الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وقْعَة الكمين)
وَفِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء سادس عشر شَوَّال أَمر السُّلْطَان رجال الْحلقَة المنصورة بِأَن يكمنوا فِي جِهَة عينهَا وَخرج الافرنج للاحتشاش ولقيهم إِعْرَاب فتواقعوا مَعَهم وَخرج الكمين واقتتلوا مَعَهم وَقتل جمَاعَة من الْكفَّار وَاسْتشْهدَ ثَلَاثَة من المماليك الْخَواص وَأسر من الإفرنج فارسان وأحضرا للسُّلْطَان وانفصل الْحَرْب وَقت الظّهْر (اجْتِمَاع الْملك الْعَادِل بِملك الانكثير) وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشر شَوَّال ضرب الْملك الْعَادِل بِقرب اليزك لأجل ملك الانكثير ثَلَاث خيام وجهز فَاكِهَة وحلو وَطَعَامًا وَحضر ملك الانكثير وطالت بَينهمَا المحادثة وافترقا عَن غير مُوَافقَة وَمضى الْملك وَكَانَ قد وصل صَاحب صيدا من صور برسالة المر كيس لطلب الصُّلْح مَعَ السُّلْطَان حَتَّى يقو يَده عل ملك الانكثير وَبلغ ذَلِك ملك الانكثير فوصل رَسُوله أَيْضا بنظير هَذَا الْأَمر ومض القَوْل مَعَ صَاحب صيدا إِلَى المر كيس على شَرَائِط شرطت عَلَيْهِ وَأما مراسل الْملك فَلم ينْتج مِنْهَا أَمر وَكلما حصل الِاتِّفَاق مَعَه عل شَيْء نَقصه وَكلما قَالَ قولا رَجَعَ عَنهُ فلعنه الله عَلَيْهِ وَفِي يَوْم الْأَحَد سَابِع عشري شَوَّال عَاد السُّلْطَان إِلَى المخيم بالنطرون ورحل الإفرنج يَوْم السبت ثَالِث ذِي الْقعدَة وتقدموا إل الرملة ونزلوا بهَا وَلم يشك إِنَّهُم على قصد الْقُدس وَأقَام السُّلْطَان فِي كل يَوْم لَهُ سَرَايَا وَصَارَ لَهُم فِي كل يَوْم وَقع وَمَا يَخْلُو من أسر تقاد إِلَيْهِ ثمَّ هجم الشتَاء وتوالت الأمطار فعزم على الرحيل (رحيل السُّلْطَان إِلَى الْقُدس) وَفِي يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة ركب السُّلْطَان والغيث نَازل وَسَار بِمن مَعَه حَتَّى وصل إِلَى الْقُدس قبل الْعَصْر وَنزل بدار الاقساء الْمُجَاورَة
لكنيسة قمامة وَشرع فِي تحصين الْمَدِينَة وَصلى يَوْم الْجُمُعَة مستهل ذِي الْحجَّة وصل إِلَيْهِ عَسْكَر من مصر وَتَتَابَعَتْ العساكر المصرية وَوصل الْخَبَر بنزول الإفرنج بالنطرون فَوَقع الارجاف فِي النَّاس وَجَرت يَوْم الْخَمِيس سَابِع الشَّهْر وقْعَة قرب بَيت نوبَة من سَرِيَّة جهزها السُّلْطَان فوقعوا عل سَرِيَّة الإفرنج فأسروها وقتلوها ووصلوا بزهاء خمسين أَسِيرًا إِلَى الْقُدس وَكَانَت بشرى عَظِيمَة ثمَّ وَقعت وقْعَة أخر قتل من الْكفَّار سِتَّة وَأسر أَرْبَعَة وَصلى السُّلْطَان عيد الْأُضْحِية بالقدس يَوْم الْأَحَد وَكَانَت الوقفة بِمَكَّة يَوْم الْجُمُعَة لَكِن لم ير الْهلَال بالقدس لَيْلَة الْخَمِيس وَفِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشر ذِي الْحجَّة وقْعَة بالرمل من أميرين أغارا عل الافرنج وأخذا أَمْوَالًا وأغناما وخيلا وجمالا وبغالا وأسرا مِمَّن كَانَ فِي الْقَافِلَة ثَلَاثِينَ وأحضراهم للسُّلْطَان وأحاط الإفرنج الْبلَاء وَكَثُرت عَلَيْهِم الغارات فرحلوا وعادوا إِلَى الرملة وَطَابَتْ قُلُوب الْمُسلمين (ذكر مَا اعْتَمدهُ السُّلْطَان فِي عمَارَة الْقُدس) وصل مِمَّن الْموصل جمَاعَة للْعَمَل فِي الخَنْدَق جهزهم صَاحب الْموصل صُحْبَة بعض حجابه وسير مَعَه مَالا يفرقه عَلَيْهِم فِي رَأس كل شهر وَأَقَامُوا نصف سنة فِي الْعَمَل وَأمر السُّلْطَان بِحَفر خَنْدَق عميق وَأَنْشَأَ سوراً وأحضر من أسرى الإفرنج قَرِيبا من أَلفَيْنِ ورتبهم فِي ذَلِك وجدد أبراجاً حربية من بَاب العمود إل بَاب الْمِحْرَاب وَبَاب الْمِحْرَاب هُوَ الْمَعْرُوف الْآن بِبَاب الْخَلِيل وَأنْفق عَلَيْهَا أَمْوَالًا جزيلة وبناها بالأحجار الْكِبَار وَكَانَ الْحجر يقطع من الخَنْدَق وَيسْتَعْمل فِي بِنَاء السُّور وَقسم بِنَاء السُّور على أَوْلَاده وأخيه الْعَادِل وامرائه وَصَارَ يركب كل يَوْم ويحضر على بنائِهِ
وَكَانَ يحمل الْحجر على قربوس سَرْجه وَيخرج النَّاس لموافقته على حمل الْحجر إِلَى مَوضِع الْبناء ويتولى ذَلِك بِنَفسِهِ وبجماعة خواصه والأمراء ويجتمع لذَلِك الْعلمَاء والقضاة والصوفية والأولياء وحواشي العساكر والاتباع وعوام النَّاس فيني فِي أقرب مُدَّة مَا يتَعَذَّر بِنَاؤُه فِي سِنِين وَأرْسل السُّلْطَان لصَاحب الْموصل يشكره عل تجهيز الرِّجَال لحفر الخَنْدَق بمكاتبة أَنْشَأَهَا الْعِمَاد الْكَاتِب رَحمَه الله تَعَالَى وَدخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَالسُّلْطَان مُقيم بالقدس فِي دَار الاقسا بجوار قمامة لتقوية الْبَلَد وتشييد أسواره وجد فِي عمَارَة الصَّخْرَة المقدسة وأكمل السُّور وَالْخَنْدَق وَصَارَ فِي غَايَة الإتقان وَاطْمَأَنَّ أهل الْإِسْلَام (ذكر الْحَوَادِث مَعَ الإفرنج) رَحل الإفرنج يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث الْمحرم من الرملة إِلَى بلد عسقلان ونزلوا بظاهرها يَوْم الْأَرْبَعَاء وَتَشَاوَرُوا فِي إِعَادَة عمارتها وَكَانَ اثْنَان من الْأُمَرَاء نازلين فِي بعض أَعمالهَا فَركب ملك الانكثير عصر يَوْم الْخَمِيس فشاهد دخاناً على الْبعد فساق مُتَوَجها إِلَى تِلْكَ الْجِهَة فَمَا شعر الْمُسلمُونَ إِلَّا بالكبسة عَلَيْهِم فَلم ينزعجوا فَإِنَّهُ كَانَ وَقت الْمغرب وهم مجتمعون وَلم ير الْعَدو إِلَّا أحد الْقسمَيْنِ من الْمُسلمين فقصده فَعرف الْقسم الآخر هجوم الْعَدو فَرَكبُوا إِلَى الْعَدو فدفعوه حَتَّى ركب رفقاؤهم المقصودون واجتمعوا وردوا الْعَدو ثمَّ تكاثر الإفرنج وتواصلوا وَوَقعت الْوَقْعَة فَلم يفقد من الْمُسلمين إِلَّا أَرْبَعَة وَنَجَا الْبَاقُونَ وَكَانَت نوبَة عَظِيمَة وَلَكِن الله سلم فِيهَا وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء عَاشر الْمحرم ركب السُّلْطَان على عَادَته فِي نقل الْحِجَارَة والعمارة وَمَعَهُ الْمُلُوك والأمراء والقضاة وَالْعُلَمَاء والصوفية والزهاد والأولياء وَخرج
كل بِالْبَلَدِ وَهُوَ قد حمل على سَرْجه وَالنَّاس ينقلون مَعَه وَلما دخل الظّهْر نزل فِي خيمة بالصحراء وَمد السماط ثمَّ صلى الظّهْر وَانْصَرف المنزله وَأما سراياه فَكَانَت لَا تزَال تغير عل الْكفَّار فَمن ذَلِك سَرِيَّة أغارت يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي عشر من الْمحرم عل يبنا وفيهَا الافرنج فَغنِمت اثْنَي عشر أَسِيرًا وخيلاً ودواب وأثاثاً كثيرا وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي صفر أغارت السّريَّة عل ظَاهر عسقلان وغنمت ثَلَاثِينَ أَسِيرًا سو الْخَيل وَالْبِغَال وَفِي لَيْلَة الْأَحَد رَابِع عشر صفر صبحت سَرِيَّة على يبنا وَظَهَرت على قافلة الافرنج فأخذتها بأسرها مَعَ رجالها وبغالها وأحمالها ثمَّ أغارت عل يافا فقتلت وفتكت وعادت بِالْغَنِيمَةِ والسبايا وَعجز جمَاعَة من الاساري عَن الْمَشْي فَضربت أَعْنَاقهم وَأوجب ذَلِك عتق البَاقِينَ وَلما خرج سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد الْمَعْرُوف بالمشطوب من الْأسر قرر على نَفسه قطيعة خمسين ألف دِينَار فأد مِنْهَا ثَلَاثِينَ ألفا وَأعْطى رهائن عل عشْرين ألفا وَوصل إِلَى الْقُدس وَاجْتمعَ بالسلطان يَوْم الْخَمِيس مستهل شهر ربيع الآخر فَقَامَ إِلَيْهِ واعتنقه وتلقاه واقطعه نابلس وأعمالها وعاش إِلَى آخر شَوَّال من هَذِه السّنة وَتُوفِّي رحمه الله فعين السُّلْطَان ثلث نابلس وأعمالها لمصَالح الْبَيْت الْمُقَدّس وَعمارَة سُورَة وَأبقى بَاقِيهَا لوَلَده (هَلَاك المركيس بِصُورَة) أضَاف الأسقف بصور يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر ربيع الآخر فَأكل وَخرج وَركب فَوَثَبَ عَلَيْهِ رجلَانِ وقتلاه بالسكاكين فامسكا وسئلا من هُوَ الْأَمر لَكمَا بقتْله؟ فَقَالَا ملك الانكثير فقتلا شَرّ قتلة
وَلما هلك المركيس تحكم ملك الانكثير فِي صور وولاها الكندهرى وَأرْسل الْملك يطْلب من السُّلْطَان نصف الْبِلَاد سوى الْقُدس فَإِنَّهُ يبْق للْمُسلمين بمدينته وقلعته سوى كنيستهم قمامة فَأبى السُّلْطَان وَلم يرض (اسْتِيلَاء الإفرنج عل قلعة الداروم) وقلعة الداروم هَذِه على حد مصر خلف غَزَّة وَكَانَت مِنْهَا مضرَّة كَبِيرَة فَلَمَّا شرع الإفرنج فِي عمَارَة عسقلان ترددوا إِلَيْهَا مرَارًا ثمَّ نزلت الإفرنج عَلَيْهَا وَاشْتَدَّ زحفهم إِلَيْهَا عَشِيَّة السبت تَاسِع جماد الأولى بعد أَن نقبوها وَطلب أَهلهَا الْأمان فَلم يُؤمنُوا وَلما عرف الْوَالِي بهَا إِنَّهُم مأخوذون عمد إِلَى الْخَيل وَالْجمال وَالدَّوَاب فعرقبها والى الذَّخَائِر فأحرقها وفتحوها بِالسَّيْفِ وَقتلُوا من بهَا وأسروا مِنْهُم عدَّة يسيرَة وَكَانَت نوبَة كَبِيرَة على الْإِسْلَام ثمَّ رَحل الإفرنج عَنْهَا ونزلوا عل مَاء يُقَال لَهُ الْحسي يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر الشَّهْر ثمَّ تركُوا خيامهم وَسَارُوا على قصد قلعة يُقَال لَهَا مجدل الجبان فَخرج عَلَيْهِم الْمُسلمُونَ وقاتلوهم قتالاً شَدِيدا وَقتل مِنْهُم خلق كثير وانهزموا ثمَّ رحلوا من الْحسي يَوْم الْأَحَد سَابِع عشر لشهر وَتَفَرَّقُوا فِي يَقِين فبعضهم عَاد إِلَى عسقلان وَبَعْضهمْ جَاءَ إِلَى بَيت جِبْرِيل فَتقدم السُّلْطَان إِلَى العساكر بمبارزتهم وَفِي يَوْم السبت الثَّالِث وَالْعِشْرين نزلُوا بتل الصافية ونزلوا يَوْم الثُّلَاثَاء السَّادِس وَالْعِشْرين بالنطرون فارجف بقصدهم الْقُدس ثمَّ ضربوا خيامهم يَوْم الْأَرْبَعَاء على بَيت نوبَة واظهر السُّلْطَان الاقامة بالقدس وَفرق الْأُمَرَاء عل الأبراج وَجَرت وقعات وكبسات وَفِي يَوْم السبت نزل النَّاس إِلَيْهِم وقاتلوهم فِي خيامهم وَركب الْعَدو وسَاق إِلَى قلونية وَهِي ضَيْعَة من الْقُدس عل فرسخين وَعَاد مُنْهَزِمًا
وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة خرج كمين فِي طَرِيق يافا عل قافلة فَأَخَذُوهَا وأسروا من فِيهَا (كبسة الإفرنج على عَسْكَر مصر الْوَاصِل) كَانَ السُّلْطَان يستحث عَسْكَر مصر بكتبه وَرُسُله ويدعوه نجد لأهل الْقُدس فَضرب خيامه على بلبيس مُدَّة حَتَّى اجْتَمعُوا وانضم إِلَيْهِم التُّجَّار فاغتروا بكثرتهم والعدو منتظر قدومهم وَجَاء الحبر للسُّلْطَان ليل الِاثْنَيْنِ تَاسِع جُمَادَى الآخر إِن ملك الانكثير ركب فِي جمع كَبِير وَسَار عصر يَوْم الْأَحَد فَجرد السُّلْطَان أَمِيرا وَجَمَاعَة لتلقي الْوَاصِل وَأمرهمْ بِأَن يَأْخُذُوا بِالنَّاسِ فِي طَرِيق الْبَريَّة فعبروا عُلَمَاء الْحسي قبل وُصُول الْعَدو إِلَيْهِ وَكَانَ مقدم الْعَسْكَر الْمصْرِيّ فلك الدّين أَخُو الْعَادِل فَلم يسْأَل عَن الْمنزلَة وَقصد الطَّرِيق الْأَقْرَب وَترك الْأَحْمَال عل طَرِيق أُخْرَى وَنزل عل مَاء يعرف بالخويلفة وناد تِلْكَ اللَّيْلَة إِنَّه لَا رحيل إِلَى الصَّباح وناموا مُطْمَئِنين فصبحهم الْعَدو عِنْد انْشِقَاق الصُّبْح فِي الْغَلَس فَلَمَّا بغتهم ركب كل مِنْهُم عل وَجهه وَفِيهِمْ من ركب بِغَيْر عدَّة وانهزموا وَتركُوا الْعَدو وَرَاءَهُمْ فَوَقع الْعَدو فِي أمتعتهم وتفرق الْعَسْكَر فِي الْبَريَّة فَمنهمْ من رَجَعَ إِلَى مصر وَمِنْهُم من توجه عل طَرِيق الكرك فَأخذ الْكفَّار من الْجمال والأحمال مَا لَا يعدو وَلَا يُحْصى وَكَانَت نكبة عَظِيمَة وَوصل الْجند مسلوبين منكوبين فسلاهم السُّلْطَان وَوَعدهمْ بِكُل جميل واشتغل الْكفَّار بِالْمَالِ عَن الْقَتْل والقتال (رحيل ملك الانكثير صوب عكا مظْهرا إِنَّه عل قصد بيروت) لما تعذر عل الإفرنج قصد الْقُدس وَرَأَوا أَن بيروت فزع مِنْهُم وَقطع عَلَيْهِم طَرِيق الْبَحْر فَقَالُوا هَذَا الْبَلَد أَخذه هَين وَإِذا قصدناه جَاءَ السُّلْطَان وَعَسْكَره إِلَيْنَا وخلا الْقُدس فنبادر إِلَيْهِ من يافا وعسقلان ونملكه فَلَمَّا عرف السُّلْطَان مَا عزموا
عَلَيْهِ أَمر وَلَده الْملك الْأَفْضَل بمبادرتهم فِي الرحيل وسبقهم إِلَى مرج عُيُون حَتَّى إِذا تَيَقّن قصدهم سبقت العساكر إِلَى بيروت ودخلتها وَكتب السُّلْطَان إِلَى العساكر الْوَاصِلَة إِلَى دمشق أَن يَكُونُوا مَعَ وَله فَنزل بمرج عُيُون والافرنج بعكا لم تخرج مِنْهَا (نزُول السُّلْطَان على مَدِينَة يافا وَفتحهَا) لما رَحل ملك الانكثير وَترك فِي مدينتي يافا وعسقلان جمعا من الْعَسْكَر انتهز السُّلْطَان الفرصة لغيبته ونهض بعسكره الْحَاضِر وَنزل على يافا وحصرها ورماها بالمناجيق وزحف عَلَيْهَا وهجم على الْمَدِينَة وَقتل من بهَا وَوجدت الْأَحْمَال الْمَأْخُوذَة من قافلة مصر فَأخذت وامتلأت الْبَلَد من الْمُسلمين وَبقيت القلعة وَطلب أَهلهَا الْأمان ويسلمونها وَكَانَ قرب الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا فَلَمَّا طلبُوا الْأمان كف النَّاس عَنْهَا فَخرج البطرك الْكَبِير وَمَعَهُ جمَاعَة من المقدمين والأكابر عل أَن يدخلُوا تَحت طَاعَة السُّلْطَان وسلموا المَال والذخائر حَتَّى دخل اللَّيْل فاستمهلوا إِلَى الصَّباح وطلبوا من يحفظهم من الْمُسلمين وَمَا زَالَ يخرج من يَسْتَدْعِي زِيَادَة التوثقة حَتَّى وصل ملك الانكثير فِي الْبَحْر فِي مراكب فِي اللَّيْل وَدخل القلعة من الْجَانِب البحري وَنَادَوْا بشعار الْكفْر فَاكْتفى مكنهم بِمن أسر وَنَدم الْمُسلمُونَ عل مَا وَقع من الْأمان وَلَو أَن السُّلْطَان توقف فِي تأمينهم لأخذت القلعة وَكَانَ ذَلِك فتحا عَظِيما وَأخذ الْمُسلمُونَ من الْأَمْوَال والغنائم مَا لَا يُحْصى واستعادوا من الْكفَّار مَا نهبوه من الكبسة المصرية وَقتل من أَقَامَ بِالْبَلَدِ وَأسر وَحصل فِي أَيدي الْمُسلمين من مقدمي القلعة نَيف وَسَبْعُونَ وَكَانَ الْقَصْد فِي الأول رُجُوع الْكفَّار عَن قصد بيروت وَضعف الإفرنج من هَذِه الْوَقْعَة وَعَاد السُّلْطَان وخيم عل النطرون وَأقَام السُّلْطَان حَتَّى تكاملت العساكر ورحل السُّلْطَان وَنزل بالرملة وَقد اجْتمع العساكر من سَائِر الْبِلَاد وقوى وَاشْتَدَّ
عزم الْمُسلمين وَحصل لَهُم السرُور بِفَتْح يافا وَأخذ مَا فِيهَا وتباشروا بالنصر وخذلان الْعَدو (الْهُدْنَة الْعَامَّة) لما عرف ملك الانكثير اجْتِمَاع العساكر واتساع الْخرق عَلَيْهِ وَأَن الْقُدس قد امْتنع أَخذه قصر عَمَّا كَانَ فِيهِ وخضع وَأظْهر إِنَّه لم يهادن السُّلْطَان وَأقَام وجد فِي الْقِتَال ثمَّ طلب المهادنة وَكَاتب الْملك الْعَادِل يسْأَله الدُّخُول عل السُّلْطَان فِي الصُّلْح فَلم يجب السُّلْطَان لذَلِك وأحضر السُّلْطَان الْأُمَرَاء وشاورهم وَقَالَ لَهُم نَحن بِحَمْد الله فِي قُوَّة وَقد ألفنا الْجِهَاد وَمَا لنا شغل إِلَّا الْعَدو وحرضهم على التثبيت والتصميم وحثهم على الْجِهَاد فَقَالُوا لَهُ رَأْيك سديد والتوفيق فِي كل مَا تُرِيدُ غير أَن الْبِلَاد تشعثت وَقلت الأقوات وَإِذا حصلت الْهُدْنَة فَفِي مدَّتهَا نستريح ونستعد للحرب وَالصَّوَاب الْقبُول عملا بقول الله عز وجل (وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا) وتعود الْبِلَاد إِلَى الْعِمَارَة واستيطان أَهلهَا وتكثر فِي مُدَّة الْهُدْنَة الْغلَّة وَإِذا عَادَتْ أَيَّام الْحَرْب عدنا وَمَا زَالُوا بالسلطان حَتَّى رضى وَأجَاب ثمَّ حصل الصُّلْح والمهدنة بَين السُّلْطَان وَبَين الإفرنج بشفاعة جمَاعَة من أَعْيَان جمَاعَة السُّلْطَان وَعقد الْهُدْنَة عَامَّة فِي الْبَحْر وَالْبر وَجعل مدَّتهَا ثَلَاث سِنِين وَثَمَانِية أشهر أَولهَا يَوْم الثُّلَاثَاء الْحَادِي وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة الْمُوَافق لأوّل أيلول وَحَسبُوا أَن وَقت الِانْقِضَاء يُوَافق وصولهم من الْبَحْر وَاسْتقر أَمر الْهُدْنَة وتحالفوا لذَلِك وَلم يحلف ملك الانكثير بل أخذُوا يَده وَعَاهَدُوهُ وأعتذر بِأَن الْمُلُوك لَا يحلفُونَ وقنع السُّلْطَان بذلك وَحلف الكندهرى أُخْته وخليفته فِي السَّاحِل وَحلف غَيره من عُظَمَاء الإفرنج وَوصل ابْن الهنفرى وماليان إِلَى خدمَة السُّلْطَان ومعهما جمَاعَة من المقدمين وَأخذُوا يَد السُّلْطَان على الصُّلْح واستحلفوا الْملك الْعدْل أَخا السُّلْطَان والملكين الْأَفْضَل وَالظَّاهِر ابْني السُّلْطَان
وَالْملك الْمَنْصُور صَاحب حماه مُحَمَّد بن تَقِيّ الدّين عَمْرو الْملك الْمُجَاهِد شير كوه صَاحب حصن حمص وَالْملك الأمجد بهْرَام شاه صَاحب بعلبك والأمير بدر الدّين ولدرم البارفي صَاحب تل بَاشر والأمير سَابق الدّين عُثْمَان ابْن الداية صَاحب سرمين والأمير سيفالدين عَليّ بن أَحْمد المشطوب وَغَيرهم من الْمُتَقَدِّمين الْكِبَار وَكَانَت الْهُدْنَة على أَن يسْتَقرّ بيد الإفرنج من يافا القيسارية إِلَى عكا إِلَى صور وَأَن تكون عسقلان خراباً وَاشْتِرَاط السُّلْطَان دُخُول بِلَاد الإسماعيلية فِي عقد هدنته وَاشْتِرَاط الإفرنج دُخُول إنطاكية وطرابلس فِي عقد هدنتهم وَأَن تكون لد والرملة مُنَاصَفَة بَينهم وَبَين الْمُسلمين فاستقرت المهادنة عل ذَلِك وَحضر الْعِمَاد الْكَاتِب لإنشاء عقد الْهُدْنَة وكتبها ونادى الْمُنَادِي بانتظام الصُّلْح وَأَن الْبِلَاد النَّصْرَانِيَّة والإسلامية وَاحِدَة فِي الْأَمْن والمسالمة فَمن شَاءَ من كل طَائِفَة يترددوا إِلَى بِلَاد الطَّائِفَة الْأُخْرَى من غير خوف وَلَا مَحْذُور وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً نَالَ الطائفتان فِيهِ من المسرة مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله تَعَالَى وَكَانَ ذَلِك مصلحَة فَيعلم الله تعال لِأَنَّهُ اتّفقت وَفَاة السُّلْطَان بعد الصُّلْح بِيَسِير فَلَو اتّفق ذَلِك فِي أثْنَاء وَفَاته الْإِسْلَام عل خطر (ذكر مَا جر بعد الصُّلْح) عَاد السُّلْطَان إِلَى الْقُدس واشتغل فِي إِكْمَال السُّور وَالْخَنْدَق وفسح للإفرنج كَاف فِي زِيَارَة قمامة فجاؤا وزاروا وَقَالُوا إِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِل عل هَذَا الْأَمر وَلَكِن ملك الانكثير أرسل للسُّلْطَان يسْأَله منع الإفرنج من الزِّيَارَة إِلَّا من وصل مَعَه كِتَابه أَو رَسُوله وَقصد بذلك ربوعهم إِلَى بِلَادهمْ بحسرة الزِّيَارَة ليشتد حنقهم على الْجِهَاد والقتال إِذا عَادوا فَاعْتَذر السُّلْطَان إِلَيْهِ بِوُقُوع الصُّلْح والهدنة وَقَالَ لَهُ أَنْت أول بردهمْ وردعهم فَإِنَّهُم إِذا جاؤا لزيارة كنيستهم مَا يَلِيق بنارهم
وَمرض ملك الانكثير وَركب الْبَحْر وأقلع وَسلم الْأَمر إل الكندهرى ابْن أُخْته من أمه وَهُوَ ابْن أُخْت ملك افرنسيس من أَبِيه وعزم السُّلْطَان على الْحَج وصمم عَلَيْهِ وَكتب إِلَى مصر واليمن بذلك فَمَا زَالَ الْجَمَاعَة بِهِ حَتَّى انثنى عزمه فشرع فِي تَرْتِيب قَاعِدَة الْقُدس فِي الْولَايَة والعمارة وَكَانَ الْوَالِي بالقدس حسام الدّين شاروخ وَهُوَ تركي وَفِيه دين وَخير وَكَانَ قد أحس السِّيرَة وفوض ولَايَة الْقُدس إِلَى عز الدّين جرد بك وَكَانَ أَمِيرا مُعْتَبرا شجعاً وَولى علم الدّين قنصو أَعمال الْخَلِيل وعسقلان وغزة والداروم وَمَا وَرَاءَهَا وَسَأَلَ الصُّوفِيَّة عَن أَحْوَالهم وَزَاد فِي أوقاف الْمدرسَة الصلاحية والخانقاه وَجعل الْكَنِيسَة الْمُجَاورَة لدار الاستبارية بِقرب قمامة بيمارستان للمرضى ووقف عَلَيْهِ مَوَاضِع وَوضع فِيهِ مَا يحْتَاج من الْأَدْوِيَة والعقاقير وفوض النّظر وَالْقَضَاء فِي هَذَا الْوَقْف إِلَى القَاضِي بهاء الدّين يُوسُف بن رَافع بن تَمِيم الْمَشْهُور بِابْن شَدَّاد لعلمه بكفاءته (رحيل السُّلْطَان إِلَى دمشق) وَخرج السُّلْطَان من الْقُدس ضحوة الْخَمِيس خَامِس شَوَّال وَنزل على نابلس ضحوة يَوْم الْجُمُعَة فَشك أَهلهَا على صَاحبهَا سيف الدّين عَليّ المشطوب إِنَّه ظلمهم فَأَقَامَ السُّلْطَان بهَا إِلَى ظهر يَوْم السبت حَتَّى كشف ظلا مُتَّهم ورحل بعد الظّهْر وَأصْبح على جبينين ثمَّ رَحل إِلَى بيسان ثمَّ إِلَى قلعة كَوْكَب ثمَّ سَار وَنزل بِظَاهِر طبرية ولقيه هُنَاكَ بهاء الدّين قراقوش وَقد أخرج مِمَّن الْأسر ثمَّ رَحل وَنزل بِقرب قلعة صفد تَحت الْجَبَل وَصعد السُّلْطَان إِلَيْهَا وَأمر بعمارتها ثمَّ سَار إِلَى أَن خيم عل مرج تبين وتفقد أحوالها وَأمر بِعَمَّار قلعتها ثمَّ سَار وَنزل على عين الذَّهَب ورحل وخيم بمرج عُيُون ثمَّ سَار وَعبر من عمل صيدا وَكلما نزل فِي مَكَان يدبر أمره ويرتب أَحْوَاله وَيَأْمُر بعمارته إِلَى أَن وصل بيروت فَتَلقاهُ وإليها عز الدّين أُسَامَة وَقدم للسُّلْطَان ولأركان دولته الْهَدَايَا والتحف النفيسة