المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

‌الفصل الثاني

بعث الدولة الأموية في الأندلس

موقف الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية. يوسف الفهري حاكم بأمره. مطاردة بني العباس لبني أمية. المذبحة الرائعة. من هو السفاح. نجاة عبد الرحمن بن معاوية. فراره وظروفه المؤثرة. تجوله في برقة وإفريقية. نجاته من قبضة عبد الرحمن بن حبيب. التجاؤه إلى المغرب الأقصى. إرساله لبدر مولاه إلى الأندلس. مفاوضة بدر الزعماء. سعي أبي عثمان وعبد الله بن خالد لتأييد عبد الرحمن. موقف الصميل بن حاتم. عبور عبد الرحمن إلى الأندلس. توجس يوسف الفهري واختلال جيشه. تقدم الدعوة الأموية. الزعماء المؤيدون لعبد الرحمن. عود يوسف والصميل إلى قرطبة. عرض يوسف على عبد الرحمن وكتابه إليه. رفض عبد الرحمن لهذا العرض. مبايعة ريه وشذونة وإشبيلية لعبد الرحمن. زحفه على قرطبة. خروج يوسف والصميل لملاقاته. لقاء الفريقين في موقعة المسارة. هزيمة يوسف والصميل. دخول عبد الرحمن قرطبة ومبايعته بالإمارة. الموقف بعد المسارة. مهمة عبد الرحمن الفادحة. معركة الدولة والإمارات المستقلة. الأخطار التي تحيق بالأندلس. الكفاح المستمر.

بينما كانت حوادث هذا الانقلاب الحاسم في مصاير الإسلام تجري في المشرق، كانت حوادث الأندلس تؤذن بانقلاب عظيم آخر في مصاير الإسلام في ذلك القطر النائي. وكانت الفتن والحروب الأهلية المتعاقبة التي فصلنا أخبارها، تدفع بالأندلس إلى مصير مجهول تخشى عواقبه، وتعصف تباعا بمنعة الإسلام في الغرب، وتشجع الفرنج ونصارى الشمال على اقتطاع الأطراف النائية، والتوغل في الأراضي الإسلامية. وكان من عناية القدر أن تولي أمر الأندلس في ذلك المأزق العصيب، رجل قوي حازم هو يوسف بن عبد الرحمن الفهري. ولكن ولاية يوسف لم تكن حلا نهائياً للأزمة، لأنه تولى دون مصادقة شرعية من السلطة العليا، ولأن منافسيه من الزعماء والخوارج لم يقروا بولايته، ولم يخلدوا إلى السكينة، وأخيراً لأن السلطة العليا التي يرجع إليها أمر الأندلس، ونعني خلافة دمشق قد انهارت غير بعيد، وقامت على أنقاضها دولة وخلافة جديدتان. والحقيقة أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري كان حاكماً بأمره في الأندلس. وكانت الأندلس في ذلك الحين إمارة أو دولة مستقلة، يتوقف مصيرها ومصير السلطات فيها على سير الظروف والحوادث. وكان للانقلاب الذي وقع في المشرق صداه

ص: 147

في الأندلس، إذ قام بعض الخوارج على يوسف يدعو لبني العباس، طمعاً في الرياسة على نحو ما بينا، ولكنه كان صدى ضعيفاً لم يحدث أثره، واستمر يوسف ثابتاً في مركزه، يناهض الخارجين عليه بقوة وعزم. ولاريب أنه كان يحرص على ذلك السلطان الذي ألقى إليه به القدر، بل لعله كان يعمل لغاية أتم وأبعد، هي أن يؤسس بالأندلس مملكة مستقلة قوية، يتبوأ عرشها، وأسرة ملوكية جديدة من بنيه وعقبه، يلقى إليها بهذا التراث الباذخ.

على أن حوادث المشرق كانت تتمخض عن عوامل ومفاجآت أخرى. ذلك أن بني العباس بعد أن ظفروا بملك بني أمية ومزقوا شمل أسرتهم، أخذوا في تتبع من بقي من أمرائهم وزعمائهم، حتى لا تقوم لفلهم قائمة بعد. وعهد أبو العباس عبد الله " السفاح "، إلى عمه عبد الله بن علي وهو بالشام، تنظيم هذه المطاردة الدموية (1). فتتبع وجوه بني أمية ومواليهم في كل مكان، وأمعن في مطاردتهم وسفك دمائهم، وقتل منهم جماعة كبيرة من الأمراء والسادة، ولم يبق حتى على النساء والأطفال، ولما شعر أن كثيرين منهم فروا ولاذوا بالاختفاء، زعم أن أبا العباس قد ندم على ما فرط منه في حقهم، وأنه يشملهم بعفوه وأمانه، فخدع كثيرون منهم بهذا الوعد، ولبوا دعوة عبد الله إلى الظهور، واستطاع بهذه الوسيلة أن يقتل منهم نحو سبعين رجلا آخر. وكانت مأساة هائلة ارتكبت خلالها ضروب مروعة من القسوة، ومثل بكثير من الضحايا أشنع تمثيل، وألقيت جثثهم للكلاب، واستخرجت رفات الخلفاء الأمويين من مثواها وبددت، ولم تترك جريمة مثيرة، أو لون من العقاب أو المهانة، إلا كان فلُّ بني أمية لها فرائس وضحايا (2).

وهنا يسوغ لنا أن نتساءل، من هو " السفاح "؟ أهو أبو العباس عبد الله ابن محمد أول خلفاء بني العباس؟ أم هو عمه عبد الله بن علي؟ هذا ما تختلف

(1) وقد أشار أحد الشعراء من دعاة بني العباس وهو سديف بن ميمون إلى هذه المطاردة في شعر أنشده بين يدي أبى العباس وفيه يقول:

لا يغرنك ما ترى من رجال

إن تحت الضلوع داء دويا

فضع السيف وارفع السوط حتى

لا ترى فوق ظهرها أمويا

(2)

راجع طرفا من فظائع هذه المطاردة في ابن خلدون ج 3 ص 132 و133؛ وابن الأثير ج 1 ص 161.

ص: 148

الرواية الإسلامية في شأنه. ويتفق معظم المؤرخين المسلمين، مثل الطبري، وابن الأثير، وابن خلكان، وابن خلدون (1) على أن " السفاح " إنما هو لقب أبى العباس عبد الله بن محمد أول الخلفاء العباسيين. ويذكر لنا الطبري وابن الأثير كيف أن أبا العباس، هو الذي أطلق على نفسه هذا اللقب حينما ألقى خطابه الأول بمسجد الكوفة على أثر مبايعته بالخلافة، إذ قال للناس في ختام خطابه -:"فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثائر المنيح "(2). ولكن هناك روايات أخرى ومنها رواية قديمة هي رواية صاحب " أخبار مجموعة في فتح الأندلس " تذكر لنا أن لقب "السفاح " لم يطلق على أبي العباس ولكنه أطلق على عمه عبد الله بن علي (3). ولهذه الرواية ظاهر من الوجاهة فيما ارتكبه عبد الله بن علي من الفتك الذريع ببنى أمية، وتتبعهم بالقتل في سائر الأنحاء دون هوادة. ولكن من الذي يحمل في الواقع تبعة هذه المطاردة الدموية المروعة؟ إن الذي أوصى بمطاردة بني أمية والفتك بهم هو أبوالعباس ذاته، وهو أول من اجتنى ثمار الجريمة، وتلقى تراث القتلى، ولم يكن عمه عبد الله بن علي سوى منفذ لإرادته وأمره، وعلى ذلك فهو أحق بأن يحمل ذلك اللقب الذي يتفق مع تبعاته ونتائج لسياسته، وهو لقب يخصه به جمهرة من الثقاة المؤرخين.

ولكن هذه المطاردة الدموية الشاملة لم تجتث الشجرة من أصلها، وشاء القدر أن تفلت بعض فروعها من يد الجناة، وأن تزكو لتستعيد أصلها الراسخ في أرض أخرى. وكان ممن نجا من المذبحة الهائلة فتى من ولد هشام بن عبد الملك هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام. وكان وقت أن حلت النكبة بأسرته يقيم مع أهله وأخوته، في قرية تعرف بدير خنان من أعمال قنسرين، وفيها كان مولده قبل ذلك بنحو عشرين عاماً سنة 113 من الهجرة (731 م)؛ وقيل بل كان مولده بالعليا من أعمال تدمير. وتوفي أبوه معاوية شاباً في أيام أبيه هشام بن

(1) راجع الطبري ج 9 ص 123؛ وابن خلكان في الوفيات ج 1 ص 354؛ وابن الأثير ج 5 ص 145 و155، وابن خلدون ج 3 ص 128 و131 و173.

(2)

الطبري ج 9 ص 132؛ وابن الأثير ج 5 ص 155.

(3)

راجع " أخبار مجموعة في فتح الأندلس " ص 48؛ وراجع أيضا كتاب الإمامة والسياسة ج 2 ص 148.

ص: 149

عبد الملك في سنة 118 هـ، فكفله وأخوته جدهم هشام (1). ولما انهار صرح الخلافة الأموية، وأمعن الظافر في مطاردة بني أمية، فر عبد الرحمن بأهله وولده إلى ناحية الفرات، وحل هناك ببعض القرى واختفى بها حيناً يدبر أمره، ولكن جند المسوّدة ما لبثت أن حلت بتلك الجهة تستقصي آثار بني أمية، فبادر عبد الرحمن بالفرار. وتنقل إلينا الرواية على لسانه قصة مؤثرة عن حوادث فراره، وتصف لنا كيف أدركته خيل المطاردين على ضفة النهر مع أخيه الصبي، فوثبا إلى النهر واستطاع عبد الرحمن أن يقطعه سباحة إلى الضفة الأخرى، ولكن الغلام عجز عن قطعه وعاد إلى الضفة الأولى، حيث وعده المطاردون بالأمان، ولكنه ما كاد يقع في أيديهم حتى انقضوا عليه وقطعوا رأسه أمام عينى أخيه، وقلبه يتفطر روعة وأسى (2). ولما أن أمن عبد الرحمن خطر مطارديه، سار مختفياً إلى الجنوب، قاصداً إلى المغرب. وتقول لنا الرواية أيضا، إن المغرب كان مقصده منذ الساعة الأولى، وإن نفسه كانت تحدثه بما سيكون له في الأندلس من شأن، وإن بني أمية كانوا قبل مصرعهم، يهجسون بمثل هذه النبوءة ويرددونها (3).

واخترق عبد الرحمن فلسطين ومصر، ولحق به مولياه بدر وسالم، أنفذتهما إليه أخته أم الأصبغ بشىء من المال والجوهر، تم جاز إلى برقة والتجأ إلى أخواله بنى نفزة، وهم من برابرة طرابلس، وكانت أمه بربرية منهم تدعى راح، وأقام لديهم طويلا يرقب الفرص. والظاهر أن محاولة الاستيلاء على إفريقية لم تكن بعيدة عن ذلك الذهن الجرىء المغامر، وقد كانت إفريقية في الواقع منذ ربع قرن مطمح الخوارج والمتغلبين. وكان عبد الرحمن بن حبيب الفهري قد انتزعها لنفسه في سنة 127 هـ، ولما دالت دولة بني أمية دعا لبني العباس كما قدمنا، ولكن الفتى الأموي لم يجد على ما يظهر أية فرصة للعمل في هذا السبيل. وكان عبد الرحمن ابن حبيب يخشى على سلطانه من ظهور بني أمية في إفريقية، فطارد اللاجئين إليها منهم، وقتل ولدين للوليد بن يزيد بن عبد الملك، واعتقل آخرين وصادر أموالهم.

(1) نفح الطيب ج 1 ص 156.

(2)

أورد هذه الرواية صاحب أخبار مجموعة (ص 51 - 53). وكذلك أوردها ابن حيان مؤرخ الأندلس ونقلها المقري (نفح الطيب ج 2 ص 62 و63).

(3)

أخبار مجموعة ص 51؛ نفح الطيب ج 2 ص 62؛ والبيان المغرب ج 2 ص 43، وابن خلدون ج 4 ص 121.

ص: 150

ولما شعر بظهور عبد الرحمن الأموي حاول القبض عليه، ولكن عبد الرحمن استطاع أن يتجنب المطاردة، وفر مع صحبه إلى المغرب الأقصى، وتجول حيناً في تلك الأنحاء، ولقي كثيراً من الصعاب والخطوب، وكان يرى الموت والأسر ينذرانه في كل خطوة. وأقام حيناً متخفياً عند شيخ من شيوخ البربر يدعى وانسوس، كانت له فيما بعد لديه حظوة، ثم نزل عند قوم من زناتة على شاطىء البحر، ولحق حينا بمليلة وغيرها، وكان أثناء تجواله يدرس أحوال الأندلس وأخبارها، ويرقب فرص العبور إليها.

وفي أواخر سنة 136 هـ (753 م) لاحت له فرصة العمل، وقوي أمله ما علمه من اشتداد الخلاف بين المضرية واليمنية، فبعث بدراً مولاه إلى الأندلس ليسبر غور شئونها، وليحاول بث دعوته بين أنصار بني أمية وأهل الشام، فنزل بدر بساحل إلبيرة (كورة غرناطة) وكانت منزل جند الشام كما أسلفنا، وفيها تجتمع عصبة بني أمية. وكانت رياسة الأمويين (أو المروانية) والشاميين يومئذ لزعيمين من موالي بني أمية، هما أبو عثمان عبيد الله بن عثمان وصهره عبد الله ابن خالد. فاجتمع بدر بأبى عثمان وأبلغه رسالة عبد الرحمن، وناشده العمل لنصرته، وبث دعوته بين أصدقائه وشيعته، ولاسيما بين اليمنية، وهم خصوم يوسف الفهري ومنافسوه (1). فاستجاب أبو عثمان لهذه الدعوة، وكانت بينه وبين الصميل مودة وصداقة، ففكر في التماس عونه في ذلك المشروع، وسار إليه مع عبد الله بن خالد في طليطلة، وكان الصميل قد ارتد إليها منهزماً عن سرقسطة وفي نفسه مرارة من يوسف لأنه قصر في غوثه وإنجاده، ففاوضاه في أمر عبد الرحمن وطلبا منه العون والتأييد. ولكن الصميل أبدى تردداً وفتوراً، واقترح أن يتزوج عبد الرحمن من ابنة يوسف، وأن ينزل آمناً في ظله، ثم صرفهما ببعض الوعود الغامضة (2). وكان الصميل يحرص في الواقع على أن تبقى السلطة ليوسف،

(1) يروي لنا ابن حيان قصة اتصال بدر باليمانيين على النحو الآتي: قال لهم، ما رأيكم في رجل من أهل الخلافة يطلب الدولة بكم، فيقيم أودكم، ويدرككم آمالكم؛ فقالوا: ومن لنا به في هذه الديار. فقال بدر: ما أدناه منكم، وأنا الكفيل به. ثم ذكر لهم خبر عبد الرحمن ومكان وجوده، وأنه يقدم نفسه إليهم، فقالوا: فجىء به أهلا، إنا سراع إلى طاعته، وأرسلوا بدرا بكتبهم يستدعونه (راجع الإحاطة لابن الخطيب (1956) ج 1 ص 453).

(2)

البيان المغرب ج 2 ص 45؛ ونفح الطيب ج 2 ص 64؛ وابن القوطية ص 23.

ص: 151

لأنه مستأثر في ظله بالنفوذ والسلطان، ويشاركه في تدبير الأمر وحكم الأندلس، فعاد أبو عثمان وزميله إلى إلبيرة ونشطا إلى بث الدعوة فيها، وحث اليمنية على القيام للأخذ بالثأر، وبثا عمالهما في أنحاء الأندلس يدعون إلى تأييد عبد الرحمن الأموي. وعاد بدر إلى عبد الرحمن على مركب خاصة جهزها أبو عثمان ومعه عدة من أنصار الأموية، وأفضى إليه بنتائج رحلته، فاستبشر عبد الرحمن، وعبر البحر معهم إلى الأندلس، ونزل بساحل إلبيرة في ثغر المُنكَّب Almunecar (1) ، وذلك في ربيع الآخر سنة 138هـ (سبتمبر سنة 755 م)، فاستقبله أبو عثمان وأنزله بمقامه في طرُّش Torrox، وهي قرية تقع غربي المنكب على مقربة من البحر، فاستقر بها ينظم دعوته ويدبر خططه (2).

وكان يوسف بن عبد الرحمن الفهري أثناء ذلك في الشمال يعسكر بجيشه تحت أسوار سرقسطة، وقد استعصم بها عامر العبدري والحباب الزهري. فلما تم له الأمر بالاستيلاء على سرقسطة والقبض على الزعيمين الثائرين وإعدامهما علي نحو ما فصلنا، ارتد بجيشه صوب طليطلة. وبينا هو في الطريق على مقربة منها، إذ أتاه رسول أوفده على جناح السرعة ولده عبد الرحمن بن يوسف، الذي استخلفه على قرطبة، ومعه كتاب ينبؤه فيه بمقدم عبد الرحمن الأموي، وانتشار دعوته في جنوب الأندلس، فذعر يوسف، وذاع النبأ في الجيش، فسرى إليه الخلل، وتسللت العناصر الناقمة، ولم يبق منه سوى فلول يسيرة. فهرول يوسف في بقية جنده إلى طليطلة، ليبحث مع الصميل في خير الوسائل لرد هذا الخطر. وكانت الدعوة الأموية في ذلك الحين قد اجتاحت جنوبي الأندلس، والتف حول عبد الرحمن عدة من زعماء القبائل والجند، منهم تمام بن علقمة اللخمي (3)، وقد أخذ له بيعة جند فلسطين، ويوسف وبن بخت وقد أخذ له بيعة جند الأردن، وجدار بن عمرو المذحجي من زعماء ريُّه، وحسان بن مالك الكلبي من زعماء

(1) وما تزال المنكب كما كانت ثغرا من ثغور الأندلس الجنوبية. وهي مدينة كبيرة بيضاء تقع على خليجين متجاورين كقوسين في البحر، وتحميها الجبال من الخلف. وربما كان موقعها الحصين من البر والبحر، هو الذي حدا بعبد الرحمن إلى اختيارها للنزول في شاطىء الأندلس. فضلا عن قربها لمركز دعوته.

(2)

البيان المغرب ج 2 ص 46؛ ونفح الطيب ج 2 ص 65؛ وأخبار مجموعة ص 76.

(3)

لعله أخ لعبد الرحمن بن علقمة اللخمي والي أربونة، المعروف بفارس الأندلس الذي فصلنا أخباره فيما تقدم.

ص: 152

إشبيلية، وحشد أبو عثمان وعبد الله بن خالد حوله جموعاً كبيرة من الأموية وأهل الشام. وعاد يوسف والصميل إلى قرطبة ليدبروا الأمر معاً، وأشار الصميل على يوسف بمصانعة عبد الرحمن وملاطفته وإغرائه بمصاهرته، فأرسل إليه يوسف وهو ما يزال بطرُّش وفداً يعرض عليه أن يزوجه ابنته، ويقطعه كورة إلبيرة (غرناطة) أو كورة ريه أو يقطعه ما بينهما، وبعث إليه هدية وشيئاً من المال، وكتاباً طويلا يرغبه فيه بمحالفته. وينقل إلينا منه صاحب البيان المغرب هذه الفقرة: " أما بعد فقد انتهى إلينا نزولك بساحل المنكب، وتأبش من تأبش إليك، ونزع نحوك من السراق وأهل الختر والغدر، ونقض الأيمان المؤكدة التي كذبوا الله فيها وكذبونا، وبه جل وعلا نستعين عليهم. ولقد كانوا معنا في ذرى كنف ورفاهية عيش، حتى غمضوا ذلك، واستبدلوا بالأمن خوفا، وجنحوا إلى النقض، والله من ورائهم محيط. فإن كنت تريد المال وسعة الجناب. فأنا أولى بك ممن لجأت إليه، أكنفك وأصل رحمك، وأنزلك معي إن أردت أو بحيث تريد، ثم لك عهد الله وذمته بي، ألا أغدرك ولا أمكن منك ابن عمي صاحب إفريقية ولا غيره

". ولكن عبد الرحمن لم يخدع بوعود يوسف وعهده، فأبى عرضه ورد رسله، وكان يسمو بأطماعه إلى أبعد من ذلك وأرفع، وكان سلطان الأندلس كلها مطمح آماله (1). وكان قد آنس عندئذ ذيوع دعوته وقوة أنصاره، فسار في صحبه من طرّش إلى ريُّه، فبايعه عاملها عيسى بن مساور، ثم إلى شذونة فبايعه عاملها علقمة بن غياث اللخمي، ثم إلى إشبيليه، فبايعه كبيرها أبو الصباح بن يحيى اليحصبي زعيم اليمنية، وانضم إليه أثناء تجواله كثير من الأنصار والجند، واجتمع له في إشبيلية زهاء ثلاثة آلاف فارس، وذاعت دعوته في غربي الأندلس كله، وأقبلت إليه المتطوعة من كل صوب، من المضرية واليمنية وأهل الشام. ولما رأى أنه يستطيع البدء بمناجزة يوسف سار في قواته صوب قرطبة، وكان ذلك في فاتحة ذى الحجة سنة 138 هـ (أوائل سنة 756 م). وفي ذلك الحين كان يوسف والصميل قد حشدا جموعهما، ومعظمها من الفهرية والقيسية، وكان جند يوسف قد وهن، وتفرق معظمه خلال الفتن والغزوات المتوالية، وجاءت دعوة عبد الرحمن الأموي فزادته تفرقاً وضعفاً.

(1) البيان المغرب ج 2 ص 47؛ وأخبار مجموعة ص 79 و80.

ص: 153

وخرج يوسف بقواته إلى المسارّة في ظاهر قرطبة من الغرب، على ضفة نهر الوادي الكبير، وكان عبد الرحمن قد أشرف بجيشه على ضفة النهر الجنوبية، في قرية مقابلة تسمى " بلَّة نوبة "(فليا نويفا Villanueva)(1) . وفرق النهر بين الجيشين مدى أيام ثلاثة، وفي اليوم الرابع وهو يوم الخميس تاسع ذى الحجة، هبط ماء النهر وانحسر في بعض المواضع، فتأهب الفريقان للحرب، ولم تنجح محاولة يوسف في سبيل عقد الصلح، وصمم عبد الرحمن على القتال في اليوم التالي أعني يوم الجمعة، وكان يوم الأضحى، متيمنا في ذلك بذكرى موقعة مرج راهط الشهيرة، التي انتصر فيها جده مروان بن الحكم، على قوات عبد الله ابن الزبير، التي يقودها الضحاك بن قيس الفهري، وذلك في يوم الأضحى - وقد كان الجمعة أيضاً - سنة 64 هـ. وفي اليوم التالي دفع عبد الرحمن قواته لاقتحام النهر، وكان أول من اقتحمه منهم جند بني أمية، وكان يوسف يتفوق على خصومه بكثرة فرسانه، ولكن التفرق كان يسود جنده، وكانت جموع عبد الرحمن تضطرم على قلتها عزماً وحماسة، فنشبت بين الفريقين معركة عنيفة ولكن قصيرة، فلم يأت الضحى حتى مزقت خيل يوسف، وهزم جيشه هزيمة شديدة، ونهبت أسلابه، وقتل كثير من وجوه القيسية والفهرية (2). وفر يوسف صوب طليطلة، حيث كان ولده عبد الرحمن، وفر الصميل صوب جيان. ودخل عبد الرحمن الأموي وصحبه قرطبة دون معارضة، وحمل جنده ما استطاع على الاعتدال والقناعة، وحمى أسر خصومه وحريمهم وأموالهم من العيث، وصلى الجمعة في الجامع، ثم نزل بالقصر، وبويع في الحال بالإمارة، وذلك في العاشر من ذى الحجة سنة 138هـ (13 مايو سنة 756 م)(3).

كان يوم المسارّة بالنسبة لعبد الرحمن فاتحة الظفر لا غايته، فقد استطاع بعد أحداث وخطوب جمة أن يجوز إلى الأندلس، وأن يفتتح عاصمتها، وأن ينتزع إمارتها لنفسه، ولكنه ظفر بعرش لم يتوطد سلطانه بعد. وكان ثمة بينه وبين مُلْك

(1) ابن القوطية ص 26.

(2)

ويبالغ البعض في تقدير عدد القتلى فيقدره بسبعين ألفا (ابن القوطية ص 27).

(3)

يفرد صاحب أخبار مجموعة فصلا مسهبا لهذه الموقعة، وكيفية تقسيم الجيشين المتحاربين وأسماء القادة في كل منها (ص 86 - 90). وراجع أيضا ابن القوطية ص 26 - 28؛ ونفح الطيب ج 2 ص 65 و66؛ والبيان المغرب ج 2 ص 48 و49.

ص: 154

الأندلس الحقيقي مراحل بعيدة، وكان ملك الأندلس قد غدا منذ انحلال الخلافة الأموية، كما رأينا، نهباً مشاعاً يتنازعه الزعماء والمتغلبون، وكانت الفتن المتوالية قد عصفت بالسلطة العليا، واقتصت من أطرافها، واستقل الزعماء الأقوياء بكثير من النواحي، وقضى يوسف الفهري معظم ولايته في إخماد الفتنة، واستخلاص الرياسة، ولكنه لم يوفق إلى إخماد كل عناصر النزاع والخروج. فلما ظهر الفتى الأموي في الميدان، كان صرح الأندلس يهتز فوق دعائمه الواهنة، وكان توطيده يتطلب كثيراً من العزم والعمل القوي.

وكان يوم المسارّة حاسما في مصاير الأندلس، وكان فاتحة عهد جديد في تاريخها. ولكن المهمة كانت فادحة، والمعركة شاقة مشعبة النواحي. وكما أن يوم المسارة كان فاتحة الظفر، فقد كان فاتحة الكفاح أيضا. ذلك أن الأندلس كانت يومئذ بسيطاً من الفتن المتأججة، وكانت الثورة تجثم في كل ناحية، وانحلت عري العصبية القديمة الشاملة، وانتثرت فرقا وشيعا صغيرة، فلم تبق الخصومة قاصرة على المضرية واليمنية فقط، ولكن غدت كل قبيلة وكل بطن تلتف حول زعامتها ومصالحها الخاصة. وكانت هذه القوى المنتثرة المستقلة برأيها وهواها، تتمسك باستقلالها المحلي، وتأبى الخضوع لأية سلطة عامة. وكان عبد الرحمن يرمي إلى إحياء دولة الإسلام في الأندلس موحدة متماسكة، كما كانت قبل أن تمزقها الحرب الأهلية، فكانت المعركة في الواقع معركة الدولة والإمارات المستقلة، ومعركة السلطة المركزية والإقطاع المحلي: معركة الرياسة الشاملة، والعصبية المتناثرة. وكان البربر عنصراً قوياً في الفتنة، يحتفظون دائماً ببغضهم القديم للعرب، ويحرصون على ما انتزعوه منهم خلال الفتنة من النواحي والضياع. ثم كان هنالك ما هو أشد خطراً على دولة الإسلام في الأندلس، ونعني اسبانيا النصرانية التي استطاعت أن تخرج سراعاً من غمر الهزيمة والفوضى، وأن تنتظم إلى مملكة جديدة في الشمال، وكذلك مملكة الفرنج القوية التي استطاعت أثناء الفتنة أن تنتزع الأراضي الإسلامية فيما وراء البرنيه. وكان نصارى الشمال والفرنج يتربصون يومئذ بالأندلس، ويرون في تفرقها وضعفها فرصة صالحة للعمل، ويتصلون بكثير من الزعماء والخوارج، ويمدونهم بالنصح والعون، ويتخذونهم وسائل لتحقيق مشاريعهم في تمزيق الأندلس وانتزاع أطرافها.

ص: 155

كان عبد الرحمن غداة ظفره الأول، يواجه هذه الخطوب والأخطار كلها، وكان عليه أن يقارعها جميعاً، لكي يغنم رياسة الأندلس القوية المتحدة. ولكن ذلك الأمير الفتى الذي لم يكن يجاوز السادسة والعشرين يوم ظفره، كان رجل الموقف، قد شحذت من عزمه الخطوب والمحن، وأعدته لحياة النضال والمغامرة. فقضى بقية عمره - اثنين وثلاثين عاما - في كفاح مستمر، لا ينتهي من معركة إلا ليخوض أخرى، ولا يقمع ثورة إلا تليها ثورة، ولا يسحق خارجاً إلا ليعقبه خارج، ولم تبق بالأندلس ناحية أو مدينة إلا ثارت عليه، ولا قبيلة إلا نازعته في الرياسة، ولم تبق قوة خفية أو ظاهرة إلا عملت لسحقه. فكانت الأندلس طوال عهده بركاناً يتأجج بضرام الحرب والثورة والمؤامرة. ولكنه صمد لتلك الخطوب كلها، واستطاع بكثير من الذكاء والإقدام والعزم والجلد، أن يغالب تلك الأخطار والقوى، وأن يقبض على مصاير الأندلس بيده القوية، وأن يحيى سلطان أسرته المندثر، في ذلك القطر النائي، ليستقر ويزدهر أكثر من قرنين. وكان تفرق خصومه أهم عامل في ظفره، فلم تك ثمة زعامة شاملة بعد يوسف والصميل، يجتمع الخصوم حولها، وكانت القوى الخصيمة منتثرة في النواحي والمدن، تعمل كل بمفردها حول زعيمها المحلي، وكانت فوق ذلك يعارض بعضها بعضاً في معظم الأحيان، وقد استطاع عبد الرحمن أن يقدر هذا الظرف وأن يستغله، فعمد إلى لقاء معارضيه في الميدان فرادى، واستطاع أن يخمد ثوراتهم، وأن يحطم قواهم بالتعاقب، وهو في كل مرة يزداد قوة ومنعة، ويزداد خصومه ضعفاً وتفرقاً، حتى قضى عليهم جميعاً.

ص: 156