الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ذكر قصَّة الرُّؤْيَة)
وَسَار ببني إِسْرَائِيل مُسْتَقْبلين الأَرْض المقدسة فَلَمَّا أَتَوا إِلَى جَانب الطّور أمره الله تَعَالَى أَن يُقيم ببني إِسْرَائِيل فِي ذَلِك الْمَكَان وَأَن يسْتَخْلف عَلَيْهِم هَارُون وظلل الْغَمَام ذَلِك الْجَبَل كُله ثمَّ دنا مِنْهُ مُوسَى فَأمره الله أَن يقطع الألواح من صَخْرَة صماء فقطعها وَكتب الله فِيهَا التوارة بيد الْقُدْرَة وَكَانَ مُوسَى يسمع جَرَيَان الْقَلَم فَحدث نَفسه بِالرُّؤْيَةِ لله عز وجل (فَقَالَ رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك) فَأَنت الحنان المنان ذُو الْفضل وَالْإِحْسَان متفضل على بكرمك فَلَا تحرمني النّظر إِلَى وَجهك الْكَرِيم يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام فَأوحى الله إِلَيْهِ يَا مُوسَى سَأَلت شَيْئا لم يسْأَله أحد من خلقي فَهَل تَسْتَطِيع ذَلِك يَا مُوسَى فَإِنَّهُ لَا يراني أحد من خلقي إِلَّا خر صعقاً؟ فَقَالَ مُوسَى يَا رب أَرَاك وأموت أحب إِلَيّ من أَن لَا أَرَاك وَأَحْيَا فَأوحى الله إِلَيْهِ (يَا مُوسَى إِنَّك لن تراني وَلَكِن أنظر إِلَى الْجَبَل فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني فَلَمَّا تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر مُوسَى صعقاً) لَا يعقل من أمره شَيْئا ثمَّ أَزَال الله خَوفه فَذَلِك قَوْله (فَلَمَّا أَفَاق قَالَ سُبْحَانَكَ تبت إِلَيْك وَأَنا أول الْمُؤمنِينَ) مَعْنَاهُ وَأَنا أول المصدقين بِأَنَّهُ لَا يراك أحد فِي الدُّنْيَا ثمَّ أوحى الله إِلَيْهِ (يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي فَخذ مَا آتيتك وَكن من الشَّاكِرِينَ) ثمَّ أوحى الله إِلَيْهِ (إِنَّا قد فتنا قَوْمك من بعْدك وأضلهم السامري بعباد الْعجل)(فَرجع مُوسَى إِلَى قومه غَضْبَان أسفا) وَاشْتَدَّ غَضَبه عَلَيْهِم (وَقَالَ بئْسَمَا خلفتموني من بعدِي) ثمَّ ألْقى الألواح وَعمد إِلَى أَخِيه هَارُون وَأخذ بلحيته وَقَالَ لَهُ لم لَا تبعتني لما رَأَيْتهمْ ضلوا أفعصيت أَمْرِي؟ فبك هَارُون وَقَالَ (يَا بن أُمِّي لَا تَأْخُذ بلحيتي) وَلَا برأسي فارفق بِي فَإِنِّي أكب مِنْك سنا (إِن الْقَوْم استضعفوني وكادوا يقتلونني) فَلَا تشمت بِي الْأَعْدَاء وَلَا تجعلني مَعَ الْقَوْم
الضالمين فاستحيا مُوسَى مِنْهُ ثمَّ خلاه وضمه إِلَى صَدره وَسَأَلَ الله الْمَغْفِرَة ولرحمة لَهُ ولأخيه ثمَّ اقبل مُوسَى على بني إِسْرَائِيل يعاتبهم فأخبروه بقول السامري فَأقبل على السامري وَهُوَ مغضب فَسَأَلَهُ عَن أمره فَأخْبرهُ بِمَا كَانَ فهم بقتْله فَأوحى الله بِهِ لَا تقتله فَإِنَّهُ سخي فِي قومه وَلَكِن أخرجه عَن عسكرك ثمَّ عمد مُوسَى إِلَى صَخْرَة عَظِيمَة وَلم يزل يضْرب بهَا الْعجل حَتَّى تقطع ثمَّ أحرقه بالنَّار حَتَّى صَار رَمَادا وذراه فِي الْبَحْر وَقَالَ لَو كَانَ هَذَا إِلَهًا كَانَ يدْفع عَن نَفسه وَسكت عَن مُوسَى الْغَضَب فَأقبل عل بني إِسْرَائِيل وَقَالَ لَهُم (إِنَّكُم ظلمتم أَنفسكُم باتخاذكم الْعجل) فَقَالُوا يَا مُوسَى اسْأَل رَبك لنتوب فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن لَا تَوْبَة لَهُم لِأَن فِي قُلُوبهم مَرضا من حب الْعجل وَأخرج من رماد الْعجل وألقاه فِي المَاء ثمَّ أَمرهم ليشربوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يظْهر مَا فِي قُلُوبهم عل وُجُوههم فَلَمَّا فعل ذَلِك لم يبْقى أحد مِمَّن فِي قلبه مرض أَو غم من كسر الْعجل لَا أصبح مصفراً لَونه فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك أيقنوا بِالْمَوْتِ فَقَالُوا يَا مُوسَى مَا لنا وَالتَّوْبَة الْخَالِصَة وَقد أخلصنا فِي تَوْبَتنَا حَتَّى إِنَّك لَو سَأَلت رَبك أَن نقْتل أَنْفُسنَا لقتلناها فَأوحى الله إِلَى مُوسَى إِنِّي رضيت عَلَيْهِم بحكمهم فِي أنفسهم فَذَلِك قَوْله إِلَى (فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم) فَقَالُوا كَيفَ نقْتل أَنْفُسنَا وَنحن أهل وأقارب فَأنْزل الله عَلَيْهِم ظلمَة فَلم يبصر بَعضهم بَعْضًا حَتَّى أَن الرجل كَانَ يَأْتِي إِلَى أَخِيه وَابْن عَمه فيقتله وَهُوَ لَا يعرفهُ وَكَانَ السِّلَاح لَا يعْمل فِيمَن لم يعبد الْعجل وَلم يزَالُوا كَذَلِك حَتَّى خَاضُوا فِي الدِّمَاء فاستغاثوا يَا مُوسَى الْعَفو الْعَفو فَبكى مُوسَى ودعا إِلَى الله تَعَالَى بِالْعَفو عَنْهُم فارتفعت عَنْهُم الظلمَة ثمَّ أقبل عَلَيْهِم مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ وَقَالَ هَذَا كتاب ربكُم فِيهِ الْحَلَال وَالْحرَام وَألا حكام الشَّرْعِيَّة وَالسّنَن والفرائض وَالرَّجم للزاني والزانية المحصنين وَالْقطع للسارق
وَالْقصاص من كل ذَنْب يكون مِنْكُم فضجوا من ذَلِك وَقَالُوا لَا حَاجَة لنا بِهَذِهِ الْأَحْكَام وَمَا كُنَّا عَلَيْهِ من عبَادَة الْعجل كَانَ أرْفق بِنَا فَلم يكن فِي عِبَادَته علينا قطع وَلَا رجم وَلَا قصاص (قصَّة الْجَبَل) فَقَالَ مُوسَى يَا رب إِنَّك تعلم إِنَّهُم قد ردوا كتابك وكذبوا بياتك فَأمر الله جِبْرِيل أَن يرفع طور سيناء فِي الْهَوَاء عل عَسْكَر بني إِسْرَائِيل فرفعه على رؤوسهم فِي الْهَوَاء حَتَّى إِنَّهُم لم يرَوا السَّمَاء مِنْهُ ونودوا يَا بني إِسْرَائِيل إِن قبلتم هَذَا الْكتاب وَإِلَّا القي عَلَيْكُم هَذَا الْجَبَل فَلَمَّا نظرُوا إِلَى الْجَبَل وَهُوَ بدنو مِنْهُم حَتَّى ظنُّوا إِنَّه سَاقِط عَلَيْهِم أيقنوا بِالْمَوْتِ خروا سجدا وقبلوا الْكتاب فَلَمَّا قبلوا الْكتاب رد الله عَنْهُم الْجَبَل (قصَّة الْحجر) وَكَانَ بَنو إِسْرَائِيل إِذا اغتسلوا فِي مواضعهم يكشفون عَوْرَاتهمْ وَكَانُوا يرَوْنَ مُوسَى فاغتساله مَسْتُورا فاعتقدوا فِيهِ أَن بِبدنِهِ عَيْبا وَكَانَ إِذا اغْتسل وضع ثَوْبه على حجر هُنَاكَ ثمَّ يضْرب الْحجر بعصاه حَتَّى يَنْبع منع المَاء فَيغسل فَفعل ذَلِك يَوْمًا من الْأَيَّام فانقلع الْحجر من مَكَانَهُ بِإِذن الله تَعَالَى حَتَّى وقف على جمَاعَة من بني إِسْرَائِيل فنظروا إِلَى مُوسَى فَلم يرَوا فِي بدنه عَيْبا من الْعُيُوب فَنَدِمُوا عل مَا قَالُوا فَذَلِك قَوْله تعال (فبرأه الله مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْد الله وجيها)(قصَّة طلب الرُّؤْيَة) ثمَّ طلب بَنو إِسْرَائِيل من مُوسَى الرُّؤْيَة (فَقَالُوا أرنا الله جهرة) فَأوحى الله إِلَيْهِ إِن اختر من قَوْمك سبعين رجلا وسر بهم إِلَى الطّور وأحمل مَعَك أَخَاك
هَارُون واستخلف عل قَوْمك يُوشَع بن نون فَفعل ذَلِك وَسَار بهم نَحْو الْجَبَل من السَّمَاء إِن بني إِسْرَائِيل فصعقوا كلهم وماتوا فَحزن عَلَيْهِم مُوسَى وَقَالَ (رب لَو شِئْت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا - يَعْنِي من عبدُوا الْعجل - إِن هِيَ إِلَّا فتنتك - يَعْنِي ابتلاؤك - تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء أَنْت ولينا فَاغْفِر لنا وارحمنا) الْآيَة رد الله أَرْوَاحهم وَذَلِكَ قَوْله تعال (ثمَّ بعثنَا كم من بعد موتكم) وَرَجَعُوا من معسكرهم فرحين وأخبروا قَومهمْ بِمَا رَأَوْهُ ثمَّ إِنَّهُم بدلُوا التَّوْرَاة بعد ذَلِك وَزَادُوا ونقصوا مِنْهَا وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى (يحرفونه من بعد مَا عقلوه وهم يعلمُونَ)(قصَّة الجبارين والتيه والحطة) ثمَّ أوح الله إِلَيْهِ أَن يسير بهم إِلَى الأَرْض المقدسة فَإِذا أردتم دُخُولهَا فَلَا تدخلوها إِلَّا ساجدين شاكرين لربكم على تبليغكم إِيَّاهَا فَقَاتلُوا الجبارين وجاهدوهم وستثقلوا ذَلِك واستبعدوا الأَرْض المقدسة واختاروا أَيَّام فِرْعَوْن على هَذِه الْأَيَّام فَأوحى الله إِلَى مُوسَى إِنِّي ممطر عَلَيْهِم الْمَنّ وآمر الرّيح أَن تأتيهم بالسلوى وَالْحجر أَن ينفجر لَهُم بِمَاء عذب وَأمرت الْغَمَام أَن يسير مَعَهم واخفافهم لَا تنقب ثِيَابهمْ تكون بِقدر صغارهم وكبارهم فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك طابت نُفُوسهم وَسَارُوا الْأَمر على ذَلِك ثمَّ اخْتَار مُوسَى اثْنَي عشر رجلا بِإِذن الله تَعَالَى ووجههم إِلَى أرِيحَا مَدِينَة الجبارين فيأتوه بخبرها وَصفَة أَهلهَا فَخَرجُوا وَمَعَهُمْ يُوشَع بن نون فَلَمَّا قربوا من الْمَدِينَة اسْتَقْبَلَهُمْ رجل من الجبارين فساقهم بَين يَدَيْهِ إِلَى أرِيحَا فَاجْتمعُوا عَلَيْهِم يتعجبون من ضعف أبدانهم وَقَالُوا هَؤُلَاءِ الَّذين يَزْعمُونَ إِنَّهُم يخرجوننا من مدينتنا وهموا بِقَتْلِهِم ثمَّ اقْتضى رَأْيهمْ أَن يَدعُوهُم ليكونوا عبيدا لَهُم فَلَمَّا أقبل اللَّيْل هربوا عل وُجُوههم وَلم يزَالُوا حَتَّى وصلوا إِلَى معسكر بني إِسْرَائِيل وأخبروهم بذلك
فَبلغ مُوسَى مَا صَنَعُوا فَدَعَاهُمْ وَقَالَ لَهُم ألم أقل لكم اكتموا مَا ترَوْنَ فَلم تقبلُوا حَتَّى هولتم عَلَيْهِم وأرعبتم قُلُوبهم ثمَّ دَعَا عَلَيْهِم فَمَاتَ مِنْهُم عشر وبقى رجلَانِ يُوشَع وكالب فَإِنَّهُمَا كَانَا كتماه ثمَّ وَقع الْخَوْف فِي بني إِسْرَائِيل من الجبارين وَقَالُوا يَا مُوسَى إِن مملك فِرْعَوْن كَانَت أخف علينا مِمَّا نَحن فِيهِ وَدخُول مَدين الجبارين وَإِنَّا لن ندْخلهَا حَتَّى يخرجُوا مِنْهَا فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَاخْتلفُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُول لَهُم (يَا قوم لَا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) فَقَالَ عِنْد ذَلِك يُوشَع ابْن نون وكالب (أدخلُوا عَلَيْهِم الْبَاب فَإِذا دخلتموه فَإِنَّكُم غالبون) فَلم يلْتَفت إِلَى قَوْلهمَا (فَقَالَ مُوسَى رب إِنِّي لَا أملك إِلَّا نَفسِي وَأخي فافرق بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الْفَاسِقين) فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ يَقُول (فَإِنَّهَا مُحرمَة عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة يتيهون فِي الأَرْض فَلَا تأس على الْقَوْم الْفَاسِقين) وَلم يدْخل الأَرْض المقدسة أحد مِمَّن ولد بِمصْر وسلط الله عَلَيْهِم التيهَان فَكَانَ كلما حرج وَاحِد مِنْهُم يتيه فِي الأَرْض فَلَا يَهْتَدِي أَن يرجع حَتَّى يَمُوت وَأما الْمُؤمنِينَ فَلَا يموتون وَإِن تاهوا فلمم يزَالُوا كَذَلِك حَتَّى انقرض آخِرهم على رأٍ س أَرْبَعِينَ سنة وَسَار مُوسَى إِلَى بَاب حطة وَعَلِيهِ مَكْتُوب اسْم الله الْأَعْظَم وَاقْبَلْ الْمُؤمنِينَ فسجدوا عِنْد الْبَاب وَدخل أَوْلَاد الْفَاسِقين وهم يَقُولُونَ حِنْطَة حَمْرَاء فَذَلِك قَوْله تَعَالَى (فبدل الَّذين ظلمُوا قولا غير الَّذِي قيل لَهُم فأنزلنا على الَّذين ظلمُوا رجزاً من السَّمَاء بِمَا كَانُوا يفسقون) يَعْنِي أَخذهم الطَّاعُون حَتَّى مَاتُوا جَمِيعًا ثمَّ غلب مُوسَى عليه السلام على أهل مَدين أرِيحَا واسر من كَانَ فِيهَا من الجبارين وَتَفَرَّقُوا على الْبِلَاد حَتَّى أهلكهم الله تَعَالَى وَسَار مُوسَى عليه السلام ببني إِسْرَائِيل يُرِيد مَدِينَة بلقا فَجَاءَهَا وَقتل ملكهَا
وغنم بَنو إِسْرَائِيل من أَرض البلقا من النِّسَاء والولدان شَيْئا كثيرا ثمَّ إِن بني إِسْرَائِيل ملوا من أكل الْمَنّ والسلوى (فَقَالُوا يَا مُوسَى ادْع لنا رَبك يخرج لنا مِمَّا تنْبت الأَرْض من بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها فَأَنا لن نصبر على طَعَام وَاحِد فَقَالَ لَهُم مُوسَى أتستبدلون الَّذِي هُوَ أدنى بِالَّذِي هُوَ خير) فأبدلهم الله بالمن والسلوى مَا سَأَلُوا وَرفع عَنْهُم ذَلِك وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى (اهبطوا مصرا لكم مَا سَأَلْتُم) وهم يزِيدُونَ على أَرْبَعِينَ ألفا (قصّ قَارون) وَكَانَ لمُوسَى رجل يُقَال لَهُ قَارون بن مُصعب وَهُوَ ابْن عَم مُوسَى وَكَانَ فَقير جدا فتعلم صنع الكيمياء من كُلْثُوم أُخْت مُوسَى وَكَانَت تعرف ذَلِك فرزق مَالا عَظِيما يضْرب بِهِ الْمثل على طول الدَّهْر وَكَانَت مَفَاتِيح كنوزه تحمل على أَرْبَعِينَ بغلا وَبني دَارا وصفحها بِالذَّهَب وَجعل أَبْوَابهَا من ذهب وتكبر بِسَبَب كَثْرَة مَاله على مُوسَى وقذفه وَخرج من طَاعَته وأحضر امْرأ بغياً وأمرها بِقَذْف مُوسَى بِنَفسِهَا فَبلغ ذَلِك مُوسَى فَغَضب وَقَالَ يَا رب أَن قَارون قد بغى عَليّ فانصرني عَلَيْهِ فَأوحى الله إِلَيْهِ إِنِّي أمرت الأَرْض بالطاع لَك وسلطتك عَلَيْهِ فَأقبل مُوسَى حَتَّى دخل على قَارون وَقَالَ يَا عَدو الله بعثت إِلَيّ الْمَرْأَة واتهمتني على رُؤُوس بني إِسْرَائِيل وَأَنت تُرِيدُ فضحيتي يَا أَرض خذيه فساخت دَاره فِي الأَرْض ذِرَاعا وَسقط قَارون من علو سَرِيره فَأَخَذته الأَرْض إِلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا مُوسَى اغثني فَقَالَ يَا عَدو الله تبني مثل هَذِه الدَّار وتشرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة وَأَنا أَدْعُوك إِلَى حظك فَلَا تقبله وَتقول إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم عِنْدِي يَا ارْض خذيه فَأَخَذته الأَرْض وَذَلِكَ قَوْله تعالي (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَة ينصرونه من دون الله وَمَا كَانَ من المنتصرين وَأصْبح الَّذين تمنوا مَكَانَهُ
بالْأَمْس يَقُولُونَ ويكأن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده ويقدره) الْآيَة قَالَ الله تَعَالَى (تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين)(قصَّة الْخضر واجتماعه مَعَ مُوسَى عليهما السلام أذن الله تَعَالَى لمُوسَى عليه السلام فِي الِاجْتِمَاع بالخضر عليه السلام وَكَانَ مَسْكَنه فِي جَزِيرَة من جزائر الْبَحْر فَانْطَلق إِلَيْهِ مُوسَى وَاجْتمعَ بِهِ فَكَانَ من شَأْنهمَا مَا نَص الله عَلَيْهِ فِي كِتَابه الْعَزِيز وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما فِي قَوْله تَعَالَى (وَكَانَ تَحْتَهُ كنز لَهما) قَالَ كَانَ لوحاً من ذهب مَكْتُوب عَلَيْهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله عجبا لمن يُؤمن بِالْقدرِ كَيفَ يحزن وعجباً لمن يرى الدُّنْيَا وتصاريف أَهلهَا كَيفَ يطمئن إِلَيْهَا وَلما فَارق مُوسَى الْخضر عليهما السلام وودعه سَار عَنهُ حَتَّى عَاد إِلَى بني إِسْرَائِيل (قصَّة الْبَقَرَة) وَكَانَ فِي زمن بني إِسْرَائِيل وَأَيَّام مُوسَى عبد صَالح فَمَاتَ وَترك امْرَأَته حَامِلا فَولدت بعده غُلَاما فَسَمتْهُ أمه مِيشَا فَكبر وَكَانَ صَالحا باراً بِأُمِّهِ فأعلمته أمه أَن أَبَاهُ خلف عجلة وَإِنَّهَا دفعتها لِلرَّاعِي وَهِي عِنْده وأمرته بأخذها مِنْهُ فَتوجه إِلَى الرَّاعِي وَأَخذهَا مِنْهُ فَلَمَّا عَاد قَالَت لَهُ أمه هَذِه بقرتك بَارك الله لَك فِيهَا فَانْطَلق بهَا إِلَى السُّوق فتعرض لَهُ ملك من مَلَائِكَة وَقَالَ لَهُ أَيهَا الْفَتى الْبَار لامه بكم تبيعها؟ فَقَالَ الفت بِثَلَاثَة دَنَانِير بِشَرْط أَن أَسْتَأْذن أُمِّي فَقَالَ لَهُ خُذ لَك خَمْسَة دَنَانِير وَلَا تستأذن أمك فأب وَعَاد إِلَى أمه فَأَخْبرهَا فَقَالَت لَهُ يَا بني ارْجع وبعها بِخَمْسَة دَنَانِير
فَعَاد بهَا إِلَى السُّوق فَجَاءَهُ الْملك وَقَالَ بكم تبيعها؟ فَقَالَ بِخَمْسَة دَنَانِير عل أَن اسْتَأْذن أُمِّي فَقَالَ لَهُ الْملك خُذ لَك عشرَة دَنَانِير وَلَا تستأذن أمك فَلم يفعل وَعَاد إِلَى أمه وأخبرها فَقَالَت لَهُ يَا بني فِي غَد بعها بِعشْرَة دَنَانِير عل أُذُنِي وَأعلم يَا بني إِنَّهَا تَسَاوِي عشرَة دَنَانِير غير أَن الَّذِي يتَعَرَّض لَك فِي شِرَائهَا ملك يستخبرك كَيفَ برك لامك وطاعتك إِيَّاهَا فَإِذا جَاءَك فَقل لَهُ أَيهَا الْملك المقرب فبكم أبيعها وَافْعل مَا يَقُول لَك فَلَمَّا كَانَ من الْغَد جَاءَهُ الْملك وَقَالَ لَهُ قد جئْتُك اطلب بقرتك ثَلَاث مَرَّات فَلم تَبِعنِي إِيَّاهَا فَقَالَ لَهُ إِن أُمِّي أَخْبَرتنِي إِنَّك لست بآدمي وَإِنَّمَا أَنْت ملك من الْمَلَائِكَة فَأَخْبرنِي مَا أصنع ببقرتي؟ فَقَالَ لَهُ الْملك ردهَا إِلَى مَنْزِلك فَإِنَّهُ سيقتل فِي بني إِسْرَائِيل قَتِيل وَلَا يعْرفُونَ قَاتله فيشترون بقرتك ليحي الْقَتِيل بهَا فتبيعها بِمَا تُرِيدُ فَانْصَرف الفت إِلَى أمه وأخبرها بذلك وألقوه على بَاب من أَبْوَاب أهل الْقرْيَة واستعدوا إِلَى مُوسَى وَادعوا عل الَّذِي وجدوا الْقَتِيل عل بَابه فَحلف الَّذِي وجد على بَابه بَين يَدي مُوسَى " ع " أَرْبَعِينَ يَمِينا أَنه مَا قَتله وَشهد من بني إِسْرَائِيل أَرْبَعُونَ شَاهدا بصلاح الْمُتَّهم فتحير مُوسَى من ذَلِك فأوح الله إِلَيْهِ أَن قل لأولياء الْمَقْتُول يشتروا بقرة ويذبحوها ويضربوا بِبَعْضِهَا بدن الْمَقْتُول حَتَّى يحييه الله تَعَالَى لَهُم ويخبرهم بِالَّذِي قَتله فَقَالَ لَهُم مُوسَى ذَلِك (فَقَالُوا أتتخذنا هزوا) فَقَالَ لَهُم (أعوذ بِاللَّه أَن أكون من الْجَاهِلين) قَالُوا يَا مُوسَى ادْع لنا رَبك يبين لنا مَا صفة الْبَقَرَة فأوح الله إِلَيْهِ (إِنَّهَا بقرة لَا فارض وَلَا بكر عوان بَين ذَلِك) يَعْنِي لَا كَبِيرَة وَلَا صَغِيرَة فَقَالَ لَهُم مُوسَى ذَلِك (فَقَالُوا ادْع لنا رَبك أَن يبين لنا مَا لَوْنهَا قَالَ إِنَّه يَقُول إِنَّهَا بقر صفراء فَاقِع لَوْنهَا تسر الناظرين) فَلَمَّا قَالَ لَهُم ذَلِك (قَالُوا ادْع لنا رَبك يبين لنا مَا هِيَ إِن الْبَقر تشابه علينا وَإِنَّا
إِن شَاءَ الله لَمُهْتَدُونَ) فأوح الله إِلَيْهِ (إِنَّهَا بقرة لَا ذَلُول تثير الأَرْض وَلَا تَسْقِي الْحَرْث) أَي مذللة للْعَمَل تثير الأَرْض تقبلهَا للزِّرَاعَة وَلَا تَسْقِي الْحَرْث أَي إنساني (مسلمة - برئية من الْعُيُوب - لَا شية فِيهَا) وَإِنَّمَا لَوْنهَا وَاحِد فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك من مُوسَى اجتهدوا فِي طلبَهَا فَلم يَجدوا هَذِه الصّفة إِلَّا عِنْد مِيشَا الْبَار بِأُمِّهِ وَلَو كَانُوا فِي ابْتِدَاء الْأَمر ذَبَحُوا بقرة سواهَا كَانَت أغنت عَنْهَا بِظَاهِر الْأَمر الأول غير إِنَّهُم شَدَّدُوا عل أنفسهم فَشدد الله عَلَيْهِم فجاؤا إِلَى مِيشَا ليبعهم الْبَقَرَة فَامْتنعَ وَقَالَ إِنَّا أبيعها لمُوسَى فرضوا بذلك وَأخرج مِيشَا بقرته وَسَار بهَا إِلَى مُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى بكم هَذِه؟ فَقَالَ مِيشَا الْبَار بِأُمِّهِ أبيعها بملأ جلدهَا ذَهَبا لَا يزِيد وَلَا ينقص فَقَالُوا لَهُ هَذَا شَيْء كثير لَا قدر لنا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُم مُوسَى عليه السلام إِن ذَلِك من أجل تشديدكم فِي الْأَمر فضمن مُوسَى ثمن الْبَقَرَة عل بني إِسْرَائِيل وَسلم إِلَيْهِم الْبَقر ، قَالَ الله تَعَالَى (فذبحوها وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) يَعْنِي مَا كَادُوا معتقدين بوفاء ثمنهَا فَلَمَّا ذبحوها قطعُوا ذنبها وضربوا بِهِ الْقَتِيل فَاسْتَوَى قَاعِدا فَسَأَلُوهُ عَن الَّذِي قَتله فَقَالَ لَهُم قتلني فلَان وَفُلَان ثمَّ خر مَيتا فَقَتَلَهُمَا مُوسَى " ع " بذلك الْقَتِيل ثمَّ أَمرهم بسلخ الْبَقَرَة فسلخوها وملئوا جلدهَا ذَهَبا وَدفعه مُوسَى لصَاحِبهَا مِيشَا وَذَلِكَ قَوْله تعال (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِك يحيي الله الْمَوْتَى ويريكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تعقلون) (ذكر وَفَاة هَارُون عليه السلام ثمَّ نظر هَارُون إِلَى الْجَبَل بالتيه وَهُوَ بعيد عَن معسكر بني إِسْرَائِيل فَقَالَ يَا مُوسَى أَلا تنظر إِلَى ذَلِك الْجَبَل وَمَا فِيهِ من الخضرة؟ فَقَالَ لَهُ بلَى وَلَكِن إِلَى غذ إِن شَاءَ الله نمضي إِلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ من الْغَد مضيا إِلَيْهِ وَمَعَ هَارُون أَوْلَاده فَلَمَّا وصلوا الْجَبَل وَإِذا فِيهِ كهوف كَثِيرَة وَإِذا بكهف مِنْهَا يسطع مِنْهُ النُّور فتبادروا
إِلَيْهِ فَلَمَّا دخلُوا الْكَهْف نظرُوا فِيهِ سريراً من الذَّهَب وَعَلِيهِ أَنْوَاع الْفرش ومكتوب عل حافته بالعبرانية هَذَا السرير لمن كَانَ عل طوله فَصَعدَ مومس عل السرير فَلَمَّا مد رجلَيْهِ فضلت من طوله فَنزل مُوسَى عَنهُ وَصعد هَارُون واضطجع عَلَيْهِ فَإِذا هُوَ عل طوله فهم أَن ينزل فَإِذا هُوَ بِملك الْمَوْت قد دخل عَلَيْهِم فَسلم عَلَيْهِم وأعلمهم إِنَّه ملك الْمَوْت أرْسلهُ الله تَعَالَى ليقْبض روح هَارُون فَدَمَعَتْ عَيناهُ وَقَالَ لِأَخِيهِ مُوسَى - وَهُوَ ينظر إِلَى ملك الْمَوْت - يَا مُوسَى أوصيك بأولادي وَأَهلي تقربهم إِلَيْك وتقرئ سلامي على بني إِسْرَائِيل ثمَّ أَمر ملك الْمَوْت مُوسَى أَن يخرج من الْكَهْف فَخرج فَقبض الْملك روح هَارُون " ع " قَبْضَة الْمَلَائِكَة ثمَّ دخل مُوسَى وَأَوْلَاد هَارُون الْكَهْف فأخرجوا هَارُون وغسلوه وصلوا عَلَيْهِ ووضعوه فِي الْكَهْف وسدوا بَابه وَانْصَرف مُوسَى إِلَى بني إِسْرَائِيل وَأخْبرهمْ بِمَوْت أَخِيه فاتهموه بقتْله فَقَالَ لَهُم مُوسَى يَا سُفَهَاء بني إِسْرَائِيل مَاذَا لقِيت مِنْكُم أقتل اخي وشقيقي وعضدي؟ ودعا ربه أَن يُبرئهُ عِنْدهم فَأمر الله الْمَلَائِكَة ليحملوا سَرِير هَارُون وَقد قَبضه الله إِلَيْهِ فبكوا وحزنوا عَلَيْهِ لأَنهم يجبونه ثمَّ خَلفه بعده ابْنه الْعيزَار وَأَعْطَاهُ الله وقار هَارُون وَلينه وسكونه وَشبهه فَكَانُوا لَا يَشكونَ إِنَّه هَارُون فَأَحبُّوهُ حبا شَدِيدا (ذكر موت مُوسَى عليه السلام ثمَّ قرب أجل مُوسَى عليه السلام قَامَ فِي بني إِسْرَائِيل خَطِيبًا فَخَطب لَهُم ووعظهم وخوفهم وَأَنْذرهُمْ وحذرهم وأشهدهم على أنفسهم وَأشْهد الله عَلَيْهِم إِنَّه بَلغهُمْ الرسَالَة وَأمرهمْ بِالطَّاعَةِ وَالتَّقوى وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر واستخلف يُوشَع بن نون على بني إِسْرَائِيل
وَلما فرغ من وَصيته أُوحِي الله إِلَيْهِ إِنِّي قَابض روحك وَذكره بِمَا أنعم عَلَيْهِ من النُّبُوَّة والرسالة والتكليم فاعترف بِنِعْمَة الله وحمده وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ نزل عَلَيْهِ ملك الْمَوْت وَهُوَ جَالس يَتْلُو التَّوْرَاة فَسلم عَلَيْهِ وَقبض روحه الشريف صلى الله عليه وسلم وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ أرسل الله ملك الْمَوْت إِلَى مُوسَى عليه السلام فَلَمَّا جَاءَهُ صَكه ففقأ عينه فَرجع إِلَى ربه عز وجل وَقَالَ يَا رب أرسلتني إِلَى عبد لَا يُرِيد الْمَوْت قَالَ فَرد الله إِلَيْهِ عينه وَقَالَ لَهُ ارْجع إِلَيْهِ وَقل لَهُ يضع يَده على متن ثَوْر فَلهُ بِكُل مَا غطت يَده بِكُل شَعْرَة سنة فَجَاءَهُ وَقَالَ لَهُ ذَلِك فَقَالَ يَا رب ثمَّ وَمَا بعد ذَلِك؟ قَالَ ثمَّ الْمَوْت فَقَالَ الْآن فَسَأَلَ الله أَن يدينه من الأَرْض المقدسة برمية حجر قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلَو كنت لَأَرَيْتُكُمْ قَبره إِلَى جَانب الطَّرِيق عِنْد الْكَثِيب الْأَحْمَر وَكَانَت وَفَاته فِي التيه فِي السَّابِع شهر آذار لمضي ألف وسِتمِائَة وست وَعشْرين سنة من الطوفان وَكَانَ مَوته بعد أَخِيه هَارُون بِإِحْدَى عشرَة سنة وَقيل غير ذَلِك وَكَانَ هَارُون أكبر من مُوسَى بِثَلَاث سِنِين وعاش مُوسَى مائَة وَعشْرين سنّ وَنزل عَلَيْهِ جِبْرِيل عليه السلام أَرْبَعمِائَة مرّة وَكَانَ جملَة مقَام بني إِسْرَائِيل بِمصْر حِين أخرجهم مُوسَى مِائَتَيْنِ وَخَمْسَة عشر سنة وَبَين وَفَاة مُوسَى عليه السلام وَالْهجْرَة الشريف النَّبَوِيَّة أَلفَانِ وثلاثمائة وثمان وَأَرْبَعُونَ سنة عل اخْتِيَار المؤرخين وَقد مض من الْهِجْرَة الشَّرِيفَة إِلَى عصرنا تِسْعمائَة سنة كَامِلَة فَيكون الْمَاضِي من وَفَاة مُوسَى إِلَى آخر سنة تِسْعمائَة من الْهِجْرَة الشَّرِيفَة ثَلَاثَة آلَاف وَمِائَتَيْنِ وثمانياً وَأَرْبَعين سنة وَمَات مُوسَى وَلم يعرف أحد من بني إِسْرَائِيل أَيْن قَبره وَلَا أَيْن توجه فماج النَّاس فِي أمره وَلَبِثُوا كَذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام لَا ينامون اللَّيْل فَلَمَّا كَانَ ثَالِث لَيْلَة غشيتهم سَحَابَة على قدر بني إِسْرَائِيل فَسَمِعُوا مِنْهَا منادياً يَقُول بِأَعْلَى صَوته مَاتَ مُوسَى وَأي نفس لَا تَمُوت وَلم يزل يُكَرر ذَلِك القَوْل حَتَّى فهمه النَّاس كلهم
وَعَلمُوا أَنه قد مَاتَ فَلم يعرف أحد من بني إِسْرَائِيل أَيْن قَبره وَنقل إِنَّه دفن فِي الْوَادي من الأَرْض الَّتِي مَاتَ فِيهَا وَاخْتلف النَّاس فِي مَحل قَبره فَقيل - وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد النَّاس - إِنَّه شَرْقي بَيت الْمُقَدّس بَينه وَبَين بَيت الْمُقَدّس مرحلة ودربه عسر لِكَثْرَة الوعر وَعَلِيهِ بِنَاء وداخله مَسْجِد وَعَن يَمِينه قبَّة معقودة بِالْحِجَارَةِ وفيهَا ضريحه وَيَضَع عل قَبره فِي أَيَّام موسم زيارته ستر من حَرِير أسود وعل السّتْر طراز أَحْمَر مزركش دائر على جَمِيع أَطْرَافه بِالذَّهَب وَالْأَكْثَر ون على أَن هَذَا قَبره وَفِي الصَّحِيح أَن النَّبِي صل الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِهِ لَيْلَة الْإِسْرَاء وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي قَبره عِنْد الْكَثِيب الْأَحْمَر وَالَّذِي بني الْقبَّة الْمَذْكُورَة الْملك الظَّاهِر بيبرس رحمه الله عِنْد عوده من الْحَج وزيارته بَيت الْمُقَدّس فِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة ثمَّ بنى بعده أهل الْخَيْر وَزَادُوا زيادات فِي الْمَسْجِد وَحَوله فَحصل النَّفْع بذلك للزائر ثمَّ فِي سنة خمس وَسبعين وَثَمَانمِائَة وسع دَاخل الْمَسْجِد من جِهَة الْقبْلَة وَلم تكمل عِمَارَته إِلَى سنة خمس وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة ثمَّ بنى بِهِ منار بعد الثَّمَانِينَ والثمانمائة وَهَذَا الْمَكَان بِالْقربِ من أرِيحَا الْغَوْر من أَعمال بَيت الْمُقَدّس وَأهل بَيت الْمُقَدّس يقصدون زيارته فِي كل سنة عقب الشتَاء ويقيمون عِنْده سَبْعَة أَيَّام وَقد ظهر فِي هَذَا الْمَكَان أَشْيَاء من أَنْوَاع المعجزات منا إِنَّه عِنْد الضريح الَّذِي بداخل الْقبَّة لَا يزَال يرى فَوق الْمِحْرَاب خيال أشباح ألوانهم مُخْتَلفَة مِنْهُم صفة الرَّاكِب وَمِنْهُم صفة الْمَاشِي وَمِنْهُم من على كتفه رمح وَمِنْهُم لابس أَبيض وَمِنْهُم لابس أَخْضَر ويصافح بَعضهم بَعْضًا وَغير ذَلِك مِمَّن الصِّفَات وَلِلنَّاسِ فِي ذَلِك أَقْوَال مُخْتَلفَة فَيُقَال إِنَّهُم الْمَلَائِكَة وَيُقَال إِنَّهُم الصالحون وينظرهم كل النَّاس من الرِّجَال وَالنِّسَاء والأطفال وَلَا يخفون عل أحد وَإِذا دخل الْمَسْجِد امْرَأَة من النِّسَاء يكون عَلَيْهَا حيض أَو جناب أَو فعل أحد حول الْمَسْجِد مُنْكرا من الْمعاصِي يثور هَوَاء فِي تِلْكَ الْبَريَّة حَتَّى لَا يقدر الرجل على
رُؤْيَة من بجانبه وتنقطع حبال الْخيام وتقلع الْخيام من مَكَانهَا وَغير ذَلِك من الخوارق الباهرات الَّتِي يسْتَدلّ بهَا على إِنَّه صل الله عَلَيْهِ وَسلم مدفون هُنَاكَ فِي هَذَا الْمَكَان (فَائِدَة) فَإِن قيل لم سَأَلَ مُوسَى عليه السلام الدنو من الأَرْض المقدسة وَلم يسْأَل بَيت الْمُقَدّس وَلَا مَكَانا مَخْصُوصًا مَعْرُوفا عِنْد النَّاس؟ فَالْجَوَاب عَنهُ مَا رَوَاهُ الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِيره بِأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ الدنو من الأَرْض المقدسة لشرفها وَلم يسْأَل مَكَانا مَعْرُوفا خوفًا من أَن يعبد وَلَا يُنَافِي سُؤَاله الدنو من الأَرْض المقدسة القَوْل بِأَن قَبره بِبَيْت الْمُقَدّس فَإِنَّهُ سَأَلَ شَيْئا أعطَاهُ الله فَوْقه وَهَذَا شَأْن الْكَرِيم يُعْطي فَوق الْمَطْلُوب وَأما صلَاته فِي قَبره فَلم تكن بِحكم التَّكْلِيف بل بِحكم الْإِكْرَام والتشريف لِأَن الْأَنْبِيَاء عليهم السلام حبب إِلَيْهِم فِي الدُّنْيَا عبَادَة الله تَعَالَى وَالصَّلَاة فَكَانُوا يلازمون ذَلِك وتوافقوا عَلَيْهِ فشرفهم الله تعال بإبقائهم عل مَا كَانُوا يصنعون وَيُحِبُّونَ فعله فِي الدُّنْيَا فعبادتهم إلهامية كعبادة الْمَلَائِكَة لَا تَكْلِيف فِيهَا وَأما رأفته بِهَذِهِ الْأمة فسيتي طرف مِنْهَا فِي قصَّة الْإِسْرَاء (ذكر السَّبَب فِي ملك سيدنَا دَاوُد عليه السلام أَقُول - بِاللَّه التَّوْفِيق - لما توفّي سيدنَا مُوسَى الكليم عليه السلام قَالَ بعد وَفَاته بتدبير بني إِسْرَائِيل يُوشَع وَهُوَ من ذُرِّيَّة يُوسُف بن يَعْقُوب عليهما السلام وَبَعثه الله نَبيا وَأمره بقتل الْجَبَابِرَة فَتوجه ببني إِسْرَائِيل إِلَى أرِيحَا الْغَوْر وأحاط بهَا سِتّ اشهر فَلَمَّا كَانَ السَّابِع نفخوا فِي الْقُرُون وضج الشّعب ضجة وَاحِدَة فَسقط السُّور فَدَخَلُوا وقاتلوهم وهجموا عل الْجَبَابِرَة فهزموهم وقتلوهم وَكَانَ يَوْم الْجُمُعَة
فَبَقيت مِنْهُم بَقِيَّة وكادت الشَّمْس تغرب وَتدْخل ليل السبت فَقَالَ اللَّهُمَّ أردد الشَّمْس عَليّ وَسَأَلَ الْمس أَن تقف حَتَّى ينْتَقم من أَعدَاء الله قبل دُخُول السبت فوقفت الشَّمْس وَزيد فِي النَّهَار سَاعَة حَتَّى قَتلهمْ أَجْمَعِينَ وتتبع مُلُوك الشَّام وإستباحهم وَملك يُوشَع الشَّام وَفرق عماله وَاسْتمرّ يدبر بني إِسْرَائِيل ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ سنة ثمَّ توفّي يُوشَع وَله من الْعُمر مائَة وَعِشْرُونَ سنة وَدفن فِي كفل حَارِث وَهِي قَرْيَة من أَعمال نابلس وَكَانَت وَفَاته سنة ثَمَان وَعشْرين لوفاة مُوسَى وَقيل إِنَّه مدفون فِي المعرة ثمَّ ولي على بني إِسْرَائِيل جمَاعَة من الْمُلُوك وَاحِد بعد وَاحِد وَلَا حَاجَة إِلَى ذكر أسمائهم لِأَن المُرَاد هُنَا الِاخْتِصَار ثمَّ ولي عَلَيْهِم شمويل عليه السلام وَكَانَ مولده بقرية لَهَا سيلوا وَقيل إِنَّهَا الْقرْيَة المشتهرة الْآن بالسيلة من أَعمال جبل نابلس وتنبأ بعد أنصار لَهُ من الْعُمر أَرْبَعُونَ سنة فدبر شمويل بني إِسْرَائِيل إِحْدَى عشرَة سنة ومنتهى هَذِه الإحدى عشرَة سنة هِيَ آخر سني حكام بني إِسْرَائِيل وقضاتهم فَيكون انْقِضَاء سني حكمهم فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى عليه السلام ثمَّ حضر بَنو إِسْرَائِيل إِلَى شمويل وسألوه أَن يُقيم فيهم ملكا فَأَقَامَ فيهم شاول وَهُوَ طالوت بن قيس من سبط بنيانين وَلم يكن طالوت من أعيانهم قيل إِنَّه كَانَ رَاعيا وَقيل كَانَ سقاء وَقيل دباغاً فَملك طالوت سنتَيْن واقتتل هُوَ وجالوت وَكَانَ جالوت من جبابرة الكنعانيين وَكَانَ ملكه بجهات فلسطين وَكَانَ من الشدَّة وَطول الْقَامَة بمَكَان عَظِيم فَلَمَّا برزوا لِلْقِتَالِ طلب طالوت دَاوُد عليه السلام وَكَانَ أَصْغَر بني أَبِيه - وَأمره بمبارزة جالوت بعد أَن رأى فِيهِ العلائم الَّتِي يسْتَدلّ بهَا على إِنَّه هُوَ الَّذِي يقتل جالوت وَهِي دهن كَانَ يستدير على رَأس من يكون فِيهِ السِّرّ وأحضر أَيْضا تنوراً حديداً وَقَالَ الشَّخْص الَّذِي يقتل جالوت يكون مَلأ هَذَا التَّنور فَلَمَّا اعْتبر دَاوُد مَلأ
التَّنور واستدار الدّهن عل رَأسه وَلما تحقق ذَلِك مِنْهُ بالعلام أمره طالوت أَن يبارز جالوت فبارزه وَقتل دَاوُد جالوت وَكَانَ عمر دَاوُد إِذْ ذَاك ثَلَاثِينَ سنة ثمَّ بعد ذَلِك مَاتَ شمويل فدفنه بَنو إِسْرَائِيل فِي اللَّيْل وناحوا عَلَيْهِ وَكَانَ عمره اثْنَيْنِ وَخمسين سنة وَأحب النَّاس دَاوُد ومالوا إِلَيْهِ بالمحبة فحسده طالوت حسداً عَظِيما وَقصد قَتله مرّة بعد أخر فهرب دَاوُد مِنْهُ وَبَقِي متحرزاً عل نَفسه ثمَّ نَدم طالوت بعد ذَلِك عل مَا كَانَ مِنْهُ فِي حق دَاوُد عل مَا قصد من قَتله ثمَّ إِن طالوت قصد فلسطين للغزاة وَقَاتلهمْ حَتَّى قتل هُوَ وَأَوْلَاده فِي الْغُزَاة فَيكون مَوته فِي أَوَاخِر سنة خمس وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى عليه السلام ثمَّ ملك بعد ذَلِك وَلَده أشر يوشت وَكَانَ ملكه على أحد عشر سبطاً من بني إِسْرَائِيل وَخرج من حكمه سبط يهوذا بَين يَعْقُوب فَقَط فملكوا عَلَيْهِم سيدنَا دَاوُد وَهُوَ من ذُرِّيَّة يهوذا الْمَذْكُور ثمَّ ملك عَلَيْهِم جَمِيعهم دَاوُد عليه السلام وَهُوَ دَاوُد بن بيشي بن عوفيل بن يوعز بن سَلمُون بن مجشون بن عينارات بن ردم ابْن حضرون بن يارض بن يهوذا بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عليه السلام وَكَانَ مقَام دَاوُد يجبرون فَلَمَّا استوثق لَهُ الْملك وَدخلت جَمِيع الأسباط تَحت طَاعَته وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ من عمره انْتقل إِلَى الْقُدس الشريف ثمَّ فتح فِي الشَّام فتوحات كَثِيرَة من أَرض فلسطين وَغَيرهَا من الأقاليم وَكَانَ لُقْمَان الْحَكِيم عل عهد دَاوُد عليه السلام وَكَانَ قَاضِيا فِي بني إِسْرَائِيل وآتاه الله الْحِكْمَة وَلم يكن نَبيا وقبره بقري صرفند ظَاهر مَدِينَة الرملة وَعَلِيهِ مشْهد وَهُوَ مَقْصُود للزيارة وَقَالَ قَتَادَة قَبره بالرملة مَا بَين مَسْجِدهَا وسوقها وَهُنَاكَ قُبُور سبعين نَبيا مَاتُوا بعد لُقْمَان جوعا فِي يَوْم وَاحِد أخرجهم
بَنو إِسْرَائِيل من الْقُدس فألجاؤهم إِلَيّ الرملة ثمَّ احاطوا بهم هُنَاكَ فَتلك قُبُورهم وَلَقَد آتى الله دَاوُد مَا نَص عَلَيْهِ فِي كِتَابه الْعَزِيز قَالَ تعال (وَلَقَد تينا دَاوُد منا فضلا) يَعْنِي النُّبُوَّة وَالْكتاب وَقيل الْملك وَقيل جَمِيع مَا أُوتِيَ من حسن الصَّوْت وتليين الْحَدِيد وَغير ذَلِك مِمَّا حض بِهِ وَقَوله تَعَالَى (يَا جبال أوبي مَعَه - أَي سبحي مَعَه وَقيل نوحي مَعَه - وَالطير) عطف عل مَوضِع الْجبَال وَقيل مَعْنَاهُ وسخرنا أَي أمرنَا لطير أَن يسبح مَعَه فَكَانَ دَاوُد إِذا نَادَى بالنياحة وأجابته الْجبَال بصداها وعكفت عَلَيْهِ الطير من فَوْقه فصدى الْجبَال الَّذِي يسمعهُ النَّاس الْيَوْم من ذَلِك وَقيل كَانَ دَاوُد إِذا تخَلّل الْجبَال فسبح الله تَعَالَى جعلت الْجبَال تجاوبه بالتسبيح نَحْو مَا يسبح وَقَوله تعال (وألنا لَهُ الْحَدِيد) حَتَّى كَانَ الْحَدِيد فِي يَده كالشمع والعجين يعْمل مِنْهُ مَا يَشَاء من غير نَار وَلَا ضرب مطرقة وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن دَاوُد لما ملك بني إِسْرَائِيل كَانَ من دعاته أَن يخرج للنَّاس متنكراً فَإِذا رأى رجلا لَا يعرفهُ تقدم إِلَيْهِ يسْأَله عَن دَاوُد وَيَقُول لَهُ مَا تَقول فِي دَاوُد وإليكم هَذَا أَي رجل هُوَ؟ فيثنون عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ خيرا فقيض الله لَهُ ملكا عل صُورَة آدَمِيّ فَلَمَّا رَآهُ دَاوُد تقدم إِلَيْهِ عل عَادَته وَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ الْملك نعم الرجل هُوَ لَوْلَا خصْلَة وَاحِد فِيهِ فراع دَاوُد ذَلِك وَقَالَ لَهُ مَا هِيَ يَا عبد الله؟ قَالَ إِنَّه يَأْكُل وَيطْعم عِيَاله من بَيت المَال ويتقوت بِهِ فَتنبه لذَلِك وَسَأَلَ الله أَن يسبب لَهُ شَيْئا يَسْتَغْنِي بِهِ عَن بَيت المَال فيتقوت مِنْهُ وَيطْعم عِيَاله فألان الله لَهُ الْحَدِيد وَعلمه صنعه الدروع وَهُوَ أول من اتخذها وَقيل إِنَّه كَانَ يَبِيع كل درع بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم فيأكل وَيطْعم مِنْهُ عِيَاله وَيتَصَدَّق مِنْهَا عل فُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَيُقَال إِنَّه كَانَ يعْمل فِي كل يَوْم درعاً يَبِيعهُ بِسِتَّة آلَاف دِرْهَم فينفق مِنْهَا أَلفَيْنِ على عِيَاله وعل نَفسه وَيتَصَدَّق بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم عل الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين من بني إِسْرَائِيل
قَالَ رَسُول الله صل الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ دَاوُد يَأْكُل إِلَّا من عمل يَده (ذكر قصَّة اوريا) وَلما صَار لداود ثَمَان وَخَمْسُونَ سنة وَهِي السّنة وَالثَّانيَِة وَالْعِشْرين من ملكه كَانَت قصَّته مَعَ اوريا وَزَوجته وَهِي وَاقعَة مَشْهُورَة وملخصها مَا نَقله الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى (وَهل أَتَاك نبأ الْخصم إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب) الْآيَة من قصَّة امتحان دَاوُد عليه السلام وَاخْتلف الْعلمَاء بأخبار الْأَنْبِيَاء فِي سَببه فَقَالَ قوم كَانَ سَبَب ذَلِك إِنَّه تمنى يَوْمًا من الْأَيَّام منزلَة آبَائِهِ إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب فَسَأَلَ ربه أَن يمتحنه كَمَا امتحنهم وَيُعْطِيه من الْفضل مَا أَعْطَاهُم فَروِيَ إِن دَاوُد كَانَ قد قسم الدَّهْر ثَلَاثَة أَيَّام جعل يَوْمًا يقْضِي فِيهِ بَين النَّاس وَيَوْما يَخْلُو فِيهِ لعبادة ربه وَيَوْما لنسائه وأشغاله وَكَانَ يجد فِيمَا يقْرَأ من الْكتب الْمُتَقَدّمَة فضل إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب فَقَالَ يَا رب أَرِنِي الْخَيْر كُله قد ذهب بِهِ آبَائِي الَّذين كَانُوا قبلي فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ إِنَّهُم ابتلوا ببلايا لم تبتل بهَا أَنْت فصبروا عَلَيْهَا ابتلى إِبْرَاهِيم بنمروذ وناره وَذبح ابْنه إِسْحَاق وابتلى إِبْرَاهِيم بنمروذ وناره وَذبح ابْنه إِسْحَاق وابتلى إِسْحَاق بِالذبْحِ وَذَهَاب بَصَره وابتلى يَعْقُوب بالحزن وَذَهَاب بَصَره على فقد وَلَده يُوسُف فَقَالَ دَاوُد يَا رب لَو ابتليتني بِمثل مَا ابتليتهم لصبرت أَيْضا فَأوحى الله إِلَيْهِ إِنِّي مبتليك فِي شهر كَذَا فِي يَوْم كَذَا فاحترس فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم الَّذِي وعده الله فِيهِ دخل دَاوُد محرابه وأغلق عَلَيْهِ بَابه وَجعل يُصَلِّي وَيقْرَأ الزبُور فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك إِذْ جَاءَهُ الشَّيْطَان وتمثل لَهُ فِي صفة حمامة من ذهب فِيهَا كل لون حسن وَقيل كن جناحاها من الدّرّ والزبرجد فَوَقَعت بَين رجلَيْهِ فأعجبه حسنها فَمد يَده ليأخذها ويريها لبني إِسْرَائِيل ليتعجبوا من قدرَة الله تعال فَلَمَّا قصد أَخذهَا طارت غير بعيد من غير أَن تؤيسه من نَفسهَا فامتد إِلَيْهَا ليأخذها فتنحت عَن مَكَانهَا فتبعها فطارت حَتَّى وقفت فِي كوَّة فَذهب
ليأخذها فطارت من الكوة فَنظر دَاوُد أَيْن تقع فيبعث من يصيدها فأبصر امْرَأَة فِي بُسْتَان على شط بركَة تَغْتَسِل وَقيل رَآهَا على سطح لَهَا تَغْتَسِل فَرَأى امْرَأَة من أجمل النَّاس خلقا فتعجب دَاوُد من حسنها وحانت مِنْهَا إلتفاتة فَأَبْصَرت ظله فنفظت شعرهَا فَغطّى بدنهَا فزاده ذَلِك إعجاباً بهَا فَسَأَلَ عَنْهَا فَقيل لَهُ هِيَ شَارِع زَوْجَة اوريا ابْن حنانا وَزوجهَا فِي غزَاة بالبلقاء مَعَ أَيُّوب بن صوريا ابْن أُخْت دَاوُد فَذكر بَعضهم إِنَّه كتب دَاوُد إِلَى ابْن أُخْته أَيُّوب أَن ابْعَثْ اوريا إِلَى مَوضِع كَذَا وَقدمه قبل التابوت وَكَانَ من قدم عل التابوت لَا يحل لَهُ أَن يرجع وَرَاءه حَتَّى يفتح الله على يَدَيْهِ أيستشهد فَبَعثه وَقدمه فَفتح الله عل يَدَيْهِ وَكتب بذلك إِلَى دَاوُد كتابا يُعلمهُ بِمَا فتح عل يَدَيْهِ فَكتب لَهُ كتابا ثَانِيًا أَن ابعثه إِلَى مَكَان كَذَا ليفتحه أَيْضا فَبَعثه فَفتح لَهُ وَكتب لداود بذلك فَكتب لَهُ ثَالِثا أَن إِلَى كَذَا وَكَذَا فَبَعثه فَفتح ثمَّ بَعثه إِلَى مَكَان أَشد مِنْهُ فَقتل فِي الْمرة الثَّالِثَة فَلَمَّا انْقَضتْ عدَّة الْمَرْأَة تزَوجهَا دَاوُد فَهِيَ أم سُلَيْمَان عليهما السلام فَلَمَّا دخل دَاوُد بِزَوْجَة اوريا لم يلبث مَعهَا إِلَّا يَسِيرا حَتَّى بعث الله إِلَيْهِ ملكَيْنِ فِي صُورَة رجلَيْنِ فِي يَوْم عِبَادَته فطلبا أَن يدخلا عَلَيْهِ فمنعهما الحرس فتسوروا الْمِحْرَاب عَلَيْهِ فَمَا شعر وَهُوَ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب إِلَّا وهما جالسان بَين يَدَيْهِ يُقَال إنَّهُمَا جِبْرِيل وَمِيكَائِيل فَذَلِك قَوْله تَعَالَى (وَهل أَتَاك نبأ الْخصم إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب) صعدوا وعلوا يُقَال تسورت الْحَائِط والسور إِذا علوتهما وَقَوله تعال (إِذْ دخلُوا على دَاوُد فَفَزعَ مِنْهُم) خَافَ مِنْهُم حِين هجموا عَلَيْهِ فِي المحرابه بِغَيْر إِذْنه فَقَالَ مَا ادخلكما عَليّ؟ (قَالُوا لَا تخف خصمان - أَي نَحن خصمان - بغى بَعْضنَا عل بعض جئْنَاك لِتَقضي بَيْننَا فاحكم بَيْننَا بِالْحَقِّ وَلَا تشطط - أَي لَا تجر - وأهدنا إِلَى سَوَاء الصِّرَاط) أَي أرشدنا إِلَى طَرِيق الصَّوَاب
فَقَالَ دَاوُد لَهما تكلما (فَقَالَ أَحدهمَا إِن هَذَا أخي - أَي على ديني وطريقي - لَهُ تسع وَتسْعُونَ نعجة - يَعْنِي امْرَأَة وَاحِدَة وَالْعرب تكنى بالنعجة عَن الْمَرْأَة - فَقَالَ اكفلتيها - يَعْنِي طَلقهَا لأتزوجها - وعزني - أَي غلبني - فِي الْخطاب - أيفي القَوْل -) وَقيل قهرني لقُوَّة ملكه وَهَذَا كُله تَمْثِيل لأمر دَاوُد مَعَ اوريا وَج الْمَرْأَة الَّتِي تزَوجهَا دَاوُد حَيْثُ كَانَ لداود تسع وَتسْعُونَ امْرَأَة ولأوريا امْرَأَة وَاحِدَة فَضمهَا إِلَى نِسَائِهِ قَالَ دَاوُد (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إِلَى نعاجه وَإِن كثيرا من الخلطاء - أَي الشُّرَكَاء - ليبغى بَعضهم عل بعض - أَي يظلم بَعضهم بَعْضًا - إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات - فَإِنَّهُم لَا يظْلمُونَ أحدا - وَقَلِيل مَا هم) - أَي قَلِيل هم يَعْنِي الصالحون الَّذين لَا يظْلمُونَ قَلِيل فَلَمَّا قضي بَينهمَا دَاوُد أَحدهمَا إِلَى الآخر وَضحك وصعدا إِلَى السَّمَاء فَعلم دَاوُد إِن الله تَعَالَى ابتلاه وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى (وَظن دَاوُد - أَي أَيقَن وَعلم - إِنَّمَا فتناه) أَي ابتليناه عَن ابْن عَبَّاس وَكَعب ووهب قَالُوا جَمِيعًا إِن دَاوُد عليه السلام لما دخل عَلَيْهِ الْملكَانِ وَقضى بَينهمَا فتحولا إِلَى صورتهما وعرجا إِلَى السَّمَاء فسمعهما وهما يَقُولَانِ قد قضى الرجل على نَفسه فَعلم دَاوُد إِنَّه عني بذلك فَخر سَاجِدا إِلَى تَمامًا الْأَرْبَعين يَوْمًا لَا يَأْكُل وَلَا يشرب وَهُوَ يبكي حَتَّى نبت العشب حول رَأسه وَهُوَ يُنَاجِي ربه ويسأله التَّوْبَة وَكَانَ من جمل دُعَائِهِ فِي سُجُوده سُبْحَانَ الْملك الْأَعْظَم الَّذِي يَبْتَلِي الْخلق بِمَا يَشَاء سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي خليت بيني وَبَين عدوي إِبْلِيس فَلم أقِم لفتنته إِذْ نزلت بِي سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي أَنْت الَّذِي خلقتني وَكَانَ فِي سَابق علمك مَا أَنا إِلَيْهِ صائر سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي الويل لداود إِذا كشف عَنهُ الغطاء فَيُقَال هَذَا دَاوُد الخاطئ سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي بِأَيّ
عين أنظر إِلَيْك يَوْم الْقِيَامَة وَإِنَّمَا ينظر الظَّالِمُونَ من طرف خَفِي سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي بِأَيّ قدم أقوم أمامك يَوْم الْقِيَامَة يَوْم تزل أَقْدَام الخاطئين سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي من أَيْن يطْلب العَبْد الْمَغْفِرَة إِلَّا من عِنْد سَيّده سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي أَنا الَّذِي لَا أُطِيق أسمع صَوت رعدك فَكيف أُطِيق صَوت حهنم سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي الويل لداود من الذَّنب الْعَظِيم الَّذِي أَصَابَهُ سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي أَنا الَّذِي اعْترفت بذنبي أَن لم يغْفر السَّيِّد لعَبْدِهِ من ذَا الَّذِي يغْفر لَهُ سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي أَنْت تعلم سري وعلانيتي فاقبل عُذْري سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي بِرَحْمَتك أَغفر لي ذُنُوبِي وَلَا تباعدني من رحمتك لهواني سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي أعوذ بِنور وَجهك الْكَرِيم من ذُنُوبِي الَّتِي أوبقتني سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي أَقرَرت إِلَيْك بذنوبي وَاعْتَرَفت بخطئتي فَلَا تجعلني من الظَّالِمين وَلَا تخزني يَوْم الدّين سُبْحَانَ خَالق النُّور قَالَ مُجَاهِد مكث دَاوُد أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يرفع رَأسه حَتَّى نبت العشب من دموع عَيْنَيْهِ وغطى رَأسه فَنُوديَ يَا دَاوُد أجائع فتطعم أم ظمآن فتسقي أَو عَار فتكسي فاجيب بِغَيْر مَا طلب قَالَ فَنحب نجبه هاج مِنْهَا الْعود فَاحْتَرَقَ من حر جَوْفه ثمَّ انْزِلْ الله التَّوْبَة وَالْمَغْفِرَة قَالَ وهب إِن دَاوُد أَتَاهُ نِدَاء من الْعلي الْأَعْلَى إِنِّي قد غفرت لَك قَالَ يَا رب كَيفَ وَأَنت لَا تظلم أحدا؟ قَالَ يَا دَاوُد اذْهَبْ إِلَيّ قبر أوريا فناده وَأَنا اسْمَعْهُ نداءك فتحلل مِنْهُ قَالَ فَانْطَلق دَاوُد إِلَى قبر أوريا وَكَانَ قد لبس المسوح حَتَّى جلس عِنْد قبر أوريا ثمَّ نَادَى وَقَالَ يَا أوريا فَقَالَ لبيْك من هَذَا الَّذِي قطع عَليّ لذتي وأيقظني؟ قَالَ أَنا دَاوُد قَالَ فَمَا حَاجَتك يَا نَبِي الله؟ قَالَ جِئْت لأسألك أَن تجعلني
فَيحل مِمَّا كَانَ ممني إِلَيْك قَالَ وَمَا كَانَ مِنْك إِلَيّ؟ قَالَ عرضتك للْقَتْل قَالَ عرضتني للجنة فَأَنت فِي حل مني فَأوحى الله تعال إِلَيْهِ يَا دَاوُد ألم تعلم إِنِّي الحكم الْعدْل لَا أَقْْضِي بالتعنت لم لَا أعلمته إِنَّك قد تزوجت بامرأته؟ قَالَ فَرجع دَاوُد إِلَى الْقَبْر ونادى يَا أوريا فَأَجَابَهُ وَقَالَ من هَذَا الَّذِي قطع عَليّ لذتي؟ قَالَ أَنا دَاوُد قَالَ يَا نَبِي الله أَلَسْت قد حاللتك وعفوت عَنْك؟ قَالَ نعم وَلَكِنِّي مَا أرسلتك حَتَّى قتلت إِلَّا لمَكَان امْرَأَتك وَقد تزوجت بهَا ومرادي تحاللني بذلك قَالَ فَسكت وَلَو يجبهُ فَدَعَاهُ فَلم يجبهُ وثالثاً فَلم يجبهُ فَقَامَ دَاوُد عِنْد قَبره وَجعل يبكي ويحثو التُّرَاب على رأٍ سه وَهُوَ يُنَادي الويل لداود إِذا نصب الْمِيزَان غَدا بالقسطاس سُبْحَانَ خَالق النُّور الويل ثمَّ الويل الطَّوِيل لَهُ حِين يسحب على وَجهه مَعَ الخاطئين إِلَى النَّار سُبْحَانَ خَالق النُّور فَأَتَاهُ النداء من الْعلي وَهُوَ يَقُول سُبْحَانَ خَالق النُّور يَا دَاوُد قد غفرت لَك ذَنْبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك قَالَ يَا رب كَيفَ وخصمي لم يعف عني؟ قَالَ يَا دَاوُد أعْطِيه من الثَّوَاب مِمَّا لم تره عَيناهُ يَوْم الْقِيَامَة وَلم تسمعه أذنَاهُ فَأَقُول لَهُ رضى عَبدِي فَيَقُول يَا ربب إِنِّي لي هَذَا وَلم يبلغهُ عَمَلي؟ فَأَقُول هَذَا عوض عَن عَبدِي دَاوُد فاستوهبك مِنْهُ فيهبك لي قَالَ يَا رب قد عرفت الْآن إِنَّك قد غفرت لي وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى (فَاسْتَغْفر ربه وخرراكعاً - أَي سَاجِدا عبر عَن السُّجُود بِالرُّكُوعِ لِأَن كل وَاحِد فِيهِ إنحناء وَمَعْنَاهُ فَخر بعد مَا كَانَ رَاكِعا أَي سجد - وأناب - أَي رَجَعَ - فغفرنا لَهُ ذَلِك - يَعْنِي ذَلِك الذَّنب - وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب) حسن مرجع ومنقلب يَوْم الْقِيَامَة بعد الْمَغْفِرَة قَالَ وهب إِن دَاوُد لما تَابَ الله عَلَيْهِ بَكَى على خطيئته ثَلَاثِينَ سنة لَا يرقأ
دمعه لَيْلًا وَنَهَارًا وَكَانَ قد أصَاب الخطئية وَهُوَ ابْن سبعين سنة فقسم الدَّهْر بعد تِلْكَ الخطئية عل أَرْبَعَة أَيَّام جعل يَوْمًا للْقَضَاء بَين النَّاس وَيَوْما لنسائه وَيَوْما يسبح فِي الفيافي وَالْجِبَال والسواحل والاوعار وَيَوْما يَخْلُو فِي دَاره لَهُ فِيهَا أَرْبَعَة آلَاف محراب فيجتمع إِلَيْهِ الرهبان فينوح مَعَهم على نَفسه وهم يساعدونه عل ذَلِك فَإِذا كَانَ يَوْم سياحته يخرج فِي الفيافي فيرفع صَوته بالمزامير فتبكي مَعَه الْأَشْجَار والاعار والرمل وَالطير والوحوش حَتَّى يسيل من دموعهم مثل الْأَنْهَار ثمَّ يَجِيء إِلَى الْجبَال فيرفع صَوته بالمزامير فيبكي وتبكي مَعَه الْجبَال وَالْحِجَارَة وَالطير وَالدَّوَاب حَتَّى تسيل الأودية من بكائهم ثمَّ يَجِيء إِلَى السَّاحِل فيرفع صَوته فيبكي وتبكي مَعَه الْحيتَان ودواب الْبَحْر وطير المَاء وَالسِّبَاع فَإِذا أَمْسَى رَجَعَ فَإِذا كَانَ يَوْم نوحه على نَفسه نَادَى مناديه إِن الْيَوْم يَوْم نوح دَاوُد على نَفسه فليحضر من يساعده فَيدْخل الدَّار الَّتِي فِيهَا المحاريب فيبسط لَهُ ثَلَاثَة فرش من مسوح حشوها لِيف فيجلس عَلَيْهَا وَيَجِيء أَرْبَعَة آلَاف رَاهِب عَلَيْهِم البرانس وَفِي أَيْديهم العصي فَيَجْلِسُونَ فِي تِلْكَ المحاريب ثمَّ يرفع دَاوُد صَوته بالبكاء والتنوح عل نَفسه وَيرْفَع الرهبان مَعَه أَصْوَاتهم فَلَا يزَال يبكي حَتَّى تغرق الْفرش مكن دُمُوعه وَيَقَع دَاوُد فِيهَا مثل الفرخ يضطرب فَيَجِيء ابْنه سُلَيْمَان فيحمله فَيَأْخُذ دَاوُد من تِلْكَ الدُّمُوع بكفيه ثمَّ يمسح بهَا وَجهه وَيَقُول يَا رب اغْفِر مَا ت فَلَو عدل بكاء دَاوُد ببكاء أهل الدُّنْيَا لعدله قَالَ وهب مَا رفع دَاوُد رَأسه حَتَّى قَالَ لَهُ الْملك ناول أَمرك ذَنْب وَآخره مَعْصِيّة أرفع رَأسك فَرفع رَأسه فَمَكثَ حَيَاته لَا يشرب مَاء إِلَّا مزجه بدموعه وَلَا يَأْكُل طَعَاما إِلَّا بله بدموعه وَذكر الاوزاعي مَرْفُوعا إِلَى الرَّسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن مثل عَيْني دَاوُد كالقربتين ينطفان مَاء وَلَقَد خدت الدُّمُوع فِي وَجهه كخديد المَاء فِي الأَرْض
قَالَ وهب لما تَابَ الله على دَاوُد قَالَ يَا رب غفرت لي فَكيف لي أَن لَا أنسى خطيئتي فأستغفر مِنْهَا لي وللخاطئين إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ فوسم الله خطيئته فِي يَده الْيُمْنَى فَمَا رفع طَعَاما وَلَا شرابًا إِلَّا بك إِذا رَآهَا وَمَا قَامَ خَطِيبًا فِي النَّاس إِلَّا بسط راحتيه فَاسْتقْبل النَّاس ليروا وسم خطيئته واستغفر للخاطئين قبل نَفسه وَعَن الْحسن كَانَ دَاوُد بعد الخطئية لَا يُجَالس إِلَّا الخاطئين يَقُول تَعَالَوْا إِلَى دَاوُد الخاطئ وَلَا يشرب إِلَّا مزجه بدموع عَيْنَيْهِ وَكَانَ يَجْعَل خبز الشّعير الْيَابِس فِي قصعته فَلَا يزَال يبكي حَتَّى تبتل بدموع عَيْنَيْهِ وَكَانَ يذر عَلَيْهِ الْملح والرماد فيأكل وَيَقُول هَذَا أكل الخاطئين وَكَانَ دَاوُد قبل الْخَطِيئَة يقوم نصف اللَّيْل ويصوم نصف الدَّهْر فَلَمَّا كَانَ من الخطيته مَا كَانَ صاما الدَّهْر كُله وَقَامَ اللَّيْل كُله وَكَانَ إِذا ذكر عِقَاب الله تخلعت أوصاله وَإِذا ذكر رَحْمَة الله تراجعت وَفِي الْقِصَّة أَن الوحوش وَالطير كَانَت تسمع إِلَى قِرَاءَته فَلَمَّا فعل مَا فعل كَانَت لَا تصغي إِلَى قِرَاءَته فَروِيَ إِنَّهَا قَالَت يَا دَاوُد ذهبت خطيئتك بحلاوة صَوْتك (ذكر بِنَاء سيدنَا دَاوُد عليه السلام مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس) عَن رَافع بن عميرَة قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول قَالَ الله تبارك وتعالى لداود يَا دَاوُد ابْن لي بَيْتا فِي الأَرْض فَبنى دَاوُد بَيْتا لنَفسِهِ قبل الْبَيْت الَّذِي أمره الله تَعَالَى بِهِ فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ يَا دَاوُد بنيت بَيْتك قبل بَيْتِي؟ قَالَ أَي رب هَكَذَا قلت فِيمَا قضيت من ملك اسْتَأْثر ثمَّ أَخذ فِي بِنَاء الْمَسْجِد - يَعْنِي بَيت الْمُقَدّس - وَعَن وهب لما تَابَ الله عز وجل عل دَاوُد عليه السلام وَكَانَ قد بنى مَدَائِن كَثِيرَة وصلحت أُمُور بني إِسْرَائِيل أحب أَن يَبْنِي بَيت الْمُقَدّس وعَلى الصَّخْرَة قبَّة فِي الْموضع الَّذِي قدسه الله تَعَالَى فِي ايليا وَكَانَ قد حسنت حَال نَبِي إِسْرَائِيل
وملؤا الشَّام وَضَاقَتْ بهم فلسطين وَمَا حولهَا فَأحب دَاوُد عليه السلام أَن يعلم عَددهمْ فَأمر بإحصائهم عل أنسابهم وقبائلهم فَكثر عَلَيْهِم فَلم يطيقوا إحصاءهم وروى أَن الله تَعَالَى أوح إِلَى دَاوُد عليه السلام لما كثر طغيان نَبِي إِسْرَائِيل إِنِّي أَقْسَمت بعزتي لأبتلينهم بِالْقَحْطِ سنتَيْن أَو أسلط عَلَيْهِم الْعَدو شَهْرَيْن أَو الطَّاعُون ثَلَاثَة أَيَّام فَجَمعهُمْ دَاوُد وَخَيرهمْ بَين إِحْدَى الثَّلَاث فَقَالُوا أَنْت نَبينَا وَأَنت أنظر إِلَيْنَا من أَنْفُسنَا فاختر لنا فَقَالَ أما الْجُوع فَإِنَّهُ بلَاء فاضح لَا يصبر عَلَيْهِ أحد وَأما الْعَدو وَالْمَوْت فَإِنِّي أخْبركُم أَن اخترتم تسليط الْعَدو فَإِنَّهُ لَا بَقِيَّة لكم وَالْمَوْت بيد الله تَعَالَى تموتون بآجالكم ففوضوا ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى فَهُوَ أرْحم بكم فَاخْتَارَ لَهُم الطَّاعُون وَأمرهمْ أَن يتجهزوا لَهُ ويلبسوا أكفانهم ويخرجوا نِسَاءَهُمْ وإماءهم وَأَوْلَادهمْ أمامهم وهم خَلفهم عل الصَّخْرَة والصعيد الذيبني عَلَيْهِ مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس وَهُوَ يَوْمئِذٍ صَعِيد وَاحِد فَفَعَلُوا ثمَّ نادوا يَا رب اللَّهُمَّ إِنَّك أمرتنا بِالصَّدَقَةِ وَأَنت تحب المتصدقين فَتصدق علينا بِرَحْمَتك اللَّهُمَّ وَقد أمرتنا أَن لَا نرد السَّائِل إِذا وقف عل أبوابنا وَقد جئْنَاك سائلين فَلَا تردنَا ثمَّ خروا سجدا من حِين طُلُوع الصُّبْح فَسلط الله عَلَيْهِم الطَّاعُون من ذَلِك الْوَقْت إِلَى أَن زَالَت الشَّمْس ثمَّ رَفعه عَنْهُم ثمَّ أوحى الله إِلَى دَاوُد عليه السلام أَن ارْفَعُوا رؤوسكم فقد شفعتك فيهم فَرفع دَاوُد رَأسه ثمَّ نَاد إِن ارْفَعُوا رؤوسكم فَرفعُوا رؤوسهم وَقد مَاتَ مِنْهُم مائَة ألف وَسَبْعُونَ ألف أَصَابَهُم الطَّاعُون وهم سُجُود فنظروا إِلَى الْمَلَائِكَة يَمْشُونَ بَينهم بِأَيْدِيهِم الخناجر ثمَّ عمد دَاوُد عليه السلام وارتقى الصَّخْرَة رَافعا يَدَيْهِ يحدث لله شكرا ثمَّ إِنَّه جمع بني إِسْرَائِيل بعد ذَلِك وَقَالَ إِن الله سبحانه وتعالى قد رحمكم وَعَفا
عَنْكُم فأحدثوا الله شكرا بِقدر مَا ابتلاكم فَقَالُوا لَهُ مرنا بِمَا شِئْت قَالَ إِنِّي لَا أعلم أمرا أبلغ فِي شكركم من بِنَاء مَسْجِد على هَذَا الصَّعِيد الَّذِي رجمكم الله عَلَيْهِ فنبنيه مَسْجِدا تعبدوا الله فِيهِ وتقدسوه أَنْتُم وَمن بعدكم قَالُوا نَفْعل سَأَلَ دَاوُد ربه فَأذن لَهُ وَأَقْبلُوا على بنائِهِ وَرُوِيَ أَن الله تَعَالَى لما أَمر دَاوُد عليه السلام أَن يَبْنِي مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس قَالَ يَا رب وَأَيْنَ أبنيه؟ قَالَ حَيْثُ ترى الْملك شاهراً سَيْفه قَالَ فَرَآهُ دَاوُد فِي ذَلِك الْمَكَان فَأَسَّسَ قَوَاعِده وَرفع حَائِطه فَلَمَّا ارْتَفع انْهَدم فَقَالَ دَاوُد يَا رب أَمرتنِي أَن أبني لَك بَيْتا فَلَمَّا ارْتَفع هدمته فَقَالَ يَا دَاوُد إِنَّمَا جعلتك خليفتي فِي خلقي فَلم أخذت الْمَكَان من صَاحبه بِغَيْر ثمن؟ إِنَّه سيبنيه رجل من ولدك وَحكي فِي معنى هَذَا الْأَثر أَن الْمَكَان كَانَ لجماع من بني إِسْرَائِيل وَلكُل وَاحِد نمهم فِيهِ حق فَطَلَبه دَاوُد مِنْهُم فأنعم بِهِ الْبَعْض بِاللَّفْظِ وَالْبَعْض بِالسُّكُوتِ ففهم دَاوُد من الساكتين الرِّضَا وَكَانَ بَعضهم غير رَاض فِي الْبَاطِن فَحمل دَاوُد الْأَمر عل ظَاهره فبناه فجَاء بعض أَصْحَاب الْحق إِلَى بني إِسْرَائِيل وَقَالَ لَهُم إِنَّكُم تُرِيدُونَ أَن تبنوا عل حَقي وَأَنا مِسْكين وَإنَّهُ مَوضِع بيدرى أجمع فِيهِ طَعَامي فأرتفق بِحمْلِهِ إِلَى منزلي لقُرْبه فَإِن بنيتم عَلَيْهِ أضررتم بِي فانظروا فِي أَمْرِي فَقَالُوا لَهُ كل من بني إِسْرَائِيل لَهُ مثل حَقك وَأَنت ابخلهم فَإِن اعطيته طَوْعًا وَإِلَّا أخذناه على كره مِنْك فَقَالَ أتجدون هَذَا فِي حكم دَاوُد؟ ثمَّ انْطلق وشكاهم إِلَيْهِ فَدَعَاهُمْ وَقَالَ لَهُم تُرِيدُونَ أَن تبنوا بَيت الله بالظلم مَا أَرَاكُم يَا يني إِسْرَائِيل تستكينون لله عز وجل وَلَا أرى إِلَّا أَن الْبلَاء يضغطكم ثمَّ قَالَ دَاوُد أتطيب نَفسك عل حَقك فتبيعه بحكمك؟ فَقَالَ مَا تُعْطِينِي؟ قَالَ أملأه لَك إِن شِئْت غنما وَإِن شِئْت بقرًا وَإِن شِئْت إبِلا فَقَالَ يَا نَبِي الله
زِدْنِي فَإِنَّمَا تشتريه لله عز وجل فَلَا تبخل عَليّ فَقَالَ دَاوُد احتكم فَإنَّك لَا تَسْأَلنِي شَيْئا إِلَّا أَعطيتك فَقَالَ ابْن لي حَائِطا قدر قامتي ثمَّ أملأه لي ذَهَبا فَقَالَ لَهُ دَاوُد عليه السلام نعم وَهُوَ فِي الله قَلِيل فَالْتَفت الرجل إِلَى نَبِي إِسْرَائِيل فَقَالَ هَذَا وَالله التائب الصَّادِق المخلص ثمَّ قَالَ يَا نَبِي الله قد علم الله عز وجل مني لمغفرة ذَنْب من ذُنُوبِي وذنوب هَؤُلَاءِ أحب إِلَيّ من ملْء الأَرْض ذَهَبا فَكيف يظنّ هَؤُلَاءِ إِنِّي أبخل عَلَيْهِم وعل نَفسِي بِمَا أَرْجُو بِهِ الْمَغْفِرَة لذنوبي وذنوبهم وَلَكِنِّي جربتهم رحم لَهُم وشفقة عَلَيْهِم وَقد جعلته لله فاقبلوا عل عمل مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس وباشر دَاوُد الْعَمَل بِنَفسِهِ وَجعل ينْقل الْحجر عل عَاتِقه ويضعه بِيَدِهِ فِي مَوْضِعه وَمَعَهُ أَخْبَار بني إِسْرَائِيل وروى أَن دَاوُد لما ابتدأه وَرَفعه قامة رجل أوح الله إِلَيْهِ غَنِي لم أقض ذَلِك عل يَديك وَلَكِن ابْن لَك أملكهُ بعْدك اسْمه سُلَيْمَان اقضي إِتْمَامه عل يَدَيْهِ وَتُوفِّي دَاوُد عليه السلام قبل إِتْمَامه وَله سَبْعُونَ سنة وَقيل غير ذَلِك وَأنزل الله عَلَيْهِ الزبُور وَهُوَ مائَة وَخَمْسُونَ سُورَة بالعبرانية فِي خمسين مِنْهَا مَا يلقونه من بخت نصر وَفِي خمسين مِنْهَا مَا يلقونه من الرّوم وَفِي خمسين مواعظ وَحكم وَلم يكن فِيهِ حَلَال وَلَا حرَام وَلَا حُدُود وَلَا أَحْكَام وَكَانَت وَفَاته فِي يَوْم السبت أَوَاخِر سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى " ع " وَملك دَاوُد أَرْبَعِينَ سنة وَأوصى قبل مَوته بِالْملكِ إِلَيّ سُلَيْمَان وَلَده وأوصاه بعمارة بَيت الْمُقَدّس وَعين لذَلِك عدَّة بيُوت أَمْوَال تحتوي عل جمل كَثِيرَة من الذَّهَب وَعَن كَعْب ووهب إِن دَاوُد عليه السلام أعد لبِنَاء بَيت الْمُقَدّس مائَة ألف بدرة ذَهَبا وَألف ألف بدرة وَرقا وثلاثمائة ألف دِينَار لطلاء الْبَيْت وَذكر أَن هَذَا مَال لَا تفي بِهِ الْمَعَادِن قَالَ وهب دفن دَاوُد بالكنيسة الْمَعْرُوف بالجيسمانية شَرْقي بَيت الْمُقَدّس
فِي الْوَادي وَيُقَال أَن قبر دَاوُد عليه السلام بكنيسة صهيون وَهِي الَّتِي بِظَاهِر الْقُدس من جِهَة الْقبْلَة بأيدي طَائِفَة الإفرنج لِأَنَّهَا كَانَت دَاره وَفِي كَنِيسَة صهيون الْمَذْكُورَة مَوضِع تعظمه النَّصَارَى وَيُقَال أَن قبر دَاوُد فِيهِ وَهَذَا الْموضع هُوَ الْآن بأيدي الْمُسلمين وَسَنذكر مَا وَقع فِي ذَلِك فِي عصرنا من التَّنَازُع بَين الْمُسلمين وَالنَّصَارَى فِيمَا بعد فِي حوادث سنة خمس وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى (ملك سُلَيْمَان عليه السلام لما توفّي دَاوُد ملك ابْنه سُلَيْمَان وعمره اثْنَتَا عشرَة سنة ومولد سُلَيْمَان بغزة وآتاه الله الْحِكْمَة وَالْعلم وَالْملك مَا لم يؤته لأحد سواهُ على مَا أخبر الله عز وجل بِهِ فِي مُحكم كابه الْعَزِيز فأطاع لَهُ الله الْأنس وَالْجِنّ وَالشَّيَاطِين والرياح والطيور والوحوش والهوام وكل الْمَخْلُوقَات عل اخْتِلَاف أجناسها فسبحان المتفضل بِمَا شَاءَ عل من شَاءَ (بِنَاء سُلَيْمَان عليه السلام مَدين بَيت الْمُقَدّس ومسجدها) لما كَانَ فِي السّنة الرَّابِعَة من ملكه فِي شهر أيار وَهِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى عليه السلام ابْتَدَأَ سُلَيْمَان عليه السلام فِي عمار بَيت الْمُقَدّس حسماً تقدم بِهِ وَصِيَّة أَبِيه إِلَيْهِ وَكَانَت مَدين بَيت الْمُقَدّس فِي زمن نَبْنِي إِسْرَائِيل عَظِيمَة الْبناء متسعة الْعمرَان وَكَانَت أكبر من مصر وَمن بَغْدَاد عل مَا يُوصف فَيُقَال أَن الْعِمَارَة والمنازل كَانَت مُتَّصِلَة من جِهَة الْقبْلَة إِلَى الْقرْيَة الْمَعْرُوفَة يَوْمئِذٍ بدير السّنة وَمن جِهَة الشرق إِلَى جبل طور زيتا واستمرت الْعِمَارَة بطور زيتا إِلَيّ حِين الْفَتْح الْعمريّ وَمن جِهَة الغرب إِلَى مَاء ملا وَمن جِهَة الشمَال إِلَى الْقرْيَة الَّتِي بهَا قبر النَّبِي شمويل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَاسْمهَا عِنْد الْيَهُود رامة ومسافتها عَن بَيت الْمُقَدّس تقرب من ربع بريد فعمارة دَاوُد وَسليمَان عليهما السلام لمدين الْقُدس إِنَّمَا هِيَ تَجْدِيد الْبناء الْقَدِيم وَتقدم فِي أول الْكتاب ذكر أول من بنى الْمَدِينَة وعمرها واختطها وَإنَّهُ سَام ابْن نوح عليهما السلام وَكَانَ مَحل الْمَسْجِد بَين عمرَان الْمَدِين وَهُوَ صَعِيد وَاحِد والصخرة الشريف قَائِمَة فِي وَسطه حَتَّى بناه دَاوُد ثمَّ سُلَيْمَان عليهما السلام وَكَانَ من خبر ذَلِك مَا رُوِيَ أَن الله عز وجل لما أوحى إِلَى سُلَيْمَان " ع " أَن ابْن بَيت الْمُقَدّس جمع حكماء الْإِنْس وَالْجِنّ وعفاريت الأَرْض وَعُظَمَاء الشَّيَاطِين وَجعل مِنْهُم فريقاً يبنون وفريقاً يقطعون الصخور والعمد مِمَّن معادن الرخام وفريقاً يغوصون فِي الْبَحْر فَيخْرجُونَ مِنْهُ الدّرّ والمرجان وَكَانَ الدّرّ مَا هُوَ مثل بيض النعام وبيضة الدَّجَاج وَأخذ فِي بِنَاء بَيت الْمُقَدّس وَأمر بِبِنَاء الْمَدِينَة بالرخام والصفاح وَجعلهَا اثْنَي عشر ربضاً وَأنزل كل ربض مِنْهَا سبطاً من الأسباط وَكَانُوا اثْنَي عشر سبطاً فَلَمَّا فرغ من بِنَاء الْمَدِين ابْتَدَأَ فِي بِنَاء الْمَسْجِد فَلم يثبت الْبناء فَأمر بهدمه ثمَّ حفر الأَرْض حَتَّى بلغ المَاء فأسسه عل المَاء وألقوا فِيهِ الْحِجَارَة فَكَانَ المَاء يلفظها فَدَعَا سُلَيْمَان عليه السلام الْحُكَمَاء الْأَحْبَار وَرَئِيسهمْ آصف بن برخيا واستشارهم فَقَالُوا إِنَّا نرى أَن نتَّخذ قلالا من نُحَاس ثمَّ نملأها حِجَارَة ثمَّ نكتب عَلَيْهَا الْكتاب الَّذِي فِي خاتمك ثمَّ نلقي القلال فِي المَاء وَكَانَ الْكتاب الَّذِي على الْخَاتم لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله فَفَعَلُوا فثبتت القلال فَألْقوا الْمُؤَن وَالْحِجَارَة عَلَيْهَا وَبني حَتَّى ارْتَفع بِنَاؤُه وَفرق الشَّيَاطِين فِي أَنْوَاع الْعَمَل فدأبوا فِي عمله وَجعل فرقة مِنْهُم يقطعون معادن الْيَاقُوت والزمرد ويأتون بأنواع الْجَوَاهِر وَجعل الشَّيَاطِين صفا مرصوصاً من معادن الرخام إِلَى الْحَائِط الْمَسْجِد فَإِذا قطعُوا من الْمَعَادِن حجرا أَو اسطوانة تَلقاهُ الأول مِنْهُم ثمَّ الَّذِي يَلِيهِ وَيُلْقِيه بَعضهم إِلَى بعض حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى الْمَسْجِد وَجعل فرقة لقطع الرخام الْأَبْيَض الَّذِي مِنْهُ مَا هُوَ مثل بَيَاض اللَّبن بمعدن يُقَال لَهُ السامور
وَالَّذِي دلهم على مَعْدن السامور عفريت من الشَّيَاطِين كَانَ فِي جَزِيرَة من جزائر الْبَحْر فدلوا سُلَيْمَان عليه السلام عَلَيْهِ فَأرْسل إِلَيْهِ بِطَابع من حَدِيد وَكَانَ خَاتمه يرسخ فِي الْحَدِيد والنحاس فيطبع إِلَى الْجِنّ بِالنُّحَاسِ وَإِلَى الشَّيَاطِين بالحديد وَلَا يجِيبه أَقْصَاهُم إِلَّا بذلك وَكَانَ خَاتمًا نزل عَلَيْهِ من السَّمَاء حلقته بَيْضَاء وطابعه كالبرق لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يمْلَأ بَصَره مِنْهُ فَلَمَّا وصل الطابع إِلَى العفريت وَجِيء بِهِ قَالَ لَهُ هَل عنْدك من حيل أقطع بهَا الصخر فَإِنِّي أكره صَوت الْحَدِيد فِي مَسْجِدنَا هَذَا وَالَّذِي أمرنَا الله بِهِ من ذَلِك الْوَقار والسكينة فَقَالَ لَهُ العفريت إِنِّي لَا أعلم فِي السَّمَاء طيراً أَشد من الْعقَاب وَلَا أَكثر حِيلَة مِنْهُ وَذهب يَبْتَغِي وكر عِقَاب فَوجدَ وكراً فَغطّى عَلَيْهِ بترس غليظ من حَدِيد فجَاء الْعقَاب إِلَى وَكره فَوجدَ الترس فبحثه بِرجلِهِ ليزيحه أَو ليقطعه فَلم يقدر عَلَيْهِ فحلق فِي السَّمَاء ولبث يَوْمه وَلَيْلَته ثمَّ أقبل وَمَعَهُ قطع من السامور فتفرقت عَلَيْهِ الشَّيَاطِين حَتَّى أخذوها مِنْهُ وَأتوا بهَا إِلَى سُلَيْمَان عليه السلام وَكَانَ يقطع بهَا الصَّخْرَة الْعَظِيمَة وَكَانَ عدد من عمل مَعَه فِي بِنَاء بَيت الْمُقَدّس ثَلَاثِينَ ألف رجل وَعشرَة آلَاف يتراوحون عَلَيْهِم قطع الْخشب فِي كل شهر عشرَة آلَاف خشب وَكَانَ الَّذين يعْملُونَ فِي الْحِجَارَة سبعين ألف رجل وَعدد الْأُمَنَاء عَلَيْهِم ثَلَاثمِائَة غير المسخرين من الْجِنّ وَالشَّيَاطِين وَعمل فِيهِ سُلَيْمَان عليه السلام عملا لَا يُوصف وزينه بِالذَّهَب وَالْفِضَّة والدر والياقوت والمرجان وأنواع الْجَوَاهِر فِي سمائه وأرضه وأبوابه وجدرانه وأركانه مَا لم ير مثله وسقفه بِالْعودِ اليلنجوج وصنع لَهُ مِائَتي سكرة من الذَّهَب وزن كل سكرة عشرَة أَرْطَال وأولج فِيهِ تَابُوت مُوسَى وَهَارُون عليهما السلام وَلما فرغ سُلَيْمَان عليه السلام من بِنَاء بَيت الْمُقَدّس انبت الله شجرتين عِنْد بَاب الرَّحِم إِحْدَاهمَا تنْبت الذَّهَب وَالْأُخْرَى تنْبت الْفضة فَكَانَ فِي كل يَوْم ينْزع من كل وَاحِدَة مِائَتي رَطْل ذَهَبا وَفِضة وفرش الْمَسْجِد بلاطه من ذهب وبلاطه من
فضَّة فَلم يكن يَوْمئِذٍ فِي الأَرْض بَيت أبهى وَلَا أنور من ذَلِك الْمَسْجِد كَانَ يضيء فِي الظُّلم كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر وَكَانَت صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس أَيَّام سُلَيْمَان عليه السلام ارتفاعها اثْنَي عشر ذِرَاعا وَكَانَ الذِّرَاع ذِرَاع الْأمان ذِرَاعا وشبراً وقبضة وَكَانَ ارْتِفَاع الْقبَّة الَّتِي عَلَيْهَا ثَمَانِيَة عشر ميلًا وَرُوِيَ اثْنَي عشر ميلًا وَفَوق الْقبَّة غزال من ذهب بَين عَيْنَيْهِ درة أَو ياقوتة حَمْرَاء تغزل نسَاء البلقاء على ضوئها بِاللَّيْلِ - وَهِي فَوق مرحلَتَيْنِ من الْقُدس - وَكَانَ أهل عمواس يَسْتَظِلُّونَ بِظِل الْقبَّة إِذا طلعت الشَّمْس من الْمشرق وعمواس بِفَتْح الْمِيم وسكونها وَهِي الَّتِي سمى بهَا الطَّاعُون على الرَّاجِح لِأَنَّهُ مِنْهَا ابْتَدَأَ وَكَانَ فِي سنة ثَمَانِي عشرَة من الْهِجْرَة وَهِي بِالْقربِ من رَملَة فلسطين مسافتها عَن بَيت الْمُقَدّس نَحْو بريد وَنصف وَإِذا غربت الشَّمْس استظل بهَا بَيت الرامة وَغَيرهم من الْغَوْر ومسافتها عَن بَيت الْمُقَدّس أبعد من عمواس قَالَ بعض المؤرخين وَعمل خَارج الْبَيْت سوراً محيطاً امتداده خَمْسمِائَة ذِرَاع فِي خَمْسمِائَة ذِرَاع وَأقَام سُلَيْمَان فِي عمَارَة بَيت الْمُقَدّس سبع سِنِين وَفرغ مِنْهُ فِي السّنة الْحَادِيَة عشر من ملكه فَيكون الْفَرَاغ من عمَارَة بَيت الْمُقَدّس فِي أَوَاخِر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة لوفاة موس عليه السلام وَكَانَ من هبوط آدم عليه السلام إِلَى ابْتِدَاء سُلَيْمَان بِبِنَاء بَيت الْمُقَدّس أَرْبَعَة آلَاف وَأَرْبَعمِائَة وَأَرْبع عشرَة سنة وَبَين عمَارَة بَيت الْمُقَدّس وَالْهجْرَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة المحمدية على صَاحبهَا أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام ألف وَثَمَانمِائَة سنة كَامِلَة وَقَرِيب سِتِّينَ فَيكون الْمَاضِي من عمار بَيت الْمُقَدّس على يَد سُلَيْمَان إِلَى عصرنا هَذَا وَهُوَ أَوَاخِر ذِي الْحجَّة ختام عَام تِسْعمائَة أَلين وَسَبْعمائة سنة وَقَرِيب سِتِّينَ
وَأما بِنَاء د مَدِينَة الْقُدس الأول فقد تقدم أَن أول من بناها سَام بن نوح وَكَانَت وَفَاته بعد الطوفان بِخَمْسِمِائَة سنة وَمن وَفَاة سَام إِلَى بِنَاء سُلَيْمَان بَيت الْمُقَدّس ألف وسِتمِائَة وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ سنة وَبَين الطوفان وَالْهجْرَة الشَّرِيفَة ثَلَاثَة آلَاف وَتِسْعمِائَة وَأَرْبع وَسَبْعُونَ سنة فَيكون الْمَاضِي من وَفَاة سَام إِلَى آخر سنة تِسْعمائَة من الْهِجْرَة الشَّرِيفَة أَرْبَعَة آلَاف وثلاثمائة وأربعاً وَسبعين سنة فَيعلم من ذَلِك تَارِيخ بِنَاء بَيت الْمُقَدّس الأول تَقْرِيبًا وَالله أعلم وَمُلَخَّص القَوْل إِن من هبوط آدم عليه السلام إِلَى الطوفان أَلفَيْنِ وَمِائَتَيْنِ واثنتين وَأَرْبَعين سسن وَمن الطوفان إِلَى وَفَاة سَام بن نوح خَمْسمِائَة سنة وَمن وَفَاة سَام إِلَى بِنَاء سُلَيْمَان بَيت الْمُقَدّس ألفا وسِتمِائَة واثنتين وَسبعين سنة وَمن بِنَاء سُلَيْمَان إِلَى الْهِجْرَة الشَّرِيفَة ألفا وثلاثمائة وَقَرِيب سِتِّينَ وَمن الْهِجْرَة الشَّرِيفَة إِلَى عصرنا هَذَا تِسْعمائَة سنة فَهَذِهِ الْمدَّة الَّتِي تقدم ذكر تفصيلها قبل ذَلِك فِي أَمَاكِن مُتَفَرِّقَة وجملتها من هبوط آدم إِلَى آخر سنة تِسْعمائَة من الْهِجْرَة الشَّرِيفَة سَبْعَة آلَاف سنة وَمِائَة سنة وَسِتَّة عشر سنة على اخْتِيَار المؤرخين كَمَا تقدم عِنْد ذكر سيدنَا آدم عليه السلام وَالْخلاف فِي ذَلِك كثير وَيَأْتِي ذكر بِنَاء مَدِينَة سيدنَا الْخَلِيل عليه السلام وَأول من اختطها فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله وَلما فرغ سُلَيْمَان من بِنَاء بَيت الْمُقَدّس سَأَلَ الله ثَلَاثًا سَأَلَهُ حكما؟ ً يُوَافق حكمه وَسَأَلَهُ ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده وَسَأَلَهُ أَن لَا يَأْتِي هَذَا الْمَسْجِد أحد لَا يُرِيد إِلَّا الصَّلَاة فِيهِ إِلَّا خرج من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه وَلِهَذَا كَانَ عبد الله ابْن عمر رضي الله عنهما يَأْتِي بَيت الْمُقَدّس فَيصَلي رَكْعَتَيْنِ ثمَّ يخرج وَلَا يشرب فِيهِ كَأَنَّهُ يطْلب دَعْوَة سُلَيْمَان وَرُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنَّه قَالَ إِن سُلَيْمَان ابْن دَاوُد " ع " سَأَلَ ربه ثَلَاثًا فَأعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ وَنحن نرجو أَن يكون قد أعطَاهُ الثَّالِثَة سَأَلَهُ حكما
يُصَادف حكمه فَأعْطَاهُ إِيَّاه وَسَأَلَهُ ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده فَأعْطَاهُ وَسَأَلَهُ أَيّمَا رجل يخرج من بَيته لَا يُرِيد إِلَّا الصَّلَاة فِي هَذَا الْمَسْجِد أَن يخرج من خطيئته كَيَوْم ولته أمه فَنحْن نرجو أَن يكون قد أعطَاهُ إِيَّاه وَلما رفع سُلَيْمَان عليه السلام يَده من الْبناء بعد الْفَرَاغ مِنْهُ وَأَحْكَامه جمع النَّاس وَأخْبرهمْ إِنَّه مَسْجِد لله تعال وَهُوَ أمره ببنائه وَأَن كل شَيْء فِيهِ لله تَعَالَى من انتفضه أَو شَيْئا مِنْهُ فقد خَان الله تعال وَأَن دَاوُد عهد إِلَيْهِ ببنائه وأوصاه بذلك من بعده ثمَّ اتخذ طَعَاما وَجمع النَّاس جمعا لم ير مثله قطّ وَلَا طَعَاما أَكثر مِنْهُ ثمَّ أَمر بالقرابين فقربت إِلَى الله تَعَالَى وَجعل القربان فِي رحبه الْمَسْجِد وميز ثورين وأوقفهما قَرِيبا من الصَّخْرَة ثمَّ قَامَ عل الصَّخْرَة فَدَعَا بدعائه الْمُتَقَدّم ذكره وَزَاد عَلَيْهِ زِيَاد وَهِي اللَّهُمَّ أَنْت وهبت لي هَذَا الْملك منا مِنْك وطولاً عَليّ وعَلى وَالِدي وَأَنت ابتدأتني وإياه بالنغمة والكرامة وَجَعَلته حكما بَين عِبَادك وَخَلِيفَة فِي أَرْضك وجعلتني وَارثه من بعده وَخَلِيفَة فِي قومه وَأَنت الَّذِي خصصتني بِولَايَة مسجدك هَذَا أكرمتني بِهِ قبل أَن تخلقني فلك الْحَمد على ذَلِك وَلَك الْمَنّ وَلَك الطول اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك لمن دخل هَذَا الْمَسْجِد خمس خِصَال أَن لَا يدْخل إِلَيْهِ مذنب لَا يعمده إِلَّا لطلب التَّوْبَة أَن تتقبل مِنْهُ تَوْبَته وَتغْفر لَهُ وَلَا يدْخلهُ خَائِف لَا يعمده إِلَّا لطلب الْأَمْن من أَن تؤمنه من خَوفه وَتغْفر لَهُ ذَنبه وَلَا يدخاه مقحط لايعمده إِلَّا للاستسقاء أَن تَسْقِي بِلَاده وَأَن لَا تصرف بَصرك عَن من دخله حَتَّى يخرج مِنْهُ اللَّهُمَّ أَن أَحْبَبْت دَعْوَتِي وأعطيتني مَسْأَلَتي فَاجْعَلْ عَلامَة ذَلِك أَن تتقبل قرباني
فَتقبل القربان وَنزلت من السَّمَاء فامتدت مَا بَين الأفقين ثمَّ امْتَدَّ عنق مِنْهَا فَأخذ القربان وَصعد بِهِ إِلَى السَّمَاء وَرُوِيَ أَن نَبِي الله سُلَيْمَان عليه السلام لما فرغ من بنائِهِ ذبح ثَلَاث لاف بقر وَسَبْعَة آلَاف شَاة ثمَّ أَتَى إِلَى الْمَكَان الَّذِي فِي مُؤخر الْمَسْجِد مِمَّا يَلِي بَاب الأسباط وَهُوَ الْموضع الَّذِي يُقَال لَهُ كرْسِي سُلَيْمَان وَقَالَ اللَّهُمَّ من أَتَاهُ من ذِي ذَنْب فَاغْفِر لَهُ أَو ذِي ضرّ فاكشف ضره فَلَا يَأْتِيهِ أحد إِلَّا أصَاب من دَعْوَة سُلَيْمَان عليه السلام وَهَذَا الْموضع الَّذِي هُوَ مَعْرُوف بكرسي سُلَيْمَان من الْأَمَاكِن الْمَعْرُوفَة بإجابة الدُّعَاء وَهُوَ دَاخل الْقبَّة الْمَعْرُوفَة بقبة سُلَيْمَان عِنْد بَاب الدويدارية ورتب لَهُ سُلَيْمَان عشرَة آلَاف من قراء بني إِسْرَائِيل خَمْسَة آلَاف بِاللَّيْلِ وَخَمْسَة آلَاف بِالنَّهَارِ حَتَّى لَا يَأْتِي سَاعَة من ليل وَلَا نَهَار إِلَّا وَالله تعال يعبد فِيهِ وَكَانَ سُلَيْمَان عليه السلام إِذا دخل مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس - وَهُوَ ملك الأَرْض - يقلب بَصَره ليرى أَيْن يجلس الْمَسَاكِين من الْعَمى والخرس والمجذومين فيدع النَّاس وَيجْلس مَعَهم متواضعاً لَا يرفع طرفه إِلَى السَّمَاء ثمَّ يَقُول مِسْكين مَعَ الْمَسَاكِين وروى أَن مِفْتَاح بَيت الْمُقَدّس كَانَ يكون عِنْد سُلَيْمَان عليه السلام لَا يَأْمَن عَلَيْهِ أحدا فَقَامَ ذَات لَيْلَة ليفتحه فصعب عَلَيْهِ فاستعان عَلَيْهِ بالأنس فعسر عَلَيْهِم ثمَّ اسْتَعَانَ عَلَيْهِ بالجن فعسر عَلَيْهِم فَجَلَسَ كئيباً حَزينًا يظنّ أَن ربه قد مَنعه مِنْهُ فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ اقبل شيخ يتكي على عَصا لَهُ وَقد طعن فِي السن - وَكَانَ من جلساء دَاوُد عليه السلام فَقَالَ يَا نَبِي الله أَرَاك حَزينًا؟ فَقَالَ قُمْت إِلَى هَذَا الْبَاب لأفتحه فعسر عَليّ فاستعنت عَلَيْهِ بالأنس وَالْجِنّ فَلم يفتح فَقَالَ الشَّيْخ أَلا أعلمك كَلِمَات كَانَ أَبوك يقولهن عِنْد كربه فَيكْشف الله عَنهُ؟ قَالَ بلَى قَالَ قل اللَّهُمَّ بنورك اهتديت وبفضلك اسْتَغْنَيْت وَبِك أَصبَحت أمسيت ذُنُوبِي بَين يَديك استغفرك وَأَتُوب يَا حنان يَا منان فَلَمَّا قَالَهَا فتح لَهُ الْبَاب
فَيُسْتَحَب أَن يَدْعُو الزائر وَغَيره بِهَذَا الدُّعَاء إِذا دخل من بَاب الصَّخْرَة وَكَذَلِكَ من بَاب الْمَسْجِد وَمن الْعَجَائِب الَّتِي بِبَيْت الْمُقَدّس السلسلة الَّتِي جعلهَا سُلَيْمَان بن دَاوُد عليهما السلام معلقه من السَّمَاء إِلَى الأَرْض شَرْقي الصَّخْرَة مَكَان قبَّة السلسلة الْمَوْجُودَة الْآن وفيهَا يَقُول الشَّاعِر
(لقد مض الْوَحْي وَمَات الْعلَا
…
وارتفع الْجُود مَعَ السلسلة) وَكَانَت هَذِه السلسلة لَا يَأْتِيهَا رجلَانِ إِلَّا نالها المحق مِنْهُمَا وَمن كَانَ مُبْطلًا ارْتَفَعت عَنهُ فَلم ينلها وَمُلَخَّص حكايتها مَعَ اخْتِلَاف فِيهِ أَن رجلا يَهُودِيّا كَانَ قد استودعه رجل مائَة دِينَار فَلَمَّا طلب الرجل وديعته جحد ذَلِك الْيَهُودِيّ فَتَرَافَعَا إِلَى ذَلِك الْمقَام عِنْد السلسلة فَأخذ الْيَهُودِيّ بمكره ودهائه فسبك تِلْكَ الدَّنَانِير وحفر جَوف عَصَاهُ وَجعلهَا فِيهَا فَلَمَّا أَتَى ذَلِك الْمقَام دفع الْعَصَا إِلَى صَاحب الدَّنَانِير وَقبض عل السلسلة ثمَّ حلف بِاللَّه لقد أعطَاهُ دنانيره ثمَّ دفع إِلَيْهِ صَاحب الدَّنَانِير الْعَصَا وَأَقْبل حَتَّى أَخذ السلسلة فَحلف إِنَّه لم يَأْخُذهَا مِنْهُ وَمَسّ كِلَاهُمَا السلسلة فَعجب النَّاس من ذَلِك فارتفعت السلسلة من ذَلِك الْيَوْم لخبث الطويات وَحكي غير ذَلِك وَجعل سُلَيْمَان عليه السلام تَحت الأَرْض بركَة وَجعل فِيهَا مَاء وَجعل عل وَجه ذَلِك المَاء بساطاً ومجلس رجل جليل أَو قَاض جليل فَمن كَانَ على الْبَاطِل إِذا وَقع فِي ذَلِك المَاء غرق وَمن كَانَ عل الْحق لم يغرق وَمن الْعَجَائِب الَّتِي كَانَت أَيْضا فيبيت الْمُقَدّس فِي الزَّمَان الأول مَا حَكَاهُ صَاحب مثير الغرام أَن الضَّحَّاك بن قيس صنع بِهِ الْعَجَائِب الأولى إِنَّه صنع بِهِ فِي ذَلِك الزَّمَان نَارا عَظِيمَة اللهب فَمن عصى الله فِي تِلْكَ اللَّيْلَة أحرقته تِلْكَ النَّار حِين ينظر إِلَيْهَا وَالثَّانيَِة من رمى بَيت الْمُقَدّس بنشابة رجعت النشابة إِلَيْهِ
وَالثَّالِثَة وضع كَلْبا من خشب عل بَاب بَيت الْمُقَدّس فَمن كَانَ عِنْده شَيْء من السحر إِذا مر بذلك الْكَلْب نبح عَلَيْهِ فَإِذا نبح عَلَيْهِ نسى مَا عِنْده من السحر وَالرَّابِعَة وضع بَابا فَمن دخل مِنْهُ إِذا كَانَ ظَالِما من الْيَهُود ضغطه ذَلِك الْبَاب حَتَّى يعْتَرف بظلمه وَالْخَامِسَة وضع عَصا فِي محراب بَيت الْمُقَدّس فَلم يقدر أحد يمس تِلْكَ الْعَصَا إِلَّا من كَانَ من ولد الْأَنْبِيَاء وَمن كَانَ سو ذَلِك أحرقت يَده وَالسَّادِس كَانُوا يحبسون أَوْلَاد الْمُلُوك عِنْدهم فِي محراب بَيت الْمُقَدّس فَمن كَانَ من أهل المملكة إِذا أصبح أَصَابُوا يَده مطلية بالدهن وَكَانَ ولد هَارُون يجئيون إِلَى الصَّخْرَة ويسمونها الهيكل بالعبرانية وَكَانَت تنزل عَلَيْهِم عين زَيْت من السَّمَاء فتدور فِي الْقَنَادِيل فتملأها من غير أَن تمس وَكَانَت تنزل نَار من السَّمَاء فتدور عل مِثَال سبع عل جبل طور زيتا ثمَّ تمتد حَتَّى تدخل من بَاب الرَّحِم ثمَّ تصير عل الصَّخْرَة فيول ولد هَارُون تبَارك الرَّحْمَن لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فغفلوا ذَات لَيْلَة عَن الْوَقْت الَّذِي كَانَت تنزل النَّار فِيهِ فَنزلت وَلَيْسَ هم حضوراً ثمَّ ارْتَفَعت النَّار فجاؤا فَقَالَ الْكَبِير للصَّغِير يَا أخي قد كتبت الْخَطِيئَة أَي شَيْء ينجينا من بني إِسْرَائِيل أَن تتركنا هَذَا الْبَيْت اللَّيْلَة بِلَا نور وَلَا سراج؟ فَقَالَ الصَّغِير للكبير تَعَالَى حَتَّى نَأْخُذ من نَار الدُّنْيَا فنسرج الْقَنَادِيل لِئَلَّا يبْقى هَذَا الْبَيْت فِي هَذِه اللَّيْلَة نور وَلَا سراج فَأخذ من نَار الدُّنْيَا واسراجاً فَنزلت عَلَيْهِمَا النَّار فِي ذَلِك الْوَقْت فأحرقت نَار السَّمَاء نَار الدُّنْيَا وأحرقت وَلَدي هَارُون فناج نَبِي ذَلِك الزَّمَان فَقَالَ يَا رب أحرقت وَلَدي هَارُون وَقد علمت مكانهما فأوح الله تعال إِلَيْهِ هَكَذَا افْعَل بأوليائي إِذا عصوني فَكيف افْعَل بأعدائي