المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(فقالت وأوتينا العلم) - الأنس الجليل - جـ ١

[مجير الدين العليمي]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة التحقيق]

- ‌(ذكر أول مَا خلق الله سبحانه وتعالى

- ‌(خلق الله السَّمَاوَات وسكانها وَصفَة الْمَلَائِكَة وَخلق الشَّمْس وَالْقَمَر)

- ‌((ذكر شِرَاء المغارة))

- ‌(ذكر فضل سيدنَا الْخَلِيل عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وَفضل زيارته)

- ‌(فصل فِي حكم السُّور السُّلَيْمَانِي)

- ‌(ذكر إِسْحَاق عليه السلام

- ‌(ذكر سيدنَا مُوسَى الكليم عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم)

- ‌(قصَّة القبطي)

- ‌(قصَّة أَرض مَدين)

- ‌(قصَّة النّيل)

- ‌(ذكر قصَّة الرُّؤْيَة)

- ‌(طلسم الْحَيَّات)

- ‌(فَقَالَت وأوتينا الْعلم)

- ‌(نزُول الْمَائِدَة)

- ‌(ذكر عمَارَة بَيت الْمُقَدّس الشريف الْمرة الثَّالِثَة)

- ‌(ذكر سيد الْأَوَّلين والآخرين وَخَاتم الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ)

- ‌(ذكر بِنَاء الْمَسْجِد الشريف النَّبَوِيّ)

- ‌(حج أَبى بكر الصّديق رضي الله عنه بِالنَّاسِ)

- ‌(ذكر بِنَاء عبد الْملك بن مَرْوَان لقبه الصَّخْرَة الشَّرِيفَة)

- ‌(فتح الناصرة وصفورية)

- ‌(فتح تبين)

- ‌(فتح جبيل)

- ‌(فتح بَيت الْمُقَدّس)

- ‌(ذكر يَوْم الْفَتْح)

- ‌(فتح حصن دريساك)

- ‌(ذكر نسَاء الإفرنج)

- ‌(ذكر الْكَبْش وحريقه)

- ‌(نوبَة رَأس المَاء)

- ‌(وُصُول ملك الانكثير)

- ‌(وقْعَة الكمين)

- ‌(وُصُول الإبرنس صَاحب إنطاكية)

- ‌(وَفَاة الْخَلِيفَة النَّاصِر الَّذِي فتح الْقُدس فِي أَيَّامه)

الفصل: ‌(فقالت وأوتينا العلم)

(فَقَالَت وأوتينا الْعلم)

بِصِحَّة نبوة سُلَيْمَان الْآيَات الْمُتَقَدّمَة من أَمر الْهَدِيَّة وَالرسل من قبلهَا وَمن قبل الْآيَة فِي الْعَرْش (وَكن مُسلمين) منقادين طائعين لأمر سُلَيْمَان وَقيل غير ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى (وصدها مَا كَانَت تعبد من دون الله) أيمنعها مَا كَانَت تعبد من دون الله وَهِي الشَّمْس (أَن تعبد الله) أَي صدها عبَادَة الشَّمْس عَن التَّوْحِيد وَعَن عبَادَة الله تَعَالَى وَقيل غير ذَلِك وَقَوله تَعَالَى (قيل لَهَا ادخلي الصرح) الْآيَة وَذَلِكَ أَن سُلَيْمَان " ع " أَرَادَ أَن ينظر قدميها وساقيها من غير أَن يسلبها أثوابها وَينظر مَا قَالَت الشَّيَاطِين عَنْهَا أَن رِجْلَيْهَا كحوافر الْحمار وَهِي مشعرة السَّاقَيْن فَأمر سُلَيْمَان الشَّيَاطِين فبنوا لَهُ صرحاً أَي قصراً من زجاج وَقيل الصرح صحن الدَّار أجْرى تَحْتَهُ المَاء والقى فِيهِ كل شَيْء من دَوَاب الْبَحْر حَتَّى السّمك والضفدع وَغَيرهمَا ثمَّ وضع سَرِيره فِي صَدره وَجلسَ عَلَيْهِ فعكف عَلَيْهِ الطير وَالْجِنّ والأنس وَإِنَّمَا بنى الصرح ليختبر فهمها كَمَا فعلت هِيَ بالوصائف والوصفاء فَلَمَّا جلس سُلَيْمَان على سَرِير دَعَا بلقيس فَلَمَّا جَاءَت قيل لَهَا ادخلي الصرح (فَلَمَّا رَأَتْهُ حسبته لجة - وَهِي مُعظم المَاء - وكشفت عَن سَاقيهَا) لتخوضه إِلَى سُلَيْمَان فَنظر سُلَيْمَان فَإِذا هِيَ أحسن النَّاس قدماً وساقاً إِلَّا إِنَّهَا مشعرة السَّاقَيْن فَلَمَّا رأى سُلَيْمَان ذَلِك صرف بَصَره عَنْهَا ثمَّ ناداها إِنَّه صرح ممرد أَي مملس من قَوَارِير ثمَّ دَعَاهَا لِلْإِسْلَامِ وَكَانَت قد رَأَتْ حَال الْعَرْش وَعلمت أَن ملك سُلَيْمَان من الله تَعَالَى فأجابت وَقَالَت (رب إِنِّي ظلمت نَفسِي - بالْكفْر عبَادَة غَيْرك - وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب الْعَالمين) أَي أخلصت لَهُ التَّوْحِيد وَاخْتلف فِي أمرهَا هَل تزَوجهَا سُلَيْمَان عليه السلام؟ فَقَالَ بَعضهم تزَوجهَا

ص: 138

وَلما أَرَادَ أَن يَتَزَوَّجهَا كره مَا رأى من كَثْرَة شعر سَاقيهَا فَسَأَلَ الْأنس مَا يذهب هَذَا قَالُوا لَهُ الموسى فَقَالَ إِنَّهَا تجرح سَاقيهَا وَسَأَلَ الْجِنّ فَقَالُوا لَا نَدْرِي ثمَّ سَأَلَ الشَّيَاطِين فَقَالُوا نحتال لَك بحيلة حَتَّى يصير كالسبيكة الْفضة من غير أَذَى فَقَالُوا افعلوا فإتخذوا النورة وَالْحمام وَكَانَت النورة وَالْحمام من ذَلِك الْيَوْم وَيُقَال إِن الْحمام كَانَ بِبَاب الآباط بالقدس الشريف وَهُوَ الْحمام الَّذِي بجوار الْمدرسَة الصلاحية وَهُوَ من جملَة أوقاف الْمدرس من الْملك صَلَاح الدّين وَإِنَّمَا بني لبلقيس وَإنَّهُ أول حمام وضع عل وَجه الأَرْض وَالله أعلم وَلما تزَوجهَا سُلَيْمَان أحبها حبا شَدِيدا وأقرها عل ملكهَا وَأمر الْجِنّ فابتنوا بِأَرْض الْيمن ثَلَاثَة حصون لم ير النَّاس مثلهَا ارتفاعاً وحسناً ثمَّ كَانَ سُلَيْمَان بزورها فِي كل شهر مرّة بعد إِن ردهَا إِلَى ملكهَا وَيُقِيم عِنْدهَا ثَلَاث أَيَّام؟ وَولدت لَهُ فِيمَا يذكر وَالله أعلم (ذكر فتْنَة سُلَيْمَان عليه السلام قَالَ الله تَعَالَى (وَلَقَد فتنا سُلَيْمَان) أَي اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه وَسبب ذَلِك مَا رُوِيَ عَن وهب بن مُنَبّه قَالَ سمع سُلَيْمَان بِمَدِينَة فِي جَزِيرَة من جزائر الْبَحْر يُقَال لَهَا صدوف وَلها ملك عَظِيم الشَّأْن لم يكن للنَّاس عَلَيْهِ سَبِيل لمكانه بالبحر وَكن الله عز وجل قد آتى سُلَيْمَان فِي ملكه سُلْطَانا لَا يمْتَنع عَلَيْهِ شَيْء فِي بر وَلَا بَحر بِمَا يركب إِلَيْهِ الرّيح فَخرج سُلَيْمَان إِلَى تِلْكَ الْمَدِين تحمله الرّيح عل ظهر المَاء حَتَّى نزل بهَا بجُنُوده من الْجِنّ والأنس فَقتل ملكهَا واستقام فِيهَا فَأصَاب فِيمَا أصَاب ابْنه الْملك تسمى جَرَادَة لم ير مثلهَا حسنا وجمالاً فاصطفاها لنَفسِهِ ودعاها لِلْإِسْلَامِ فَأسْلمت عل جفَاء مِنْهَا وَقلة مُوَافقَة وأحبها لم يُحِبهُ أحدا من نِسَائِهِ فَكَانَت على

ص: 139

منزلَة عَظِيمَة عِنْده فَكَانَت لَا يذهب حزنها وَلَا يرقأ دمعها فشق ذَلِك على سُلَيْمَان فَقَالَ لَهَا وَيلك مَا هَذَا الْحزن الَّذِي لم يذهب والدمع الَّذِي لَا يرقأ؟ قَالَت إِنِّي أذكر أبي وأذكر ملكه وَمَا كَانَ فِيهِ وَمَا أَصَابَهُ فيجزيني ذَلِك قَالَ سُلَيْمَان قد أَبَد لَك الله ملكا هُوَ أعظم من ملك أَبِيك وسلطاناً هُوَ كَذَلِك وَلَكِنِّي إِذا تَذكرته أصابني مَا ترى من الْحزن فَلَو إِنَّك أمرت الشَّيَاطِين فيصوروا صورته فِي دَاري الَّتِي أَنا فِيهَا فأراها بكرَة وَعَشِيَّة لرجوت أَن يذهب ذَلِك حزني وَأَن يسلبني بعض مَا أجد فِي نَفسِي فَأمر سُلَيْمَان الشَّيَاطِين أَن يمثلوا لَهَا صُورَة أَبِيهَا فِي دارها حَتَّى لَا تنكر مِنْهُ شَيْئا فمثلوها حَتَّى نظرت إِلَى أَبِيهَا بِعَيْنِه إِلَّا إِنَّه لَا روح فِيهِ فعمدت إِلَيْهِ حِين وضعوه فأزرته وقمصته وعممته وردته بِمثل ثِيَابه الَّتِي كَانَت عَلَيْهِ فِي حَال حَيَاته ثمَّ إِنَّهَا كَانَت إِذا خرج سُلَيْمَان من دارها تَغْدُو إِلَيْهِ فِي ولائدها وَمن يلوذبها ثمَّ تسْجد لَهُ ويسجدون لَهُ كَمَا كَانَت تصنع لَهُ فِي ملكه واستمرت تفعل ذَلِك بكرَة وَعَشِيَّة وَسليمَان لَا يعلم بشيءمن ذَلِك مُدَّة أَرْبَعِينَ صباحاً فَبلغ ذَلِك آصف ابْن برخيا - وَكَانَ صديقا وَكَانَ لَا يرد عَن أَبْوَاب سُلَيْمَان وَأي سَاعَة أَرَادَ أَن يدْخل دَار سُلَيْمَان دخل حَاضرا كَانَ سُلَيْمَان أَو غَائِبا - فَأتى سُلَيْمَان وَقَالَ لَهُ يَا نَبِي الله كبر سني ورق عظمي وَنفذ عمري وَقد حَان مني ذَهَابه وَقد أَحْبَبْت أَن أقوم مقَاما قبل الْمَوْت أذكر فِيهِ من مضى من أَنْبيَاء الله تَعَالَى واثني عَلَيْهِم بعلمي فيهم وَأعلم النَّاس بعض مَا كَانُوا يجهلون من كثير أُمُورهم فَقَالَ سُلَيْمَان افْعَل فَجمع لَهُ سُلَيْمَان النَّاس فَقَامَ فيهم خَطِيبًا فَحَمدَ الله تعال وَذكر من مضى من أَنْبيَاء الله تَعَالَى أثنى على كل نَبِي بِمَا فِيهِ وَذكر مَا فَضله الله بِهِ حَتَّى انْتهى إِلَى

ص: 140

سُلَيْمَان فَقَالَ مَا كَانَ أحلمك فِي صغرك وأورعك فِي صغرك وأفضلك فِي صغرك وأبعدك من كل مَا يكره فِي صغرك ثمَّ انْصَرف فَوجدَ سُلَيْمَان فِي نَفسه من ذَلِك حَتَّى امْتَلَأَ غيظاً فَلَمَّا دخل سُلَيْمَان دَاره أرسل إِلَيْهِ فَقَالَ يَا آصف ذكرت من مضى من الْأَنْبِيَاء الله تَعَالَى وأثنيت عَلَيْهِم خيرا فِي زمانهم وَفِي كل حَال من أُمُورهم فَلَمَّا أَن ذَكرتني جعلت تثني عَليّ بِخَير فِي صغري وَسكت عَن مَا سوى ذَلِك فِي أَمْرِي فِي كبري فَمَا الَّذِي أحدثت فِي خر أَمْرِي؟ فَقَالَ لَهُ إِن غير اهلل يعبد فِي دَارك مُدَّة أَرْبَعِينَ صباحاً فِي هوى امْرَأَة فَقَالَ سُلَيْمَان فِي دَاري؟ قَالَ فِي دَارك قَالَ سُلَيْمَان أَنا لله وَأَنا إِلَيْهِ رَاجِعُون لقد عرفت إِنَّك مَا قلت الَّذِي قلت إِلَّا عَن شَيْء بلغك ثمَّ رَجَعَ سُلَيْمَان إِلَى دَاره وَكسر ذَلِك الصَّنَم وعاقب تِلْكَ الْمَرْأَة وولائدها ثمَّ أَمر بِثِيَاب الطهرة فَأتي بهَا - وَهِي ثِيَاب لَا يغزلها إِلَّا الْبَنَات الْأَبْكَار وَلَا يَمَسهَا امْرَأَة قد رَأَتْ الدَّم وَلَا ينسجها إِلَّا الْبَنَات الْأَبْكَار وَلَا يغسلهَا إِلَّا الْأَبْكَار - فلبسها ثمَّ خرج إِلَى فلاة من الأَرْض وَحده وَأمر برماد ففرش لَهُ ثمَّ أقبل تَائِبًا إِلَى الله تَعَالَى حَتَّى جلس على ذَلِك الرماد وتمعك فِيهِ بثيابه تذللا لله تَعَالَى وتضرعاً إِلَيْهِ وَجعل يبكي وَيَدْعُو ويستغفر مِمَّا كَانَ فيداره فَلم يزل كَذَلِك يَوْمه حَتَّى أَمْسَى ثمَّ رَجَعَ إِلَى دَاره وَكَانَت لَهُ أم ولد تسمى الأمينة كَانَ إِذا دخل مذْهبه أَو أَرَادَ إِصَابَة امْرَأَة من نِسَائِهِ وضع خَاتمه عِنْدهَا ثمَّ دخل حَتَّى يتَطَهَّر وَكَانَ لَا يلبس خَاتمه إِلَّا طَاهِرا وَكَانَ ملكه فِي خَاتمه فَوَضعه يَوْمًا عِنْدهَا ثمَّ دخل إِلَى مذْهبه فَأَتَاهَا الشَّيْطَان صَاحب الْبَحْر وَكَانَ اسْمه صَخْر عل صُورَة سُلَيْمَان لم تنكر مِنْهُ شَيْئا فَقَالَ خَاتمِي يَا امينه فناولته إِيَّاه فَجعله فِي يَده ثمَّ خرج حَتَّى جلس عل سَرِير سُلَيْمَان فعكف عَلَيْهِ الطير وَالْجِنّ والأنس فَخرج سُلَيْمَان وأتى الأمينة وَقد تَغَيَّرت حَالَته وهيئته عِنْد كل من يرَاهُ

ص: 141

فَقَالَ خَاتمِي يَا أمينة فَقَالَت لَهُ من أَنْت؟ قَالَ سُلَيْمَان بن دَاوُد نَبِي الله قَالَت لَهُ كذبت قد جَاءَ سُلَيْمَان وَأخذ خَاتمه وَهُوَ جَالس عل سَرِير ملكه فَعرف سُلَيْمَان أَن الْخَطِيئَة قد أدْركهُ فَخرج وَجعل يقف عل الدَّار من دور نَبِي إِسْرَائِيل فَيَقُول أَنا سُلَيْمَان بن دَاوُد فيكذبوه ويحثون عَلَيْهِ التُّرَاب ويسبونه وَيَقُولُونَ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمَجْنُون أَي شَيْء يَقُول يزْعم إِنَّه سُلَيْمَان فَلَمَّا رأى سُلَيْمَان ذَلِك عمد إِلَى الْبَحْر وَكَانَ ينْقل الْحيتَان لأَصْحَاب الْبَحْر إِلَى السُّوق فيعطونه كل يَوْم سمكتين فَإِذا أَمْسَى بَاعَ إِحْدَى سمكتيه بِرَغِيفَيْنِ وشوى السَّمَكَة الْأُخْرَى وأكلها فَمَكثَ كَذَلِك أَرْبَعِينَ صباحاً بِعَدَد مَا كَانَ عبد الوثن فِي دَاره فَأنْكر آصف وكبراء بني إِسْرَائِيل حكم عَدو الله الشَّيْطَان فِي تِلْكَ الْأَرْبَعين يَوْمًا فَقَالَ آصف يَا معشر بني إِسْرَائِيل هَل رَأَيْتُمْ من اخْتِلَاف حكم سُلَيْمَان ابْن دَاوُد مَا رَأَيْت؟ قَالُوا نعم قَالَ آصف أمهلوني حَتَّى أَدخل على نِسَائِهِ واسألهن هَل ينكرن مِنْهُ شَيْئا فِي خَاصَّة أمره كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي عَام أَمر النَّاس فَدخل عل نِسَائِهِ فَقَالَ ويحكن هَل أنكرتن من أَمر ابْن دَاوُد مَا أنكرناه؟ فَقُلْنَ أَشد مَا يدع امْرَأَة منا فِي دَمهَا وَلَا يغْتَسل من دَمهَا وَلَا يغْتَسل من الْجَنَابَة فَقَالَ أَنا لله وَأَنا إِلَيْهِ رَاجِعُون إِن هَذَا لَهو الْبلَاء الْمُبين ثمَّ خرج آصف على بني إِسْرَائِيل فَقَالَ مَا فِي الْخَاص أعظم مِمَّا فِي الْعَامَّة فَاجْتمع قراء بني إِسْرَائِيل وعلماؤهم فَأَقْبَلُوا حَتَّى أَحدقُوا بِهِ ونشروا التَّوْرَاة فقرؤها فطار من بَين أَيْديهم حَتَّى وَقع عل شرفه والخاتم مَعَه ثمَّ طَار حَتَّى ذهب إِلَى الْبَحْر فَوَقع الْخَاتم مِنْهُ فِي الْبَحْر وابتلعه حوت فَأَخذه بعضه الصيادين وَكَانَ سُلَيْمَان قد عمل لذَلِك الصياد من صدر النَّهَار حَتَّى إِذا كَانَت العيشة أعطَاهُ سمكتين فَأعْطى السَّمَكَة الَّتِي فِيهَا الْخَاتم من جملَة السمكتين فَخرج سُلَيْمَان بسمكتيه فَبَاعَ الَّتِي لَيْسَ فِي بَطنهَا الْخَاتم بالرغيفين ثمَّ عمد إِلَى السَّمَكَة الْأُخْرَى فبقرها ليشويها

ص: 142

فَاسْتَقْبلهُ خَاتمه فِي جوفها فَأَخذه وَجعله فِي يَده فَرد الله تَعَالَى عَلَيْهِ ملكه وبهاءه فَوْقه سَاجِدا شكرا فعكفت عَلَيْهِ الطير والوحوش والأنس وَالْجِنّ وَأَقْبل عَلَيْهِ النَّاس وَعرف الَّذِي كَانَ دخل عَلَيْهِ لما أحدث فِي دَاره فَرجع إِلَى ملكه وَأظْهر التَّوْبَة من ذَنبه وَأمر الشَّيَاطِين فَقَالَ أئتوني بصخر فطلبته الشَّيَاطِين حت أَخَذته فَأتي بِهِ فجَاء لَهُ بصخرة فَأدْخلهُ فِيهَا ثمَّ سد عَلَيْهِ بِأُخْرَى ثمَّ أوثقها بالحديد والرصاص ثمَّ أَمر بِهِ فقذف بِهِ الْبَحْر هَذَا حَدِيث وهب وَحكي غير ذَلِك وَأشهر الْأَقَاوِيل إِن الْجَسَد الَّذِي ألْقى على كرسيه هُوَ صَخْر الجني فَذَلِك قَوْله عز وجل (وألقينا عل كرسيه جسداً ثمَّ أناب) أَي رَجَعَ إِلَى ملكه بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا (فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ رب أَغفر لي وهب لي ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي) يُرِيد هَب لي ملكا لَا تسلبنيه فِي بَاقِي عمري وتعطيه غَيْرِي كَمَا سلبتنيه فِيمَا مضى (إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب) قيل سَأَلَ ذَلِك ليَكُون آيَة لنبوته وَدلَالَة عل رسَالَته ومعجزة لَهُ وَقيل سَأَلَ ذَلِك ليَكُون علما عل قبُول تَوْبَته حَيْثُ أجَاب الله دعاءه ورد إِلَيْهِ ملكه وَزَاد فِيهِ وَقَالَ مقَاتل كَانَ سُلَيْمَان ملكا وَلكنه أَرَادَ بقوله (لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي) تسخير الرِّيَاح وَالطير وَالشَّيَاطِين بِدَلِيل مَا بعده وروى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي صل الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن عفريتاً من الْجِنّ تفلت البارحة ليقطع عَليّ صَلَاتي فأمكنني الله مِنْهُ فَأَخَذته فَأَرَدْت إِن أربطه إِلَيّ سَارِيَة من سواري الْمَسْجِد حَتَّى تنظروا إِلَيْهِ كلكُمْ فَذكرت دَعْوَة أخي سُلَيْمَان (رب أَغفر لي وهب لي ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي فرددته خاسئاً) وَلما رد الله على سُلَيْمَان ملكه وبهاءه وحامت عَلَيْهِ الطير وَعرف النَّاس إِنَّه سُلَيْمَان قَامُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعُوا فَقَالَ مَا أحمدكم عل عذركم وَلَا ألومكم على مَا كَانَ مِنْكُم هَذَا أَمر كَانَ لَا بُد مِنْهُ

ص: 143

ثمَّ جَاءَ حَتَّى أَتَى ملكه وأطاعه جَمِيع مُلُوك الأَرْض وحملوا إِلَيْهِ نفائس أَمْوَالهم وَاسْتمرّ سُلَيْمَان على ذَلِك حَتَّى توفّي (ذكر وَفَاته عليه السلام وَقد رُوِيَ وَفَاة سُلَيْمَان عليه السلام مَا قَالَه أهل الْعلم إِنَّه كَانَ يَتَحَنَّث فِي بَيت الْمُقَدّس السّنة والسنتين والشهر والشهرين وَأَقل من ذَلِك وَأكْثر يدْخل فِيهِ طَعَامه وَشَرَابه فَأدْخلهُ فِي الْمرة الَّتِي مَاتَ فِيهَا وَكَانَ بَدَأَ ذَلِك إِنَّه لَا يصبح يَوْمًا إِلَّا نَبتَت فِي محرابه بِبَيْت الْمُقَدّس شَجَرَة فَيسْأَل هَل مَا أسمك؟ فَتَقول اسْمِي كَذَا فَيَقُول لأي شَيْء أَنْت؟ فَتَقول كَذَا وَكَذَا فيأمر بهَا فتقطع فَإِن كَانَت نَبتَت لغرس يغرسها وَإِن كَانَت لدواء كتبهَا حَتَّى نَبتَت الخروبة فَقَالَ لَهَا مَا أَنْت؟ قَالَت الخروبة قَالَ لأي شَيْء نبت؟ قَالَت لخراب مسجدك فَقَالَ سُلَيْمَان مَا كَانَ الله ليخربه وَأَنا حَيّ أَنْت الَّتِي عل وَجهك هلاكي وخراب بَيت الْمُقَدّس فنزعها وغرسها فِي الْحَائِط ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ غم على الْجِنّ موتِي حَتَّى تعلم أَن الْأنس إِن الْجِنّ لَا يعلمُونَ الْغَيْب وَكَانَت الْجِنّ تخبر الْأنس إِنَّهُم يعلمُونَ من الْغَيْب أَشْيَاء ويعلمون مَا فِي غَد ثمَّ دخل الْمِحْرَاب فَقَامَ يُصَلِّي مُتكئا عل عَصَاهُ نقل إِنَّه نحتها من الخروب فَمَاتَ قَائِما وَكَانَ للمحراب كوى بَين يَدَيْهِ وَخَلفه فَكَانَ الْجِنّ يعلمُونَ تِلْكَ الْأَعْمَال الشاقة الَّتِي كَانُوا يعملونها فِي حَيَاته وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ يحسبون إِنَّه حَيّ وَلَا يُنكرُونَ احتباسه عَن الْخُرُوج إِلَى النَّاس لطول صلَاته قبل ذَلِك فَمَكَثُوا يدأبون لَهُ بعد مَوته حولا كَامِلا حَتَّى أكلت الأرضية عَصا سُلَيْمَان فَخر مَيتا فَعَلمُوا بِمَوْتِهِ فَشَكَرت الأرضة فهم يأتونها بِالْمَاءِ والطين فِي جَوف الْخشب فَذَلِك قَوْله تَعَالَى (مَا دلهم عل مَوته إِلَّا دَابَّة الأَرْض - وَهِي الأرضة - تَأْكُل

ص: 144

منسأته - يَعْنِي عَصَاهُ - فَلَمَّا خر - أَي سقط عل الأَرْض - تبينت الْجِنّ أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين) أَي علمت الْجِنّ وأيقنت أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين أَي فِي التَّعَب والشقاء مسخرين لِسُلَيْمَان وَهُوَ ميت يظنون حَيَاته أَرَادَ الله بذلك أَن يعلم الْجِنّ إِنَّهُم لَا يعلمُونَ الْغَيْب لأَنهم كَانُوا يظنون إِنَّهُم يعلمُونَ الْغَيْب لغَلَبَة الْجَهْل وَقيل إِن معنى تبينت الْجِنّ أَي ظَهرت وانكشفت الْجِنّ للأنس أَي ظهر أَمرهم إِنَّهُم لَا يعلمُونَ الْغَيْب لأَنهم كَانُوا قد شبهوا عل الْأنس ذَلِك وَتُوفِّي سُلَيْمَان وعمره اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ سنة فَكَانَت مُدَّة ملكه أَرْبَعِينَ سنة فَتكون وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى عليه السلام وَذَلِكَ بعد فرَاغ بِنَاء بَيت الْمُقَدّس بتسع وَعشْرين سنة فَيكون الْمَاضِي من وَفَاته إِلَى عصرنا وَهُوَ أَوَاخِر سنة تِسْعمائَة من الْهِجْرَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيّ أَلفَيْنِ وسِتمِائَة وَثَلَاثًا وَسبعين سنة وَالله أعلم وَنقل أَن قَبره بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس عِنْد الجيسمانية وَإنَّهُ هُوَ وَأَبوهُ دَاوُد فِي قبر وَاحِد وَاسْتمرّ بَيت الْمُقَدّس على الْعِمَارَة السلمانية أَرْبَعمِائَة وَثَلَاثًا وَخمسين سنة (ذكر خراب بَيت الْمُقَدّس عل يَد بخت نصر) لما توفّي سُلَيْمَان عليه السلام ملك بعده إبنه رحبعم - بِضَم الرَّاء والحاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة ثمَّ الْمِيم - وَفِي أَيَّامه اخْتَلَّ نظام الْملك وَخرج عَن طَاعَته عشرَة أَسْبَاط وَلم يبْق تَحت طَاعَته سو سبطين وَصَارَ الأسباط الْعشْر ملوكاً تعرف بملوك الأسباط وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك نَحْو مِائَتَيْنِ وَإِحْدَى وَسِتِّينَ سنة وَكَانَ ولد سُلَيْمَان فِي بني إِسْرَائِيل بِمَنْزِلَة الْخُلَفَاء لِلْإِسْلَامِ لأَنهم أهل الْولَايَة وَكَانَ الأسباط مثل مُلُوك الْأَطْرَاف والخوارج وارتحل الأسباط إِلَى جِهَات

ص: 145

فلسطين وَغَيرهَا بِالشَّام وَاسْتقر ولد دَاوُد بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس وَاسْتمرّ رحبعم على مَا اسْتَقر لَهُ من الْملك وَزَاد فِي عمَارَة بَيت لحم وغزة وصور وَغير ذَلِك وَعمر آيلة وجددها وَملك سَبْعَة عشر سنة وَمَات ثمَّ ملك بعده إبنه افيا - بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْفَاء الَّتِي هِيَ بَين الْألف وَالْيَاء عل مُقْتَض اللُّغَة العبرانية وَتَشْديد الْيَاء الْمُثَنَّاة من تحتهَا ثمَّ ألف - وَكَانَ مُدَّة ملكه ثَلَاث سِنِين وَمَات ثمَّ ملك بعده ابْنه يهوشافاط - بِفَتْح الْمُثَنَّاة من تحتهَا وَضم الْهَاء وَسُكُون الْوَاو وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَبعدهَا ألف ثمَّ فَاء وَألف وطاء مُهْملَة - وَكَانَ رجلا صَالحا كثير الْعِنَايَة بعلماء بني إِسْرَائِيل وَكَانَت مُدَّة ملكه خمْسا وَعشْرين سنة وَمَات ثمَّ ملك بعده ابْنه يهورام - بِفَتْح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تحتهَا وَضم الْهَاء وَسُكُون الْوَاو ثمَّ رَاء مُهْملَة ثمَّ ألف وَمِيم - وَكَانَت مُدَّة ملكه ثَمَانِي سِنِين وَمَات ثمَّ ملك بعده ابْنه احزياهو - بِفَتْح الْهمزَة والحاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي الْمُعْجَمَة ثمَّ الْمُثَنَّاة من تحتهَا ثمَّ ألف وهاء ثمَّ وَاو - وَكَانَت مُدَّة ملكه سنتَيْن وَمَات ثمَّ كَانَ بعد أحزياهو فَتْرَة بِغَيْر ملك وحكمت فِي الفترة الْمَذْكُورَة امْرَأَة سَاحِرَة أَصْلهَا من جواري سُلَيْمَان عليه السلام وأسمها عثلياهو - بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون اللَّام وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تحتهَا وَبعدهَا ألف ثمَّ هَاء مَضْمُومَة ثمَّ وَاو - يُقَال عثليا بِغَيْر هَاء وَلَا والو وتتبعت نَبِي دَاوُد فأفتهم وَسلم مِنْهَا طِفْل أخفوه عَنْهَا وَكَانَ اسْم ذَلِك الطِّفْل يواش بن احزبوا واستولت عثلياهو سبع سِنِين فَيكون آخر الفترة وَعدم عثلياهو فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان وَسبعين وسِتمِائَة لوفاة مُوسَى عليه السلام ثمَّ ملك بعد عثلياهو يؤاش وَهُوَ ابْن سبع سِنِين ويؤاش - بِضَم الْيَاء الْمُثَنَّاة

ص: 146

من تحتهَا ثمَّ همزَة وَألف وشين مُعْجمَة - وَفِي السّنة الثَّالِثَة وَالْعِشْرين من رمم بَيت الْمُقَدّس وجدد عِمَارَته وَملك أَرْبَعِينَ سنة وَمَات ثمَّ ملك بعده ابْنه امصياهو - بِفَتْح الْهمزَة وَالْمِيم وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة ومثناة من تحتهَا ثمَّ ألف وهاء ثمَّ وَاو - وَملك تسعا وَعشْرين سنة وَقيل خَمْسَة عشر سنة وَقتل ثمَّ ملك بعده ابْنه عزياهو - بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الزَّاي الْمُعْجَمَة ثمَّ مثناة من تحتهَا ثمَّ ألف وهاء ثمَّ وَاو - وَملك اثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة ولحقه البرص وتنغصت عَلَيْهِ أَيَّامه وَضعف أمره فِي آخر وقته وتغلب عَلَيْهِ وَلَده يوثم وَمَات ثمَّ ملك بعده ابْنه يوثم - بِضَم الْمُثَنَّاة من تحتهَا وَسُكُون الْوَاو وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة ثمَّ مِيم - وَفِي أَيَّامه كَانَ يُونُس النَّبِي عليه السلام وَملك سِتَّة عشر سنة وَمَات ثمَّ ملك بعده ابْنه آخر - بِهَمْزَة ممدودة ممالة أَيْضا وحاء مُهْملَة مَفْتُوح ثمَّ زَاي مُعْجمَة - ملك سِتَّة عشر سنة وَمَات ثمَّ ملك ابْنه حزقيا - بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي المعجمه وَكسر الْقَاف وَتَشْديد الْيَاء الْمُثَنَّاة من تحتهَا ثمَّ ألف - وَكَانَ رجلا صَالحا مظفراً وَلما دخلت السّنة السَّادِسَة من ملكه انقرضت دولة الْخَوَارِج مُلُوك الأسباط - الَّذين نبهنا عَلَيْهِم عِنْد ذكر رحبعم بن سُلَيْمَان - وانضم من بقى من الأسباط إِلَى حزقيا ودخلوا تَحت طَاعَته وَكَانَ من الصلحاء الْكِبَار وَكَانَ قد خرج عَلَيْهِ سنحاريب ملك بابل والموصل وَنزل حول بَيت الْمُقَدّس فِي سِتّمائَة راية فنصره الله وَأهْلك عَسْكَر سنحاريب وَوَقع سنحاريب فِي أسره ثمَّ اطلقه وسيره إِلَى بِلَاده وَكَانَ قد فزغ عمر حزقياً مَوته بِخَمْسَة عشر سنّ فَزَاد الله فِي عمره خَمْسَة عشر سنة وَأمره أَن يتَزَوَّج وَأخْبرهُ بذلك نَبِي كَانَ فِي زَمَانه وَهُوَ اشعيا " ع " واشعيا هُوَ الَّذِي بشر بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبشر بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام

ص: 147

وَملك حزقيا تسعا وَعشْرين سنة وَمَات ثمَّ ملك بعده ابْنه منشا - بميم وَنون مفتوحتين وشين مُعْجم مُشَدّدَة وَألف - وَملك خمْسا وَخمسين سنة وَمَات ثمَّ ملك بعده إبنه يوشيا - بِضَم الْمُثَنَّاة من تحتهَا وَسُكُون الْوَاو وَكسر الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْمُثَنَّاة من تحتهَا ثمَّ ألف - وَلما ملك أظهر الطَّاعَة وَالْعِبَادَة وجدد عمَارَة بَيت الْمُقَدّس وَأَصْلحهُ وَملك يوشيا إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة وَمَات ثمَّ ملك بعده ابْنه يهوياخين - بياء مثناة من تحتهَا مَفْتُوحَة وهاء مَضْمُومَة وَبعدهَا وَاو ثمَّ يَاء مثناة من تحتهَا مَفْتُوح وَبعدهَا ألف ثمَّ خاء مُعْجم مَكْسُورَة ثمَّ يَاء مثناة من تحتهَا سَاكِنة ثمَّ نون - وَلما ملك غزاه فِرْعَوْن مصر - وَهُوَ الْأَعْرَج - فَأخذ يهوياخين أَسِيرًا إِلَى مصر فَمَاتَ بهَا وَكَانَت مُدَّة ملكه ثَلَاثَة أشهر وَلما اسر يهوياخين ملك بعده أَخُوهُ يهوياقيم - بِفَتْح الْمُثَنَّاة من تحتهَا وَضم الْهَاء ثمَّ وَاو سَاكِنة وياء مثناة من تحتهَا وَألف وقاف مَكْسُورَة وياء مثناة من تحتهَا سَاكِنة وَمِيم - وَفِي السّنة الرَّابِعَة من ملكه تولى بخت نصر على بابل وَكَانَ ابْتِدَاء ولَايَته فِي سنة تسع وسيعين وَتِسْعمِائَة لوفاة مُوسَى عليه السلام وَتَفْسِير بخت نصر بالعبرانية عطا دوهو سطو سمي بذلك لتقريبه الْعلمَاء والحكماء وحبه أهل الْعلم وَاخْتلف المؤرخون فِيهِ هَل كَانَ ملكا مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ أم كَانَ نَائِبا للْفرس وَالأَصَح عِنْد الْأَكْثَر إِنَّه كَانَ نَائِبا لملك اسْمه لهراسف وَبَين ولَايَة بخت نصر وَالْهجْرَة الشَّرِيفَة ألف وثلاثمائة وتسع وَسِتُّونَ سنة وَمِائَة وَسَبْعَة عشر يَوْمًا وَقد مضى من الْهِجْرَة الشَّرِيفَة إِلَى عصرنا تِسْعمائَة سنة فَيكون الْمَاضِي من ولَايَة بخت نصر إِلَى آخر سنة تِسْعمائَة من الْهِجْرَة الشَّرِيفَة أَلفَيْنِ وَمِائَتَيْنِ وتسعاً وَسِتِّينَ سنة وأياماً وَفِي السّنة الرَّابِعَة من ملكه - وَهِي السَّابِعَة من ملك يهوياقيم - سَار بخت نصر

ص: 148

بالجيوش إِلَى الشَّام وغزا بني إِسْرَائِيل لما حصل مِنْهُم من التَّغْيِير والتبديل وَفعل الْقَبِيح فَلم يحاربه يهوياقيم وَدخل تَحت طَاعَته فأبقاه بخت نصر على ملكه وَرجع بَنو إِسْرَائِيل إِلَى الله تَعَالَى وتابوا عَن الْمعاصِي فَرد الله عَنْهُم بخت نصر وبقى يهوياقيم تَحت طَاعَته بخت نصر ثَلَاث سِنِين ثمَّ خرج عَن طَاعَته وَعَصَاهُ فَأرْسل بخت نصر وَأمْسك يهوياقيم وَأمر بإحضاره إِلَيْهِ فَمَاتَ يهوياقيم فِي الطَّرِيق من الْخَوْف فَكَانَت مدَّته نَحْو إِحْدَى عشرَة سنة وانقضى ملكه فِي أَوَائِل سنة ثَمَان لابتداء ملك بخت نصر وَلما أَخذ يهوياقيم الْمَذْكُور إِلَى الْعرَاق اسْتخْلف مَكَانَهُ ابْنه يخنيو - بِفَتْح الْمُثَنَّاة من تحتهَا وَالْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَضم الْمُثَنَّاة من تحتهَا ثمَّ وَاو - فَأَقَامَ مَوضِع أَبِيه مائَة يَوْم ثمَّ أرسل بخت نصر من أَخذه إِلَى بابل وَأخذ مَعَه أَيْضا جمَاعَة من عُلَمَاء بني اسرائيل من جُمْلَتهمْ دانيال النَّبِي وحزقيل النَّبِي وَهُوَ من نسل هَارُون عليه السلام وَحَال وُصُول يخينو سجنه بخت نصر وَلم يبرح مسجوناً حَتَّى مَاتَ بخت نصر وَلما أمسك بخت نصر يخينو نصب مَكَانَهُ عل بني إِسْرَائِيل يخينو الْمَذْكُور وَهُوَ صدقيا - بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تحتهَا مَعَ التَّشْدِيد وَبعدهَا ألف - وَاسْتمرّ صدقيا تَحت طَاعَة بخت نصر وَكَانَ أرميا النَّبِي " ع " قد رأى بخت نصر قَدِيما وَهُوَ صبي أَقرع وَرَآهُ يَأْكُل ويتغوط وَيقتل الْقمل فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَذَى يخرج وَمَنْفَعَة تدخل وعدو يقتل فَقَالَ لَهُ سَيكون لَك شَأْن فَأخذ أرميا من بخت نصر أَمَانًا لبيت الْمُقَدّس وَمن فِيهَا وَكتب لَهَا الْأمان فيجلد فَلَمَّا صَار الْملك إِلَى بخت نصر وَعصى عَلَيْهِ صدقيا - كَمَا تقدم

ص: 149

قصد بخت نصر بَيت الْمُقَدّس فَلَمَّا بلغ سهول الرملة وَأعلم ارميا بذلك سَار إِلَيْهِ وَأَعْطَاهُ الْأمان فَنظر هُوَ قَالَ هُوَ أماني وَلَكِنِّي مَبْعُوث وَقد أمرت أَن أرمي سهمي فَحَيْثُمَا وَقع سهمي طلبت الْموضع فرم بسهمه فَوَقع فِي قبَّة بَيت الْمُقَدّس فَرَجَعَا ارميا أهل بَيت الْمُقَدّس وَأخْبرهمْ بذلك ثمَّ سَار بخت نصر بالجيوش وَكَانَ مَعَه سِتّمائَة راية وَدخل بَيت الْمُقَدّس بجُنُوده ووطئ الشَّام وَقتل بني إِسْرَائِيل حَتَّى أفناهم وَخرب بَيت الْمُقَدّس وَجُنُوده أَن يمْلَأ كل رجل مِنْهُم ترسه تُرَابا ثمَّ يقذفه فِي بَيت الْمُقَدّس فَفَعَلُوا حَتَّى ملؤه هَكَذَا نقل الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيره وَالَّذِي نَقله الْملك الْمُؤَيد صَاحب حماه إِنَّه جهز العساكر وَبعث الْجَيْش مَعَ وزيره واسْمه نبوز رذان - بِفَتْح النُّون وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الزَّاي وَالرَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْألف وَفتح الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْألف وَبعدهَا نون - إِلَى حِصَار صدقيا بالقدس فَسَار الْوَزير بالجيش وحاصر صدقيا مُدَّة سنتَيْن وَنصف أَولهَا عَاشر تموز من السّنة التَّاسِعَة لملك صدقيا أَسِيرًا وَأخذ مَعَه جملَة كَثِيرَة من بني إِسْرَائِيل واحرق الْقُدس وَخَرَّبَهُ وَطرح فِيهِ الْجِيَف وَهدم الْبَيْت الَّذِي بناه سُلَيْمَان وَأحرقهُ وَاحْتمل مِنْهُ ثَمَانِينَ عجلة ذَهَبا وَفِضة وَطَرحه يومية وأباد بني إِسْرَائِيل قتلا وتشديداً وأعانه عل خرابه الرّوم بغضاً لبني إِسْرَائِيل فَكَانَت مُدَّة ملك صدقيا نَحْو إِحْدَى عشرَة سنة وَهُوَ آخر مُلُوك بني إِسْرَائِيل وَأما من تول بعده من بني إِسْرَائِيل بعد إِعَادَة عمَارَة بَيت الْمُقَدّس فَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الرياسة بِبَيْت الْمُقَدّس فَقَط فَيكون انْقِضَاء مُلُوك بني إِسْرَائِيل وخراب بَيت الْمُقَدّس عل يَد بخت نصر سنة عشْرين من ولَايَته تَقْرِيبًا وَهِي السّنة التَّاسِعَة وَالتِّسْعُونَ وَتِسْعمِائَة لوفاة مُوسَى عليه السلام وَهِي أَيْضا سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة مَضَت من عمَارَة بَيت الْمُقَدّس وَهِي مُدَّة لبثه عل الْعِمَارَة

ص: 150

وَهَذِه الْمرة الَّتِي ذكرهَا الله تَعَالَى فَقَالَ (وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ ولتعلن علوا كَبِيرا فَإِذا جَاءَ وعد أولاهما بعثنَا عَلَيْكُم عباداً لنا أولي بَأْس شَدِيد فجاسوا خلال الديار وَكَانَ وَعدا مَفْعُولا) أَي قَضَاء كَائِنا لَا خلف فِيهِ وَبَين خراب بَيت الْمُقَدّس وَالْهجْرَة الشَّرِيفَة ألف وثلاثمائة وَخَمْسُونَ سنة وَقد مض من الْهِجْرَة الشَّرِيفَة تِسْعمائَة سنة فَيكون الْمَاضِي من خراب بَيت الْمُقَدّس إِلَى عصرنا هَذَا - وَهُوَ آخر سنة تِسْعمائَة - أَلفَيْنِ وَمِائَتَيْنِ وَخمسين سنة وَلما غزا بخت نصر الْقُدس وَخَرَّبَهُ وَفعل مَا تقدم ذكره هرب من بني إِسْرَائِيل جمَاعَة وَأَقَامُوا بِمصْر عِنْد فِرْعَوْن الْأَعْرَج وَأرْسل بخت نصر إِلَيْهِ يطلبهم مِنْهُ وَقَالَ هَؤُلَاءِ عَبِيدِي هربوا إِلَيْك فَلم يسلمهم فِرْعَوْن مصر وَقَالَ لَيْسَ هم بعبيدك وَإِنَّمَا هم أَحْرَار وَكَانَ هَذَا هُوَ السَّبَب لقصد بخت نصر غَزْو مصر وَقتل فِرْعَوْن الْأَعْرَج وهرب مِنْهُ جمَاعَة إِلَى الْحجاز وَأَقَامُوا مَعَ الْعَرَب وَاسْتمرّ بَيت الْمُقَدّس خراباً سبعين سنة وَعَن قَتَادَة فِي قَوْله عز وجل (وَمن أظلم مِمَّن منع مَسَاجِد الله أَن يذكر فِيهَا اسْمه وسع فِي خرابها) قَالَ هُوَ بخت نصر وَأَصْحَابه خربوا بَيت الْمُقَدّس وَأَعَانَهُمْ على ذَلِك الرّوم قَالَ الله تعال (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يدخلوها إِلَّا خَائِفين) قَالَ وَهُوَ نصار لَا يدْخلُونَ الْمَسْجِد إِلَّا مسارقة أَن قدر عَلَيْهِم عوقبوا (وَلَهُم فِي الدُّنْيَا خزي) قَالَ يُعْطون الْجِزْيَة عَن يَد (وهم صاغرون)(ذكر عمَارَة بَيت الْمُقَدّس الثَّانِيَة) لما جر مَا ذكر من تخريب بَيت الْمُقَدّس ولبثه عل التخريب سبعين سنة عمره بعد ذَلِك بعض مُلُوك الْفرس واسْمه عِنْد الْيَهُود كورش وَقد اخْتلف فِيهِ فَقيل هُوَ دَارا بن يهمن وَقيل هُوَ بهمن الْمَذْكُور وَهُوَ الْأَصَح

ص: 151

وَكَانَ كَرِيمًا متواضعاً علامته عل كتبه من ازدشير بهمن عبد الله وخادم الله والسائس لأموركم وَتَفْسِير بهمن بالعبرانية الْحسن النِّيَّة وَكَانَ قد أمره الله عل لِسَان عَبده أرميا النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن يَبْنِي بَيت الْمُقَدّس فَفعل ذَلِك واصعد إِلَيْهَا من بني إِسْرَائِيل أَرْبَعِينَ ألفا وقربوا القرابين عل رسومهم الأولى وَرجعت إِلَيْهِم دولتهم وَعظم محلهم عِنْد الْأُمَم قَالَ الله تَعَالَى (ثمَّ رددنا لكم الكرة عَلَيْهِم وأمددنا كم بأموال وبنين وجعلناكم أَكثر نفيراً إِن أَحْسَنْتُم لأنفسكم وَإِن أسأتم فلهَا) وَعَاد الْبَلَد احسن مِمَّا كَانَ وَحكي بعض المؤرخين إِن الله أوحى إِلَى اشعيا النَّبِي عليه السلام أَن كورش يعمر بَيت الْمُقَدّس وَذكر لفظ اشعيا الَّذِي ذكره فِي الْفَصْل الثَّانِي وَالْعِشْرين من كِتَابه حِكَايَة عَن الله عز وجل وَهُوَ أَن الْقَائِل لكورش رَاعيا الَّذِي يتمم جَمِيع محياي وَيَقُول لاورشلم عودي مبينَة ولهيكلها كن زخرفاً مزيناً هَكَذَا قَالَ الرب لمسبحة كورش الَّذِي أَخذ بِيَمِينِهِ لتدبير الْأُمَم وينحي ظُهُور الْمُلُوك سائراً بِفَتْح الْأَبْوَاب أَمَامه وَلَا تغلق وأسهل لَك الوعر وأكسر أَبْوَاب النّحاس وأحبوك بالذخائر الَّتِي فِي الظُّلُمَات انْتهى وَلما عَادَتْ بَيت الْمُقَدّس تراجع إِلَيْهِ بَنو إِسْرَائِيل من الْعرَاق وَغَيره وَكَانَت عمرته فِي أول سنة تسعين لابتداء ولَايَة بخت نصر وَلما رَجَعَ بَنو إِسْرَائِيل إِلَى الْمُقَدّس كَانَ من جُمْلَتهمْ عُزَيْر عليه السلام وَكَانَ بالعراق وَقدم مَعَه من بني إِسْرَائِيل مَا يزِيد على أَلفَيْنِ من الْعلمَاء وَغَيرهم ورتب مَعَ عُزَيْر فِي الْقُدس مائَة وَعشْرين شَيخا من عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل وَكَانَت التَّوْرَاة قد عدمت مِنْهُم إِذْ ذَاك فمثلها الله فِي صدر العزير ووضعها لبني إِسْرَائِيل يعرفونها بحلالها وحرامها فَأخْبرهُ حبا شَدِيدا وَأصْلح العزير أَمرهم وَأقَام بَينهم عل ذَلِك ولبث مَعَ بني إِسْرَائِيل فِي الْقُدس يدبر أَمرهم حَتَّى توفّي بعد مُضِيّ أَرْبَعِينَ

ص: 152

سنة لعمارة بَيت الْمُقَدّس فَتكون وَفَاته سنّ ثَلَاثِينَ وَمِائَة لابتداء ولَايَة بخت نصر وَاسم العزير بالعبرانية عزرا وَهُوَ من ذُرِّيَّة هَارُون بن عمرَان ثمَّ تولى رياسة بني إِسْرَائِيل بِبَيْت الْمُقَدّس بعد العزير شَمْعُون الصّديق وَهُوَ أَيْضا من نسل هَارُون وَلما تراجع بَنو إِسْرَائِيل إِلَى الْقُدس بعد عِمَارَته صَار لَهُم حكام مِنْهُم وَكَانُوا تَحت حكم مُلُوك الْفرس واستمروا كَذَلِك حَتَّى ظهر الاسكندر ملك اليونان فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة لولاية بخت نصر وَغلب اليونان عل الْفرس وَدخل حِينَئِذٍ بَنو إِسْرَائِيل تَحت حكم اليونان وَبَين غَلَبَة الاسكندر عل ملك الْفرس وَبَين الْهِجْرَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة تِسْعمائَة وَأَرْبع وَثَلَاثُونَ سنة وَمَات الاسكندر بعد غلبته لقريب سبع سِنِين فَيكون بَين مَوته وَبَين الْهِجْرَة الشَّرِيفَة تِسْعمائَة وَقَرِيب ثَمَان وَعشْرين سنة وَقد مضى من لهجرة الشَّرِيفَة إِلَى عصرنا تِسْعمائَة سنة فَيكون الْمَاضِي من وَفَاة الاسكندر الآخر سنة تِسْعمائَة من الْهِجْرَة الشَّرِيفَة ألفا وَثَمَانمِائَة وَقَرِيب ثَمَان وَعشْرين سنة وَهَذَا الاسكندر لَيْسَ هُوَ ذُو القرنين الَّذِي ذكره الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن فَإِن ذَاك ملك قديم كَانَ عل زمن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عليه السلام وَتقدم ذكره ولمل دخل بَنو إِسْرَائِيل تَحت حكم اليونان أَقَامَ اليونان من بني إِسْرَائِيل وُلَاة عَلَيْهِم وَكَانَ يُقَال للمتولي عَلَيْهِم هردوس وَاسْتمرّ بَنو إِسْرَائِيل عل ذَلِك حَتَّى خرب بَيت الْمُقَدّس الخراب الثَّانِي وتشتت مِنْهُ بَنو إِسْرَائِيل عل مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى (قصَّة أرميا عليه السلام قد تقدم عِنْد ذكر صدقيا الَّذِي هُوَ آخر مُلُوك بني إِسْرَائِيل إِن أرميا النَّبِي عليه السلام كَانَ فِي أَيَّامه وَكَانَ يَأْمر بني إِسْرَائِيل بِالتَّوْبَةِ ويهددهم ببخت نصر

ص: 153

وهم لَا يلتفتون إِلَيْهِ فَلَمَّا رأى إِنَّهُم لَا يرجعُونَ عَمَّا هم فِيهِ فارقهم أرميا واختف حَتَّى غزاهم بخت نصر وَخرب الْقُدس كَمَا تقدم ذكره ثمَّ إِن الله تَعَالَى أوحى إِلَى الْقُدس وَهِي خراب فَقَالَ سُبْحَانَ الله أَمرنِي الله أَن أنزل هَذِه الْبَلدة وَأَخْبرنِي إِنَّه عامرها فَمَتَى يعمرها وَمَتى يُحْيِيهَا الله بعد مَوتهَا ثمَّ وضع رَأسه فَنَامَ وَمَعَهُ حِمَاره وسلة فِيهَا طَعَام وَهُوَ تين وركوة فِيهَا عصير عِنَب وَكَانَ من قصَّته مَا أخبر الله تَعَالَى بِهِ فِي مُحكم كِتَابه الْعَزِيز فِي قَوْله تعال (أَو كَالَّذي مر على قَرْيَة وَهِي خاوية عل عروشها قَالَ أَنِّي يحيي هَذِه الله بعد مَوتهَا فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه قَالَ كم لَبِثت قَالَ لَبِثت يَوْمًا أَو بعض يَوْم قَالَ بل لَبِثت مائَة عَام فَأنْظر إِلَى طَعَامك وشرابك لم يتسنه - أَي لم يتَغَيَّر - وَانْظُر إِلَيّ حِمَارك ولنجعلك آيَة للنَّاس وَانْظُر إِلَيّ الْعِظَام كَيفَ ننشرها ثمَّ نكسوها لَحْمًا فَلَمَّا تبين لَهُ قَالَ أعلم إِن الله عل كل شَيْء قدير) وَقد قيل إِن صَاحب الْقِصَّة هُوَ العزير وَالأَصَح إِنَّه أرميا وَقد أهلك الله بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه ونج الله من بق من بني إِسْرَائِيل وَلم يمت بِبَابِل وردهم جَمِيعًا إِلَى بَيت الْمُقَدّس ونواحيه قَالَ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيره وَعمر الله أرميا فَهُوَ الَّذِي يرى فِي الفلوات فَذَلِك قَوْله تَعَالَى (فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه) أَي احياه وَبَعثه الله عل السن الَّذِي توفاه عَلَيْهِ مائَة سنة وَهُوَ أَرْبَعُونَ سنة ولابنه عشر وَمِائَة سنة وَلابْن ابْنه تسعون سنة وَأنْشد ذَلِك

(وأسود رَأس شَاب من قبل ابْنه

وَمن قيله ابْن ابْنه فَهُوَ أكبر)

(ترى ابْن ابْنه شَيخا يَجِيء عل عَصا

ولحيته سَوْدَاء وَالرَّأْس أشقر)

(وَمَا لِابْنِهِ حيل وَلَا فضل قُوَّة

يقوم كَمَا يمشي الصَّبِي فيعثر)

(يعد ابْنه فِي النَّاس تسعين حجَّة

وَعشْرين لَا يخوى وَلَا يتعجر)

ص: 154

(وَعمر ابْن أَرْبَعِينَ أمرهَا

وَلابْن ابْنه فِي النَّاس تسعون غير)

(فَمَا هُوَ فِي الْمَعْقُول إِن كنت دارياُ

وَإِن كنت لَا تَدْرِي فبالجهل تعذر) (فصل) وَلما ملك الاسكندر وقهر الْفرس وعظمت مملكة اليونان صَار إِسْرَائِيل وَغَيرهم تَحت طاعتهم وتوالت مُلُوك اليونان بعد الاسكندر وَكَانَ يُقَال لكل وَاحِد مِنْهُم بطليوس فَلَمَّا مَاتَ الاسكندر ملك بعده بطليوس بن الأعوش عشْرين سنة ثمَّ ملك بعده بطليوس تخت أَخِيه وإسمه عِنْد الْيَهُود ثلماى - بثاء مُثَلّثَة من فَوْقهَا ثمَّ لَام سَاكِنة ثمَّ مِيم مَفْتُوح وَبعدهَا يَاء آخر الْحُرُوف - وَهُوَ الَّذين قلت إِلَيْهِ التَّوْرَاة وَغَيرهَا من كتب الْأَنْبِيَاء من اللُّغَة العبرانية إِلَى اللُّغَة اليونانية وَكَانَ نقل التَّوْرَاة بعد عشْرين سنة مَضَت من موت الاسكندر وَلما تولى بطليوس الثَّانِي تخت أَخِيه - الْمُسَمّى عِنْد الْيَهُود ثلماى - وجد جمَاعَة من الاساري مِنْهُم نَحْو ثَلَاثِينَ ألفا من الْيَهُود فَأعْتقهُمْ كلهم وَأمرهمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى بِلَادهمْ فَفَرِحُوا بذلك وَأَكْثرُوا لَهُ بِالدُّعَاءِ وَالشُّكْر فَأرْسل رَسُولا وهدايا إِلَى بني إِسْرَائِيل المقيمين بالقدس الشريف وَطلب مِنْهُم أَن يرسلوا لَهُ عدَّة من عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل لنقل التَّوْرَاة وَغَيرهَا إِلَى اللُّغَة اليونانية فسارعوا إِلَيّ امْتِثَال أمره ثمَّ بني إِسْرَائِيل تزاحموا على الرواح إِلَيْهِ وبقى كل مِنْهُم يخْتَار ذَلِك وَاخْتلفُوا ثمَّ اتَّفقُوا عل أَن يبعثوا إِلَيْهِ من كل سبط من أسباطهم سِتَّة فَبلغ ذَلِك من عَددهمْ اثْنَتَيْنِ وَسبعين رجلا فَلَمَّا وصلوا إِلَى بطليوس الْمَذْكُور - الْمُسَمّى عِنْدهم ثلماى - أحسن قراهم وصيرهم سِتا وَثَلَاثِينَ فرقة وَخَالف بَين أسباطهم وَأمرهمْ فترجموا لَهُ سِتا وَثَلَاثِينَ نُسْخَة من التَّوْرَاة وقابل بَعْضهَا بِبَعْض فَوَجَدَهَا مستوية لم تخْتَلف اخْتِلَافا يعْتد بِهِ

ص: 155

وَفرق النّسخ الْمَذْكُورَة فِي بِلَاده وَبعد فراغهم من التَّرْجَمَة أَكثر لَهُم الصَّلَاة وجهزهم إِلَيّ بِلَادهمْ وَسَأَلَهُ المذكورون فِي نُسْخَة من تِلْكَ النّسخ فأسعفهم بنسخة فَأَخذهَا المذكورون وعادوا بهَا إِلَى بني إِسْرَائِيل بِبَيْت الْمُقَدّس فنسخة التَّوْرَاة المنقولة لبطليوس الْمُسَمّى ثلماي أصح نسخ التَّوْرَاة وأثبتها وَهِي التَّوْرَاة اليونانية الَّتِي عَلَيْهَا عمل المؤرخين وَأما التَّوْرَاة العبرانية الَّتِي بأيدي الْيَهُود والتوراة السامرية فَكل وَاحِدَة مِنْهُمَا مبدلة لَا عمل عَلَيْهَا وَالله أعلم (ذكر سيدنَا يُونُس بن مَتى عليه السلام وَمَتى أَبُو يُونُس وَقيل أمه وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء إِنَّه أَبوهُ وَقد ورد فِي الحَدِيث الشريف أَن رَسُول الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يَقُول أَنا خير من يُونُس بن مَتى وَنسبه إِلَى أَبِيه وَلَكِن نقل الْملك الْمُؤَيد صَاحب حماة فِي تَارِيخه إِن مت أمه قَالَ وَلم يشْتَهر بني بامه غير عِيسَى وَيُونُس عليهما السلام وَقيل إِن يُونُس من نَبِي إِسْرَائِيل وَإنَّهُ من سبط بنيامين وَتزَوج بنت رجل من الْأَوْلِيَاء اسْمه زَكَرِيَّا وَكَانَ زَكَرِيَّا مُقيما بالرملة فَأَقَامَ يُونُس عِنْده ثمَّ بعد وَفَاة زَكَرِيَّا توجه إِلَى بَيت الْمُقَدّس يعبد الله وَكَانَت بعثته فِي أَيَّام يوثم بن عذياهو أحد مُلُوك بني إِسْرَائِيل وَتقدم ذكره عِنْد ذكر يوثم الْمَذْكُور وَبعث الله يُونُس إِلَى أهل نِينَوَى - وَهِي قبالة الْموصل بَينهمَا دجلة - وَكَانُوا يعْبدُونَ الْأَصْنَام فنهاهم وأوعدهم الْعَذَاب فِي يَوْم مَعْلُوم إِن لم يتوبوا وَضمن ذَلِك عَن ربه عز وجل فَلَمَّا أظلهم الْعَذَاب آمنُوا فكشف الله عَنْهُم وَجَاء يُونُس ذَلِك الْيَوْم فَلم ير الْعَذَاب حل وَلَا علم بإيمَانهمْ فَذهب مغاضباً وَدخل فِي سفينة من سفن دجلة فوقفت السَّفِينَة وَلم تتحرك فَقَالَ رئيسها فِيكُم من لَهُ ذَنْب فتساهموا عل من يلقونه فِي الْبَحْر فَوَقَعت المساهم عل يُونُس

ص: 156

فَرَمَوْهُ فِي الْبَحْر (فلتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم وَسَار بِهِ) الْآيَة وَكَانَ من شَأْنه مَا أخبر الله عَنهُ فِي كِتَابه الْعَزِيز وَمُلَخَّص قصَّته إِن الْحُوت التقمه وَكَانَ يُونُس يسبح على قلب الْحُوت والحوت يَقُول يَا يُونُس اسمعني تَسْبِيح المغمومين وَهُوَ يَقُول (لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين) فَتَقول الْمَلَائِكَة إلهنا وَسَيِّدنَا إِنَّا نسْمع تَسْبِيح مكروب كَانَ لَك شاكراً اللَّهُمَّ فارحمه فِي غربته وكربته قَالَ الله تَعَالَى (وَذَا النُّون إِذْ ذهب مغاضاً فَظن إِن لن نقدر عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَات إِن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين) يَعْنِي ظلمَة الْبَحْر وظلمة بطن الْحُوت قَالَ الله تَعَالَى (فلولا إِنَّه كَانَ من المسبحين للبث فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يبعثون) وَرُوِيَ إِنَّه مَا أَقرَأ هَذِه الْآيَة مكروب إِلَّا زَالَ كربَة وَهِي فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء وَاخْتلفُوا فِي مد لبثه فَمنهمْ من قَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقيل ثَلَاثَة أَيَّام فَلَمَّا انْقَضتْ الْمدَّة الَّتِي قدرهَا الله لَهُ أَمر الْحُوت إِن يردهُ إِلَى الْموضع الَّذِي أَخذه مِنْهُ فشق ذَلِك عل الْحُوت لاستئناسه بِذكر الله تَعَالَى قيل لَهُ أقذفه فقذفه فِي السَّاحِل فَذَلِك قَوْله تَعَالَى (فنبذناه بالعراء وَهُوَ سقيم) وَاسم الْحُوت النُّون وَخرج يُونُس مثل الفرخ المنتوف وَقد ذهب بَصَره وَهُوَ لَا يقدر على الْقيام فأنبت الله شَجَرَة من يَقْطِين لَهَا أَرْبَعَة لاف غُصْن فَكَانَت فرَاشه وغطاءه وَأمر الله الظبية فَجَاءَتْهُ وأرضعته حَتَّى قوى وَهَبَطَ عَلَيْهِ جِبْرِيل عليه السلام فَسلم عَلَيْهِ وَأمر يَده عل رَأسه وَجَسَده فأنبت الله لحيته ورد عَلَيْهِ بَصَره وَأوحى الله إِلَيْهِ بِإِيمَان قومه حِين رَأَوْا الْعَذَاب ثمَّ هَبَط إِلَيْهِ ملك وَدفع إِلَيْهِ حلتين وَقَالَ سر إِلَى قَوْمك فَإِنَّهُم يتمنونك فاتزر بِوَاحِدَة وارتد الْأُخَر وَسَار يُونُس عليه السلام وَاجْتمعَ بِزَوْجَتِهِ وولديه قبل وُصُوله إِلَى قومه ثمَّ وصل الْخَبَر إِلَى قومه بوصوله لَهُ فَوَثَبَ الْملك

ص: 157

عَن سَرِيره وَخَرجُوا كلهم إِلَى يُونُس عليه السلام وسلموا عَلَيْهِ وفرحوا بِهِ وَحَمَلُوهُ إِلَى الْمَدِينَة فَأَقَامَ فيهم يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر فَمَاتَ الْملك وَمَاتَتْ زَوجته وَأَوْلَاده وَكَانَت وَفَاة يُونُس فِي سنة خَمْسَة عشر وَثَمَانمِائَة لوفاة مُوسَى عليه السلام وقبره فِي قَرْيَة بِالْقربِ من بلد سيدنَا الْخَلِيل عليه السلام وَهَذِه الْقرْيَة تسمى حلحول وَهِي على طَرِيق بَيت الْمُقَدّس وَصَارَ عل قَبره مَسْجِد ومنارة وَالَّذِي بنى الْمنَار الْملك الْمُعظم عِيسَى بِولَايَة الْأَمِير رشيد الدّين فرج بن عبد الله الْمُعظم فِي شهر رَجَب سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة وَقد اشْتهر أمره وَالنَّاس يقصدونه للزيارة صلى الله عليه وسلم وَمَتى مدفون بِالْقربِ مِنْهُ بقري يُقَال لَهَا بَيت أَمر وَكَانَ رجلا صَالحا من أهل بَيت النُّبُوَّة (ذكر سيدنَا زَكَرِيَّا وَيحيى وعيس عليهم السلام (وَقع لسيدنا عِيسَى بن مَرْيَم عليه السلام وصعوده إِلَى السَّلَام وَمُلَخَّص مَا وَقع لزكريا وَيحيى عليهما السلام أَقُول - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق - إِن سيدنَا زَكَرِيَّا من ولد سُلَيْمَان بن دَاوُد عليهما السلام وَكَانَ نَبيا وَقد ذكره الله فِي الْقُرْآن وَكَانَ نجاراً وَهُوَ الَّذِي كفل مَرْيَم بنت عمرَان بن ماثان من ولد سُلَيْمَان بن دَاوُد وَكَانَت أم مَرْيَم اسْمهَا حنة وَكَانَ زَكَرِيَّا متزوجاً باخت حنة وَاسْمهَا ايساع وَكَانَت زَوْجَة زَكَرِيَّا خَالَة مَرْيَم وَلذَلِك كفل زَكَرِيَّا مَرْيَم وَسَنذكر ذَلِك وَأرْسل الله جِبْرِيل عليه السلام فبشر زَكَرِيَّا بِيَحْيَى مُصدقا بِكَلِمَة من الله يَعْنِي عِيسَى ابْن مَرْيَم ثمَّ أرسل الله تَعَالَى جِبْرِيل عليه السلام فَنفخ فِي جيب مَرْيَم

ص: 158

فَحملت بعيس عليه السلام وَكَانَت قد حملت خَالَتهَا ايساع بِيَحْيَى وَولد يحي قبل عِيسَى بِسِتَّة أشهر ثمَّ ولدت مَرْيَم عِيسَى فَلَمَّا علمت الْيَهُود أَن مَرْيَم ولدت من غير بعل اتهموا زَكَرِيَّا بهَا وطلبوه فهرب واختف فِي شَجَرَة عَظِيمَة فَقطعُوا الشَّجَرَة وَقَطعُوا زَكَرِيَّا مَعهَا وَكَانَ عمر زَكَرِيَّا حِينَئِذٍ نَحْو مائَة سنة وَكَانَ قَتله بعد ولادَة الْمَسِيح وَكَانَت ولادَة الْمَسِيح لمضي ثَلَاثمِائَة وَثَلَاث سِنِين للاسكندر وَيَأْتِي تَحْرِير تَارِيخ مولده قَرِيبا فَيكون مقتل زَكَرِيَّا بعد ذَلِك بِيَسِير وَأما يحي ابْنه فَإِنَّهُ نبئ وَهُوَ صَغِير ودعا النَّاس إِلَى عباد الله تَعَالَى وَلبس الشّعْر واجتهد فِي الْعِبَادَة حَتَّى نحل جِسْمه وَكَانَ عيس ابْن مَرْيَم قد حرم نِكَاح بنت الْأَخ وَكَانَ لهردوس - وَهُوَ الْحَاكِم على بني إِسْرَائِيل - بنت أَخ وَأَرَادَ أَن يَتَزَوَّجهَا كَمَا هُوَ جَائِز فِي مِلَّة الْيَهُود فَنَهَاهُ يحيى عَن ذَلِك فطلبت أم الْبِنْت من هردوس أَن يقتل يحيى فَلم يجبها إِلَى ذَلِك فعاودته وَسَأَلته الْبِنْت أَيْضا وألحت عَلَيْهِ فأجابهما إِلَى ذَلِك وَأمر بِيَحْيَى فذبح وَوضع رَأسه بَين يَدي هردوس فَكَانَ الرَّأْس يتَكَلَّم وَيَقُول لَا تحل لَك وَاسْتمرّ غليان دَمه فَأمر بِتُرَاب فألقي عَلَيْهِ فَمَا ازْدَادَ إِلَّا انبعاثاً فَبعث الله عَلَيْهِم ملكا من جِهَة الْمشرق يُقَال خردوس فَقتل مِنْهُم على دم يحيى سبعين ألفا إِلَى أَن سكن دَمه وَزعم قوم أَن بخت نصر هُوَ الَّذِي غزاهم وقتلهم على دم يحي ، وَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَن بخت نصر خرب بَيت الْمُقَدّس من قبل ولادَة يحيى بِنَحْوِ خَمْسمِائَة سنة وكتان قتل يحي قبل رفع الْمَسِيح بِمدَّة يسيرَة لِأَن عِيسَى عليه السلام إِنَّمَا ابْتَدَأَ بالدعوة لما صَار لَهُ ثَلَاثُونَ سنة وَلما أمره الله تعال أَن يَدْعُو النَّاس إِلَى دين النَّصَارَى غمسه يحي فِي نهر الْأُرْدُن ولعيسى نَحْو ثَلَاثِينَ سنة فَخرج من نهر الْأُرْدُن

ص: 159

وابتدأ بالدعوة وَجَمِيع مَا لبث عِيسَى بعد ذَلِك ثَلَاث سِنِين فذبح يحيى كَانَ قبل رفع الْمَسِيح بِنَحْوِ سنة وَنصف قَالَ قَتَادَة وَكَانَ رَفعه بعد نبوته بِثَلَاث سِنِين وَالنَّصَارَى تسم سيدنَا يحي يوحنا المعمدان لكَونه عمد الْمَسِيح كَمَا ذكر وَكَانَ يحيى عليه السلام لَا يَأْتِي النِّسَاء لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ مَا للرِّجَال فَلذَلِك سَمَّاهُ الله تعال (سيداً وَحَصُورًا) كَذَا قيل وَهُوَ غير مرضِي وَقد تكلم القَاضِي عِيَاض فِي الشِّفَاء على معنى ككون يحيى حصوراً بِمَا حَاصله إِن هَذَا الَّذِي قيل نقيضه وعيب لَا يَلِيق بالأنبياء وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إِنَّه مَعْصُوم عَن الذُّنُوب لَا يَأْتِيهَا كَأَنَّهُ حصر عَنْهَا أَو إِنَّه حصر نَفسه عَن الشَّهَوَات فَمنعهَا وَيَأْتِي ذكر الْخلاف فِي مَحل قَبره وقبر وَالِده زَكَرِيَّا عِنْد ذكر قبر مَرْيَم " ع " وَأما مَرْيَم فاسم أمهَا حنة زَوْجَة عمرَان وَكَانَت حنة لَا تَلد واشتهت الْوَلَد فدعَتْ بذلك ونذرت إِن رزقها اله ولدا جعلته من خدمَة بَيت الْمُقَدّس فَحملت حنة وَهلك زَوجهَا عمرَان وَهِي حاملة فَولدت بِنْتا وسمتها مَرْيَم وَمَعْنَاهَا العابدة قَالَ الله تعال - مخبرا عَن أمهَا - (وَلَيْسَ الذّكر كالأنثى) أَي لخدمة بَيت الْمُقَدّس وَلما يلْحقهَا من الْحيض وَالنّفاس وَعدم الصيانة عَن التبرج للنَّاس ثمَّ حملتها واتت بهَا إِلَى الْمَسْجِد ووضعتها عِنْد الْأَحْبَار وَقَالَت دونكم هَذِه الْمَنْذُورَة فتنافسوا فِيهَا لِأَنَّهَا بنت عمرَان - وَكَانَ من أئمتهم - فَقَالَ زَكَرِيَّا أَنا أَحَق بهَا لِأَن خَالَتهَا زَوْجَتي فَأَخذهَا زَكَرِيَّا وَضمّهَا إِلَى ايساع خَالَتهَا وَلما كَبرت مَرْيَم بن لَهَا زَكَرِيَّا غرفَة فِي الْمَسْجِد وانقطعت فِي تِلْكَ الغرفة لِلْعِبَادَةِ وَكَانَ لَا يدْخل على مَرْيَم غير زَكَرِيَّا فَقَط قَالَ الله تَعَالَى (كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب وجد عِنْدهَا رزقا - فَاكِهَة الصَّيف فِي الشتَاء وَفَاكِهَة الشتَاء فِي الصَّيف قَالَ يَا مَرْيَم من أَيْن لَك هَذَا هُوَ من عِنْد الله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب)

ص: 160

وَأرْسل الله جِبْرِيل فَنفخ فِي جيب مَرْيَم فَحملت بعيس وولدته فِي بَيت لحم وَهِي قري قريبَة من بَيت الْمُقَدّس سنة أَربع وَثَمَانمِائَة لغَلَبَة الاسكندر وَبَين مولد سيدنَا عيس عليه السلام وَالْهجْرَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة المحمدية عل صَاحبهَا أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام سِتّمائَة وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ سنة وَقد مض من الْهِجْرَة الشَّرِيفَة إِلَى عصرنا هَذَا تِسْعمائَة سنة فَيكون الْمَاضِي من مولد الْمَسِيح إِلَى خر سنة تِسْعمائَة من الْهِجْرَة الشَّرِيفَة ألفا وَخَمْسمِائة وَإِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة وَلما جَاءَت مَرْيَم بِعِيسَى تحمله قَالَ لَهَا قَومهَا (لقد جِئْت شَيْئا فريا) وَأخذُوا الْحِجَارَة ليرجموها فَتكلم عِيسَى وَهُوَ فِي المهد مُعَلّقا فِي منكبها (قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِي الْكتاب وَجَعَلَنِي نَبيا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كنت وأوصاني بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة) فَلَمَّا سمعُوا كَلَام ابْنهَا تركوها ثمَّ إِن مَرْيَم أخذت عيس وسارت بِهِ إِلَى مصر وَسَار مَعهَا البن عَمها يُوسُف ابْن يَعْقُوب ابْن ماثان النجار وَكَانَ حكيماً وَيَزْعُم بَعضهم إِن يُوسُف الْمَذْكُور قد تزوج بمريم لكنه لم يقربهَا وَهُوَ أول من أنكر حملهَا ثمَّ علم وَتحقّق براءتها وَسَار مَعهَا إِلَى مصر وَأَقَامَا هُنَاكَ اثْنَي عشر سنة ثمَّ عَاد عيس وَأمه إِلَى الشَّام وَنزلا الناصرة وَبهَا سميت النَّصَارَى وَأقَام بهَا عِيسَى حَتَّى بلغ ثَلَاثِينَ سنة فَأوحى الله إِلَيْهِ وأرسله للنَّاس وَسَار إِلَى الْأُرْدُن وَهُوَ نهر الْغَوْر الْمُسَمّى بالشريعة فاعتمد وابتدأ بالدعوة - وَكَانَ يحي بن زَكَرِيَّا هُوَ الَّذِي عمده كَمَا تقدم - وَكَانَ ذَلِك لسِتَّة أَيَّام مَضَت من كانون الثَّانِي لمضي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة للاسكندر وَأظْهر عِيسَى عليه السلام المعجزات وَأَحْيَا مَيتا يُقَال لَهُ عازر بعد ثَلَاثَة أَيَّام من مَوته وَجعل من الطين طائراً قيل هُوَ الخفاش وَأَبْرَأ ألاكمه والأبرص وَكَانَ يمشي عل المَاء صل الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 161