الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدل- لجاز حمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد من الأحزان والأفراح، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة، وهذا كله فاسد؛ لأنه رد لما جاء به الصادق.
(1)
* وكذلك يقال:
أن تأويل الميزان في جميع مواضعه التي ذكر فيها بأنه العدل هو في الحقيقة تأويل مخالف لإجماع الأمة.
قال القشيري:
وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل، وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصاً.
(2)
* فإن قيل:
أليس تأويل الميزان بالعدل يستقيم لغة
؟
فالرد أن يقال:
بلى، ولكن هذا من التفسير بالمآل واللازم، فلا شك أن إقامة الميزان ورؤية العبد لأعماله على الميزان ترجح أو تخف يزيده يقيناً أنه لم يظلم شيئاً، ولكنَّ حمل الميزان على معنى العدل وتفسيره به إنما يكون عند تعذّر الحمل على الظاهر، وهنا قد أتت الأدلة الشرعية بخيلها ورَجلها تؤيد تفسير الميزان على معناه الحقيقي، فصار تأويله على المعنى اللغوي منابذاً للأدلة الشرعية.
قال الأزهري بعد ذكره للمعاني اللغوية لكلمة الميزان:
هذا كله في باب اللغة، والاحتجاج سائغ، إلا أن الأولى من هذا أن يتبع ما جاء بالأسانيد الصحاح، فإن جاء في الخبر أنه ميزان له كفَّتان، من حيث ينقل أهل الثقة، فينبغي أن يقبل ذلك.
(3)
* وأما قولهم: " الأعراض يستحيل وزنها، إذ لا تقوم بأنفسها، فكيف توزن
(1)
التذكرة (ص/280)
(2)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 107)
(3)
تهذيب اللغة (13/ 257)
الأعمال وهي لا توصف بثقل ولا خفة؟
*فالجواب:
أن مثل هذا قد يقبل في موازين البشر، أما إذا كان الأمر في حق الله - تعالى- فليس للعقل أن يحكم بالاستحالة على ما يقع في مقدور الله تعالى.
فإذا جاء النص بثبوت وزن الأعراض فلا يسعنا إلا الإذعان والإقرار.
فليس بالممتنع على قدرة الله -تعالى- أن ينشئ من الأعراض أجساماً، ولهذا نظائر كثيرة، ونذكر منها ما يلي:
1 -
ما ورد في حديث مجئ الموت في صورة كبش يوم القيامة:
عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
" يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ:
هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ ".
(1)
2 -
عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
" " يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ فَيَقُولُ لِصَاحِبِهِ: أَنَا الَّذِي أَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَأَظْمَأْتُ هَوَاجِرَكَ ".
(2)
3 -
وفي حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ-رضى الله عنه- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ،
…
، وفيه أن المؤمن يمثل له عمله الصالح في صورة حسية، قال صلى الله عليه وسلم:
" وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، وَمَالِي "
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم في حق الكافر:
" يَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ،
(1)
متفق عليه.
(2)
أخرجه أحمد (22976) وابن ماجه (3781) قال في الزوائد (إسناده صحيح، رجاله ثقات)، وقال الأرنؤوط:
" إسناده حسن في المتابعات والشواهد "
فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ ".
(1)
قال ابن حجر:
والحق عند أهل السنة أن الأعمال حينئذ تجسَّد، أو تجعل في أجسام فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة، وأعمال المسيئين في صورة قبيحة ثم توزن.
(2)
* لذا يقال هنا:
غاية ما تشبَّث به النفاة في هذا الباب إنما هو مجرد الاستبعادات العقلية، وليس في ذلك حجة على أحد، فهذا إذا لم تقبله عقولهم فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم، من الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى جاءت البدع كالليل المظلم وقال كلٌ ما شاء، وتركوا الشرع خلف ظهورهم، وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها، ويتحد قبولهم لها، بل كل فريق يدَّعي على العقل ما يطابق هواه.
(3)
* تنبيهان:
1 -
الأول:
غاية ما ورد في صفة الميزان هو ما سبق ذكره، من كونه ذا كفَّتين ولسان، على ما ورد به النص والإجماع، ولا يزاد على ذلك من تفصيلات لم يأتِ بها نص صحيح، كالقول بأنه مخلوق من درة بيضاء، وما شابه ذلك.
قال صديق حسن خان:
وأما ماهية جرمه -أي الميزان - من أي الجوهر، وأنه موجود الآن، أو سيوجد فنمسك عن تعيينه.
(4)
2 -
الثاني:
ما ورد من أدلة في إثبات كفَّتي الميزان، مثل أثر سلمان -رضى الله عنه- وغيره رد على ابن حزم الذي أثبت ميزاناً أقرب ما يكون إلى أصول أهل التفويض، حيث قال:
لم يأتِ عنه عليه السلام شيء يصح في صفة الميزان، ولا ندري كيف تلك الموازين،
(1)
أخرجه أحمد (18534) وأبو داود (4753)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1676)
(2)
فتح الباري (13/ 762)
(3)
انظر فتحُ البيان في مقاصد القرآن (4/ 305) وفتح القدير (2/ 243)
(4)
انظر فتحُ البيان في مقاصد القرآن (8/ 334)