الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن والثلاثون: نيل المأرب شرح حديث طلوع الشمس من المغرب
* حديث الباب:
عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضى الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:
" إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا "، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
" أَتَدْرُونَ مَتَى ذَاكُمْ؟ ذَاكَ حِينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]
* تخريج الحديث:
أخرجه البخاري (3199) كتاب " بدء الخلق "، باب "صفة الشمس والقمر بحسبان ".
ومسلم (159) كتاب " الإيمان "، باب " بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان "، واللفظ لمسلم.
*أهم الفوائد التى تتعلق بحديث الباب:
1 -
الفائدة الأولى: طلوع الشمس من مغربها:
أجمع المفسرون على مسألة طلوع الشمس من مغربها، والأخبار في ذلك متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال السفَّاريني:
طلوع الشمس من مغربها ثابت بالسنة الصحيحة، والأخبار الصريحة، بل وبالكتاب المنزَّل على النبي المرسل صلى الله عليه وسلم، وأجمع المفسِّرون أو
جمهورهم على ذلك.
(1)
* ونذكر من ذلك ما يلي:
قال الله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ)[الأنعام: 158]
قال الطبري بعد ذكره لأقوال المفسِّرين في هذه الآية:
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ذلك حين تطلع الشمس من مغربها.
(2)
* وعن أبِي هُرَيْرَةَ-رضى الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
" لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ، آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا، فَذَلِكَ حِينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158].
(3)
*عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
" ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ " لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ":
طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ ".
(4)
وهذا الحديث فيه دلالة على أن القرآن قد دل على خروج الدجال؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر الأية، وفيها " يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ "، ثم فصَّل هذه الآيات بذكر طُلُوع الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّال، وَدَابَّة الْأَرْضِ ".
*وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود- رضي الله عنه أنه قرأ قَوْلَه عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} ، ثم قَالَ:
«طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ
(1)
وانظر مختصر لوامع الأنوار البهية (ص/122) و حاشية الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية (ص/83) والقائد إلى تصحيح العقائد (ص/17)
(2)
جامع البيان في تأويل القرآن (8/ 103)
(3)
أخرجه البخاري (4635) ومسلم (157)
(4)
أخرجه مسلم (158) وأحمد (9752)
الْآيَةَ {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)} [القيامة: 10].
(1)
وقد أخرج ابن عبد البر بسنده عن ابن عباس -رضى الله عنهما- قال:
سمعت عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- يخطب، فقال:
" أيها الناس: إن الرجم حق، فلا تُخدَعنَّ عَنهُ، وإن آية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رَجَم، وأن أبا بكر قد رَجَم، وأنا قد رَجَمنا بعدهما، وسيكون قوم من هذه الأمة يكذِّبون بالرجم، ويكذِّبون بالدجال، ويكذِّبون بطلوع الشمس من مغربها، ويكذِّبون بالشفاعة "
ثم قال ابن عبدالبر:
الخوارج كلها والمعتزلة تُكذِّب بكل هذه الفصول، وأهل السنة على التصديق بها، وهم الجماعة والحجة على من خالفهم، بما هم عليه من استمساكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
(2)
قال أبو العباس القرطبي:
ومذهب أهل السنّة حمل طلوع الشمس من مغربها وغيرها من الآيات على ظاهرها؛ إذ لا إحالة فيها، وهي أمور مُمكنة في نفسها، وقد تظاهرت الأخبار الصحيحة بها مع كثرتها وشُهرتها، فيجب التصديق بها، ولا يُلتفت لشيء من تأويلات المبتدعة لها.
(3)
*تنبيه مهم:
قد سعى جماعة من المهتمين بالإعجاز العلمي بذكر الدلائل العلمية والنظريات الحديثة المثبتة لمسألة طلوع الشمس من مغربها.
(4)
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (19444) والحاكم (3879) وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» ، وقال الذهبي:" على شرط البخاري ومسلم"
(2)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (10/ 10)
وأثرعمر بن الخطاب قد أخرجه الآجري في الشريعة (768) وأحمد في المسند (156)، وقال الشيخ أحمد شاكر:
" إسناده صحيح ".
(3)
المُفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 373)
(4)
ومن ذلك ما ذكره الدكتور زغلول النجار أستاذ الجيولوجيا وعلوم الأرض حول الإعجاز العلمي لمسألة طلوع الشمس من مغربها، حيث قال:
" من المعروف بأن الأرض تدور حول نفسها دورة كاملة في كل 24 ساعة، وهذا الدوران الذي ينتج عنه الليل والنهار، = =و من خلال اتجاهه تظهر الشمس من الشرق و تغرب من الغرب.
وقد ثبت للعلماء بأن الأرض تبطئ من سرعة دورانها هذا، جزء من الثانية في كل 100 سنة، وكنتيجة طبيعية لهذا التباطؤ فسوف يأتي وقت تتوقف فيه الأرض تماماً عن الدوران
…
و بعد فترة توقف قصيرة لابد أن تبدأ بالدوران في اتجاه عكسي، وعندها وبدلًا من أن تشرق الشمس من الشرق - كما هو عادتها - ستشرق من الغرب.
ولا شك أن الغنية في ذلك تحصل بما ورد من أدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وأما النظريات العلمية فهذه مما يستأنس بها، ولكن لا يُركن ولا يستند إليها في الإثبات أو النفي؛ وذلك أنها نظريات بشرية قد يرد عليها الخطأ، ويدركها الوهم، ويعتريها التغيير، لذا فالركون إليها قد يسبِّب البلبلة لدى البعض في ثوابت الشرع، وهذا مقام بيِّن الخطورة لمن يتأمله.
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
* الفائدة الثانية: غلق باب التوبة بطلوع الشمس من مغربها:
*عَنْ أَبِي مُوسَى-رضى الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(1)
قال ابن كثير بعد ذكره لقول الله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا
…
)،
وذكره لجملة من الأحاديث التي جاءت في طلوع الشمس من مغربها، قال:
فهذه الأحاديث المتواترة مع الآية الكريمة دليل على أن من أحدث إيماناً وتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لا يقبل منه؛ وإنما كان كذلك - والله أعلم - لأن ذلك من أشراط الساعة وعلاماتها الدالة على اقترابها ودنوها؛ فعُومل ذلك الوقت معاملة يوم القيامة.
(2)
وقال ابن كثير في قوله تعالى: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}
أي: إذا أنشأ الكافر إيماناً يومئذ؛ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمناً قبل ذلك؛ فإن كان مصلحاً في عمله؛ فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحاً؛ فأحدث توبة حينئذٍ لم يقبل منه
(1)
أخرجه مسلم (2759) وأحمد (19529)
(2)
وانظرالنهاية في الفتن والملاحم (1/ 121) وأصول السنة لابن أبي زَمَنِين (ص/184)
توبته؛ كما دلت عليه الأحاديث الكثيرة، وعليه يُحمل قوله تعالى:{أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} :
ولا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملاً به قبل ذلك".
(1)
* تنبيه:
من العلماء من فصَّل في قبول التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها فقال:
أن من رأى طلوع الشمس من المغرب، أو ولد بعد ذلك وبلغ وسمع من جماعة حصل له يقين بقولهم إن الشمس طلعت من المغرب لا يقبل إيمانه ولا توبته.
وأما إن امتدت أيام الدنيا إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان، ولا يتحدثوا عنه إلا قليلاً فيصير الخبر عنهم خاصاً وينقطع التواتر، فمن أسلم في ذلك الوقت أو تاب قُبِل منه.
(2)
وقد استدلوا على ذلك بما يُروى عن عبد الله بن عمرو -رضى الله عنهما- مرفوعاً:
" تبقى الناسُ بعدَ طلوعِ الشمسِ من مغربها عشرين ومائة سنة ".
** والراجح -والله أعلم-خلاف ذلك:
فحجب التوبة عن الكافر والعاصي لا يختص بيوم طلوع الشمس من مغربها، بل يمتد إلى يوم القيامة، خلافاً لمن زعم أنه يمتنع قبول الإيمان والتوبة وقت طلوع الشمس من المغرب أي في تلك الحالة، وأن من تاب بعد ذلك أو أسلم قُبل ذلك منه.
-ومما يدل على ذلك ما يلي:
1 -
روى عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاص-رضى الله عنهما- أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
" وَلا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ المَغْرِبِ، فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِعَ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ، وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَلَ ".
(3)
(1)
تفسير القرآن العظيم (3/ 232)
(2)
وانظرالمفاتيح في شرح المصابيح (3/ 187) وتفسير القرطبي (7/ 146) والتوضيح لشرح الجامع الصحيح (22/ 349)
(3)
أخرجه أحمد (1671)، وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 232):"هذا الحديث حسن الإسناد ". وقال الألباني في الإرواء (5/ 34): " وهذا إسناد شامى حسن، رجاله كلهم ثقات "، وقال الشيخ أحمد شاكر:" إسناده صحيح"
وعن عبد الله بن عمرو-رضى الله عنهما- قال:
قِال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "الآيَاتُ خَرَزَاتٌ مَنْظُومَاتٌ فِى سِلْكٍ، فَإِنْ يُقْطَعِ السِّلْكُ يَتْبَعْ بَعْضُهَا بَعْضاً".
(1)
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:
" إِذَا خَرَجَ أَوَّلُ الْآيَاتِ، طُرحت الْأَقْلَامُ، وَحُبِسَتِ الْحَفَظَةُ، وَشَهِدَتِ الْأَجْسَادُ عَلَى الْأَعْمَالِ ".
(2)
وهو وإن كان موقوفاً، فإن له حكم الرفع؛ لأن مثل هذا مما لا يقال من جهة الرأي، لأنه شيء غيبي، فلا بد أن يكون مستنداً على الوحي.
وقد ذكر ابن حجر جملة من الأثار المرفوعة والموقوفة في ذلك، ثم قال:
فهذه آثار يشد بعضها بعضاً، متفقة على أن الشمس إذا طلعت من المغرب أغلق باب التوبة، ولم يفتح بعد ذلك، وأن ذلك لا يختص بيوم الطلوع، بل يمتد إلى يوم القيامة.
(3)
فالنصوص دلت على أن التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من مغربها، وأن الكافر لا يقبل منه الإسلام، ولم تفرِّق النصوص بين من شاهد هذه الآية وبين من وُجد بعدها ولم يشاهدها.
قال زين الدين العراقي:
كان شيخنا أبو حفص البلقيني يقول إذا تراخى الحال بعد طلوع الشمس من مغربها وتناساه أكثر الناس قُبلت التوبة والإيمان بعد ذلك؛ لزوال الآية التي تضطر الناس إلى الإيمان، وهذا يحتاج إلى دليل، وما أظن الزمان يتراخى بعد ذلك، ولا يبقى فيه مهلة وتطاوُل بحيث يطول العهد بذلك قبل يوم
(1)
أخرجه أحمد (7040) والحاكم (8639)، وقال " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه "
، الذهبي:"على شرط مسلم ". وصححه الشيخ أحمد شاكر، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (ح: 1762)
(2)
أخرجه الطبري في " جامع البيان "(14246)، وصححه الحافظ في الفتح (11/ 495)، وقال الشيخ أحمد شاكر:"إسناده صحيح". وانظر" تفسير القرآن العظيم "(3/ 232)
(3)
فتح الباري (11/ 495)
القيامة، والله أعلم.
(1)
وأما ما استدلوا به بما يُروى عن عبد الله بن عمرو -رضى الله عنهما- مرفوعاً:
"تبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة "
فقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 506)، ونعيم بن حماد في "الفتن"(2/ 656) عن عبد الله بن عمرو موقوفاً.
قال ابن حجر:
رفعه لا يثبت، وقد أخرجه عبد بن حُميد في تفسيره بسند جيد، عن عبد الله بن عمرو موقوفاً.
(2)
ومن المقرر عند العلماء أن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضى الله عنهما-كان ممن يحمل عن أهل الكتاب.
فقد حصل في حرب اليرموك على كتب لأهل الكتاب، فكان ينقل عنها الإسرائيليّات ويحدّث بها. قال ابن حجر:
وعبد الله بن عمرو بن العاص حصل له في وقعة اليرموك كتب كثيرة من كتب أهل الكتاب، فكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة، حتى كان بعض أصحابه ربما قال له: حدثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحدثنا عن الصحيفة، فمثل هذا لا يكون حكم ما يخبر به من الأمور الرفع لقوة الاحتمال، والله أعلم.
(3)
وقال ابن كثير بعد ذكره لحديث يرفعه عبد الله بن عمرو:
" يخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو، مما أخذه من الزاملتين ".
(4)
(1)
طرح التثريب (8/ 247)
(2)
وانظر "فتح الباري"(11/ 361)
(3)
النكت على كتاب ابن الصلاح (ص/193)
(4)
تفسير القرآن العظيم (3/ 271)
و" الزاملتين ": تثنية زاملة، وهي البعير الذي يحمل عليه، وكان عثر على حمل بعيرين من كتب أهل الكتاب في «اليرموك» ، فكان يُحَدِّثُ ببعض ما فيها من غير أن يرفعه إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فمن ثم تحاشى بعض الرُواة الرواية عنه احتياطاً.
*وهنا سؤلان:
الأول: إن قيل: وما الحكمة من طلوع الشمس من مغربها؟
فيقال في الجواب:
أن طلوع الشمس من مغربها آية تعم الكل، وتدل على الصانع المقلِّب للأشياء، ولقد زعم الملحدون وأهل النجوم أن ذلك لا يكون، فيبيِّن بذلك كذبهم، ويظهر القدرة على ما طلبه الخليل من النمرود بقوله:{فأتِ بها منْ المغَربِ} [البقرة: 258]
فيطلعها الله - تعالى- يوماً من المغرب ليُرِي المنكرين قدرته، وأن الشمس في ملكه، إن شاء أطلعها من المشرق، وإن شاء أطلعها من المغرب.
(1)
*الثاني:
لماذ يغلق باب التوبة بطلوع الشمس من مغربها؟
* والجواب من وجوه:
-الأول:
أن من شاهد طلوع الشمس من المغرب لا تقبل توبته إن كان مذنباً، ولا يقبل إيمانه إن كان كافرًا؛ لأن الإيمان والتوبة بالغيب مقبول، وأمَّا بالمشاهدة فغير مقبول، فإن جميع الأمم التي أُهلكت بالعذاب؛ كقوم ثمودَ وصالح ولُوط وغيرِهم آمنوا حين رأَوا عذابَ الله تعالى، فلم يُقبل إيمانهم، وكذلك فقد آمن فرعونُ حين أدركه الغَرق، ولكن لم يقبل إيمانه، بل أجيب بقوله تعالى:{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]
- الثاني:
أنه لا ينفع نفساً إيمانها عند طلوع الشمس من مغربها؛ لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم، وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه
(1)
وانظرالجامع لأحكام القرآن (7/ 96) وكشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 476)
الحالة لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت.
(1)
*الفائدة الثالثة: قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
" إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً
…
":
وأما سجود الشمس فهو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة:
قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)(الحج: 18)
ونحن نؤمن بذلك على الحقيقة، وإن كنا لا ندركه، كما أننا لا ندرك تسبيح الطيور، ولا نفقه تسبيح الجمادات ولكننا نوقن أنها تسبِّح لقوله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء: 44].
وكذلك فالشمس تسجد، وإن كنا لا ندرك سجودها ولا نراه، ولكنه سجود حقيقي.
* المخالفون في هذه المسألة:
من أهل الكلام والعقلانيين من أنكر ذلك بالتأويلات الباطلة؛ بدعوى أن الشمس لا تزال طالعة على الأرض، ولكنها تطلع على جهة منها، وتغرب عن الجهة الأخرى؛ فأين يكون مستقرها الذي إذا انتهت إليه سجدت، واستأذنت في الرجوع من المشرق؟!
* ومنهم من عمد إلى تحريف النص عن موضعه، فقالوا أن سجود الشمس تحت العرش ليس على حقيقته، بل هو تعبير وتصوير لانقيادها لأمر الله تعالى، حالها في ذلك حال انقياد الساجد من المكلَّفين وهو يخر إلى أسفل معلناً تمام انقياده، وغاية خضوعه لأمر ربه جل وعلا!!
(2)
(1)
وانظر التذكرة للقرطبي (ص/599) والمفاتيح في شرح المصابيح (3/ 179)
(2)
كما نص على ذلك ابن عاشور في " التحرير والتنوير"(23/ 20) بقوله معقباً على حديث الباب:
" وهذا تمثيل وتقريب لسير الشمس اليومي الذي يبتدئ بشروقها على بعض الكرة الأرضية وينتهي بغروبها على= =بعض الكرة الأرضية، ".
ويقول محمد أبو شُهبة مسألة عن سجود الشمس تحت العرش، في كتابه " دفاعٌ عن السنة، ورد شبه المستشرقين"!! (ص/182)
" وهذا من قبيل المجاز والتمثيل، وهذا مستساغ ومستفيض في لغة العرب، وإنما يستشكل مثل هذا من لم يتذوق لغة العرب، وما لهم من الافتنان في الأساليب وطرق البيان"!!
*والجواب عليهم أن يقال:
إنما ينكر ذلك الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم عن القبول والإذعان لآيات الله -عزوجل -الشرعية والكونية.
فتراهم في ريبهم يترددون، وفي صدق النبي صلى الله عليه وسلم يرتابون.
فقد زلَّت أقدامهم عن درَج التسليم للشرع، حتى ساغت بهم في الدرْك الأسفل من التعطيل والتحريف وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
فحسب المسلم أن يؤمن بما جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتقد أنه هو الحق، ولا يتكلف ما لا علم له به من تعيين الموضع الذي تسجد فيه الشمس، بل يكل علم ذلك إلى الله تعالى.
* ثم يقال هنا وجوه:
الوجه الأول:
أن يقال: قد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الشمس تسجد لربها نصاً لا يحتمل التأويل، وهذا النص يدل على أنها تسجد سجوداً حقيقياً لا مجازياً، ومن زعم أن سجودها كناية عن تمام انقيادها لأمر الله -تعالى-واستجابتها له؛ فقد صرف النص عن ظاهره، ولا شك أن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه.
الوجه الثاني:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الشمس تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، وهذا النص يدل على أنها إنما تسجد في موضع مخصوص، وهو مستقرها تحت العرش، ولو كان سجود الشمس كناية عن تمام انقيادها لأمر الله -تعالى- واستجابتها له؛ لكانت ساجدة على الدوام، ولا يخفى ما في هذا القول من المخالفة لنص الحديث، وما خالف النص فهو قول باطل مردود، وكفى بالنص حجة على كل مبطل.
الوجه الثالث:
يلزم من هذا القول إلغاء فائدة النص على سجود الشمس إذا انتهت إلى مستقرها تحت العرش، وما لزم عليه إلغاء النص؛ فهو قول سوء يجب اطراحه.
(1)
(1)
وانظر لهذه الأوجه " إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة "(3/ 202)
*نكتة اعتزالية:
قال الزمخشري:
وقوله تعالى {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْكَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}
فلم يفرّق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيراً، ليعلم أنَّ قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) جمع بين قرينتين، لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى، حتى يفوز صاحبهما ويسعد، وإلا فالشقوة والهلاك.
(1)
* والجواب:
أن الزمخشري يروم الاستدلال على صحة عقيدته في أن الكافر، وهو المراد في قوله تعالى {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} ، والعاصي وهو المراد في قوله تعالى {أو كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}
كلاهما سواءٌ في الحكم بالخلود في النار؛ إذ سوَّى بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد ظهور الآيات.
* وهنا يقال:
أنه لا يتم له ذلك؛ فإنَّ هذا الكلام اشتمل على النوع المعروف من علم البيان والبلاغة باللف.
وأصل الكلام:
" يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفساً لم تكن مؤمنة قبل ذلك إيمانها بعد ذلك، ولا ينفع نفساً كانت مؤمنة لكن لم تعمل في إيمانها عملاً صالحاً قبل ذلك ما تعمله من العمل الصالح بعد ذلك، إلا أنه لفُّ الكلامين فجعلهما كلاماً واحداً بلاغة واختصاراً وإعجازاً.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ ويستكبر فسيحشرهم إِلَيْهِ جَمِيعًا)(النساء: 172)
* لذا نقول:
لا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير، وإنْ نفع الايمان المتقدِّم في السلامة من الخلود، فهذا بأن يدل على رد الاعتزال أجدر من أن يدل له.
(2)
والحاصل:
أن هذه الأية ليست دليلاً للمعتزلة على خلود صاحب الكبيرة في النار، بل غاية ما فيها الإخبار عن الختم على عمل كلِّ أحد بالحالة التي هو عليها.
(1)
الكشَّاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 80)
(2)
وانظر فتح الباري (11/ 497) والانتصاف فيما تضمنه الكشَّاف (2/ 82)
فلا ينفع أصل الإيمان الذي يحدثه صاحبه بعد رؤيته لطلوع الشمس من مغربها، وكذلك لا ينفع ما يحدثه صاحب أصل الإيمان من توبة من معاصيه؛ لأن حكم الإيمان والعمل عند طلوع الشمس من مغربها كحكمه عند الغرغرة، فلا ينفع الإيمان ولا التوبة في هذين الموضعين بجامع أنه في كليهما قد عاين المرء أحوال الآخرة، فهو في حكم من حضره الموت.
فالمؤمنَ المقصِّر لن ينفعه أن يزداد خيرُه بعد طلوع الشمس من مغربها، بل ينفعه ما كان معه من الإيمان قبل ذلك، وما كان له من الخير المرجوِّ قبل أن يأتي بعض الآيات.
*الفائدة الابعة: قول النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
" إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ،
…
"
وهنا نذكر أدلة ثبوت العرش، وما ورد في صفته:
1 -
ما ورد من أدلة في إثبات العرش:
لقد جاء ذكر عرش الرحمن في القرآن في واحد وعشرين موضعاً، وكذلك فقد بلغت حد التواتر في السنة، كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي وابن أبي شيبة.
(1)
* نذكر منها ما يلي:
…
(التوبة: 129)
قال ابن كثير:
وهو رب العرش العظيم: أي هو مالك كل شيء وخالقه، لأنه رب
(1)
وانظر مجموع الفتاوى (6/ 584) و"العلو للعلي الغفار"(ص/ 89) و"كتاب العرش"(ص/51).
العرش العظيم الذي هو سقف المخلوقات، وجميع الخلائق من السماوات والأرضين وما فيها وما بينهما تحت العرش مقهورين بقدرة الله تعالى، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل.
(1)
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (هود: 7)
* ومن أدلة السنة:
1 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(2)
2 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رضى الله عنهما- أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ:
(3)
3 -
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
«اهْتَزَّ العَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» .
(4)
4 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي
(1)
تفسير القرآن العظيم (2/ 405)
(2)
أخرجه البخاري (2790) وأحمد (8474)
(3)
متفق عليه.
(4)
متفق عليه.
* تنبيه:
وهذا الحديث على ظاهره، فالعرش قد اهتز فرحاً وسروراً لقدوم سعد بن معاذ رضي الله عنه، وذكلا خلافاً لمن تأول النص على خلاف ذلك فقال هو اهتزاز حملته سروراً واستبشاراٍ بقدومه، فحذف المضاف، كقوله تعالى {واسأل القرية} . وانظر إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص/243)
كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي».
(1)
* أما الإجماع:
قال الأوزاعي:
كنا -والتابعون متوافرون- نقول: إن الله- تعالى - فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته.
(2)
قال أبو عمر الطلمنكي:
وأجمعوا - يعني أهل السنة والجماعة - على أن لله -تعالى- عرشاً، وعلى أنه مستوٍ على عرشه.
(3)
2 -
ومما ورد في صفة العرش:
عرش الله -تعالى- على الماء:
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضى الله عنه- أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
(4)
وقال ابْنِ مَسْعُودٍ رضى الله عنه:
«ما بَيْنَ السَّماءِ الدنيا والتي تليها مَسِيرة خمسمائة عام، وبين كلِّ سَماءَيْن مسيرة خمسمائة عام، وبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الكُرْسِيِّ خَمْسمِائَة عَامٍ، وَبَيْنَ الكُرْسِيِّ إِلَى المَاءِ خَمْسمِائَة عَامٍ، والْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ".
(5)
* تنبيه:
عَنْ جَابِرٍ-رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
" إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً "
(6)
(1)
متفق عليه.
(2)
أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات"(ص/410) وصححه شيخ الإسلام في " الفتوى الحموية الكبرى"(ص/296)، وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ (1/ 181):" هذا إسناد صحيح".
(3)
مجموع الفتاوى (5/ 519)
(4)
أخرجه البخاري (7418) وأحمد (19876)
(5)
اأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (858) والدارمي في " الرد على الجهمية "(ص/59)، وقد أورده ابن القيم
في "اجتماع الجيوش الإسلامية"(ص/160) وقال: "رواه سنيد بن داود بإسناد صحيح ". وقال الألباني في مختصر العلو (ص/103): "إسناده صحيح".
(6)
أخرجه مسلم (2813)
قيل:
أن المراد بالعرش هنا هو التعبير عن استيلائه على الخلق، وتسلُّطه على إضلالهم بذكر وضع العرش على الماء. والصحيح -والله أعلم- حمل الحديث على ظاهره، ويكون من جملة تمرُّد إبليس وطغيانه وضع عرشه على الماء، فقد جعله الله - تعالى- قادراً على ذلك استدراجاً؛ وذلك ليغتر بأنَّ له عرشاً على هيئة عرش الله عزوجل، فيغرَّ بعض السالكين الجاهلين بالله -تعالى-أنه الرحمن.
* ومما يؤيد هذا الظاهر:
ما رواه أَبوسَعِيدٍ-رضى الله عنه- أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال لابن صيَّاد: مَا تَرَى؟» قَالَ: أَرَى عَرْشاً عَلَى الْمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
" تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ".
(1)
3 -
العرش مخلوق عظيم، وله قوائم:
الذي يُستقرأ من الأدلة الشرعية أن عرش الرحمن- تبارك وتعالى يعتبر أعظم مخلوقات الله - تعالى- وأوسعها على الإطلاق،
(1)
أخرجه مسلم (2924)
* تنبيه مهم:
ما يتناقله البعض من كون عرش إبليس في " مثلث برمودا "، فهذا من الغيب الذي لا سبيل لمعرفته إلا بالخبر الصادق من الكتاب أوالسنة، ولم يثبت في ذلك شيء على سبيل الجزم.
ولا شك أن منطقة " مثلث برمودا "، والتي تقع على البحر الأطلسي، قد شَكَّلَت ظاهرة غريبة، حيَّرت العلماء والباحثين، من حيث اختفاء الكثير من السفن والطائرات في ذلك المكان، وتوّقف كافة الاتصالات عن البث، وعلى الرغم من التقدم العلمي، إلا إن هذه الظواهر ما زالت غامضة لدى العلماء والباحثين.
وقد صنف فى ذلك بعض الكتَّاب أمثال الكاتب منصور عبدالحكيم في كتابه "عرش إبليس ومثلث برمودا والأطباق الطائرة"، وكتابه " مواجهة الجن"، ونص فيها على أن عرش إبليس يقع في منطقة برمودا بالمحيط الأطلسي.
ومن هذه الكتب أيضاً كتاب " حوار مع الجن" للكاتب أسامة عبدالكريم، والذي أخبر فيه أنه قد جاءته رسالة من جن مسلم يدعى "كنچور" يخبره فيها بوجود عرش إبليس في مثلث برمودا!!
وأنظر كتاب"عرش إبليس ومثلث برمودا والأطباق الطائرة "(ص/13)
ولكنَّ هذه الأمور من العلم الذي لا ينفع، والجهل الذي لا يضر، فالمؤمن لا يشغله تحديد مكان عرش إبليس، وإنما يشغله كيف ينجو من الشيطان، وحبائله، وكيف يكون من عباد الله - تعالى- المخلصين، الذين قال الله فيهم:
" إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ "[الحجر: 42].
فقد خص الله عز وجل -العرش بهذه الميِّزة العظيمة، وشرفه بها لكي يتناسب مع ذلك الشرف العظيم، ألا وهو استواء البارئ- عز وجل عليه.
* ومما يدل على سعة العرش وعظم خلقه:
ما ورد عن أبي ذر الغفاري -رضى الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما السَّماوات السّبع في الكُرسيِّ إلَّا كحلقةٍ ملقاةٍ بأرضٍ فلاةٍ، وفضلُ العرشِ على الكُرسيِّ كفضلِ تلك الفلاةِ على تلك الحلقةِ ".
(1)
وعن ابن عباس -رضى الله عنهما- قال:
"الكرسيُّ موضِعُ القدمين، والعرشُ لا يَقْدِرُ أحدٌ قدرَه".
(2)
ومثل هذا مما لا يقال بالرأي، وفيه دلالة بيِّنة على إثبات ابن عباس -رضى الله عنهما- للكرسي، لذا فما يُروى عنه من تأويل للكرسي بأنه العلم فلا يصح.
(3)
(1)
رواه بن حبان (361) وابن أبي شيبة في العرش (رقم: 58)، قال الحافظ في "الفتح" (13/ 411):
صححه ابن حبان، وله شاهد عن مجاهد، أخرجه سعيد بن منصور في "التفسير" بسند صحيح عنه".
وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (109) بعد ذكره لطرق الحديث:
" وجملة القول أن الحديث بهذه الطرق صحيح "..
(2)
أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد"(ص/101) وعبد الله بن أحمد في "السنة"(ص/183)، وصححه الدارمي في " نقضه على المريسي" (رقم: 94)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (3116)، وقال:"صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وقد نقل ابن منده في التوحيد (3/ 309) تصحيح عن أبي زرعة، وصححه الشيخ مقبل الوادعي في تخريجه لأحاديث تفسير ابن كثير (1/ 571)
وقال الألباني في تحقيق مختصر العلو (ص/102): " هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات".
وانظر" سلسلة الآثار الصحيحة من أقوال الصحابة والتابعين "(2/ 216)
(3)
فقد روى الطبري من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه -أنه قال:
"وسع كرسيُّه: كرسيُّه: " علمه ".
ولكنه لايصح؛ لأن مداره على جعفر بن أبي المغيرة، وفيه لين، كما أنه قد خالف الثقات المكثرين ممن هم أوثق منه من أصحاب سعيد بن جبير.
فقد روى مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "الكرسيُّ موضع القدمين"، وهى رواية صحيحة كما سبق بيانه قريباً.
وممن صعَّف هذا الأثر: الدارمي في "الرد على المريسي"(ص/208) والذهبي في " العلو "(ص/117) وابن منده في " الرد على الجهمية "(1/ 21).
* وكذيك يقال:
أن تفسير الكرسي بالعلم، مخالف بلا أدنى شك لما صح عن النبي- صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم كابن مسعود وأبي موسى، في بيان عظم خلق الكرسي، وأنه أعظم مخلوق. وليس في لغة العرب تفسير الكرسي بالعلم.
قال أبو العباس ابن تيمية:
الكرسي ثابت بالكتاب والسنة وإجماع جمهور السلف. وقد نقل عن بعضهم: أن " كرسيه " علمه. وهو قول ضعيف؛ فإن علم الله وسع كل شيء كما قال: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} ، فلو قيل وسع علمه السماوات والأرض لم يكن هذا المعنى مناسباً. انظرمجموع الفتاوى (6/ 584)
*وعَنْ جُوَيْرِيَةَ-رضى الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ:
«مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟»
قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ:
" سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ ".
(1)
قال أبو العباس ابن تيمية:
فهذا يبيِّن أن زنة العرش أثقل الأوزان.
(2)
قال ابن القيم:
وقوله: "وزنة عرشه": فيه إثبات للعرش، وإضافته إلى الرب سبحانه وتعالى، وأنه أثقل المخلوقات على الإطلاق؛ إذ لو كان شيء أثقل منه لوزن به التسبيح.
(3)
* وللعرش قوائم:
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ- رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(4)
* وللعرش حملة من الملائكة:
قال تعالى (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)) (الحاقة: 17)
وعن جابر بن عبد الله -رضى الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أُذِنَ
(1)
أخرجه مسلم (2726) وأحمد (27421)
(2)
مجموعة الرسائل والمسائل (4/ 122)
(3)
المنار المنيف في الصحيح والضعيف (ص/19)
(4)
متفق عليه.
لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ ".
(1)
* سؤال وجواب:
قال تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)) (الرحمن: 26)، فهل العرش داخل في هذا العموم؟
* والجواب:
العرش لا يفنى؛ لأن الله عز وجل مُستوٍ عليه استواءً يليق بجلاله، قال تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضى الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
" فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ ".
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وأما «العرش» فلم يكن داخلاً فيما يشقه ويفطره، بل الأحاديث المشهورة دلت على ما دل عليه القرآن من بقاء العرش، وقد ثبت في الصحيح أن جنة عدن، سقفها عرش الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم:«إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن» .
(3)
وقال رحمه الله:
قد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يَعْدَمُ ولا يفنى بالكلية، كالجنة والنار والعرش، وغير ذلك.
(4)
قال أحمد:
وأما العرش فلا يبيد ولا يذهب؛ لأنه سقف الجنة، والله -تعالى- عليه فلا يهلك ولا يبيد.
(5)
(1)
أخرجه أبو داود (4727). و قال ابن كثير: "هذا إسناد جيد، رجاله ثقات". وقال ابن حجر: "إسناده على شرط الصحيح"، وانظر تفسير القرآن العظيم (8/ 115) وفتح الباري (8/ 665).
(2)
أخرجه البخاري (2790) والترمذي (2529)
(3)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 465)
(4)
مجموع الفتاوى (18/ 307)
(5)
الرد على الجهمية والزنادقة (ص/327)
قال ابن القيم:
والعرش والكرسي لا يفنيهما
…
أيضا وإنّهما لمخلوقان.
(1)
وقال السيوطي:
ثمانية حُكْمُ البقاء يعُمُّها
…
من الخلق والباقون في حيِّز العدمْ
هي العرش والكرسي نار وجنة
…
وعَجْب وأرواح كذا اللوح والقلم.
(2)
* فإن قيل: كيف عرش الرحمن؟
فالجواب أن يقال ما قاله مالك في صفة الاستواء، في عبارة جامعة مانعة، قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية:
" هذا الجواب من مالك رحمه الله في الاستواء شافٍ كافٍ في جميع الصفات ".
(3)
*فكذلك هنا يقال:
"العرش في اللغة غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"
فنقول: أنَّ العرش في اللغة غير مجهول:
فالعرش هو سرير المُلْك، أو سرير المَلك، كما قال تعالى حاكياً عن الهدهد (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) (النمل: 23).
(4)
- وأما الكيف به فأمر مجهول؛ لأن رؤية الشيء فرع على العلم بكيفيته، ونحن ما رأينا العرش، لذا فالخوض في كيفيته هو قول على الله -تعالى- بغير علم، وهذا من نزغ الشيطان لأهل البدع،
…
كما قال تعالى (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)) (البقرة: 169).
(1)
" الكافية الشافية في الإنتصار للفرقة الناجية "(1/ 47)
(2)
وانظر تحفة المريد (2/ 64) وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد (1/ 69)
(3)
مجموع الفتاوى (4/ 4)
(4)
وانظر مختار الصحاح (ص/223) والمصباح المنير (ص/239) ومطالع الأنوار (4/ 415)
-وأما الإيمان به فواجب شرعاً، فهو من مسائل الاعتقاد التى تمايز بها أهل السنة عن أهل البدع، وسطَّرها أئمة العلم والاعتقاد، بل وخصوها بالتصنيف.
(1)
- وأما السؤال عنه فهو بدعة؛ فإن أهل العلم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومن سار على نهجهم واتَّبَعَ هديهم قد آمنوا بالله -تعالى - وبما جاء عن الله تعالى، وعلى مراد الله، وآمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء عن رسول الله، وعلى مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دون أن يخوضوا في ذلك على سبيل التعمُّق والتنطع والتحريف والتعطيل.
* المخالفون لأهل السنة في الأصل:
لم يزل أهل السنة على التنبيه على مخالفة أهل البدع المنكرين لحقيقة العرش؛ لذا فقد سطَّر أهل السنة والجماعة هذه المسألة، وأفردوها بذكر الأدلة عليها، والرد على منكري حقيقة العرش، الذين حرَّفوها إلى المعاني الباطلة.
قال أبو سعيد الدارمي:
وما ظننا أنا نضطر إلى الاحتجاج على أحد ممن يدَّعي الإسلام في إثبات العرش والإيمان به، حتى ابتلينا بهذه العصابة الملحدة في آيات الله، فشغلونا بالاحتجاج لما لم تختلف فيه الأمم قبلنا، وإلى الله نشكو ما أوهت هذه العصابة من عرى الإسلام، وإليه نلجأ، وبه نستعين.
(2)
فقد زعمت الجهمية والمعتزلة والماتريدية وعامة متأخري الأشاعرة أن معنى العرش في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} هو الملك، وأن العرش ليس على حقيقته.
قال الزمخشري:
لما كان الاستواء على العرش، وهو سرير الملك مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك، فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون الملك،
(1)
ومن أمثلة ذلك:
الرسالة العرشية " لشيخ الإسلام ابن تيمية، و " العرش وما رُوِي فيه" لأبي جعفر محمد بن أبي شيبة، و " كتاب العرش" لأبي عبد الله الذهبي.
(2)
وانظر " الرد على الجهمية "(ص/33)
وإن لم يقعد على السرير البتة.
(1)
قال أبو منصور البغدادي:
والصحيح عندنا تأويل العرش على معنى الملك، كأنه أراد أن الملْك ما استوى لأحد غيره.
وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب " ثُلَّ عرش فلان " إذا ذهب ملكه، وقال متمم بن نويرة في هذا المعنى:
" عُرُوشٌ تفانوا على عِزٍ وأمة
…
هووا بعد ما نالوا السلامةَ والبقا "
(2)
*ومن الرد عليهم في هذه الفرية:
1 -
ما ورد من أدلة على وجود حملة للعرش؛ فهى دالة على أنه عرش على الحقيقة، وليس أن العرش هو الملك، كما يدَّعي المخالفون.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (غافر: 7)
وقال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} (الحاقة: 17)
قال أبو العباس ابن تيمية:
ثم إن قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} ، وقوله:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} يوجب أن لله -تعالى- عرشاً يُحمل، ويوجب أن ذلك العرش ليس هو الملك، كما تقوله طائفة من الجهمية.
(3)
2 -
قد قال تعالى {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} (هود: 7)
فعلى القول أن العرش هو الملْك، فهل يقال أن ملْك الله -تعالى-كان على الماء فقط؟!
*ومن أدلة السنة على أنه عرش على الحقيقة:
ما رواه جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ-رضى الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(4)
(1)
انظر "الكشَّاف "(3/ 52)" شرح الأصول الخمسة "(ص/ 226)
(2)
"أصول الدين"(ص /112)
(3)
بيان تلبيس الجهمية (3/ 278)
(4)
أخرجه أبوداود (4727) وأورده ابن كثير في "تفسيره": (4/ 414)، وقال: إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات. وقال الذهبي " (ص/114):" إسناده صحيح". وانظر "مختصر العلو للعلي الغفار"(ص/114) والسلسلة الصحيحة (ح/151)
*وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ- رضي الله عنه قَالَ:
قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(1)
والشاهد لنا من هذا الحديث قوله: "فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش":
فدل ذلك على أن للعرش قوائم، ولم يرد في الشرع تحديد عدد لها، فهذا الحديث هو من أقوى الأدلة على أن العرش ليس المراد به الملك.
* من المسائل التي تتعلق بالعرش: استواء الله- تعالى -على العرش:
مسألة الاستواء على العرش ثابتة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهى صفة فعليه ثابته لله عزوجل، وأهل السنة مجمعون على إثبات هذه الصفة على حقيقتها على ما يليق بالله تعالى.
وقد جاء ذُكر الاستواء في القرآن الكريم في سبعة مواضع، من سورة:" الأَعراف، ويونس، والرعد، وطه، والفرقان، والسجدة، والحديد "، ومجيء ذكر الاستواء في القرآن بهذا العدد إنما هو لتأكيد عظم هذا الأمر وأهميته.
قال تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)(طه: 5)
وقال تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)(السجدة: 4)
وقال تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)) (الفرقان: 59)
* ومن السنة:
السنة مليئة بالأحاديث والآثار التي تثبت الاستواء وتؤكده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
كونه فوق العرش ثبت بالشرع المتواتر وإجماع
(1)
متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم، (حوسب بصعقة الأولى):
أي عدت عليه الصعقة التي صعقها في الدنيا، وذلك عندما طلب من الله- تعالى- أن ينظر إليه، فتجلَّى سبحانه للجبل؛ لأن كل مكلف يصعق مرتين فقط.
سلف الأمة، مع دلالة العقل ضرورة.
(1)
عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رضي الله عنه قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ".
(2)
* الإجماع:
قال عليُ بن المديني:
أهل الجماعة يؤمنون بالرؤية وبالكلام، وأن الله فوق السماوات على العرش استوى.
(3)
بل قد نقل سعيد بن عامر الضبعي إجماع أهل الأديان على ذلك، فقال رحمه الله:
الجهمية شر قولًا من اليهود والنصارى، قد أجمع أهل الأديان مع المسلمين على أن الله -تعالى- على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء.
(4)
* قال ابن زمنين:
ومن قول أهل السنة: أن الله عز وجل خلق العرش، واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق،
…
ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه.
(5)
ولما جاء رجلٌ إلى الإمام مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله؛ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} ؛ كيف استوى؟ أطْرَقَ مالكْ وأخذتْهُ الرُّحضَاء، ثم رفع رأسه، فقال:
" الاستواءُ غير مَجْهُولِ، والكَيْفُ غير معقول، والإيمانُ به وَاجبٌ، والسؤالُ عنه بدعةٌ، وما أراكَ إلا مُبْتَدِعاً، فَأمَرَ به أن يُخْرَجَ.
(6)
(1)
بيان تلبيس الجهمية (5/ 127)
(2)
قال ابن القيم في "إجتماع الجيوش الإسلامية"(ص/54): " رواه الخلال في "السنة " بإسناد صحيح على شرط البخاري"
(3)
اجتماع الجيوش الإسلامية (ص/146)
(4)
اجتماع الجيوش الإسلامية (ص/134)
(5)
: أصول السنة، (ص/88)
(6)
أخرجه الأصبهاني في " طبقات المحدثين "(2/ 214) والدارمي في "الرد على الجهمية"(رقم: 104) واللالكائي في "شرح أصول الإعتقاد"(رقم: 664)، وصحَّح إسناده الذهبي في "كتاب العرش"(2/ 181)، وفي تذكرة الحفاظ=
= (1/ 155)، وجوَّد إسناده البيهقي في الأسماء والصفات، والحافظ في "الفتح"(13/ 406). وانظر " الصحيح المسند من أقوال الصحابة والتابعين"(2/ 45)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وقول مالك من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشده استيعاباً؛ لأن فيه نبذ التكييف وإثبات الاستواء المعقول، وقد ائتم أهل العلم بقوله واستجودوه واستحسنوه.
(1)
*وقول الإمام مالك: " الاستواءُ غير مَجْهُولِ.. ":
أي أنه معلوم في لغة العرب التي نزل بها القرآن، فقد ذُكر الاستواء في حق الله -تعالى- متعدياً بـ "على": وهذا في لغة العرب معناه:
«العلو» و «الارتفاع» و «الاستقرار» و «الصعود»
فالاستواء معلوم في اللغة، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه، كما نص عليه جميع أهل اللغة وأهل التفسير المقبول.
(2)
قال بِشْرُ بْنُ عُمَرَ:
سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قَالَ: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى: ارْتَفَعَ.
(3)
*وأما قول مالك: " الكَيْفُ غير معقول":
فكما سبق وذكرنا أن رؤية الشيء فرع على العلم بكيفيته، ونحن ما رأينا كيفية صفة الاستواء، لذا فالخوض في كيفيتها من القول على الله -تعالى- بغير علم.
قال القرطبي:
ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وخُص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء؛ فإنه لا تعلم حقيقته.
(4)
* المخالفون لأهل السنة في صفة الاستواء:
وهم المحرِّفة الذين بدَّلوا الكَلِم عن
(1)
مجموع الفتاوى (5/ 520)
(2)
وانظرالتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (3/ 340) ومختصرالصواعق المرسلة (ص/366)
(3)
ذكره الذهبي في " الأربعون في صفات رب العالمين"(ص/36)، وانظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 40)
(4)
الجامع لأحكام القرآن (7/ 140)
مواضعه، ففسَّروا الاستواء في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} بالاستيلاء.
وهذا القول يذهب إليه كثير من الجهمية والمعتزلة والحرورية، وكثير من متأخري الأشاعرة.
(1)
قال أبو نعيم البلخي:
" كان رجل من أهل مرو صديقاً لجهم ثم قطعه وجفاه، فقيل له: لم جفوته؟ فقال: جاء منه ما لا يحتمل، قرأتُ يوماً {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]
قال: " أما والله لو وجدتُ سبيلاً إلى حكها لحككتها من المصحف ".
(2)
* ومما استدل به هؤلاء على تحريفهم:
1 -
ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما:
أنه قال في في قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)[طه: 5] قال:
استولى على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان.
2 -
أن تفسير الاستواء بالاستيلاء أمر مشهور في لغة العرب.
قال القاضي عبد الجبار:
والمراد بالاستواء هو الاستيلاء والاقتدار، كما يقال استوى الخليفة على العراق، وكما قال الشاعر:
" قد استوى بشر على العراق
…
من غير سيف ولا دم مهراق ".
(3)
* وتراهم يردُّون تفسير السلف للاستواء بدعوى أنه مستلزم للتجسيم، كما يقول
(1)
وممن قد نص على ذلك:
بشر المريسي كما نقله عنه عثمان بن سعيد في " نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد "(ص/319)، واللقاني في "هداية المريد "(2/ 492) والجويني في "لمع الأدلة"(ص/108)
(2)
وانظر خلق أفعال العباد (ص/20) والسنة لعبد الله بن أحمد (ص/69)، وقال الألباني في "مختصر العلو"(ص/162)"سنده صحيح".
(3)
وهذا البيت مما قد استدل به القاضي عبد الجبار في "متشابه القرآن"(ص/73) و" شرح الأصول الخمسة"(ص/226) على تفسير الاستواء بالاستيلاء.
وهو بيت هو لشاعر نصراني يدعى الأخطل، قاله لبشر بن مروان بن الحكم، ثالث أبناء الخليفة مروان بن الحكم، وذلك حين ولاّه أخوه عبد الملك الكوفة والبصرة.
وانظر المختصر في أصل الدين (ص/333) ضمن رسائل العدل والتوحيد، و" العرش وما رُوِي فيه "(ص/162)
ومنهج المتكلمين (2/ 537) وتنزيه القرآن عن المطاعن (ص/226)
الرازي:
" ثبت بمجموع الدلائل العقلية والنقلية أنه لا يمكن حمل قوله " ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ "على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز!!
(1)
وكل نص أوهم التشبيها
…
أوّله أو فوّض ورُم تنزيهاً
وهذا يجسِّد لنا جناية أهل التحريف على نصوص الاعتقاد، حينما يُلبسون التحريف ثوب التنزيه، ويُرمون أهل الإثبات بالتجسيم والتشبيه، فترى عطب الفهم في مسلاخ تأصيل وتأسيس.
* الرد على هذا الزعم الباطل:
قد رد علماء أهل السنة على هذه الفرية وبيَّنوا بطلانها، ومن هؤلاء الإمام ابن القيم الذى فنَّد عوار هذا التحريف في مصنَّفه "الصواعق المرسلة "، ورد عليه من إثنين وأربعين وجهاً، فجعلها حصيداً كأن لم تغن بالأمس.
* ومما يجاب به على تحريف المعطلة لصفة الاستواء:
1 -
أن هذا اللفظ قد اطرد في القرآن والسنة، حيث ورد بلفظ الاستواء دون الاستيلاء، ولو كان معناه استولى لكان استعماله في أكثر موارده كذلك، فإذا جاء في موضع أو موضعين بلفظ استوى حُمِل على معنى استولى؛ لأنه المألوف المعهود.
وأما أن يأتي إلى لفظ قد اطرد استعماله في جميع موارده على معنى واحد، فيدَّعي صرفه في الجميع إلى معنى لم يعهد استعماله فيه ففي غاية الفساد، ولم يقصده ويفعله من قصد البيان، هذا لو لم يكن في السياق ما يأتي حمله على غير معناه الذي اطرد استعماله فيه، فكيف وفي السياق ما يأبى ذلك.
(2)
2 -
قد أطبق كبار أهل التفسير واللغة على تفسير الاستواء بالارتفاع والعلو على العرش، كما ورد ذلك عن ابن عباس وأبي العالية والحسن البصري ومجاهد بن جبر
(1)
مفاتيح الغيب (14/ 269)
(2)
مختصر الصواعق المرسلة (ص/354)
والربيع بن أنس البكري.
والبخاري وابن قتيبة وابن جرير وابن أي حاتم وابن عبدالبر والبغوي وغيرهم.
وهو قول: كبار أئمة اللغة أمثال: الخليل بن أحمد والفرَّاء والأخفش.
(1)
لذا فالقول بتفسير الاستواء بالاستيلاء هو قول محدث في الأمة، وخروج على إجماع أئمة السنة.
بل هو تحريف بيِّن لم يعرفه الصدر الأول، ولا القرون الخيرية من بعده، ومن لم يكن يؤمنذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
قال أبو العباس ابن تيمية:
ذكر أبو المظفر في كتابه " الإفصاح " قال:
سئل الخليل: "هل وجدتَ في اللغة استوى بمعنى استولى"؟
فقال: هذا ما لا تعرفه العرب؛ ولا هو جائز في لغتها، وهو إمام في اللغة على ما عرف من حاله، فحينئذ حمله على ما لا يعرف حمل باطل.
(2)
قال أبو بكر محمد بن النضر:
" كان ابن الأعرابي جارنا، وذكر لنا أن ابن أبي دؤاد سأله أتعرف في اللغة: استوى بمعنى استولى؟ فقال: لا أعرف.
(3)
3 -
قد قال تعالى (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)) (المؤمنون: 28)، وقال تعالى (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) (هود: 28) فلو تنزلنا معكم أن الاستواء هو الاستيلاء، فهل استولى نوح-عليه السلام
ومن معه على السفينة؟!، وهل استولت السفينة على جبل الجودي؟!
4 -
لو كان الله -تعالى- مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء، وهو تعالى مستولٍ على الأشياء كلها، لكان مستوياً على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء، وعلى
(1)
وانظر مجموع الفتاوى (5/ 519) وفتح الباري (13/ 574) و"العلو" للذهبي (ص/118 - 138) و "شرح أصول اعتقاد أهل السنة "(3/ 397، 400) و"العين"(7/ 326)
(2)
مجموع الفتاوى (4/ 146)
(3)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 45)
الحشوش، والأقذار؛ لأنه قادر على الأشياء مستولٍ عليها.. وإذا كان قادراً على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله -تعالى- مستوٍ على الحشوش والأخلية، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها.
(1)
6 -
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الحديد: 4)
فذكر وقوع الاستواء بعد خلق السماوات والأرض، فلو كان الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء أو القهر، ونحو ذلك، على ما حرَّفته الجهمية والمعتزلة، لكان الله -تعالى- غير مستولٍ على العرش ولا قاهر له قبل خلق السموات والأرض، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
(2)
5 -
تفسير الاستواء بالاستيلاء يقتضي وجود منازعة بين الله - تعالى- وبين غيره؛ فإن الاستيلاء لا يأتى إلا بعد مغالبة، والله -عزوجل - لا ينازعه أحد في ملكه.
قال ابن كثير:
ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علواً كبيراً؛
فإنه إنما يقال استوى على الشئ إذ كان ذلك الشئ عاصياً عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء الملك على المدينة بعد عصيانها عليه، وعرش الرب لم يكن ممتنعاً عليه نفساً واحداً، حتى يقال استوى عليه.
(3)
* قال داود بن علي: كنا عند ابن الأعرابي، فأتاه رجل، فقال:
يا أبا عبد الله، معنى قوله تعالى:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) استولى، فقال:
اسكت، العرب لا تقول للرجل استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب قيل: استولى، والله
(1)
الإبانة عن أصول الديانة (2/ 998)
(2)
كتاب العرش للذهبي (2/ 142)
(3)
البداية والنهاية (9/ 262)
- تعالى- لا مضاد له، والاستيلاء بعد المغالبة، أَمَا سَمِعْتَ النَابِغَةَ:
أَلَا لِمِثْلِكَ أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقُهُ
…
سَبْقَ الْجَوَادِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ.
(1)
*فإن قيل:
أليس وصف الله -تعالى- بالاستيلاء موافقاً لمعنى اسم " المهيمن "؟
* فجوابه:
أن معنى اسم " المهيمن ": هو المطلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً، الشهيد على أعمال العباد. فأين هذا من وصف الله -تعالى- بالاستيلاء الذي لايكون إلا بعد المغالبة والمنازعة؟!
* الرد على ما استدلوا به من شبهات:
أما استدلالهم بما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما -في قوله " الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى "أنه قال: " استولى على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان"
* فالجواب أن:
هذا أثر منكر، ونقلته مجهولون وضعفاء، في سنده عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد وهما ضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف.
(2)
ثم يقال:
أنتم لا تقبلون أصالة الاحتجاج بأخبار الآحاد في أصول الاعتقاد، وإن نقلها العدول، فكيف يسوغ لكم الاحتجاج بهذا الأثر المنكر في هذا الباب؟!
* أما استدلالهم بقول الشاعر:
" قد استوى بشر على العراق
…
من غير سيف ولا دم مهراق.
* فيقال جواباً عليه:
أن هذا البيت منسوب لشاعر نصراني يدعى الأخطل، فكيف يُترك ما تكاثر نقله عن أئمة السلف في تفسير الاستواء بالعلو والارتفاع ليركن إلى بيت شعر مهلهل، بيت آيل للسقوط، لم يتجرأ المستدلُّون به على التصريح بنسبته
(1)
أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات"(ص/415)، واللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(2/ 45)، وصححه الألباني في "مختصر العلو"(ص/195)
(2)
وانظر اجتماع الجيوش الإسلامية (ص/80) والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (3/ 341) ولسان الميزان (1/ 168)
إلى الأخطل النصراني؟!!
فلنعم الحجة إذا كانت ذات قوة، أو تأوي إلى ركن شديد.
تراهم بالأمس القريب يعدلون عن الكتاب والسنة وإجماع الأمة في إثبات صفة الكلام لله -تعالى- استناداً لبيت منسوب لنفس الشاعر النصراني:
"إنَّ الكلامَ لفي الفؤادِ وإنما...... جعلَ اللسانُ على الفؤادِ دليلاً "
أولا يرون أنهم يفتنون في كل باب مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكرون.
*قال أبو العباس ابن تيمية رداً على استدلالهم بالبيت: " قد استوى بشر على العراق
…
:
لم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه، وقالوا: إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة، وقد علم أنه لو احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته، فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده؟! وقد طعن فيه أئمة اللغة.
(1)
قال ابن القيم:
أن هذا البيت محرَّف وإنما هو هكذا:
" بشر قد استولى على العراق"
هكذا لو كان معروفاً من قائل معروف، فكيف وهو غير معروف في شيء من دواوين العرب وأشعارهم التي يرجع إليها.
*ولو صح هذا البيت، وأنه غير محرَّف لم يكن فيه حجة بل هو حجة عليهم، وهو على حقيقة الاستواء؛ فإن بشراً هذا كان أخا عبد الملك بن مروان، وكان أميراً على العراق، فاستوى على سريرها كما هي عادة الملوك ونوابها أن يجلسوا فوق سرير الملك مستوين عليه.
(2)
* أما دعوى أهل التحريف أن تفسير الاسْتَواء عَلَى الْعَرْشِ بالعلو والارتفاع والاستقرار يلزم منه شغل المكان والحيز!!
فهى دعوى باطلة، لم يعرف أصحابها من الاثبات إلا التشبيه، ففروا منه إلى التحريف.
(1)
مجموع الفتاوى (5/ 146)
(2)
مختصر الصواعق المرسلة (ص/359)
* وهنا إلزام لمن حرَّف:
ألا يلزم من تفسيركم للاستواء بالاستيلاء وجود المشابهة بين الله -تعالى- وخلقه؛ فإن الاستيلاء حاصل في أفعال البشر؟
فإن قلتم: "استيلاء الله ليس كمثله شيء ".
قلنا:
إذا أثبتم لله -تعالى- وصف الاستيلاء على ما يليق به، حسب زعمكم، وهو وصف خالفتم فيه إجماع كل من سبقكم، ألم يكن الأولى لكم أن توافقوا أهل السنة فتثبتوا لله -تعالى- وصف الاستواء على المعنى الصحيح الذي هو العلو والارتفاع على ما يليق بالله عزوجل؟!!
وأما حكم نسبة المكان إلى الله -تعالى- فقد سبق بيان التفصيل فيه عند شرح الحديث الحادي والعشرين، حديث " السنة الجارية في شرح حديث الجارية "، فليرجع إليه.
* سؤال: هل يقال استوى الله -تعالى- على العرش بحد؟
* والجواب أن يقال:
إن لفظ "الحد" من الألفاظ المحدثة التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة، وقد وردت في كلام السلف في الرد على أهل البدع من الحلولية والاتحادية.
فلما نبتت نوابت الخبث وادعت بعضها أن الله - تعالى وتقدَّس- في كل مكان، وأنه غير مباين لخلقه، وهم الحلولية والاتحادية، وعلى النقيض قد ادعت أخرى أنه تعالى مماسٌ للعرش، وأنه جسم له حد واحد من الجانب الذي ينتهي إلى العرش، ولا نهاية له من الجوانب الأخر، كما هوقول الروافض والكرَّامية!!
(1)
وبين هذا وذاك فقد اضطر أهل العلم إلى النص على إثبات الحد بما يليق بالله -تعالى -رداً على تلك المقالات الفاسدة.
وكلمة "الحد" قد وردت في عبارات السلف إثباتاً ونفياً، وليس هذا تعارضاً أو اختلافاً بينهم، وإنما ورد ذلك جرياً على قاعدة السلف في تعاملهم مع الألفاظ المجملة التى تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً، فتراهم
(1)
وانظر التبصير في الدين (ص/311) ومقالات الإسلاميين (ص/22) وأصول الدين (ص/73)
يثبتونها حال سياق الكمال، وينفونها حال سياق النقص.
وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
إذا منع إطلاق هذه المجملات المحدثات في النفي والإثبات ووقع الاستفسار والتفصيل تبين سواء السبيل.
(1)
ومن هذا الباب ما ورد في لفظة "الحد"، فقد وردت إثباتاً ونفياً، ولكلٍ توجيه.
*ونذكر من عبارات الإثبات ما يلي:
قال حرب: قلت لإسحاق بن راهويه: العرش بحد؟ قال: نعم، وذكر عن ابن المبارك قال:
هو على عرشه بائن من خلقه بحد.
(2)
قال علي بن الحسن: سألت عبد الله بن المبارك: كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا عز وجل؟
قال: «نعرف ربنا عز وجل فوق سبع سماوات على العرش بائن من خلقه بحد، ولا نقول كما قالت الجهمية هاهنا، وأشار بيده إلى الأرض ".
(3)
*ونذكر من عبارات النفي:
قال حنبل: قال الإمام أحمد: نحن نؤمن أن اللَّه - تعالى -على العرش كيف شاء، وكما شاء، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف، أو يحده أحد.
(4)
وقال السفَّاريني:
سُبْحَانَهُ قد اسْتَوَى كَمَا ورد
…
من غير كَيفَ قد تَعَالَى أَن يحد.
(5)
(1)
درء تعارض العقل والنقل (1/ 146)
(2)
أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة (ص/174) وابن بطة في الإبانة الكبرى (3/ 161) والدارمي في الردعلى الجهمية (ص/50)
وصححه شيخ الإسلام في الفتوى الحموية (ص/333) ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص/54) والذهبي في العلو (ص/110)
(3)
رواه عبد الله بن أحمد في "السنة"(216) وابن منده في "التوحيد"(899) وسنده صحيح. وانظر "الأثار الواردة عن السلف"(1/ 213)
(4)
درء تعارض العقل والنقل (2/ 355)
(5)
الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية (ص/54)
* وسبيل الجمع أن يقال:
1 -
أما عبارات إثبات الحد عند السلف فجاءت رداً على الجهمية الذين قالوا ما مضمونه أن الخالقَ لا يتميّز عن الخلقِ، فليس له حدٌّ يباين المخلوقات، فبيَّن أهل السنة أنّ الله سبحانه وتعالى له حد، والمعنى أنه مباين لخلقه، منفصلٌ عنهم، ليس حالّاً فيهم، ولا متحداً معهم.
قال الدارمي:
فمن ادَّعى أنه ليس لله -تعالى- حد فقد رد القرآن، وادَّعى أنه لا شيء؛ لأن الله -تعالى- حدَّ مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50].
(1)
2 -
وأما عبارات السلف في نفي الحد عن الله -تعالى- فمحمولة على وجوه:
1 -
الوجه الأول:
نفي إدراك العباد لعلمه وصفات كماله عزوجل، وذلك نظير قوله تعالى (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) (البقرة: 255)، وقوله تعالى (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)) (الأنعام: 103)، فصار نفي الحد عن الله -تعالى- هو نفي الإحاطة بالله علماً وإدراكاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
فهذا الكلام من الإمام أبي عبد الله أحمد رحمه الله يبين أنه نفى أن العباد يحدُّون الله -تعالى- أو صفاته بحد أو يُقدِّرون ذلك بقدر أو أن يبلغوا إلى أن يصفوا ذلك، وذلك لا ينافي ما تقدَّم من إثبات أنه في نفسه له حد يعلمه هو لا يعلمه غيره، أو أنه هو يصف نفسه، وهكذا كلام سائر أئمة السلف يثبتون الحقائق وينفون علم العباد بكنهها.
(2)
قال ابن القيم:
أراد أحمد بنفي الصفة نفي الكيفية والتشبيه، وبنفي الحد نفي حد
(1)
نقض الدارمي على المريسيص/57)
(2)
بيان تلبيس الجهمية (2/ 628)
يدركه العباد ويحدُّونه.
(1)
قال ابن الماجشون:
فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبد ومن لم يمت ولا يبلى، وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف.
(2)
2 -
الوجه الثاني:
الرد على من زعم أنه يلزم من كونه تعالى مستوياً على عرشه أن يحده العرش، تعالى الله عن ذلك، إذ المحدود محدث، والمحدث مفتقر للخالق.
.
…
تم بحمد الله تعالى.
(1)
مختصر الصواعق المرسلة (2/ 416)
(2)
الفتوى الحموية (ص/309)، وقال شيخ الإسلام:"إسناده صحيح"