المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيدولة بني حمود - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثانيدولة بني حمود

‌الفصل الثاني

دولة بني حمُّود

ظهور البربر في الميدان. علي والقاسم ابنا حمود. بنو حمود ونسبتهم. ولاية الثغور بين البربر والفتيان العامريين. استيلاء البربر على قرطبة باسم سليمان. خيران العامرى ينتزع ألمرية ويدعو للمؤيد. علي بن حمود يزعم أنه تلقى ولاية العهد من هشام. تحالفه مع خيران وعبوره إلى الجزيرة. مسير القوات المتحالفة إلى قرطبة. القتال بينها وبين البربر. هزيمة البربر وسليمان. علي بن حمود يدخل القصر. اشتداده في معاملة البربر. خيران يخرج عليه ويدعو لعبد الرحمن المرتضى. انضمام الثغور الشرقية وسرقسطة لهذه الدعوة. القتال بين المرتضى وصنهاجة. انتصار البربر ومقتل المرتضى. اضطهاد علي لأهل قرطبة. مصرعه. أخوه القاسم يخلفه. جنوحه إلى سياسة اللين والتفاهم. غلبة البربر عليه. خروج يحيى بن علي واستيلاؤه على الخلافة. التجاء القاسم إلى إشبيلية. خلع المعتلي وعود القاسم. اصطفاؤه للبربر. سخط أهل قرطبة. محاربتهم وهزيمتهم للبربر. مسير القاسم إلى إشبيلية ثم إلى شريش. يحيى المعتلي يطارده ويأسره. إستقرار المعتلي في الثغور الجنوبية. رد الأمر لبني أمية. خلافة عبد الرحمن المستظهر. وصف ابن حيان لبلاطه. عطفه على البربر. فتك القرطبيين بهم. فرار المستظهر ومصرعه. خلافة المستكفي. إضطهاده للزعماء. خلعه وفراره. يحيى بن حمود يحتل قرطبة. فتك القرطبيين بالحامية البربرية. رد الأمر لبني أمية. بيعة هشام المعتد بالله. وزيره حكم بن سعيد. سوء مسلكه ومصرعه. خلع هشام ومصيره. الإجماع على إبطال الخلافة والتخلص من بني أمية. استيلاء يحيى المعتلي على قرمونة. الحرب بينه وبين ابن عباد. هزيمة يحيى ومصرعه. خلافة إدريس المتأيد بالله. غزو إدريس وحلفائه لأحواز إشبيلية. الحرب بين زهير العامري وباديس أمير غرناطة. مصرع زهير. الحرب بين ابن عباد والبربر. هزيمة ابن عباد ومقتل ولده إسماعيل. وفاة إدريس وخلافة ولده يحيى. خروج حسن بن يحيى ومبايعته بالخلافة. مقتل الوزير ابن بقنه. مصرع حسن. محاولة الحاجب نجا ومصرعه. خلافة إدريس العالي. الثورة عليه وخلعه. خلافة محمد بن إدريس المهدي. طغيانه والسخط عليه. مصرعه. خلافة إدريس السامي. عودة إدريس العالي. خلافة المستعلي. إستيلاء باديس على مالقة. حكومة بني القاسم بن حمود بالجزيرة. إستيلاء ابن عباد على الجزيرة. إنقراض دولة بني حمود. تفكك الأندلس وانقسامها.

لما قضي على دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى أيام الحكم المستنصر، ثم بعد ذلك أيام المنصور بن أبي عامر، وأصبح المغرب ولاية أندلسية تخضع لحكومة قرطبة، تفرق كثير من زعمائه في مختلف الجهات، ولاذوا بالاختفاء، بعيداً عن بطش السلطة الجديدة، وأخذوا يرقبون الفرص لاستعادة سلطانهم؛ وهاجر

ص: 656

عدد كبير منهم إلى الأندلس، من البربر والمغاربة، وانضووا تحت لواء الدولة العامرية في أواخر عهدها، وعاونوا في توطيد سلطانها وتدعيم جيشها.

ولما انهارت الدولة العامرية، وعم الاضطراب والفوضى في قرطبة، ظهر البربر طرفاً بارزاً من أطراف المعركة، التي اضطرمت حول السلطان والخلافة؛ ولما نجح بنو أمية في تحقيق ضربتهم الأولى على يد محمد بن هشام المهدي، انحاز البربر للفريق المعارض، لما نالهم من مطاردته واضطهاده، وكانت الخصومة تضطرم في الواقع منذ بعيد بين الأمويين والبربر، لاعتقاد الأمويين أن البربر كانوا أكبر عضد للمنصور، في اغتصاب السلطة والقضاء على سلطان بني أمية. ولما فشل البربر في محاولتهم الأولى للقضاء على رياسة المهدي، التفوا حول خصيمه سليمان المستعين، ليكون مرشحهم الشرعي، ووسيلتهم إلى انتزاع السلطة، وانتهى الصراع بين الفريقين، آخر الأمر بانتصار البربر، واستيلاء مرشحهم سليمان على الخلافة، وحصولهم على نصيبهم من أسلاب السلطة،، بتولي رياسة الولايات والثغور الجنوبية.

وكان من بين الزعماء المغاربة، الذين قادوا جموع البربر في معركة قرطبة المظفرة، رجلان من عقب الأدارسة، هما علي والقاسم ابنا حمُّود بن ميمون ابن حمود. ونحن نعرف أن الأدارسة يرجعون نسبتهم إلى الحسن بن علي بن أبى طالب؛ وإذاً، فقد كان علي والقاسم، وفقاً لهذا القول، علويين من سلالة آل البيت. وهذا ما يقوله العلامة النسابة ابن حزم، إذ يرجع نسبة علي والقاسم، إلى إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي (1)، ويقوله أيضاً عبد الواحد المراكشي وابن عذارى، وابن الخطيب (2).

بيد أنه بالرغم من هذه النسبة العلوية، وهذه الأرومة العربية العريقة، التي ينتحلها بنو حمود، فإنهم، إذا تركنا مسألة النسبة والسلالة جانباً، كانوا ينتمون في الواقع من حيث النشأة والعصبية والمصير، إلى البربر، وكان الطابع البربري غالباً عليهم، حتى أنهم لم يكونوا يتكلمون العربية، وإنما كانوا يتكلمون باللهجة البربرية، وقد أشار ابن الخطيب إلى ذلك في حديثه عن علي بن حمود (3).

(1) راجع جمهرة أنساب العرب (القاهرة) ص 43 و44.

(2)

المراكشي في المعجب ص 24؛ وابن عذارى في البيان المغرب ج 3 ص 119؛ وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 128.

(3)

أعمال الأعلام ص 121.

ص: 657

وقد رأينا أن سليمان المستعين حينما استرد الخلافة، عقب انتصار البربر على أهل قرطبة، خص علياً والقاسم، بولاية الثغور المغربية، وندب علياً لحكم سبتة، وندب القاسم لحكم الجزيرة الخضراء وطنجة وأصيلا، وذلك في أوائل سنة 404 هـ (1013 م).

وفي الوقت الذي استولى فيه البربر، على الولايات والثغور الجنوبية، كان الفتيان العامريون، منذ اضطرام الفتنة، قد استقروا بشرقي الأندلس، واستولى كثير منهم على الثغور الشرقية، وفي مقدمتهم مجاهد الذي استولى على دانية والجزائر الشرقية فيما بعد، وخيران، الذي استولى على ألمرية ومرسية. وكان خيران حينما استولى محمد بن هشام المهدي على الخلافة للمرة الثانية، بمؤازرة واضح والجند النصارى، وتولى واضح منصب حجابته، قد عاد إلى قرطبة مع نفر من الفتيان العامريين، وانضموا إلى واضح، ثم اشتركوا معه في تدبير اغتيال المهدي، وإعادة هشام المؤيد إلى كرسي الخلافة حسبما تقدم. وكان أولئك الفتيان يعتبرون هشاماً إمام دولتهم بعد ذهاب المنصور. فلما قتل واضح واستولى البربر على قرطبة، وانتزع سليمان المستعين الخلافة من هشام المؤيد، غادر خيران ومعه عدة كبيرة من الفتيان قرطبة، اتقاء بطش البربر، وسار إلى شرقي الأندلس، وانضم إليه حال سيره كثير من الناقمين من بني أمية وغيرهم، ثم زحف على ألمرية، وكانت بيد أفلح الصقلبي، فانتزعها منه، واستولى على كثير من الأماكن المجاورة، واشتد بأسه في تلك الناحية، ودعا لهشام المؤيد.

وكان تمزق الأندلس على تلك الصورة، وانتثار السلطة، بين الأمويين والبربر، والفتيان العامريين، مما يفسح المجال لأطماع الطامعين والمتغلبين، وكانت تلك الأطماع تجيش في الواقع، في صدور أولئك الذين رأوا في ضعف السلطة المركزية، وذيوع الخلاف والفوضى، فرصة يمكن انتهازها. وكان علي ابن حمُّود الحسني، قد ولي حكم سبتة، وولي أخوه الأكبر القاسم، حكم الجزيرة الخضراء، لا يفصلهما سوى مضيق جبل طارق. وكان علي يطمح إلى أكثر من حكم مدينة، ويتطلع إلى الوثوب بحكومة قرطبة المضطربة المتداعية. وكان يرى في الفتيان العامريين خصوم سليمان المستعين حلفاءه الطبيعيين، فكاتب كبيرهم خيران صاحب ألمرية، وأظهر كتاباً زعم أنه تلقاه من الخليفة هشام المؤيد يوليه

ص: 658

فيه ولاية عهده، ويطلب إليه أن ينقذه من أسر البربر وسليمان؛ ويقول لنا ابن حيان، إن هشاماً المؤيد لما رأى اضطراب أمره وتصرم دولته، قد منح علي ابن حمود ولاية عهده، وأوصى إليه بالخلافة من بعده، وأرسل إليه ذلك بسبتة سراً، وولاه طلب دمه، واستكتمه السر حتى يحين الأوان لذلك (1).

فذاعت دعوة علي، ولباها بعض حكام الثغور الجنوبية مثل، عامر بن فتوح الفائقي مولى الحكم المستنصر ووزير ولده المؤيد، وكان يومئذ حاكماً لمالقة.

وكتب إليه خيران أن يعبر إليهم. فعبر علي من سبتة إلى الجزيرة الخضراء في أواخر سنة 406 هـ (1016 م) وسار في أشياعه من البربر إلى مالقة، فسلمها إليه عامر ابن فتوح، ودعا له بولاية عهد المؤيد حال ظهوره حياً، وسار خيران في قواته والتقى بعلي في ثغر المنكب الصغير، ما بين مالقة وألمرية، فجمع الزعيمان قواتهما ونظما خطتهما للزحف على قرطبة، وبويع علي بن حمود على طاعة المؤيد. ثم سارت القوات المتحدة صوب قرطبة، وانضم إليها خلال السير زاوي بن زيري وحبوس الصنهاجي في قوة من بربر غرناطة. وكان سليمان المستعين، قد ترامت إليه أنباء أولئك الخوارج عليه، وزحفهم لقتاله، فخرج من قرطبة للقائهم في جند البربر، والتقى الفريقان في ظاهر قرطبة على قيد عشرة فراسخ منها، ونشبت بينهما معركة شديدة، انتهت بهزيمة سليمان، وقتل عدد جم من أنصاره، وكان سليمان وأبوه الحكم، وأخوه عبد الرحمن، بين الأسرى.

ودخل علي بن حمود قصر قرطبة في الثامن والعشرين من محرم سنة 407 هـ (أول يوليه سنة 1016 م) وبحث عن هشام المؤيد فلم يجده، وكان الاعتقاد سائداً بأن سليمان أخفاه ولم يقتله، فلما علم بأنه قُتِل، أتى بسليمان وأبيه وأخيه وقتلهم بنفسه انتقاماً للمؤيد. ثم أعلن وفاة المؤيد، ودعا إلى البيعة لنفسه، فبويع بالخلافة وتلقب بالناصر لدين الله، وكانت مدة خلافة سليمان الثانية مذ دخل قرطبة إلى أن قتل ثلاثة أعوام وبضعة أشهر، وكانت أمه أم ولد تدعى ظبية ومولده في سنة 354 هـ (2).

(1) البيان المغرب ج 3 ص 114 و116.

(2)

البيان المغرب ج 3 ص 116 و117 و119 ر 120، وابن خلدون ج 6 ص 221 وج 4 ص 153؛ والمراكشي ص 24؛ وأعمال الأعلام ص 129؛ ونفح الطيب ج 6 ص 224، وجذوة المقتبس ص 20.

ص: 659

وهكذا اختتمت الدولة الأموية حياتها بالأندلس بعد أن عاشت منذ عصر الإمارة حتى نهاية عصر الخلافة مائتين وثمانية وستين عاماً، وانهارت دعائم الخلافة الأموية نهائياً، بعد أن لبثت منذ عهد هشام المؤيد أربعين عاماً، ستاراً للمتغلبين من بني عامر، ثم شبحاً هزيلا يضطرب في غمر الفتنة والفوضى.

ولما قبض علي بن حمود على زمام الحكم، اشتد في معاملة البربر، وإخماد تمردهم وشغبهم، وحماية السلطة المركزية من عدوانهم، فهابوه ولزموا السكينة، وقضى بمنتهى الشدة على كل نزعة إلى الخروج والعصيان، وفتك بالمعارضين له سواء في ذلك العرب والبربر، وأذل الزعماء واستأثر بالسلطة. وحاول من جهة أخرى أن يحسن معاملة القرطبيين، وأن يقيم العدل، ويقمع الفوضى، وكان من معاونيه في الحكم، جماعة من أولياء الخلافة السابقين مثل أبي الحزم بن جهور، وأحمد بن برد وغيرهما.

على أن الحوادث ما لبثت أن تطورت بسرعة. ذلك أن خيران العامري، لما دخل قرطبة مع علي بن حمود ولم يجد الخليفة هشاماً المؤيد على قيد الحياة، خشي سطوة الناصر وغدره، فغادر قرطبة، معلناً الخلاف، وسار إلى شرقي الأندلس حيث يحتشد معظم الزعماء العامريين وأنصارهم، وأعاد الدعوة لبني أمية في شخص مرشح جديد منهم، هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن الناصر، باعتباره أصلح من بقي منهم، وكان قد فر خفية من قرطبة إلى جيان، فاستدعاه خيران وبايعه وجمع كبير من أصحابه بالخلافة، ولقبوه بالمرتضى، وانضم إليهم في تلك الحركة المنذر بن يحيى التجيبي والي سرقسطة والثغر الأعلى ومعه قوة من المرتزقة النصارى، وكذلك ولاة شاطبة وبلنسية وطرطوشة وألبونت وغيرها. وأعلن المرتضى الخلاف على الناصر، وسار في جموعه أولا إلى غرناطة ليحارب جيش صنهاجة القوي، فلقيه أميرها زاوي بن زيري في قواته ونشبت بينهما معركة طاحنة استمرت أياماً، وانتهت بهزيمة أهل الأندلس، ومقتل المرتضى، وتمزق جموعه، وسقوط معسكره في أيدي البربر. وفي رواية أخرى أن المرتضى استطاع الفرار ناجياً بحياته، فبعث خيران في أثره بعض أعوانه فقتلوه على مقربة من وادي آش، وحملوا رأسه إلى خيران. وكان خيران والمنذر قد حقدا عليه لما رأيا من حدته وصرامة نفسه، وخشيا من غدره (1).

(1) البيان المغرب ج 3 ص 127.

ص: 660

وسار خيران والمنذر فيمن بقي من أصحابهما ولحقا بألمرية. وسار الإفرنج المرتزقة حلفاء المنذر إلى الشمال. قال ابن حيان " فحل بهذه الوقيعة على جماعة الأندلس مصيبة أنست ما قبلها، ولم يجتمع لهم جمع بعد، وأقروا بالإدبار، وباؤوا بالصغار " واستطاع أخ للمرتضى، وهو أبو بكر هشام بن محمد، أن ينجوا من الموقعة، في بعض أصحابه إلى ألبونت، حيث دعا لنفسه بالخلافة، وأقام بها يرقب الحوادث (1).

وتغفل معظم الروايات الإسلامية تاريخ هذه الموقعة، ولكن الظاهر من سياق الحوادث، ومما ذكره صاحب البيان المغرب، أن سير المرتضى من شرقي الأندلس صوب قرطبة، كان في سنة 409 هـ (2)، وأن الموقعة حدثت في أواسط هذا العام، وفي خلافة القاسم بن حمود، بعد مقتل أخيه على حسب ما يجىء.

وكان علي بن حمود، حينما ترامت إليه أنباء خروج المرتضى ومسيره لقتاله، قد انقلب على أهل قرطبة خشية من غدرهم، ولما آنسه من ميلهم إلى المرتضى، وعاد فأطلق يد البربر، واشتد على أهل قرطبة، ونزع سلاحهم، واعتقل كثيراً من أعيانهم، وفي مقدمتهم وزيره أبو الحزم بن جهور، وصادر أموالهم، وهبت على القرطبيين ريح من الإرهاب والروع فلزموا السكينة حيناً (3).

ولكن القدر كان يتربص بعلي بن حمود، ذلك أنه بينما كان يتأهب لقتال خصومه، المجتمعين يومئذ في منطقة جيان حول راية المرتضى، إذ ائتمر به نفر من فتيان القصر الصقالبة من موالي بني أمية، وتسلل ثلاثة منهم إليه وهو في الحمام وقتلوه، وذلك في الثاني من ذي القعدة سنة 408 هـ (23 مارس سنة 1018 م)، وكان سنه وقت مقتله خمس وخمسون سنة، ولم يمكث في الخلافة سوى عام وتسعة أشهر.

فبعث زعماء زناتة إلى أخيه القاسم بنبأ موته، وكان يكبره ببضعة أعوام، وكان يومئذ والياً لإشبيلية، فحضر مسرعاً، وبويع بالخلافة في الثامن من ذي القعدة، أعني لستة أيام من مقتل أخيه، وتلقب بالمأمون، وقبض على الفتيان

(1) البيان المغرب ج 3 ص 125 و126 و127.

(2)

البيان المغرب ج 3 ص 125. وذكر ابن الخطيب وحده أن الموقعة حدثت بالفعل في سنة 409 هـ (أعمال الأعلام ص 131).

(3)

البيان المغرب ج 3 ص 123؛ وأعمال الأعلام ص 129.

ص: 661

الثلاثة الذين قتلوا أخاه وأعدمهم لوقته. وكان يحيى بن علي، ولد الخليفة القتيل والياً على سبتة، وولده الآخر إدريس والياً على مالقة، فاختلف البربر في البداية على مسألة الخلافة، ولكن أكثرهم انضم إلى جانب القاسم لأنه غبن أولا، وقدم عليه أخوه الأصغر.

وهكذا استتب الأمر للقاسم، فعدل عن سياسة الشدة إلى سياسة اللين والمسالمة، وأحسن إلى الناس ونادى بالأمان وبراءة الذمة ممن تسور على أحد، وأسقط كثيراً من المكوس. فهدأت الخواطر، واطمأن الناس نوعاً، وكانت حركة المرتضى قد وصلت خلال ذلك إلى ذروتها، ووقعت الحرب بين جموع المرتضى وحليفه خيران والمنذر بن يحيى التجيبي، وبين قوى صنهاجة على مقربة من غرناطة، وانهزم أهل الأندلس وقتل المرتضى، وبعث زاوي بن زيري إلى القاسم بما وقع مع سهمه من الغنائم، ومنها سرادق المرتضى، فسر القاسم لذلك، وعرض سرادق المرتضى على نهر قرطبة ليراه الناس (1). وعمد القاسم إلى استمالة خيران واستعطافه، ولكنه بقي معتصماً بألمرية، وأقطع زميله زهيراً العامري ولاية جيان وقلعة رباح، محاولا بذلك أن يعقد السلم مع الفتيان العامريين، وأن يأمن خصومتهم وكيدهم.

واتخذ القاسم بطانة من السود، وأسند إليهم مناصب الرياسة والقيادة، ولكنه لم يتخلص من قبضة البربر وسيطرتهم عليه، فضعف أمره وتكاثرت الصعاب من حوله. وكان ابن أخيه يحيى بن علي والي سبتة، يرقب الفرصة للخروج عليه، فاتفق مع أخيه إدريس والي مالقة، على أن يتركها له، لتكون قاعدة للعمل، وأن يستقر إدريس مكانه في سبتة. وأخذ يحيى يحشد أنصاره تباعاً في مالقة حتى اجتمع له جيش قوي. وفي أثناء ذلك كان عمه القاسم يشكو أمره إلى زعماء البربر، ولكنهم عجزوا عن التوفيق بينهما؛ وزحف يحيى في قواته على قرطبة، وخشي القاسم العاقبة فآثر الانسحاب على الحرب، وغادر قرطبة إلى إشبيلية في 23 ربيع الثاني سنة 412 هـ (أغسطس سنة 1022 م)، وضبط البربر القصر حتى مقدم ابن أخيه يحيى.

ودخل يحيى بن علي بن حمود قرطبة بعد ذلك بأيام قلائل، في مستهل جمادى

(1) أعمال الأعلام ص 131.

ص: 662

الأولى سنة 412 هـ. وبويع بالخلافة، وتلقب بالمعتلي بالله، وكان في الثانية والأربعين من عمره. واستقبل البربر والأندلسيين معاً رياسته بالاستبشار والرضى. وكان المعتلي فارساً بارعاً يتحلى بخلال الفروسية، ويجانب العصبية، ويؤثر العدل، ويجزل العطاء لمن وفد عليه، أو مدحه بشعره، فأحبه الناس؛ وكان من وزرائه أبو العباس أحمد بن برد، والكاتب محمد بن الفرضي، ولكنه وقع مثل عمه القاسم تحت نفوذ البربر وإمرتهم، فاستبدوا به، وضيقوا عليه.

وكان القاسم بن حمود أثناء ذلك قد استقر في إشبيلية، وتسمى بالخلافة، وتلقب بالمستعلي، وأخذ يرقب سير الحوادث. ومن الغريب أن القاسم وابن أخيه يحيى، تهادنا واتفقا على أن يعترف كلاهما بصفة صاحبه. ويعلق الفيلسوف ابن حزم على ذلك بأنه لم يسمع بخليفتين تصالحا " وهو أمر، لم يسمع في الدنيا بأشنع منه، ولا أدل على إدبار الأمور "(1).

على أن هذا الوضع الشاذ لم يدم طويلا. ذلك أن البربر أعلنوا خلع يحيى المعتلي في الثاني عشر من ذي القعدة سنة 413 هـ، ولم يكن قد مضى على خلافته سوى عام ونصف، فبادر يحيى بمغادرة قرطبة إلى مالقة. وفي الحال تحرك عمه القاسم من إشبيلية تلبية لدعوة البربر، ودخل قرطبة في الثامن عشر من ذي القعدة المذكور، وجددت له البيعة وتسمى بأمير المؤمنين.

ولكن القاسم لم يوفق في سياسته أيضاً في تلك المرة. ذلك أنه أصطفى البربر، ومكنهم من أهل قرطبة، فاشتدوا في معاملتهم ومطاردتهم، وضاق أهل قرطبة في النهاية ذرعاً بتلك الحالة، فثاروا بالبربر، واستعدوا لقتالهم، وأعلنوا خلع القاسم، واستمرت المعارك حيناً حتى استطاع القرطبيون إرغام القاسم على مغادرة القصر، وذلك في جمادى الثانية سنة 414 هـ (سبتمبر سنة 1023 م). فانقلب البربر إلى محاصرة المدينة بعد أن أغلق القرطبيون أبوابها. واستمر الحصار خمسين يوماً، والمعارك في كل يوم تتجدد، وأخيراً خرج القرطبيون واشتبكوا مع البربر في معركة كبيرة حاسمة، وقاتلوا قتال اليائسين، حتى هزموا البربر ومزقوا جموعهم، وتفرقت بقايا البربر وانفضت عن القاسم، فسار القاسم في نفر من صحبه إلى إشبيلية، وكان بها إبناه محمد والحسن، فأغلقت المدينة أبوابها دونه،

(1) راجع نقط العروس ص 80، والبيان المغرب ج 3 ص 132 و133.

ص: 663

وأخرج منها إبناه ومن معهم من البربر، وقام أعيان المدينة، وعلى رأسهم قاضيها محمد بن إسماعيل بن عباد، بضبط الأمور فيها، وسار القاسم وصحبه إلى بلدة شريش (1).

وفي تلك الأثناء كان يحيى المعتلي، قد سار من مالقة إلى الجزيرة الخضراء، وكانت بها أموال عمه القاسم وأسرته فاستولى عليها، واستولى أخوه إدريس والي سبتة، على ثغر طنجة، وكانت أيضاً من أعمال القاسم، وكان يعدها ملجأ له وملاذاً يحتمي به إذا ذهب سلطانه بقرطبة؛ ولما انقلب القاسم في فلوله إلى شريش سار يحيى المعتلي لقتاله، وحاصر شريش حتى سلمت، وقبض على عمه وبنيه، وحملهم في الأصفاد إلى مالقة، وهناك أودعهم السجن، وانفرد يحيى برياسة البربر، وبسط سيادته على شريش ومالقة، وسبتة وطنجة من ثغورالمغرب، وبايعه البربر بالخلافة، وسموه المعتلي بالله، وبقي القاسم في يرسف في سجنه ردحاً طويلا من الزمن، حتى قتل خنقاً في سنة 431 هـ، وهو في نحو الثمانين من عمره (2).

وكان أهل قرطبة قد سئموا عندئذ حكم البربر وأشياعهم، وأجمعوا على رد الأمر إلى بني أمية. وكان ثمة ثلاثة من المرشحين الذين اعتبروا أصلح من بقي من بني أمية لتولي الخلافة، هم سليمان بن المرتضى، ومحمد بن العراقي، وعبد الرحمن ابن هشام بن عبد الجبار بن الناصر لدين الله، فقرر القرطبيون أن يختاروا أحدهم بطريق الشورى، وعقدت لذلك جلسة كبرى بالمسجد الجامع، حضرها الوزراء والأكابر والخاصة والعامة. وحضر سليمان بن المرتضى ومحمد بن العراقي في البداية، وكاد الاختيار يقع على أولهما، وبدىء بالفعل في تحرير مرسوم البيعة، لولا أن حضر عندئذ عبد الرحمن بن هشام في كبكبة عظيمة، ومن حوله طائفة كبيرة من الجند شاهرة السلاح، فدخل المقصورة، وعقدت له البيعة في الحال، بين دهشة الحضور واضطرابهم، وذلك في السادس عشر من رمضان سنة 414 هـ (ديسمبر سنة 1023 م). ثم خرج من المسجد إلى القصر وقد اصطحب معه ابنى عمه سليمان والعراقي، فاعتقلهما لديه. ويصف لنا ابن حيان هذا الحفل الشهير، وكان من شهوده، بإفاضة ممتعة (3).

(1) البيان المغرب ج 3 ص 134 و135؛ وأعمال الأعلام ص 133.

(2)

راجع البيان المغرب ج 3 ص 135 و144؛ والمراكشي ص 29.

(3)

راجع الذخيرة، القسم الأول المجلد الأول ص 35 و36. ويقول لنا ابن حيان إن الحفل عقد في الرابع من رمضان، والظاهر أن هناك تحريفاً، لأنه يقول لنا بعد ذلك عند مقتل =

ص: 664

واتخذ عبد الرحمن لقب المستظهر بالله، وكان يوم جلوسه فتى في الثالثة والعشرين من عمره، وندب للوزارة بعض القدامى من وزراء بني أمية السابقين مثل أحمد ابن برد، وجماعة من الفتيان الطامحين الأغمار، مثل أبي عامر بن شهيد، وأبي محمد ابن حزم (وهو الفيلسوف المستقبل)، وابن عمه عبد الوهاب بن حزم، وقد كانا على قول ابن حيان " من أكمل فتيان الزمان فهماً ومعرفة، ونفاذاً في العلوم الرفيعة ". فقدمهم على سائر رجاله، وأولاهم منتهى النفوذ والثقة؛ ويورد لنا ابن حيان ثبت المناصب الوزارية والرئيسية يومئذ على النحو الآتي:

خدمة المدينتين، الزهراء والزاهرة، وخدمة كتابة التعقب والمحاسبة، وخدمة الحشم، وخدمة القطع بالناض والطعام، وخدمة مواريث الخاصة، وخدمة الطراز. وخدمة المباني، وخدمة الأسلحة وما يجري مجراها، وخدمة الخزانة القبض والنفقة. وخدمة الوثائق ورفع كتب المظالم، وخدمة خزانة الطب والحكمة. وخدمة الأنزال والنزائل، وخدمة أحكام السوق.

ثم يعلق ابن حيان على ذلك بقوله: " وهذا زخرف من التسطير وضع على غير حاصل، ومراتب نصبت لغير طائل، تنافسها طالبوها يومئذ بالأمل، فلم يَحْلوا منها بنائل، ولا قبضوا منها مرتزقاً، ولا نالوا بها مرتفقاً، وغرهم بارق الطمع وسط بلد محصور، وعمل معصوب، وخراب متسول، ومع سلطان فقير، لا يقع بيده درهم إلا من صبابة، مستغل جوف المدينة، أو نهب مغلول ممن تقلقل عنها، يقيم منها رمقه، ويفرق جملته على من تكنفه من جنده ودائرته، ويتطرق إلى ما يقبح من ظلم رعيته، فلم يلبث الأمر أن تفرَّى به فسُفك دمه، وانحسم الأمل من دولته "(1).

تلك هي الصورة القوية التي يقدمها إلينا المؤرخ الأندلسي المعاصر عن بلاط المستظهر، وظروف ولايته. والواقع أن هذا الخليفة الفتى كان يتمتع بخلال باهرة، وكان ممكناً أن يكون معقد الآمال، لو أتيح له من السلطان وحرية التصرف ما طلب، ولكن الظروف عاجلته وغلبته على أمره؛ وكان قد بدأ ولايته بأن أرسل إلى المدن والثغور يدعو إلى تأييد بيعته، فلم تثمر دعوته أو لم يتسع

= المستظهر إن خلافته كانت سبعة وأربعين يوماً، ومقتله في الثالث من ذي القعدة. وهو ما يرد تاريخ البيعة إلى السادس عشر من رمضان (راجع البيان المغرب ج 3 ص 135).

(1)

نقله في الذخيرة. القسم الأول المجلد الأول ص 36 و37.

ص: 665

الوقت لذلك، وقبض على عدد من الوزراء والأكابر وصادر أموالهم، وكان يرجو بإزالتهم تمكين نفوذه وسلطانه، ثم قبض على عدد من أبناء عمه المروانية، واعتقلهم بالقصر مع ابني عمه سليمان والعراقي، وكانت هذه البوادر المكدرة تقضي على هيبته بسرعة، وتذكي السخط عليه في صدور الخاصة والعامة معاً.

ثم وقع حادث كان نذير الاضطرام. وذلك أنه استقبل عدة من الفرسان البربر فأكرم وفادتهم وأنزلهم بالقصر، فغضب لذلك الكبراء، وأوغروا صدور العامة قائلين لهم، إننا حاربنا البربر وقهرناهم، وهذا الرجل يسعى في ردهم إلينا، وتمكينهم من أمرنا. فهاجت العامة، وزحفت جموعهم على القصر، واقتحموه على غرة، وقتلوا البربر حيث وجدوا، وفتحوا المطبق وأخرجوا من كان به من المعتقلين، ووثبوا إلى جناح الحرم، وأدرك عبد الرحمن المستظهر أنه هالك، فاختبأ في أتون الحمام، واعتدى الثوار على آل عبد الرحمن وحريمه، وسبوا أكثرهن، وكانت مناظر شنيعة مروعة (1).

ولما اختفي المستظهر بالله، ظهر ابن عمه محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن الناصر، وكان مختفياً خفية البطش به، فأخذ إلى القصر، وأجلس في مجلس الملك، وبويع بالخلافة في اليوم الثالث من ذي القعدة سنة 414 هـ (17 يناير 1024 م)، وتلقب بالمستكفي بالله. وبحث عن المستظهر حتى عثر به في أتون الحمام في حالة مزرية، فأخذ إلى حضرة الخليفة الجديد، وأعدم أمامه، وكانت إمارته مذ ولي حتى قتل سبعة وأربعين يوماً، لم يحدث فيها حدث هام، ولم يجاوز سلطانه مدينة قرطبة.

وكان عبد الرحمن المستظهر أديباً شاعراً من الطراز الأول، وقد نوه ابن بسام بمواهبه الأدبية الرفيعة، وأورد له طائفة من القصائد الجيدة (2).

ومن شعره من قصيدة طويلة قالها في ذكر ابنة عمه أم الحكم بنت المستعين أيام خطبته لها:

حمامة بنت العبشمين رفرفت

فطرت إليها من سراتهم صقرا

تقل الثريا أن تكون لها يدا

ويرجو الصباح أن يكون لها نحرا

(1) الذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 38 و39، والبيان المغرب ج 3 ص 148 و139.

(2)

راجع الذخيرة. القسم الأول المجلد الأول ص 40 - 43.

ص: 666

وإني لطعان إذا الخيل أقبلت

جوانبها حتى ترى جونها شقرا

ومكرم ضيفي حين ينزل ساحتى

وجاعل وفدى عند سائله وفرا

وكان المستكفي يوم ولادته في الثانية والأربعين من عمره إذ كان مولده في سنة 366 هـ، وأمه أم ولد تسمى حوراء. وكان عاطلا من الخلال الحسنة، ميالا إلى البطالة، شغوفاً بالمجون والشراب، عاجزاً سيىء الرأي، وقد شبهه ابن حزم، في سوء خلاله، وفي مجونه وفسقه، وفي خضوعه لغانية خبيثة، بسميه المستكفي العباسي، وقد كان كلاهما في نفس السن، وحكم كل منهما نحو سنة وخمسة أشهر (1).

ولم تقع خلال ولاية المستكفي القصيرة، أحداث ذات شأن، وكان مما عمله أن أمر بخنق ابن عمه محمد العراقي، ونعاه للناس، وندب لولاية عهده ابن عمه سليمان بن هشام بن عبيد الله بن الناصر. وفي أيامه هدمت القصور الناصرية، وخربت قصور المنصور بالزاهرة، فسادتها الوحشة والخراب.

واضطهد المستكفي معظم الرجال البارزين من الساسة القدماء، ومن المفكرين، وغادر كثير منهم قرطبة، ولجأوا إلى بلاط يحيى بن حمود بمالقة، وكان من هؤلاء الوزير السابق والشاعر اللامع أبو عامر بن شهيد؛ ووصف هؤلاء ليحيى ابن حمود سوء الأحوال في قرطبة. ومع أن يحيى لم يكن متحمساً لفكرة السير إلى قرطبة، فإن الأنباء ترامت إلى القرطبيين بأنه يتخذ أهباته لاسترداد عاصمة الخلافة؛ وعلى أي حال فقد سئم القرطبيون ولاية المستكفي العاطلة الماجنة الفاسدة ونادوا بخلعه. فدخل عليه الوزراء والكبراء، وأغلظوا له في القول، وطلبوا إليه التخلي، فاستعطفهم بلين القول، ثم غادر قرطبة في نفس اليوم متنكراً في زي امرأة. وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من ربيع الأول سنة 416 هـ (مايو سنة 1025 م). وسار المستكفي صوب الثغر في نفر من صحبه، ووصل إلى إقليج من أحواز قرطبة، وهنالك اغتاله بعض مرافقيه، لاعتقادهم أنه يحمل مالا. وكان مقتله لسبعة عشر يوماً فقط من خلعه (2).

(1) البيان المغرب ج 3 ص 141، وأعمال الأعلام ص 136.

(2)

البيان المغرب ج 3 ص 142 و143؛ وأعمال الأعلام ص 136.

ومما هو جدير بالذكر أن محمد بن عبد الرحمن المستكفي هو والد الأديبة الشهيرة والشاعرة الأندلسية الكبيرة " ولادة " التي اشتهرت بروعة أدبها وشعرها، والتي أوحت إلى الوزير الشاعر ابن زيدون =

ص: 667

ومضت بضعة أشهر؛ والحكومة في قرطبة فوضى لا ضابط لها. وأخيراً

قرر يحيى بن حمود أن يسير إلى العاصمة، فقصد إليها في قواته ودخل القصر في الخامس عشر من رمضان من نفس العام (9 نوفمبر سنة 1025 م)، وبقي بها إلى نهاية هذا العام، ثم غادرها في أوائل المحرم سنة 417 هـ قاصداً إلى مالقة، وترك بها وزيريه أحمد بن موسى، ودوناس بن أبي روح، يدبران شئونها، ومعهما حامية صغيرة من البربر، بيد أنه لم يمض زهاء شهرين حتى تجهمت الحوادث كرة أخرى.

ذلك أن خيران وزهير الفتيين العامريين، قصدا إلى قرطبة، وأوعزا إلى القرطبيين بالتخلص منن البربر، فثار القرطبيون فجأة، وفتكوا بالحامية البربرية، وكانت زهاء ألف رجل، وفر أحمد بن موسى وزميله دوناس إلى مالقة، وكان ذلك في العشرين من ربيع الأول من سنة 417 هـ.

وأجمع القرطبيون على أثر ذلك على رد الأمر لبني أمية، وكان عميدهم في ذلك الوزير أبو الحزم جَهْوَر بن محمد بن جهور، واتفقوا على مبايعة هشام بن محمد ابن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر، أخى عبد الرحمن المرتضى. وكان عند مقتل أخيه في سنة 409 هـ، قد فر من قرطبة في نفر من صحبه، ولجأ إلى مدينة ألبونت في شمال شرقي الأندلس، واستظل من ذلك الحين بحماية واليها عبد الله بن قاسم الفهري. وبعث إليه أهل قرطبة بالبيعة، وهو بمقره بحصن ألبونت، فتلقاها في 25 ربيع الآخر سنة 418 هـ، وتلقب بالمعتد بالله، وبقي بمقره بألبونت مدة سنتين وسبعة أشهر، وهو يخطب له بقرطبة، ثم قدم إليها في شهر ذي الحجة سنة 420 هـ (1) فجددت له البيعة، واستمر في كرسي الخلافة عامين آخرين. وسر القرطبيون لمقدمه في البداية، ولكنه ألقى زمام الأمور إلى رجل من الموالي يسمى حكم بن سعيد القزاز، فاستأثر بكل سلطة، وأطلقت يده في الأموال، وكان أخرق عسوفاً، فجمع حوله نفراً من السفهاء العاطلين عن كل إخلاص وحزم، وأطلق العنان لغوايته وأهوائه، فاضطربت الشئون وامتعض العقلاء،

= المتيم بها طائفة من غرر قصائده. وقد لبثت ولادة عصراً تخلب بجمالها وأدبها وشعرها ألباب المجتمع القرطبي الرفيع. وتوفيت في سنة 484 هـ (1091 م)(راجع الصلة لابن بشكوال رقم 1540؛ وقلائد العقيان ص 70، ونفح الطيب ج 2 ص 447 - 449).

(1)

جذوة المقتبس ص 26 و27.

ص: 668

وزعماء البيوتات الكبيرة، وشعروا بما نالهم على يده من ضروب الإهانة والنيل؛ وأحاط هذا الوزير المستبد الماجن الخليفة برجاله، وأبعد عنه الصحب وذوي الحجي، ودفعه بالرغم من شيخوخته، إلى تيار الشراب والمجون، حتى ساءت الأمور إلى الذروة، وفقدت الخلافة والحكومة، كل عطف هيبة، وتهامس الناس في وجوب إزالة هذه الحالة، والتخلص من أوزارها وعواقبها. والتفت جماعة الناقمين حول فتى من أبناء عمومة هشام، هو أمية بن عبد الرحمن العراقي، من أحفاد الناصر، وكان فتى شديد التهور والجهالة، ولكن بعيد الأطماع؛ وفي ذات يوم تربصت تلك الجماعة الناقمة بالوزير حكم بن سعيد وفتكت به، وطافت برأسه في المدينة، وتركوا جثته في العراء (ذو القعدة سنة 422 هـ - نوفمبر سنة 1031 م). ثم سار أمية في جموعه إلى القصر، والخليفة هشام عاكف على شرابه ونسائه، فنهبت العامة بعض أجنحة القصر، ولولا أن زجرهم الوزير الشيخ ابن جهور ونصحهم بالكف عنه، لما أبقوا على شىء. وخشي هشام المعتد على نفسه، فبادر إلى الخروج من القصر مع ولده ونسائه، وهو يناشد الجماعة أن يحقنوا دمه، ولجأ إلى ساباط الجامع واجتمع رأي الناس جميعاً كباراً وصغاراً على خلعه، والتخلص جملة من بني أمية، وإبطال رسم الخلافة، وعلى نفي بني أمية وإجلائهم جميعاً عن المدينة، وكان رائد الجماعة وناصحهم في ذلك أبو الحزم ابن جهور، وكان هذا الوزير النابه يستأثر نظراً لماضيه التالد، وأسرته العريقة، ورأيه الناضج، بمحبة الشعب وثقته وتأييده، وسنرى فيما بعد أي دور خطير يلعبه ابن جهور في مصاير قرطبة.

وانتهى القوم إلى خلع هشام المعتد، وإبعاده وأهله إلى أحد الحصون القريبة، ثم غادره بعد أيام قلائل، وسار إلى الثغر، حيث التجأ إلى سليمان بن هود صاحب لاردة من أعمال الثغر الأعلى، وقضى هنالك بقية أيامه حتى توفي في سنة 428 هـ دون عقب؛ وأبعد أمية بن عبد الرحمن عن القصر، وكان يهجس بتولي كرسي الخلافة مكان المعتد، فلما رأى وعيد القوم، اختفى وغادر قرطبة إلى حيث لا يعلم أحد. ونودي في سائر أحياء قرطبة وأرباضها بأن لا يبقى بها أحد من بني أمية، ولا يأويهم أحد، وتولى ابن جهور تنفيذ هذا الأمر بمنتهى الحزم، حتى أجلاهم عن المدينة ومحا رسومهم (1).

(1) راجع البيان المغرب ج 3 ص 145 - 152؛ وأعمال الأعلام ص 138 - 140.

ص: 669

وبخلع هشام المعتد، تنتهي رسوم الدعوة الأموية بصورة نهائية، وينقطع ذكرها إلى الأبد من منابر الأندلس والمغرب الأقصى.

* * *

ولنعد الآن قليلا إلى الوراء لنتتبع مصاير دولة بني حمود في جنوبي الأندلس، وقد رأينا أن يحيى بن علي بن حمود الملقب بيحيى المعتلي، بعد أن خلع عمه القاسم من الخلافة، وأرغم على مغادرة قرطبة في سنة 414 هـ، سار إلى بلدة شريش، فسار يحيى في أثره، وما زال به حتى هزمه وقبض عليه، ثم قتل في سجنه فيما بعد، واستولى يحيى على سائر ما كان بيده من البلاد والثغور، وانفرد برياسة البربر في الأندلس. ثم عاد فدخل قرطبة مرة أخرى على أثر خلع المستكفي في سنة 416 هـ.

ولكنه غادرها بعد ذلك إلى مالقة، التي غدت من ذلك الحين معقله وعاصمة ملكه، في أوائل سنة 417 هـ، واستمر بها مدى حين.

وكان يحيى المعتلي يخشى بالأخص على مملكته الفتية، من مطامع القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد، الذي استقل برياسة إشبيلية، حسبما تقدم. فسار بقواته إلى قرمونة حصن إشبيلية من الشمال الشرقي، وانتزعها من يد حاكمها محمد ابن عبد الله البرزالي كبير بني برزال، واستقر بها يرقب الفرصة للوثوب بابن عباد وتحطيمه، فسار البرزالي إلى ابن عباد وتحالف معه على قتال يحيى. وكان يحيى قد استسلم إلى لهوه وملاذه، وعكف على معاقرة الشراب والمجون المستمر، وجنوده تغير على إشبيلية من آن لآخر. ورأى القاضي ابن عباد أن يدحض دعوى المعتلي في الخلافة أولا، فأظهر في أواخر سنة 426 هـ شخصاً زعم أنه هشام المؤيد، وأنه كان مختفياً ولم يمت، وبايعه بالخلافة، ودعا الناس إلى الدخول في طاعته. ثم سير ابن عباد إلى قرمونة بعض قواته مع ابنه إسماعيل، ومعها طائفة من قوات البربر المتحالفة معه، فطوقت المدينة ليلا، وكمن معظمها في أماكن مستورة، ووقف يحيى على الخبر فخرج في قواته وهو ثمل، واشتبك مع المهاجمين في معركة حامية وكاد يوقع بهم الهزيمة، لولا أن ظهرت قوات ابن عباد من كمينها، وأطبقت عليه، فانهزم أصحابه، وقتل في المعمعة واحتز رأسه، وحمل سريعاً إلى ابن عباد في إشبيلية (المحرم سنة 427 هـ - نوفمبر سنة 1035 م)، واستمر فتك جند ابن عباد بالبربر أمام أسوار قرمونة، ولم يقف إلا حينما تدخل محمد بن عبد الله

ص: 670

البرزالي، وقد ساءه هذا الفتك الذريع بقومه، فكف ابن عباد مرغماً، ودخل البرزالي قرمونة، واستولى على ما فيها من مال ومتاع، وسبى نساء يحيى وجواريه (1).

ولما قتل يحيى المعتلي على هذا النحو، سارع وزيراه أبو الفوز نجا الصقلبي، وأبو جعفر أحمد بن موسى بن بقنّة البربري، باستدعاء أخيه إدريس لتولي الملك مكانه، وكان والياً لسبتة. وكان ليحيى ولدان حدثان هما إدريس وحسن؛ وفي رواية أنه كان قد أوصى بولاية عهده لولده حسن، ولكن حداثة سنه حالت دون ولايته. وهكذا بويع إدريس بالخلافة في مالقة، قاعدة المملكة الحمودية وتلقب بالمتأيد بالله، وعين ابن أخيه حسناً لحكم سبتة وأعمالها، وندب لمعاونته الحاجب نجا، واعترفت بولايته رندة والجزيرة، وكان من حلفائه المعترفين ببيعته الفتى زهير العامري صاحب ألمرية، وحبوس بن ماكسن زعيم صنهاجة وصاحب غرناطة؛ وقد سارا في قواتهما لمعاونة إدريس على محاربة ابن عباد، وانضم إليهما البرزالي صاحب قرمونة. وفي شهر ذي القعدة سنة 427 هـ (1036 م) سارت القوات المتحالفة إلى أحواز إشبيلية وعاثت فيها، واحتلوا قرية طشّانة، ثم احتلوا "القلعة"، الواقعة شرقي إشبيلية، وأحرقوا طَريانة الواقعة في جنوبها، ثم احتلوا حصن القصر، وانصرف زهير بعد ذلك إلى ألمرية.

وفي العام التالي توفي حبوس بن ماكسن، وخلفه في حكم غرناطة ولده باديس، وبعث باديس وأخوه بُلُقِّين إلى زهير يطلبان تجديد التحالف الذي كان بينه وبين أبيهما، ولكن زهيراً سار في قواته إلى غرناطة، والتقى بباديس وأخيه في قرية من أحواز غرناطة تسمى "ألفنت"(2). والظاهر أنه وقع بين الفريقين نوع من سوء التفاهم، واعتبر باديس أن زهيراً توغل في أرضه بقواته أكثر مما يجب؛ أو أن باديس وأخاه بلقين، قد وضعا خطة للغدر بزهير. وعلى أي حال فقد عمل باديس على قطع طريق الرجعة على زهير، ووضع له الكمائن في المضايق. ووقع القتال بين زهير والبربر، فهزم زهير وقتل، ولم يعثر على جثته، واحتوى باديس على معسكره، واستولى على غنائم هائلة من الخيل والسلاح والمتاع، وقبض باديس على كاتب

(1) البيان المغرب ج 3 ص 188 و189 و190؛ وأعمال الأعلام ص 137.

(2)

وهي بالإسبانية Daifontes، وهي تقع على قيد نحو خمسة كيلومترات من شمالي غرناطة.

ص: 671

زهير أحمد بن عباس ثم قتله بعد ذلك. وحدثت هذه الواقعة في أواخر سنة 429 هـ (1038 م)(1).

وكان القاضي ابن عباد، المتغلب على إشبيلية، بعد قتل منافسه يحيى المعتلي قد خلا له الجو، واشتد بأسه، وأخذ يطمح إلى التغلب على ما يجاور إشبيلية من المدن والمقاطعات. فبدأ بأن سير ولده إسماعيل في جيش زحف على قرمونة حصن إشبيلية، من الشمال الشرقي، وكان بها محمد بن عبد الله البرزالي، فاستولى عليها، واستولى كذلك على إستجة الواقعة في شرقها. فاستغاث البرزالي بإدريس المتأيد، وباديس أمير غرناطة، وهرعت الجند البربر من مالقة وغرناطة استجابة لدعوته. ونشبت بين البربر وبين جند ابن عباد الأندلسيين وقائع عديدة، انتهت بهزيمة الأندلسيين ومقتل إسماعيل بن عباد، وذلك في أوائل المحرم سنة 431 هـ (أواخر سنة 1039 م)(2).

ولم تمض على ذلك أيام قلائل حتى توفي إدريس المتأيد في قلعة ببشتر، وكان قد نقل إليها مريضاً من مالقة. وكانت وفاته في السادس عشر من محرم سنة 431 هـ.

وعلى أثر وفاته بويع ولده يحيى بالخلافة في مالقة، وذلك بترتيب وزيره أبى جعفر ابن بقنّة وسعيه. وتلقب يحيى بالقاسم بأمر الله، وكان فتى حَدَثاً قليل الخبرة والحزم، ولكن ابن بقنَّة سارع برفعه إلى العرش استبقاء لسلطانه الذي تأثل في ظل أبيه. بيد أن الحوادث ما لبثت أن تطورت بسرعة. ذلك أن نجا الحاجب الصقلبي، وكان يومئذ بسبتة، لم يرقه هذا الاختيار، فبادر بالدعوة إلى حسن بن يحيى المعتلي (ابن أخى إدريس). وكان إدريس قد اختاره لولاية عهده، وكان وقت وفاة عمه حاكماً لسبتة والثغور المغربية، فبويع حسن بالخلافة، وجهز الحاجب جيشاً، وسار بقواته مع حسن في أسطول يمم شطر مالقة، ونزلت القوات إلى البر، وحاصرت مالقة من البر والبحر، ولم تمض أسابيع قلائل حتى اضطر يحيى إلى التسليم والتنازل عن الخلافة، ثم سار إلى قمارش، وأقام بها.

(1) راجع في تفصيل هذه الحوادث: البيان المغرب ج 3 ص 190 و191 و293، والإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (القاهرة 1956) ج 1 ص 269 و527 و528.

(2)

البيان المغرب ج 3 ص 199.

ص: 672

وبويع حسن بن يحيى بالخلافة في مالقة في جمادى الثانية سنة 431 هـ، وتلقب بالمستنصر بالله، واعترفت بطاعته غرناطة وغيرها، وعهد بتدبير الأمور إلى الوزير أبي جعفر بن بقنة، وعهد إلى الحاجب نجا بحكم الثغور المغربية. وكان حسن أميراً حازماً، قوي النفس، فنظم الإدارة، واستكثر من الجند، وجبى الأموال. واستراب بوزيره أبي جعفر، وكان يسر له نصرته ليحيى، فدبر مقتله، وذلك في يوم عيد الفطر سنة 433 هـ (1)، ثم أمر بقتل يحيى القاسم، فقتل في ربيع الثاني سنة 434 هـ. وكانت أخته زوجة للمستنصر، فما لبثت أن دبرت مقتله انتقاماً لأخيها، وهلك حسن بالسم في جمادى الأولى سنة 434 هـ (ديسمبر سنة 1042 م).

والروايات بعد ذلك متضاربة، فمنها ما يقول بأن الحسن لم يعقب ذرية (2) ومنها ما يقول إنه ترك ولداً صغيراً بسبتة. وعلى أي فقد نهض الحاجب نجا على أثر وفاة المستنصر، وعبر البحر في قواته من سبتة إلى الجزيرة؛ وهنا يقال إنه نهض ليؤيد دعوة ولد الخليفة المتوفى، ويقال من جهة أخرى إنه نهض ليستخلص تراث الحموديين لنفسه، بعد أن اضطربت شئونهم. وسار نجا إلى الجزيرة وفيها ابنا القاسم بن حمود، فخرجت إليه أمهما سبيعة، وعنفته على مسلكه وعدم ولائه لسادته، فاستحى منها، وغادر الجزيرة ميمماً شطر مالقة. وكان معظم جنده من قبيلة برغواطة البربرية، أخوال حسن بن يحيى، فاسترابوا منه ومن مقاصده وائتمروا به، وقتلوه في الطريق. ثم ساروا إلى مالقة، وكان حسن بن يحيى أيام خلافته قد قبض على أخيه إدريس، وزجه إلى السجن ليأمن منافسته. فأخرجه الجند من سجنه وبويع بالخلافة. وتلقب بالعالي، وذلك في جمادى الثانية سنة 434 هـ (يناير سنة 1043 م)، وأطاعته البربر في غرناطة وقرمونة وجيان وغيرها.

وهو الممدوح بالقصيدة المشهورة، التي نظمها عبد الرحمن بن مُقانا القبذاقي الأشبوني في مديحه ومطلعها:

البرق لائح من أندرين

ذرفت عيناك بالماء المعين

لعبت أسيافه عارية

كمخاريق بأيدي اللاعبين

(1) البيان المغرب ج 3 ص 290؛ والمراكشي ص 36.

(2)

المراكشي ص 37.

ص: 673

ولصوت الرعد زجر وحنين

وبقلبي زفرات وأنين

وأناجي في الدجى عاذلتي

وبك لا أسمع قول العاذلين (1)

ومنها:

عيرتني بسقام وضنى

إن هذين لدين العاشقين

قد بدا لي وضح الصبح المبين

فاسقنيها قبل تكبير الأذين

إسقنيها مرة مشمولة

لبثت في دنها بضع سنين

مع فتيان كرام نجب

يتهادون رياحين المجون (1)

وكان العالي أميراً رقيق الخلال، جواداً كثير الصلات، أديباً ينظم الشعر، ومع ذلك فقد كان يجمع حوله بطانة سيئة، وصحاباً من أراذل القوم. وكان ضعيف الرأي، متهاوناً في شئون الحكم، فسرى التفكك إلى سلطانه، وفي أواخر سنة 438 هـ (1046 م)، ثار عليه ابن عمه محمد بن إدريس بن علي بن حمود، فخرج إدريس في صحبه من مالقة إلى حصن ببشتر، وعاونه باديس بن حبوس أمير غرناطة بجنده ليسترد سلطانه. فغزا مالقة ولكنه لم يفز بطائل، فارتد مع أهله وصحبه إلى سبتة.

وبويع محمد بن إدريس في شعبان سنة 438 هـ. وتلقب بالمهدي، وتوطد أمره بمالقة؛ ولكن بعض النواحي نكلت عن تأييده، ولاسيما غرناطة؛ وكان أميرها باديس من أشد معارضيه، وكان يشعر أنه أحق من غيره بزعامة البربر؛ وأبدى المهدي عزماً في تنظيم الحكومة وإصلاح الأمور، ولكنه كان طاغية سفاكاً للدماء يسرف في قتل مواطنيه البربر، حتى كرهه معظمهم، واجتمع رأي معارضيه من الزعماء وعلى رأسهم باديس على وجوب خلعه، والاعتراف بطاعة محمد بن القاسم بن حمود صاحب الجزيرة الخضراء، واتفق رأي البعض الآخر ومنهم أبو النور بن أبي قرة اليفرني صاحب رندة، على الاعتراف بطاعة إدريس بن يحيى العالي. وهكذا ادعى الخلافة ثلاثة أمراء من بني حمود في وقت واحد، وفي مناطق صغيرة متقاربة، وهذا إلى الخليفة المزعوم الذي أقامه ابن عباد صاحب إشبيلية باسم هشام المؤيد؛ ويستعرض الفيلسوف ابن حزم هذه الحالة وهو معاصر لها في مرارة وتهكم، ويصفها بأنها " فضيحة لم يقع في العالم

(1) راجع هذه القصيدة بأكملها في نفح الطيب ج 1 ص 202 و203.

ص: 674

إلى يومنا مثلها: أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، كلهم يتسمى بأمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد " (1).

واستمر محمد بن إدريس المهدي في كرسي الخلافة زهاء ستة أعوام.

ولما لم ير خصومه وسيلة للتغلب عليه، لجأوا إلى الغيلة، فدسوا عليه من قتله بالسم، وذلك في أواخر سنة 444 هـ (أوائل سنة 1053 م).

فبويع من بعده ولد أخيه وهو إدريس بن يحيى بن إدريس بن علي بن حمود، وتلقب بالسامي، وأقام حيناً بمالقة، ثم أصابته فيما يظهر لوثة، فغادر مالقة، وهام على وجهه في صفة تاجر، وغادر البحر إلى شاطىء العدوة، فأخذ إلى سبتة، حيث قتله حاكمها سواجات البرغواطي (2).

وكان إدريس بن يحيى العالي، قد لجأ على أثر خلعه إلى سبتة، فأقام بها في كنف سواجات، وأقام كذلك حيناً في رندة، في كنف حاكمها أبي نور بن أبي قرة، فلما هلك السامي، سار إلى مالقة واستقبله أهلها بحماسة، ودعى له بالخلافة مرة أخرى، واستمر في الحكم حتى توفي سنة 446 هـ (1054 م) بعد أن عهد بالخلافة لابنه محمد.

فخلفه ولده محمد، وتلقب بالمستعلي، وأقرت بيعته ألمرية ورندة، ولكن معظم الزعماء البربر، وفي مقدمتهم باديس صاحب غرناطة نكلوا عن طاعته.

وفي سنة 449 هـ (1057 م)، سار باديس في قواته إلى مالقة، واستولى عليها

وضمها إلى إمارته، وغادرها المستعلي، وسار إلى ألمرية، ثم عبر منها البحر إلى مليلة فقبله أهلها حاكماً عليهم، واستمر بها حتى توفي سنة 456 هـ (1064 م) والمستعلي هو آخر من حكم في مالقة من أمراء بني حمود.

وفي أثناء ذلك كان رأي الزعماء البربر، وفي مقدمتهم باديس صاحب غرناطة وإسحاق بن محمد بن عبد الله البرزالي صاحب قرمونة، ومحمد بن نوح صاحب مورور، وعبدون بن خزرون صاحب أركش، قد اجتمع على البيعة لبني محمد بن القاسم بن حمود صاحب الجزيرة الخضراء. وكان يحيى المعتلي حينما خلع

(1) ابن حزم في رسالته " نقط العروس " ص 83. وراجع البيان المغرب ج 3 ص 217 و244؛ وأعمال الأعلام ص 141.

(2)

البيان المغرب ج 2 ص 217؛ وأعمال الأعلام ص 142.

ص: 675

عمه القاسم بن حمود، قد قبض على ولديه محمد وحسن، واعتقلهما بالجزيرة، فلما توفي يحيى، أفرج عنهما. وتولى محمد حكم الجزيرة، وذلك في الوقت الذي قامت فيه دولة المهدي في مالقة. ثم حاول محمد أن ينتزع الخلافة لنفسه، فسار في أنصاره إلى مالقة يحاول انتزاعها من يد المهدي، ولكنه أخفق في محاولته، فارتد إلى الجزيرة، وتوفي بها في سنة 440 هـ.

فخلفه محمد ولده وحكم الجزيرة فترة قصيرة؛ ثم خلفه ولده القاسم، وتلقب بالواثق، وكانت خلافته هزيلة ضيقة الرقعة والموارد، ولم يتح لها من البقاء سوى فترة يسيرة. ذلك أن ابن عباد صاحب إشبيلية اعتزم أن يقضي على خلافة الحموديين بصفة نهائية، فبعث قواته إلى الجزيرة الخضراء فطوقتها من البر والبحر واضطر القاسم سراعاً إلى التسليم، وغادر الجزيرة بالأمان مع أهله وصحبه (446 هـ - 1055 م) وسار إلى ألمرية حيث التجأ إلى حماية صاحبها المعتصم ابن صمادح، ولبث لها حتى توفي سنة 450 هـ (1058 م).

وفي نفس الوقت كان باديس أمير غرناطة قد استولى على مالقة من يد المستعلي (449 هـ)، وانهار بها سلطان الحموديين، وهكذا انقرضت دولة بني حمود من مالقة والجزيرة معاً، وانتهى بذلك سلطانهم بالأندلس بعد أن حكموا المثلث الإسباني الجنوبي، وثغور العدوة الشمالية، زهاء نصف قرن (1).

* * *

وهكذا انحدرت إسبانيا المسلمة، في النصف الأول من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) عقب انهيار دعائم الخلافة الأموية والدولة العامرية، إلى معترك مروع من التمزق والفوضى، واستحالت الأندلس بعد أن كانت كتلة موحدة، تمتد من ضفاف دويرة شمالا إلى مضيق جبل طارق جنوباً، ومن شاطىء البحر المتوسط منذ طركونة شرقاً حتى شاطىء المحيط الأطلنطي غرباً، إلى أشلاء ممزقة، ورقاع متناثرة، وولايات ومدن متباعدة متخاصمة، يسيطر على كل منها حاكم سابق استطاع أن يحافظ على سلطته المحلية خلال الانهيار،

(1) راجع في تفاصيل الحوادث المتقدمة، البيان المغرب ج 3 ص 288 و291 و292؛ وابن خلدون ج 4 ص 154 و155؛ وابن الأثير ج 9 ص 96 و97؛ والمراكشي ص 37 - 39، وأعمال الأعلام ص 142 و143. وراجع بحثاً بالإسبانية للأستاذ المستشرق الغرناطي سيكودي لوثينا عن دولة بني حمود عنوانه: Los Hammudles، Senores de Malaga y Algeciras، p. 47-53.

ص: 676

أو متغلب من الفتيان الصقالبة أو القادة ذوي السلطان السابق، أو زعيم أسرة محلي من ذوي الجاه والعصبية. وسيطر البربر من جانبهم على أراضي المثلث الإسباني الجنوبي، وما كان منه بيد الدولة الحمودية، وأنشأوا هنالك إمارات عدة، ما لبثت أن نزلت إلى ميدان الصراع العام، الذي شمل هذه المنطقة. وهكذا قامت على أنقاض الدولة الأندلسية الكبرى دول عديدة هي دول " الطوائف "، وذلك منذ أوائل الربع الأول من القرن الخامس، حتى الفتح المرابطي، زهاء سبعين عاماً، قضتها جميعاً في سلسلة لا نهاية لها من المنازعات الصغيرة، والخصومات والحروب الأهلية الانتحارية، وكادت بتنابذها وتفرقها ومنافساتها، تمهد لسقوط الأندلس النهائي. وقد كان من رحمة القدر، أن اسبانيا النصرانية، كانت في نفس الوقت الذي انتثرت فيه وحدة الأندلس على هذا النحو الخطر، تعاني من انقسام الكلمة، وتعصف بها ريح الخلاف والتفرق، فلم تتح لها فرصة للوثوب بالأندلس الممزقة، إلى أن كان الوقت الذي بلغ فيه تنابذ الطوائف ذروته، واشتد ساعد اسبانيا النصرانية كرة أخرى، واستطاعت أن تضرب ضربتها القوية بانتزاع طليطلة، أول قاعدة إسلامية كبيرة (478 هـ - 1085 م)؛ وعندئذ تطورت الحوادث بسرعة واتجهت الأندلس الجريحة، في توجسها وانزعاجها، إلى إخوانها المسلمين فيما وراء البحر، بعدوة المغرب، تستدعيهم لنصرتها. وكان أن تدفقت الجيوش المرابطية من المغرب على شبه الجزيرة الإسبانية، وكان أن أنقذت دولة الإسلام في الأندلس.

ص: 677