المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حكم سب الصحابة رضى الله عنهم: - الأربعون العقدية - جـ ٢

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الحادى والعشرون: السنة الجارية شرح حديث الجارية

- ‌الحديث الثانى والعشرون: كشف الالتباس عن حديث أمرت أن أقاتل الناس

- ‌الحديث الثالث والعشرون: فتح البصير في بيان ما توسل به الضرير

- ‌ التوسل المختلف فيه:

- ‌الحديث الرابع والعشرون: بيان الحِكَم في شرح حديث إن الله هو الحَكَم

- ‌ الحالات التى يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله شركًا

- ‌الحديث الخامس والعشرون: ذات العماد شرح حديث حق الله على العباد

- ‌الحديث السادس والعشرون: المشكاة في شرح حديث لا تعجز واستعن بالله

- ‌الحديث السابع والعشرون: بيان الحق نفسه في شرح حديث أينا لم يظلم نفسه

- ‌الحديث الثامن والعشرون: ضوء الثريا شرح حديث من عادى لى ولياً

- ‌هل يوصف الله -تعالى- بصفة التردد

- ‌الحديث التاسع والعشرون: المعانى الراسيات شرح حديث إنى معلمك كلمات

- ‌ الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: "احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ "، وبين ما يقع لأهل الإيمان من البلاء والمحن

- ‌ أصل القضاء لا يعارض العمل:

- ‌الحديث الثلاثون: نثر الجمَّان بفوائد حديث إنهما ليعذبان

- ‌هل عذاب القبر يكون على الروح فقط، أم على الروح والبدن

- ‌الحديث الحادي والثلاثون: بلوغ الرُّبَى شرح حديث ضحك النبي تعجبا

- ‌ المخالفون لأهل السنة والجماعة في إثبات صفة اليدين:

- ‌الحديث الثانى والثلاثون: فتح الأعز الأكرم شرح حديث أي الذنب أعظم

- ‌من أتى خلاف المعهود تجاوزت عاقبته الحدود:

- ‌الحديث الثالث والثلاثون: تلخيص الخطاب شرح حديث إنك تأتى أهل كتاب

- ‌الفطرة دالة على نقض مذهب المتكلمين:

- ‌الحديث الرابع والثلاثون: درء الخوض في رد أحاديث الحوض

- ‌ حكم سب الصحابة رضى الله عنهم:

- ‌الحديث الخامس والثلاثون: البيان والتتمة شرح حديث يكون بعدى أئمة

- ‌تعريف الإمامة، وأهمية تنصيب الإمام:

- ‌ وسطية الأمة مع الأئمة:

- ‌الحديث السادس والثلاثون: ردع الجاني على حديث إن الله أفتاني

- ‌ هل السحر حقيقة أم خيال

- ‌الحديث السابع والثلاثون: دليل البيداء شرح حديث أنا أغنى الشركاء

- ‌ هل الرياء مبطل للعمل

- ‌ الشرك الخفي أشد خطورة من المسيح الدجال

- ‌أمور ليست من الرياء:

- ‌الحديث الثامن والثلاثون: نيل المأرب شرح حديث طلوع الشمس من المغرب

- ‌الحديث التاسع والثلاثون: بذل الطاقة شرح حديث صاحب البطاقة

- ‌ أليس تأويل الميزان بالعدل يستقيم لغة

- ‌ ما الذي يوزن في الميزان يوم القيامة:

- ‌ما الحكمة من نصب الموازين، مع كونه عزوجل وسع علمه أعمال العباد ومآلاتهم

- ‌ حكم من مات على الشرك الأصغر:

الفصل: ‌ حكم سب الصحابة رضى الله عنهم:

من الله - تعالى- سابق،

وما ذكِرَ من الكلام اللاحق محتمل للتأويل، والمشكوك والموهوم لا يبطل الملحق المعلوم.

(1)

* وأما إذا دعت الحاجة إلى ذكر ما شجر بينهم، فلابد من التحقيق والتثبت في الروايات المذكورة حول الفتن بين الصحابة، قال عز وجل:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} (الحجرات: 6).

وهذه الآية تأمر المؤمنين بالتثبت في الأخبار المنقولة إليهم عن طريق الفسَّاق؛ لكيلا يحكموا بموجبها على الناس فيندموا.

فوجوب التثبت والتحقيق فيما نقل عن الصحابة رضى الله عنهم، وهم سادة المؤمنين أولى وأحرى، خصوصاً ونحن نعلم أن هذه الروايات دخلها الكذب والتحريف، أما من جهة اصل الرواية أو تحريف بالزيادة والنقص يخرج الرواية مخرج الذم والطعن.

وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب، يرويها الكذَّابون والوضاعون.

قال الذهبي:

ويُكف عن كثير مما شجر بين الصحابة، وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين -

وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين، والكتب، والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع، وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه، لتصفو القلوب، وتتوفر على حب الصحابة، والترضي عنهم، وكتمان ذلك مُتَعَيِّنٌ عن العامة، وآحاد العلماء، وقد يُرَخَّصُ في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف، العري من الهوى.

(2)

* فرع:‌

‌ حكم سب الصحابة رضى الله عنهم:

اتفق جماهير أهل العلم بلا خلاف بينهم على حرمة سب الصحابة رضى الله عنهم،، وأن ذلك من كبائر الأمور.

(1)

بديع المعاني على عقيدة الشيباني (ص/145)

(2)

وانظر سير أعلام النبلاء (10/ 92) والإبانة الكبرى (1282)

ص: 998

قال أبو زرعة:

إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وإنما أدى إلينا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح أولى بهم، وهم زنادقة.

(1)

وقد اختلفوا في حكم فاعل ذلك:

1 -

القول الأول:

أن من سبَّ الصحابة -رضى الله عنهم- يُقتل، وهو رواية عن مالك.

2 -

القول الثاني:

وقال به جمهورأهل العلم أن فاعل ذلك يُحبس ويعزر، ولا يكفر.

قال النووي:

واعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره؛ لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون، ..

قال القاضي: وسب أحدهم من المعاصي الكبائر، ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه يعزر، ولا يقتل.

(2)

* ومن أدلة الجمهور على ذلك:

1 -

عَنْ أَبِي بَرْزَةَ -رضى الله عنه- قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه،

فَتَغَيَّظَ عَلَى رَجُلٍ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ:

تَأْذَنُ لِي يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟

، قَالَ:«لَا وَاللَّهِ، مَا كَانَتْ لِبَشَرٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم»

(3)

وقد روى ابن حزم بسنده عن أبي برزة -رضى الله عنه- قال:

أغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضى الله عنه، قلت: ألا أقتله؟ فقال أبو بكررضى الله عنه: ليس هذا إلا لمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم قال ابن حزم:

فبيِّن أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه لا يقتل من شتمه، لكن يقتل من

(1)

تهذيب الكمال (19/ 96)

(2)

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (8/ 334)

(3)

أخرجه أبو داود (4363) وأخرجه النسائي في "الكبرى"(3526) وقال النسائي: " هذا أحسن هذه الأحاديث وأجودها"، وأخرجه الحاكم (8045) وقال:" صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي.

وقد أخرجه أحمد (54) والنسائي (3520) من طريق آخرعن أبي برزة الأسلمي قال:

أغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضى الله عنه، فقلت: أقتُله؟ فانتهرني، وقال:

ليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. صححه الشيخ أحمد شاكر.

ص: 999

شتم النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

2 -

أن الله - تعالى- قد فرَّق بين الذين يؤذون الله ورسوله، فأخبر تعالى أن الله -عزوجل- قد لعنهم في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً، وبين والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات فهؤلاء قد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً.

ووجه الدلالة:

أن مطلق البهتان والإثم يوجب العقوبة في الجملة، ولا يوجب القتل.

(2)

3 -

وعَنْ ابن عمر -رضى الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ ".

(3)

ووجه الدلالة:

أن الأصل هو عصمة الدم إلا ما خصه دليل الحل، فلا نخرج عن هذا الأصل إلا بدليل ينقض هذه العصمة، ولا دليل على قتل من سبَّ واحداً من الصحابة رضى الله عنهم.

* والراجح -والله أعلم- في ذلك التفصيل الذى ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية:

1 -

من اقترن بسبه دعوى أنَّ علياً -رضى الله عنه- إله، أو أنه كان هو النبي صلى الله عليه وسلم -وإنما غلط جبريل في الرسالة فهذا لاشك في كفره، بل لاشك في كفر من توقف في تكفيره.

2 -

من سبَّهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك، فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم.

3 -

من لعن وقبَّح مطلقاً فهذا محل الخلاف فيهم؛ لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد.

(1)

المحلى بالآثار (11/ 524)

(2)

انظر " نقض استدلال الرافضة بحديث الحوض "(ص/20)

(3)

متفق عليه.

ص: 1000

4 -

من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضاً في كفره؛ فإنه مكذِّب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم.

بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين؛ فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فسَّاق، وأن هذه الأمة التي هي:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وخيرها هو القرن الأول كان عامتهم كفاراً أو فسَّاقاً. ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام.

(1)

* وعليه يقال:

أن من سبّهم سباً يقدح في عدالتهم ودينهم، فهذا كفر مخرج من الملة؛ لأنه تكذيب للأحاديث الشريفة الدالة على فضلهم ومكانتهم وتزكيتهم، ومن ظن أن هذا السب لا يعد كفراً فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع.

قال القرطبي:

لا خلاف في وجوب احترامهم، وتحريم سبِّهم، ولا يختلف في أن من قال: إنَّهم كانوا على كفر أو ضلال كافر يقتل، لأنَّه أنكر معلومًا ضروريًا من الشرع، فقد كذَّب الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرا به عنهم. .

(2)

تنبيه:

من سبّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خاصة، وقذفها بما برأها الله -تعالى- منه، على ما جرت أحداث قصتها في غزوة المريسيع فإنه يكفر بالاتفاق. وأما إن سبَّها بغير ما برأها الله -تعالى- منه، مما لا يقدح في عدالتها ولا دينها فقد جنى جناية عظيمة، واستحق التأديب والتعزير، ولكنه لا يكفر.

قال ابن العربي:

إن أهل الإفك رموا عائشة -رضى الله عنها- المطهَّرة بالفاحشة فبرَّأها الله تعالى، فكل من سبَّها بما برأها الله - تعالى - منه فهو مكذِّب لله عزوجل، ومن كذَّب الله فهو كافر.

(3)

وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم، نذكر منهم:

شيخ الإسلام

(1)

الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص/437)

(2)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 493)

(3)

وانظرأحكام القرآن (3/ 1356) والإصابة في الذب عن الصحابة (ص/137)

ص: 1001

ابن تيمية وابن القيم والنووي وابن كثير، وغيرهم كثير.

(1)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

قال القاضي أبو يعلى "من قذف عائشة -رضى الله عنها- بما برأها الله -تعالى- منه كفر بلا خلاف"، وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم.

(2)

* عودٌ إلى حديث الباب:

وممن يُرد عن الحوض:

ما ورد فى حديث ابْنِ عُمَرَ- رضى الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

" سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَأْمُرُونَكُمْ بِمَا لَا يَفْعَلُونَ، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكِذْبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَنْ يَرِدَ عَلَيَّ الْحَوْضَ "

(3)

قال ابن عبد البر:

وكل من أحدث في الدين ما لا يرضاه الله -تعالى- ولم يأذن به فهو من المطرودين عن الحوض والمبعدين والله أعلم.

وأشدهم طرداً من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، مثل الخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها وجميع أهل الزيغ والبدع فهؤلاء كلهم مبدِّلون.

وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم، كلهم مبدل، يظهر على يديه من تغيير سنن الإسلام أمر عظيم فالناس على دين الملوك.

ورحم الله ابن المبارك فإنه القائل:

وَهَلْ بَدَّلَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ

وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا.

(4)

* فبقدر ما تنهل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في الحياة الدنيا بقدر ما ترد وتشرب من حوضه يوم القيامة، لذا فإن الفرق الضالة الشاردة عن الهدي النبوي ممن سيسير في

(1)

وانظر زاد المعاد (1/ 103) والمنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (9/ 115) وتفسير القرآن العظيم (3/ 22)

(2)

الصارم المسلول (ص/422)

(3)

أخرجه أحمد (5702) والترمذي (2259) وقال: صحيح غريب. انظر صحيح الترغيب والترهيب (2242)

(4)

وانظر الاستذكار (1/ 194) والتذكرة (ص/273)

ص: 1002

ركاب المطرودين عن الحوض الشريف.

يقول ابن القيم في النونية:

وَرَأَيْت أكوازاً هُنَاكَ كَثِيرَة

مثل النُّجُوم لوارد ظمآن

وَرَأَيْت حَوْض الْكَوْثَر الصافي

الَّذِي لَا زَالَ يشخب فِيهِ مِيزَابَانِ

ميزاب سنته وَقَول إلهِهِ

وهما مدى الايام لَا ينِيان

وَالنَّاس لَا يردونه إِلَّا من الا

لآف أفراداً ذَوُي إِيمَان

وردوا عَذَاب مناهل أكْرم بهَا

ووردتم أَنْتُم عَذَاب هوانِ.

فيصف ابن القيم وروده للمدينة، مدينة العلم فيحكي كيف وجد

هناك نبع الشريعة صافياً، لم يختلط بما يكدره من الكيزان ما قد يعد بنجوم السماء، وقد أُعِدتْ لمن يرده ويطلب ريَّه من الظماء، ورأى هنالك حوض الكوثر الصافي، وهو علمه صلى الله عليه وسلم الذي تركه في أمته لا زال يصب فيه ميزابان:

ميزاب الكتاب الكريم، والسنة المطهرة، كما أن حوضه في الموقف يوم فيه ميزابان من نهر الكوثر الذي في الجنة، فمن شرب من حوض علمه الصافي في الدنيا؛ فهو الجدير أن يرد حوضه في الآخرة، ومن صد عنه، وآثر عليه هذه الموارد الآسنة؛ فسيذاد عن حوضه ويبعد جزاءً وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد. ومن المؤسف أن الناس لا يردون حوض علمه في الدنيا من الآلاف المؤلفة إلا الفرد بعد الفرد من هداهم الله - تعالى- ووفقهم، وهم الذين وردوا أكرم المناهل وأعذبها، وأما أنتم أيها المعرضون المخذولون فقد وردتم موارد العذاب المهين تبقون فيها خزايا نادمين.

(1)

* فرع: هل الحوض هو الكوثر؟

قيل في ذلك أن المراد بالكوثر هو الحوض، وقيل المراد بالكوثر هو الخير

(1)

الكافية الشافية لابن القيم بشرح خليل هراس (1/ 332)

ص: 1003

الكثير،

والراجح -والله أعلم- هو التفريق بينهما، فإن الكوثر:

هو نهر في الجنة، أعطاه الله -تعالى- للنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى (إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) {الكوثر: 1}.

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ:" أَتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ، حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفًا، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ "

(1)

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ-رضى الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَاليَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ العَسَلِ، وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ» .

(2)

*وأما الحوض:

فإنه فى العرصات خارج الجنة، يرده المسلمون قبل دخولهم الجنة، ويستمد الحوض مائه من نهرين من داخل الجنة، كما ورد عَنْ أَبِي ذَرٍّ-رضى الله عنه - أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال عن الحوض:

، يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ".

(3)

*فإن قيل:

قد روى أَنَس- رضى الله عنه - أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ:

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 2] ثُمَّ قَالَ:

«أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟» ، فَقُلْنَا:"اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ "، قَالَ:

" فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عز وجل، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ ".

(4)

فظاهر ذلك أن الكوثر هو نفسه حوض النبي صلى الله عليه وسلم.

* فجوابه من وجهين:

1 -

الأول:

الكوثر نهر داخل الجنة، ويأتي وماؤه يصب في الحوض ويطلق على

(1)

أخرجه البخاري (4964)

(2)

أخرجه الترمذي (3361) وقال: "حسن صحيح"

(3)

أخرجه مسلم (2300)

(4)

أخرجه مسلم (400)

ص: 1004

الحوض كوثر لكونه يُمَدُّ منه.

(1)

2 -

الثاني:

أن حديث أنس -رضى الله عنه- هذا قد ورد فيه تفسير الحوض بالكوثر على المعنى اللغوي الذي هو الخير الكثير، وليس المعنى الاصطلاحي الذي هو الكوثر الذي هو نهر في الجنة، وهو المراد في حديث ابن عمر -رضى الله عنهما- السابق.

*وختاماً: من كذَّب بكرامة لم ينلها:

ونختم بما سطَّره الإمام ابن كثير رداً على من ينكر الحوض، قال رحمه الله: ذكر ما ورد في الحوض النبوي المحمدي - سقانا الله منه يوم القيامة - من الأحاديث المتواترة المتعددة من الطرق الكثيرة المتضافرة؛ و إن رغمت أنوف كثيرة من المبتدعة المعاندة المكابرة، القائلين بجحوده، المنكرين لوجوده،

وأخلق بهم أن يحال بينهم وبين وروده، كما قال بعض السلف:

" من كذَّب بكرامة لم ينلها ".

(2)

تم بحمد الله تعالى.

(1)

وانظر فتح الباري (11/ 650) وخصائص المصطفى بين الغلو والجفاء (ص/52)

(2)

النهاية في الفتن والملاحم (ص/313)

ص: 1005