبهة باطلة:

قال تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)) (الزمر: 3)

فقد توجهوا لتلك الأصنام بشتى العبادات المالية: كالنذر والقرابين والذبائح، والبدنية: كالطواف والسجود وغير ذلك، واتخذوهم من دون الله أولياء يتولونهم، ويعبدونهم من دون الله تعالى، ويقولون:

"ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، قربة ومنزلة، ويشفعوا لنا في حاجاتنا ". فصار ضابط الشرك الأكبر فى توحيد الألوهية هو اتخاذ الند من دون الله تعالى، وصرف العبادة له.

*والقاعدة المطردة هنا:

" كل ما ثبت بالكتاب أو السنة أنه عبادة، فصرفه لله -توحيد، وصرفه لغير الله شرك ".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

كل من غلا في حي وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول:

إذا ذبح شاة: باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له أو لغيره، أو يدعوه من دون الله تعالى؛ مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو ارزقني أو أغثني أو أجرني أو توكلت عليك أو أنت حسبي؛ أو أنا في حسبك؛ أو نحو هذه الأقوال والأفعال؛ التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.

(2)

2 -

الثانية: دعاء غير الله تعالى:

قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَا

(1)

القول السديد شرح كتاب التوحيد (ص/30)

(2)

مجموع الفتاوى (3/ 395)

ص: 945

يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} [الأحقاف: 5، 6]

وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].

وقال تعالى (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)) (فاطر/13 - 14)

* وفى هذه الآية الثالثة فائدتان:

أ- تأكيد لقضية التلازم بين توحيد الربوبية والألوهية؛ وذلك لأن الله -تعالى-قد جعل عدم ملكية من يُدعى من دون الله -تعالى -مسقطاً لجواز دعائه، والعكس بالعكس.

ب- الحكم بالشرك على من دعا غير الله تعالى، كما فى قوله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ

)

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود-رضى الله عنه- قَالَ: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

«مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ»

(1)

2 -

الثالثة: صرف العبادات القلبية للأنداد "شرك المحبة":

قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ

(165)) (البقرة/165)

ومعنى" يحبونهم كحب الله": أي يسوون بين الأصنام وبين الله - تعالى- في المحبة.

قال أبوالعباس ابن تيمية:

معلوم أن أصل الإشراك العملي بالله -تعالى -الإشراك في المحبة، قال تعالى:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ

حُبّاً لِلَّهِ}

فأخبر أن من الناس من يشرك بالله -تعالى- فيتخذ أنداداً يحبونهم كما يحبون الله تعالى، وأخبر أن الذين آمنوا أشد حباً لله -تعالى - من هؤلاء لأندادهم

(1)

أخرجه البخاري (4497)

ص: 946

ولله؛ فإن هؤلاء أشركوا بالله في المحبة فجعلوا المحبة مشتركة بينه وبين الأنداد.

والمؤمنون أخلصوا دينهم لله -تعالى-الذي أصله المحبة لله تعالى، فلم يجعلوا لله عدلًا في المحبة، بل كان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليهم مما سواهما.

(1)

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن:

فكل من اتخذ نداً لله -تعالى- يدعوه من دون الله -تعالى-ويرغب إليه ويرجوه لما يؤمله منه، من قضاء حاجاته وتفريج كرباته كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام فلابد أن يعظموهم ويحبوهم لذلك، فإنهم أحبوهم مع الله -تعالى-

وإن كانوا يحبون الله تعالى، ويقولون لا إله إلا الله ويصلُّون ويصومون، فقد أشركوا في المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره.

فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله -تعالى- يبطل كل قول يقولونه وكل عمل يعملونه؛ لأن المشرك لا يقبل منه عمل، ولا يصح منه، وهؤلاء وإن قالوا " لا إله إلا الله " فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة.

(2)

4 -

الرابعة: شرك الطاعة:

وذلك بادعاء حق التشريع والتحليل والتحريم لغير الله سبحانه، فمن فعل ذلك فقد أثبت لله -تعالى- الند فى باب التشريع.

عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ:

أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ:

" يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ، فَطَرَحْتُهُ، وَسَمِعْتُهُ " يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ:

{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا "، فَقُلْتُ:

إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، فَقَالَ:

" أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: " فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ. "

(3)

ويدخل فى ذلك ما كان معروفاً عند مشركي العرب من تحريمهم ما أحل الله

(1)

وانظر قاعدة في المحبة (ص: 69) ودلالة الأسماء الحسنى على التنزيه (ص/75)

(2)

فتح المجيد (ص: 106)

(3)

رواه الترمذي (3095) والطبري في "تفسيره"(14/ 210) وقد حسَّنه ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(7/ 67)، والألباني في "السلسلة الصحيحة "(3293).

ص: 947

-تعالى- بسخافات العقول الباطلة، قال تعالى (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)) (المائدة: 103)

فكل من تحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد تحاكم

إلى الطاغوت الذي أمر الله - تعالى- عباده المؤمنين أن يكفروا به; فإن التحاكم

ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كان يحكم بهما، فمن تحاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده، وخرج عمَّا شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزله منزلة لا يستحقها. ويدخل فى هذا الباب كل من ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله تعالى، أو أوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله عزوجل، ما لم يكن له تأويل سائغ يُعذر به.

(1)

5 -

الخامسة: إدعاء القدرية خلق العباد لأفعالهم:

وقد وقع في ذلك القدرية نفاة القدر، الذين جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى، ولهذا كانوا (مجوس هذه الأمة)

(2)

، بل أردأ من المجوس من حيث أن المجوس أثبتوا خالقين، خالقاً للخير وخالقاً للشر، وأما هؤلاء فقد أشركوا جميع العباد في الخلق، فقالوا هم يخلقون أفعالهم، وخالفوا بذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

فإن الله -تعالى-خالق كل شيء، قال تعالى:(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)) [غافر: 62]، وقال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)) (الصافات: 96)

ومن جملة مخلوقاته أفعال العباد، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

ولا يدل هذا على أن العبد ليس بفاعل على الحقيقة ولا مريداً ولا مختاراً، بل هو فاعل لفعله حقيقة، وأن إضافة الفعل إليه إضافة حق، وأنه يستوجب عليه المدح والذم والثواب

(1)

وانظرفتح المجيد (ص/429) وضوابط تكفير المعين (ص/222) ومباحث الربوبية والقدر (ص/103)

(2)

رواه أبو داود (4691)، والحاكم (286). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين: إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ولم يخرجاه. وقال ابن القطان في "الوهم والإيهام "(5/ 445): صحيح، وقال الألباني في " صحيح سنن أبي داود": حسن.

ص: 948

والعقاب، لكن لا يدل هذا أنه واقع بغير مشيئة الله وقدرته.

فأفعالهم لله -تعالى- خلق ولهم كسب، ولا ينسب شيء من الخلق لغير الله تعالى، فيكون شريكاً ونداً ومساوياً له في نسبة الفعل إليه، وقد نهى الله سبحانه عن ذلك بقوله تعالى (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)) [البقرة: 22]

وعليه فإنَّ القدرية داخلون تحت النهي الوارد فى هذه الأية، كما قددخل فيها المشركون.

*لذا فقد نبَّه ابن بطال على مقصود البخاري من ذكر حديث الباب فى كتاب التوحيد فقال:

غرضه في هذا الباب إثبات الأفعال كلها لله عز وجل، كانت من المخلوقين خيرًا أو شرًّا، فهي لله عز وجل خلق وللعباد كسب ولا ينسب شيء إلى غير الله تعالى فيكون شريكاً له ونداً مساوياً له في نسبة القول إليه، ونبَّه الله - تعالى -عباده على ذلك بقوله:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] أنه الخالق لكم ولأفعالكم وأرزاقكم، رداً على من زعم من القدرية أنه يخلق أفعاله، فمن علم أن الله -تعالى- خلق كل شيء فقدَّره تقديراً، فلا ينسب شيئاً من الخلق إلى غيره.

(1)

* ومن الحالات التى يكون اتخاذ الأنداد فيها شركاً أصغر:

قد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} [البقرة: 22] قال:

الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاء سوداء، في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلانة وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه:

ما شاء الله وشئتَ، وقول الرجل: لولا الله وفلان، فإن هذا كله به شرك.

(2)

فقد بيَّن ابن عباس-رضى الله عنهما- الحالات التى يقع فيها اتخاذ الأنداد شركاً أصغر،

(1)

وانظرالتوضيح لشرح الجامع الصحيح (33/ 494) و شرح صحيح البخارى لابن بطال (10/ 521)

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1/ 81)، وقال الشيخ سليمان آل الشيخ:"وسنده جيد". تيسير العزيز الحميد (587)، وقال المحقق:"إسناده حسن".

ص: 949

ونذكر من ذلك:

1 -

التشريك فى المشيئة بين الخالق والمخلوق:

وهو قول الرجل: "ما شاء الله وشئت":

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رضى الله عنهما- أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:

مَا شَاءَ اللهُ، وَشِئْتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

" أَجَعَلْتَنِي وَاللهَ عَدْلًا؟! بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ ".

(1)

قال ابن رجب فى تفسيره لقول اللَّهُ تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي

) (آل عمران: 80)

قال رحمه الله:

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكر على من لا يتأدب معه في الخطاب بهذا الأدب، كما قال:" لاتقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، بل قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد"، وقال: لمن قال: ما شاء الله وشئت: "أجعلتنى لله ندا؟!، بل ما شاء الله

وحده "، فمن هنا كان خلفاء الرسل وأتباعهم لا يدعون إلى تعظيم نفوسهم البتة، بل إلى تعظيم الله وحده، وإفراده بالعبودية والإلهية.

(2)

2 -

يسير الرياء:

وعن شداد بن أوس رضي الله عنه -قال:

«كُنَّا نَعُدُّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الرِّيَاءَ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» .

(3)

قال ابن القيم:

وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، وإنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركاً أكبر،

(1)

رواه أحمد (1839) والبخاري في الأدب المفرد (1/ 290) والنسائي في "السنن الكبرى"(6/ 245)،

وصححه ابن القيم في "مدارج السالكين "(1/ 602) والحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"(3/ 200)

(2)

روائع التفسير (1/ 276)

(3)

أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة (1/ 34)، والطبراني في الكبير (7/ 289)، والبيهقي في الشعب (6424)، وصححه الحاكم في المستدرك (7937) وقا الحاكم:"هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبى، وانظرصحيح الترغيب (32)

ص: 950

بحسب قائله ومقصده.

(1)

3 -

التطير والتمائم:

وأما التطير فهو التشاؤم بالطيور، والأسماء، والألفاظ والأرقام، والبقاع وغيرها، فنهى الشارع عن التطير بل قد جعله صنفاً من صنوف الشرك.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

"الطِّيَرَةُ شِرْكٌ "، قال ابْنُ مَسْعُودٍ رضى الله عنه: وَمَا مِنَّا إِلَّا، وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ.

(2)

وإنما كانت شركاً أصغر لاعتقادهم أن رؤيتها يتسبب فى حصول المكروه للشخص، وأما إن كان اعتقاد المتشائم أن الطيرة تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً فلا شك أن هذا من الشرك الأكبر.

فكل من اعتقد أن شيئاً سوى الله -تعالى-ينفع أو يضر بالاستقلال فقد أشرك شركاً جلياً.

* ومما يدل على أن الطيرة من الشرك الأصغر:

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو- ضى الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ "، قَالُوا:

يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ:

" أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ ".

(3)

فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الذكر كفارة للمتطير دل أنه من الشرك الأصغر، إذ لو كانت الطيرة شركاً أكبر على كل حال لم يكن لها كفارة إلا شهادة التوحيد.

* ويندرج كذلك تحت هذا الباب "التمائم":

وأما التمائم:

فهى لبس شيء من

(1)

مدارج السالكين (1/ 253)

(2)

أخرجه أحمد (3687) وأبوداود (3910) والترمذي (1614) قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الشيخ أحمد شاكر فى تعليقه على المسند.

(3)

أخرجه أحمد (7045) وصححه الألبانى فى الصحيحة (ح: 1065)

قوله صلى الله عليه وسلم: (لا طير إلا طيرك): أى أن كل ما يحدث للإنسان من الحوادث المكروهة؛ فإنها واقعة بقدر الله وجل، كما قال تعالى (أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ)(الأعراف/ 131)

ص: 951

الخيط أوالخرز أوالحلقة والخيط ونحو ذلك لرفع البلاء أو دفعه. عَنْ زَيْنَبَ، امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ بن مسعود-رضى الله عنه- قَالَتْ:

فَرَأَى عبد الله فِي عُنُقِي خَيْطًا، قَالَ: مَا هَذَا الْخَيْطُ؟

قَلتْ: خَيْطٌ أُرْقِيَ لِي فِيهِ، قَالَتْ: فَأَخَذَهُ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آلَ عَبْدِ اللهِ لَأَغْنِيَاءُ عَنِ الشِّرْكِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:

" إِنَّ الرُّقَى، وَالتَّمَائِمَ، وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ "

(1)

عن عروة قال: " دخل حذيفة -رضى الله عنه -على مريض، فرأى في عضده سيراً فقطعه أو انتزعه، ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ".

(2)

وتلاوة حذيفة -رضى الله عنه- الآية دليل على أن الصحابة -رضى الله عنهم- يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر.

(3)

.

تم بحمد الله.

(1)

أخرجه أحمد (3615) وحسنه الشيخ أحمد شاكر.

(2)

أخرجه ابن أبى حاتم في تفسيره (229) وإسناده حسن، وانظر إعانة المستفيد شرح كتاب التوحيد (ص/136)

(3)

فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص/123)

ص: 952