الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
خلال عبد الرحمن ومآثره
(1)
وفاة عبد الرحمن الداخل. شخصيته. أساليبه. إقدامه وجرأته وقسوته. بطشه بآله وأصدقائه. نزعته الميكافيللية. تعليقات دوزي على سياسته. خلاله الباهرة. وصفه بصقر قريش.
(2)
نوع رياسته. قطعه الدعاء لبني العباس. إحجامه عن التلقب بالخلافة. أقوال ابن خلدون في ذلك. نظام الحكومة في عهده. حجابه وأعوانه. استرابته بالعرب بعد الثقة فيهم. اصطناعه الموالي والبربر. سياسته نحو النصارى. مقدرته الإدارية. عنايته بالجيش والأسطول. تفكيره في غزو الشام. منشآته بقرطبة. الرصافة. السور الكبير. المسجد الجامع.
(3)
كرمه وتواضعه. نقش خاتمه. خلاله الأدبية. نثره وشعره.
(4)
عناصر المجتمع الأندلسي. العرب والبربر والمولدون. النصارى المعاهدون واليهود.
- 1 -
توفي عبد الرحمن الأموي في الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة 172 هـ (2 أكتوبر سنة 787 م)(1) وهو في نحو الثامنة والخمسين من عمره، بعد أن حكم الأندلس ثلاثة وثلاثين عاماً ملؤها الخطوب والفتن. فخلفه ولده هشام بعهد منه لأيام قلائل من وفاته. وانتظم بذلك سلك الدولة الأموية بالأندلس بعد أن تصرم بالمشرق، واستؤنفت حياة تلك الدولة الزاهرة، التي بلغ الإسلام على يدها ذروة الفتح والظفر، والتي ذهبت سراعاً كالحلم في عنفوان قوتها.
(1) يختلف المؤرخون في تاريخ وفاة عبد الرحمن. ويستفاد من أقوال صاحب أخبار مجموعة أنها وقعت في أوائل سنة 172هـ (ص 116). ويوافقه ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد على ذلك، فيقول إنها وقعت في 12 جمادى الأولى سنة 172 هـ (العقد الفريد ج 3 ص 201). ولكن ابن حيان مؤرخ الأندلس يضعها في 24 ربيع الآخر سنة 171هـ (المقري ج 2 ص 72). وهذه أيضا رواية ابن الأبار (الحلة ص 37). على أننا نرجح الرواية الأولى لقدمها، وهي أيضا رواية ابن عذارى حيث يضع وفاة عبد الرحمن في 24 ربيع الآخر سنة 172هـ (البيان المغرب ج 2 ص 60). ويضعها كل من ابن خلدون (ج 4 ص 124)، والمراكشي (المعجب ص 9) في سنة 172هـ دون تعيين الشهر. ويضعها ابن الأثير في ربيع الآخر سنة 171، ولكنه يرجح وقوعها سنة 172هـ (ج 6 ص 37).
كان سقوط الدولة الأموية بالمشرق مأساة من أروع مآسي التاريخ الإسلامي، وكانت تلك الشخصية التي قامت على كاهلها دعائم الدولة الجديدة، من أعظم شخصيات الحرب والسياسة. كان عبد الرحمن الأموي يتمتع بعبقرية ممتازة وخلال نادرة. وكان قرين جده العظيم معاوية بن أبي سفيان، ينشئ مثله دولة، ولكن في ظروف أسوأ من ظروفه، ويهزم الخطوب والحوادث، ويسحق خصومه في كل ميدان، ويوثر مثل السياسة العملية على كل اعتبار، ويذهب توا إلى الغاية بأي الوسائل. وكانت المحنة المروعة التي نزلت بأسرته، والظروف العصيبة التي يواجهها، والخصومات والأحقاد المستمرة التي تحيط به، تحمل خلاله القوية إلى ذروة التطرف، وتدفعه إلى التذرع بأشد الوسائل. فنراه يقرن وافر العزم بفيض من الجرأة والمغامرة واحتقار الخطر، ويقرن وافر الدهاء بنزوع إلى الخيانة والغدر والفتك، ويقرن وافر الحزم والصرامة بنزوع إلى القمع الذريع، ويذهب في الانتقام إلى حدود مروعة من القسوة. ومع ذلك فقد كان عبد الرحمن وفياً يحفظ العهد والصنيعة لمن أخلص له، وإن لم يحجم لأقل ريب أو بادرة عن الفتك بأعز أصدقائه وأقرب الناس إليه. وقد رأينا هذه الخلال واضحة بارزة، في كثير مما تقدم من حوادث حياته ونضاله، فرأيناه مرارا يلجأ إلى الغدر والاغتيال للتخلص من خصومه، ورأيناه في مواطن كثيرة يزهق دون تردد، كل من وقع في يده من أولئك الخصوم أو من ولدهم وصحبهم الأبرياء. وذهب عبد الرحمن في صرامته وقسوته إلى البطش بكثير من أصدقائه، الذين آزروه يوم مقدمه، شريدا لا عصبة له، وقاتلوا معه وقادوه إلى الظفر والحكم، وكان قد أولاهم في المبدأ ثقته وجعلهم عماد دولته. ومن هؤلاء بدر مولاه الذي جاب معه القفر وخاض الغمار، وكان مثالا للشجاعة والدهاء وبعد النظر، فإنه قدر في البداية خلاله وكفايته وولاه القيادة واختصه بأسمى المناصب والمهام، ولكنه تغير عليه في أواخر عهده، لما أبداه من التذمر وعدم الرضى، ولما وجهه إليه من عتاب خشن تجاوز فيه حد اللياقة، فنكبه وجرده من مناصبه وأمواله، وشرده عن قرطبة إلى قاصية الثغر، ولم يستمع إلى تضرعه حتى مات في فقر وضعة (1). ومنهم أبو عثمان رأس أنصاره،
(1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 69 و71، حيث يورد طرفا من الرسائل التي تبادلها عبد الرحمن وبدر، والتي انتهت بنكبة بدر. وراجع الإحاطة لابن الخطيب (1956) ج 1 ص 453.
وأول من تلقاه وآواه يوم مقدمه، فإنه جعله كبير دولته، فلما توطد أمره جرده من نفوذه، ولما وقعت المؤامرة التي دبرها بعض الوافدين من بني أمية، واتهم أبو عثمان بالاشتراك في تدبيرها استراب به، ولم ينقذه من بطشه إلا عظم صنيعه لديه. ولما ثار ابن أخت أبي عثمان في بعض حصون إلبيرة، لم يتردد عبد الرحمن في قتله حين ظفر به. وكذا تغير عبد الرحمن على عبد الله بن خالد، صهر أبي عثمان وزميله في مؤازرة عبد الرحمن ونصرته، وكان من وزرائه، ثم اعتزل المنصب، وتوارى لما رأى من غدر عبد الرحمن بزعيم اليمنية أبي الصباح، وكان أبو الصباح هو الذي جمع كلمة اليمنية في إشبيلية حول عبد الرحمن وقاتل معه بصحبه، ثم انحرف عنه لأمور نقمها منه، فاستدرجه عبد الرحمن إلى قرطبة وفتك به في نفس مجلسه بالقصر، ناكثا لعهوده كما قدمنا (1). بل لم يحجم عبد الرحمن عن الفتك بذويه وخاصة أسرته، حينما نمى إليه أنهم يأتمرون به، فقتل ابني أخيه عبيد الله بن أبان والمغيرة بن الوليد، وابن عمه عبد السلام اليزيدي حسبما فصلنا.
والخلاصة أن عبد الرحمن كان يلجأ في تحقيق غاياته إلى أروع الأساليب والوسائل، وكان طاغية مسرفاً في البطش والسفك، مكيافيلليا (2) بكل معاني الكلمة. ولكن تلك الخلال المثيرة التي كان يحفزها ويذكيها الخطر الداهم، كانت عنوان قوته ووسيلة ظفره. يقول دوزي:" لقد دفع عبد الرحمن ثمن ظفره غاليا، ذلك الطاغية الغادر الصارم المنتقم، الذي لا تأخذه رأفة. ولم يبق زعيم عربي أو بربري، يجرؤ على مواجهته صراحة، ولكن الجميع كانوا يلعنونه خفية. ولم يك ثمة رجل يرغب في خدمته ". ثم يقول: " كان هم عبد الرحمن الدائم أن يذل العرب والبربر إلى الطاعة، وأن يرغمهم على التعود على النظام والسلام، وقد لجأ في تحقيق هذه الغاية إلى جميع الوسائل، التي لجأ إليها ملوك القرن الخامس عشر لسحق الإقطاع. بيد أنه كان مصيرا محزنا ذلك الذي دفع القدر إليه اسبانيا، وكانت مهمة محزنة تلك التي كان على خلفاء عبد الرحمن أن يضطلعوا بها. ذلك أن الطريق الذي رسمه لهم مؤسس الأسرة، كان طريق الطغيان يؤيده السيف. ولكن من الحق أن نقول إن ملكاً لا يستطيع أن يحكم العرب والبربر
(1) نفح الطيب ج 2 ص 67 و71.
(2)
نسبة إلى مكيافيللي صاحب المذهب السياسي المشهور، وخلاصته أن للأمير أن يتذرع في تحقيق الغاية بأى الوسائل، ومنها الغدر والخيانة والسفك وكل ما إليها.
بغير هذه الوسيلة، وإذا كان العنف والطغيان ثمة في ناحية، ففي الناحية الأخرى يوجد الاضطراب والفوضى " (1).
على أن عبد الرحمن كان إلى جانب هذه الصفات المثيرة، يتمتع بكثير من الخلال الباهرة، وقد أجمل ابن حيان مؤرخ الأندلس خلاله في تلك العبارات القوية، قال:" كان عبد الرحمن راجح الحلم، فاسح العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئاً من العجز، سريع النهضة في طلب الخارجين عليه، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولايسكن إلى دعة، ولا يكل الأمور إلى غيره، تم لاينفرد في إبرامها برأيه، شجاعاً مقداماً، بعيد الغور، شديد الحذر قليل الطمأنينة، بليغاً، مفوهاً، شاعراً، محسناً، سمحاً، سخياً، طلق اللسان "(2). وهذا التصوير الرائع الذي يقدمه لنا ابن حيان عن خلال تلك الشخصية الممتازة، إنما هو صورة بارزة من صور العظمة والبطولة، توضحها في جملتها، وفي تفاصيلها حياة عبد الرحمن في جميع أدوارها.
ويشبهه ابن حيان أيضا بأبى جعفر المنصور في قوة الشكيمة، ومضاء العزم، وفي القسوة والصرامة والاجتراء على الكبائر (3).
وإذا كانت هذه الصفات والخلال القوية المثيرة معا، لا تحمل على الحب، فإنها تحمل على الإعجاب بلا ريب. بل إن المتأمل ليشعر بعطف خاص نحو هذه الشخصية الفريدة، ويرجع ذلك بلا ريب إلى تلك الحياة المؤثرة، التي خاض عبد الرحمن غمارها، وتلك المحن الأليمة التي نزلت بأسرته، وتلك الجهود الفادحة التي بذلها لاسترداد حقه وحق أسرته في الحياة والرياسة. وكانت هذه الحياة المؤثرة وما انتهت إليه من النتائج الباهرة، تحمل ألد خصوم عبد الرحمن على احترامه والإعجاب به، حتى لقد سماه أبو جعفر المنصور " صقر قريش " في حديث طريف تنقله إلينا الرواية، وهو أن المنصور قال يوما لبعض أصحابه، " من صقر قريش من الملوك؟ " قالوا: أمير المؤمنين الذي راض الملك وسكن الزلازل وحسم الأدواء. قال ما صنعتم شيئا. قالوا فمعاوية، قال ولا هذا. قالوا
(1) Dozy: Hist.V.I.p. 245، 248
(2)
نقله نفح الطيب ج 2 ص 67.
(3)
نفح الطيب ج 1 ص 156.
فعبد الملك بن مروان، قال لا. قالوا فمن يا أمير المؤمنين؟ قال: صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية، الذي تخلص بكيده عن سنن الأسنة وظباة السيوف، يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلدا أعجميا منفردا بنفسه، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكا عظيما بعد انقطاعه، بحسن تدبيره وشدة شكيمته. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان وذلل له صعبه، وعبد الملك ببيعة أبرم عقدها، وأمر المؤمنين بطلب عزته واجتماع شيعته، عبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه، وطد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور وقتل المارقين، وأذل الجبابرة الثائرين (1).
هذا وأما عن شخصه، فقد وُصف عبد الرحمن، بأنه كان مديد القامة، نحيف القوام، أعور، أخشم (2) له ضفيرتان، أصهب (3)، خفيف العارضين، له خال في وجهه (4).
- 2 -
كانت الأندلس حتى ولاية يوسف بن عبد الرحمن الفهري، ولاية من ولايات الخلافة الأموية. فلما انهار سلطان بني أمية، انفرد يوسف بالأمر، وغدت الأندلس في عهده إمارة مستقلة. وتلقى عبد الرحمن الأموي تراث الإمارة كما خلفه يوسف، ولم ينشئ رغم كونه سليل بني أمية، لنفسه شيئا جديدا من رسوم الملك. وتلقبه الرواية الاسلامية أحياناً بالأمير، وأحيانا بالإمام (5)، ويلقب أيضا بصاحب الأندلس (6). ويعرف بعبد الرحمن الداخل لأنه أول من دخل الأندلس من أمراء بني أمية وحكمها، ويعرف أيضا بعبد الرحمن الأول، لأنه أول أمراء ثلاثة من بني أمية بهذا الاسم حكموا الأندلس، هم عبد الرحمن الداخل،
(1) راجع أخبار مجموعة ص 118 و119؛ والبيان المغرب ج 2 ص 61 و62، وبين الروايتين اختلاف يسير في الألفاظ.
(2)
هو الذي فقد حاسة الشم.
(3)
من الصهبة والصهوبة وهي احمرار الشعر.
(4)
نفح الطيب ج 1 ص 156؛ وابن الأثير ج 6 ص 37.
(5)
راجع أخبار مجموعة ص 100 - 104 حتى نهاية الحديث عن عبد الرحمن، وابن خلدون ج 4 ص 122، والبيان المغرب ج 2 ص 51 وما بعدها، وص 60، حيث ينعت عبد الرحمن بالإمام، وكذلك نفح الطيب ج 2 ص 74، والروض المعطار (القاهرة 1937) ص 186.
(6)
ابن الأثير ج 6 ص 37، والبيان المغرب ج 2 ص 50.
وحفيده عبد الرحمن الأوسط (ابن الحكم)، ثم عبد الرحمن الناصر.
وكانت الدعوة العباسية قد انتهت إلى الأندلس حين مقدم عبد الرحمن، وذاعت في منابرها، ودعى في الخطبة لبني العباس في كثير من النواحي، ثم دعى لهم في قرطبة ذاتها، ودعى عبد الرحمن الداخل نفسه لأبى جعفر المنصور مدى أشهر، وكان ذلك رغم غرابته وتناقضه، عملا من أعمال السياسة. ولكن جماعة من بني أمية الذين وفدوا على الأندلس، وعلى رأسهم عبد الملك المرواني، اعترضوا على هذا التصرف، ونوهوا بما أثم به بنو العباس في حق بني أمية، وما زالوا بعبد الرحمن حتى قرر قطع ذكر بني العباس من الخطبة (139هـ)، فقطعت من سائر منابر الأندلس (1). ولكن عبد الرحمن لم يحاول أن يتخذ سمة الخلافة قط، رغم كونه سليل أقيالها. ويرجع ذلك إلى اعتبارات دينية وسياسية، يجملها ابن خلدون في قوله، إن بني أمية بالأندلس " تلقبوا كسلفهم مع ما علموه من أنفسهم من القصور عن ذلك، بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملة، والبعد عن دار الخلافة التي هي مركز العصبية، وأنهم إنما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم عن مهالك بني العباس "(2). ويقول لنا في موضع آخر إن عبد الرحمن لم يتخذ سمة الخلافة تأدبا منه في حق الخلافة بمقر الإسلام ومنتدى العرب (3). ويقول المسعودي إن الخلافة لم يكن يستحقها عند بني أمية إلا من كان مالكا للحرمين، ولذلك سموا بالخلائف، حتى بعد أن تسموا بالخلافة ولم يخاطبوا بالخلفاء (4). وعلى أي حال فإن بواعث السياسة العملية، هي التي حملت عبد الرحمن على سلوك هذا المسلك، والحرص على عدم التورط في رسوم لم يحن الوقت لاتخاذها، والدخول بذلك مع الخلافة العباسية القوية في منافسة لا تؤمن عواقبها.
وأما عن نظام الحكومة، فقد اتبع عبد الرحمن الداخل سنة أسلافه بالمشرق في تبسيط الرسوم والنظم، وأنشأ منصب الحجابة، ولكنه لم ينشىء مناصب الوزارة، بل استعاض عنها بأعوان وأشياخ يعاونونه في القيام بمهام الحكم، وليست لهم سمة الوزارة، وإنما هم أقرب إلى الخاصة وأهل الشورى. واختار أعوانه في
(1) نفح الطيب ج 2 ص 78، وابن الأبار في الحلة السيراء (ليدن) ص 33.
(2)
المقدمة ص 190.
(3)
ابن خلدون ج 4 ص 122.
(4)
المسعودي في مروج الذهب (بولاق) ج 1 ص 78.
البداية من أصدقائه، الذين استقبلوه يوم مقدمه، وآزروه وقاتلوا معه، فولى حجابته تمام بن علقمة، ثم ولاها من بعده ليوسف بن بخت الفارسي مولى عبد الملك ابن مروان، ثم عبد الكريم بن مهران الغساني، ثم عبد الرحمن بن مغيث ولد مغيث فاتح قرطبة، وولاها في آخر أيامه لمنصور الخصي، فلم يزل في حجابته حتى توفي. وعين لمشورته أبا عثمان عبيد الله بن عثمان كبير أنصاره، وصهره عبد الله بن خالد، فكانا مدى حين دعامة حكومته. وكان من أعوان حكومته أيضا جدار بن عمرو، وأبو عبدة حسان بن مالك زعيم إشبيلية، وشهُيد بن عيسى ابن شهيد، وعبد السلام بن بسيل الرومي، وهما من موالي بني أمية، وثعلبة ابن عبيد الجذامي الذي ولاه سرقسطة فيما بعد، وعاصم بن مسلم الثقفي وهو من خاصة أنصاره يوم المسارّة. وولى قيادة عسكره مولاه بدرا، وتمام بن علقمة، وعبد الملك المرواني، وثعلبة بن عبيد، وغيرهم من خاصة عصبته، وقد كان عبد الرحمن يتولى بنفسه قيادة الجيش، في معظم الوقائع والحروب التي نشبت بينه وبين خصومه كما رأينا. وولى عبد الرحمن على الكور والثغور جماعة مختارة من أصدقائه، وذوى رحمه الوافدين عليه حسبما فصلنا في مواضعه. وعلى الجملة فقد كانت حكومة عبد الرحمن الداخل تقوم في البداية بالأخص على العصبية والموالاة، وكانت عربية في بنائها وروحها، ولكن الخصومة المستعرة التي شهرها زعماء القبائل والبطون المختلفة على عبد الرحمن، والثورات المستمرة التي عملوا على إضرامها من حوله، ونكثهم المتكرر بعهودهم، حمله على الاسترابة بالعرب والحذر منهم، فمال عنهم إلى اصطناع الموالي والبربر، ولاسيما بربر العُدوَة (المغرب) وحشد حوله من الموالي والبربر والرقيق آلافاً مؤلفة، لتكون له وقت الحاجة عونا يركن إليه ويثق به. وكان ذلك قاعدة للسياسة التي سار عليها خلفاء عبد الرحمن الداخل من بعده، والتي بلغت ذروتها في عهد عبد الرحمن الناصر، كما نفصل في موضعه (1).
وأما عن سياسة عبد الرحمن نحو رعاياه النصارى (المستعربين)، ونحو نصارى الشمال، فقد كانت سياسة اعتدال ومهادنة. وكان من الواضح أنه نظراً لاشتغاله المستمر بأمر الثورات الداخلية، لم يفكر في غزو أرض النصارى، وأنه
(1) راجع نفح الطيب ج 1 ص 156، وج 2 ص 67.
كان يرحب بعقد السلم والمهادنة معهم. وهذا الأمان الذي يقال إن عبد الرحمن أصدره لجيرانه نصارى قشتالة يؤيد هذه السياسة وهذا نصه:
" بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب أمان الملك العظيم عبد الرحمن، للبطارقة والرهبان والأعيان والنصارى والأندلسيين أهل قشتالة، ومن تبعهم من سائر البلدان. كتاب أمان وسلام، وشهد على نفسه أن عهده لا ينسخ ما أقاموا على تأدية عشرة آلاف أوقية من الذهب وعشرة آلاف رطل من الفضة، وعشرة آلاف رأس من خيار الخيل، ومثلها من البغال، مع ألف درع وألف بيضة ومثلها من الرماح، في كل عام إلى خمس سنين، كتب بمدينة قرطبة ثلاث صفر عام اثنين وأربعين ومائة (759 م) "(1).
وكان عبد الرحمن الداخل يتمتع بمواهب إدارية باهرة، فاستطاع خلال الاضطراب الشامل أن يوطد دعائم الحكم والإدارة، وأن يقمع كثيراً من ضروب الفساد والبغي، وأن يؤيد هيبة القانون والنظام. ولما توطد سلطانه وخبا ضرام الثورة نوعاً، استطاعت الأندلس أن تتمتع في ظل حكومته بأمن وطمأنينه ورخاء لم تعرفها منذ بعيد، ولو لم يُشغل عبد الرحمن طوال عهده بقمع الثورة والفتن الداخلية، لاستطاع كأسلافه الفاتحين الأوائل، أن يبعث الأندلس خلقا جديدا، وأن يجعل منها حديقة يانعة. على أنه ذلل الصعب ومهد الطريق لعقبه، واستطاع أن يضع دعائم تلك المملكة، التي غدت على يد بنيه أعجوبة العصور الوسطى. وينوه ابن حيان مؤرخ الأندلس بمقدرة الداخل وكفاياته الإدارية فيقول إنه " دون الدواوين، ورفع الأواوين، وفرض الأعطية، وعقد الألوية، وجند الأجناد، ورفع العماد، وأوثق الأوتاد، فأقام للملك آلته، وأخذ للسلطان عدته "(2).
وعنى عبد الرحمن بالجيش عناية خاصة، فحشد المتطوعة والمرتزقة من كل صوب، وبلغت قواته مائة ألف مقاتل (3)، هذا عدا حرسه الخاص الذي أنشأه
(1) أورد ابن الخطيب في كتاب الإحاطة (مخطوط الإسكوريال) نص هذا الكتاب ونقله عنه الغزيري في فهرسه. راجع Casiri: Bibliotheca Arabico - Hispana Escurialenses.Vol.II.p. 104. بيد أننا نرتاب على الأقل في صحة الأرقام التي وردت به لضخامتها بالنسبة لموارد النصارى في هذا العصر.
(2)
نقله نفح الطيب ج 1 ص 155.
(3)
نفح الطيب ج 2 ص 74.
من الموالي والبربر والرقيق حسبما قدمنا ويبلغ زهاء أربعين ألفا (1). كذلك عنى عبد الرحمن في أواخر عهده بأمر القوات البحرية، فأنشأ عدة قواعد لبناء السفن في بعض الثغور النهرية والبحرية، مثل طركونة وطرطوشة وقرطاجنة وإشبيلية وغيرها (2). ويقال إن عبد الرحمن الداخل لما توطد ملكه، وكثرت قواته وعدته، فكر في استرداد ملك بني أمية بالشام، والرحيل إلى المشرق ببعض قواته، واستخلاف ولده سليمان على الأندلس، وأيده في ذلك خاصة أسرته ومواليه. وكان ذلك في سنة 163هـ. ولكن اضطرام الثورة في سرقسطة حال بينه وبين ذلك العزم، وتوفي قبل أن تسنح فرصة لتنفيذه (3). وقد تكون هذه أمنية جالت بذهن عبد الرحمن، ولكنا لا نجد في ظروف حياته التي انقضت كلها في إخماد الفتن والثورات المحلية، ما يسمح باعتبار مثل هذه الأمنية مشروعاً جدياً تتخذ العدة لتنفيذه.
واستطاع الداخل أيضاً أن يعني بالحاضرة الأموية الجديدة أعني قرطبة، فحصنها وزينها بالمنشآت الفخمة والرياض اليانعة. وكان أول ما أنشأ بها في عهده منية الرُّصافة وقصرها المنيف. وكان قصر الإمارة بناء قديماً ساذجاً يرجع إلى عهد القوط، فرأى عبد الرحمن أن ينشئ ضاحية ملوكية جديدة، تليق بحاضرة ملكه، وتعيد ذكرى بهاء بني أمية بالمشرق، فأنشأ في شمال غربي قرطبة قصراً فخماً تحيط به حدائق زاهرة، وجلب إليها مختلف الغروس والبذور والنوى من الشأم وإفريقية، وسمى تلك الضاحية الجديدة بالرُّصافة تخليداً لذكرى الرُّصافة التي أنشأها جده هشام بالشأم، واتخذها مقاماً ومنتزهاً ومركزاً للإمارة، وكانت حدائق الرصافة أماً لحدائق الأندلس، ومنها انتشرت بالأندلس غروس الشام وإفريقية (4). وفي سنة 150هـ بدأ عبد الرحمن بإنشاء سور قرطبة الكبير، واستمر العمل فيه مدى أعوام (5). وأنشأ عبد الرحمن في قرطبة وفي باقي مدن الأندلس مساجد محلية عديدة، وبدأ في أواخر أيامه (سنة 170 هـ - 786 م) بإنشاء المسجد
(1) نفح الطيب ج 2 ص 67.
(2)
Reinaud: ibid ، p. 120
(3)
نفح الطيب ج 1 ص 156، وج 2 ص 76.
(4)
نفح الطيب ج 1 ص 217.
(5)
ابن خلدون ج 4 ص 123.
الأموي الجامع بقرطبة، وكان موضعه كنيسة قوطية قديمة، وجلب إليه الأعمدة الفخمة والرخام المنقوش بالذهب واللازورد. ولكنه توفي قبل إتمامه، فأتمه ولده هشام، وزاد فيه من بعده ملوك بني أمية، حتى غدا أعظم مساجد الأندلس، وبلغ ما أنفقه عليه الداخل وحده زهاء مائة ألف دينار (1). وأنشأ عبد الرحمن أيضا في قرطبة داراً للسكة، تضرب فيها النقود على نحو ما كانت تضرب في دمشق أيام بني أمية وزناً ونقشاً.
- 3 -
وكان عبد الرحمن الأموي جواداً، جم البساطة والتواضع، يؤثر لبس البياض ويعتم به، يصلي بالناس أيام الجمع والأعياد، ويحضر الجنائز ويصلى عليها، ويعود المرضى، ويزور الناس ويخاطبهم، ولم ينحرف عن هذه الديمقراطية إلا في أواخر عهده، حينما نصحه بعض خاصته بالترفع، استبقاء لهيبة الملك، والحذر من بوادر العامة وشر المتآمرين (2). وقد كان في نقش خاتمه " عبد الرحمن بقضاء الله راض " و" وبالله يثق عبد الرحمن وبه يعتصم " ما ينم عن ذلك التواضع الجم (3)، حيث لم يتخذ لقب المظفر أو الناصر أو المنصور وما إليها.
بقي أن نتحدث عن ناحية أخرى من خلال عبد الرحمن البديعة، هي الناحية الأدبية. كان عبد الرحمن شاعراً جيد النظم، ناثراً فصيح البيان، قوى الترسل، عالماً بالشريعة، وكان يعتبر من أعظم بني مروان مكانة في البلاغة والأدب (4). وقد انتهت إلينا بعض رسائله وفيها تبدو قوة بيانه وفيض بلاغته. ومن ذلك رسالة موجزة وجهها إلى سليمان بن يقظان حين خروجه عليه:" أما بعد، فدعني من معارض المعاذير، والتعسف عن جادة الطريق، لتمدن يداً إلى الطاعة، والاعتصام بحبل الجماعة، أو لألقين بناتها على رصف المعصية، نكالا بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد ". ومنها رسائله إلى بدر مولاه، يزجره عن تمرده وانحرافه وقد كتب إليه حين ألحف في طلب العفو والمنة: " لتعلم أنك لم تزل بمقتك حتى
(1) نفح الطيب ج 1 ص 155، والبيان المغرب ج 2 ص 60.
(2)
نفح الطيب ج 2 ص 67.
(3)
البيان المغرب ج 2 ص 50، ونفح الطيب ج 2 ص 76.
(4)
البيان المغرب ج 2 ص 60 و62؛ ونفح الطيب ج 2 ص 69؛ والمراكشي في المعجب ص 10.
ثقلت على العين طلعتك، ثم زدت إلى أن ثقل على السمع كلامك، ثم زدت إلى أن ثقل على النفس جوارك، وقد أمرنا بإقصائك إلى أقصى الثغر
…
". ومن أقواله لأصحابه يوم المسارّة يشحذ هممهم للقتال: " هذا اليوم هو أس ما يبنى عليه، إما ذل الدهر وإما عز الدهر، فاصبروا ساعة فيما لا تشتهون، تربحوا بها بقية أعماركم فيما تشتهون " (1).
وانتهى إلينا من نظم عبد الرحمن ما يدل على قوة شاعريته ورقة خياله. فمن ذلك قوله حين بلغه أن بعض أصدقائه يمن عليه، ويزعم أنه لولاه لما صار الملك إليه:
سعدي وحزمي والمهند والقنا
…
ومقادير بلغت وحال حائل
إن الملوك مع الزمان كواكب
…
نجم يطالعنا ونجم آفل
والحزم كل الحزم أن لا يغفلوا
…
أيروم تدبير البرية غافل
ويقول قوم سعده لا عقله
…
خير السعادة ما حماها العاقل
وأشاد بعضهم أمامه بموقف الغمر بن يزيد بن عبد الملك في مجلس عبد الله ابن علي جلاد بني أمية، ونعيه عليه إثمه في حقهم وسفكه لدمائهم، وفقده لحياته ثمناً لجرأته، فأنشد عبد الرحمن:
شتان من قام ذا امتعاص (2)
…
فشال ما قال واضمحلا
ومن غدا مصلتا لعزم (3)
…
مجرداً للعداة نصلا
فجاب قفراً وشق بحراً
…
ولم يكن في الأنام كلاّ
فبز ملكاً وشاد عزاً
…
ومنبراً للخطاب فصلا
وجند الجند حين أودى
…
ومصر المصر حين أجلى
ثم دعا أهله جميعاً
…
حيث انتأوا أن هلم أهلا (4)
ومن قوله في التشوق إلى ربوع الشام، وهو رقيق مؤثر:
أيها الركب الميمم أرضي
…
أقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرض
…
وفؤادي ومالكيه بأرض
(1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 68 - 70، حيث يورد عدة من رسائل عبد الرحمن وأقواله.
(2)
يريد الغمر بن يزيد بن عبد الملك.
(3)
يريد نفسه أى عبد الرحمن الداخل.
(4)
هكذا يوردها المقري (نفح الطيب ج 2 ص 68)؛ ولكن صاحب البيان المغرب يوردها بصورة أخرى ج 2 ص 61).
قدر البين بيننا فافترقنا
…
وطوى البين عن جفوني غمضى
قد قضى الله بالفراق علينا
…
فعسى باجتماعنا سوف يقضى
ورأى بروض الرصافة وهي الضاحية الجديدة التي أنشاها، نخلة منفردة، فأثار منظرها في نفسه ذكرى وشجناً وأنشد (1):
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة
…
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى
…
وطول التنائي عن بنيي وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
…
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها
…
الذي يسح ويستمرىء السماكين بالويل (2)
- 4 -
هذا ويجب أن نستعرض هنا، وقبل اختتام الكلام على عصر عبد الرحمن الداخل، عناصر المجتمع الأندلسي، الذي كان خلال هذه الأحداث والخطوب التي توالت عليه منذ أيام الفتح، قد استقر، وأخذت جذوره في التوطد والرسوخ، وأخذت عناصره المختلفة، يؤدى كل منها دوره في غمرة الحوادث، مستهديا بعواطفه وأمانيه ومثله الخاصة.
وقد سبق أن أشرنا بإيجاز إلى أن المجتمع الإسلامي الذي قام في شبه الجزيرة عقب الفتح، كان يتألف من عناصر رئيسية ثلاثة، هي العرب، والبربر، والمولدون. كما أشرنا إلى عناصر الشقاق والتفرق التي كانت تعمل في صفوف هذا المجتمع الإسلامي الجديد.
كانت البطون العربية التي اشتركت في الفتح، واستقرت في شبه الجزيرة تضطرم منذ البداية بروحها القبلي المتأصل، ولم تستطع قط أن تتحرر من هذا
(1) وينسب هذا الشعر أيضا لعبد الملك بن بشر بن عبد الملك بن مروان، وكان من الداخلين إلى الأندلس (راجع الحلة السيراء ص 34).
(2)
يورد ابن الأبار في هذا الموطن رواية يفهم منها أن هذه النخلة هي أول نخلة غرست بالأندلس، ومنها تولد جميع النخيل بالأندلس فيما بعد، وإذا فيكون عبد الرحمن الداخل هو أول من نقل غراس النخيل بالأندلس فيما نقل من غراس الشام إلى الرصافة (الحلة السيراء ص 35). ولكن يحق لنا أن نلاحظ أن العرب فتحوا الأندلس قبل ذلك بنحو ثمانين عاما، ومن قبلها فتحوا إفريقية؛ ومن المعقول أن يكون النخل قد نقل إليها فيما نقلوا من غراس بلادهم؛ وقد نقلوه قبل ذلك إلى مصر منذ الفتح. وإذا كان النخيل قد غرس بإفريقية عقب افتتاحها، أفلا يكون من المرجح أنه قد نقل منها إلى الأندلس عقب افتتاحها أيضا؟ وقد كان أول ما عنى به العرب في الأندلس تنظيم الزراعة وغرس الحدائق.
الروح النكد، الذي أشاع فيما بينها عوامل الشقاق والتنابذ، وأثار فيما بينها غير مرة ضرام الحرب الأهلية. وقد رأينا كيف عانت الأندلس في أواخر عهد الولاة من هذه الحرب الأهلية، التي اضطرمت بين المضرية واليمنية وبين البلديين والشاميين، وكيف كادت تودي بسلامة الأندلس ومنعتها. ثم رأينا كيف قضى عبد الرحمن الداخل معظم عهده في مكافحة الثورات المتعاقبة التي شهرها في وجهه زعماء القبائل والبطون في سبيل الاحتفاظ بسلطانهم المحلي. وهكذا كانت القبائل العربية في الأندلس منقسمة على نفسها، وإن كانت الرياسة قد بقيت فيها على يد الدولة الأموية الجديدة التي قامت في شبه الجزيرة. بيد أن العرب لم يكونوا بين كتلة الأمة الأندلسية أغلبية، بل كانوا بالعكس أقلية تتمثل بالأخص في الأرستقراطية العربية التي استأثرت بمعظم مغانم الفتح، واستولت حينا على أزمة الحكم، واحتلت في شبه الجزيرة معظم البقاع الخصبة. وقد ذكر لنا ابن غالب في " فرحة الأنفس "، كثيراً من البطون العربية التي استقرت بالأندلس، وبعض من كان ينتمي إليها من الأسر الأندلسية النابهة، وذكر لنا من منازلها، بلنسية وأوريولة وإشبيلية وغرناطة ووادي آش (1). وكانت الأرستقراطية العربية تستقر بالأخص في القواعد والمدن الكبيرة، ولا سيما في قرطبة، وتترك العمل في ضياعها الشاسعة للموالي والبربر، وكان أمراء بني أمية منذ عهد عبد الرحمن الداخل يعملون على مقارعة هذه الأرستقراطية القوية وإخضاعها، حتى جاء عبد الرحمن الناصر، فقضى على سلطانها السياسي والاجتماعي، ورفع إلى مكانها الموالي والصقالبة، ثم جاء المنصور بن أبي عامر، فعمل على تمزيقها وتشتيتها، وخلق أرستقراطية جديدة من البربر تقوم مكانها، ومن ذلك الحين تغيض الأصول العربية في شبه الجزيرة تباعا، وتضمحل مكانتها وأهميتها.
ويرجع انكماش العنصر العربي في الأمة الأندلسية، أولا إلى كونه يمثل الطبقة الممتازة وهي تكون الأقلية دائما، وثانيا إلى أن الهجرة العربية إلى شبه الجزيرة لم تكن هجرة غزيرة، وقد توقفت تقرييا منذ القرن الثالث الهجري، ولم يكن ما ينسب للأمراء والكبراء من كثرة النسل، لامتلاء قصورهم بالجواري، مما يعوض هذا النقص العنصري.
وإلى جانب الأقلية العربية الأرستقراطية، يجب أن نذكر طائفة الموالي التي
(1) نقله المقري في نفح الطيب ج 1 ص 136 و137.
كانت تنتمى اليها أولا وتشد بأزرها، ثم انقلبت عليها فيما بعد حينما تمكنت واشتد نفوذها. وقد نمت هذه الطائفة بمر الأيام. وظهر منها كثير من القادة والزعماء النابهين، الذين شغلوا أعظم المناصب في الدولة وفي الجيش، مثل بني شُهيد، وبني مغيث وبني عَبْدَه، وبني جهور، وبني بسيل، وهم الذين شغلوا مناصب القيادة والحجابة أجيالا. والى جانب هؤلاء، يجب أن نذكر طائفة الصقالبة الأجانب التي ظهرت أهميتها منذ أيام عبد الرحمن الداخل، وبلغت ذروة تضخمها ونفوذها أيام عبد الرحمن الناصر. وقد كان بنو أمية يؤثرون اصطناع هؤلاء الموالي والإفادة من عونهم وتأييدهم.
وأما العنصر الثاني الذي كانت تتكون منه الأمة الأندلسية فهو عنصر البربر.
وقد قام البربر حسبما رأينا بأكبر قسط في فتح الأندلس، وفي الغزوات التي اضطلعت بها الجيوش الاسلامية فيما وراء البرنيه، وكانوا في معظم الأحيان أغلبية في تلك الجيوش، وإن كانت القيادة قد لبثت على الأغلب في أيدي القادة والضباط العرب. وكانت هجرة القبائل البربرية إلى شبه الجزيرة أسرع وأشد كثافة من هجرة العرب، أولا لقرب منازلهم في العدوة من شبه الجزيرة، وثانيا لشعورهم بما كان لهم من فضل في أعمال الفتح، وثالثا لما كان يحفزهم من آمال في البحث وراء طالعهم في هذا القطر الجديد، الذي كانت وديانه الخضراء تجذبهم من بواديهم المقفرة. وقد استمرت هجرة البربر على هذا المنوال أجيالا، بينما كانت هجرة العرب من منازلهم البعيدة في شبه الجزيرة العربية وفي الشام بطيئة محدودة أضف إلى ذلك ما عمد إليه أمراء بني أمية، منذ عهد عبد الرحمن الداخل من اصطناع البربر إلى جانب الموالي والصقالبة، والاستعانة بهم في تدعيم سلطانهم، لاسترابتهم بالقبائل العربية. وقد بلغت هذه السياسة كما سنرى فيما بعد ذروتها في عهد المنصور بن أبي عامر، حيث انثالت القبائل البربرية على شبه الجزيرة، واحتل زعماؤها معظم المناصب الكبيرة، وأضحى سواد الجيش مؤلفا منها. وقد كانت معظم البطون البربرية المهاجرة تنتمي بالأخص إلى زناتة ومصمودة ومكناسة ونفزة والبرانس، واشتهرت من هذه البطون بالأخص، مدغرة ومديونة ومكناسة وهوارة. ومنها خرج فيما بعد أمراء كثير من القواعد والثغور، وقامت من بينها ممالك من دول الطوائف. وقد كان البربر أكثرية في الشمال الغربي، وفي وسط الأندلس في منطقة جبال المعدن (أو جبال البرانس)، وفي أراضي السهلة
ووادي الحجارة، ومنطقة شرقي إشبيلية والفرنتيرة، وهي مناطق تمتاز على الأغلب بهضابها الوعرة، وهو ما كان يشجع البربر في أحيان كثيرة على الثورة ومقاومة الحكومة المركزية للمحافظة على استقلالهم المحلي (1).
والعنصر الثالث الذي كانت تتكون منه الأمة الأندلسية هو عنصر المولدين، وهم القوط والإسبان الذين أسلموا منذ الفتح، ودخلوا حظيرة المجتمع الإسلامي إلى جانب زملائهم العرب والبربر، مؤثرين أن يتمتعوا في ظل الإسلام بمزايا المساواة والثقة، والتحرر من القيود والأعباء التي تلاحق الذميين. ويعرف أولئك المولدون في الإسبانية بالخوارج أو المرتدين Renegados، أي الذين ارتدوا عن دينهم القديم، وهو النصرانية، ويسمون أحيانا بالمسالمة أو بالأسالمة أو أسالمة أهل الذمة، متى كان إسلامهم حديثا. وكان المولدون يكونون بين السكان كتلة كبيرة ربما كانت الأغلبية، وقد كان إسلامهم سريعاً، ولم يأت جيل أو اثنان حتى استطاعوا الاندماج في المجتمع الإسلامي، وأضحى من الصعب تمييزهم من المسلمين الأصليين، وغدوا بمضي الزمن عنصرا من أهم عناصر السكان إن لم يكن أهمها جميعاً، سواء من حيث الكثرة أو المستوى الاجتماعي والحضاري.
وإلى جانب هذه العناصر الأساسية الثلاثة، التي كانت تتكون منها الأمة الأندلسية، كان ثمة عنصران آخران هما المستعربون أو النصارى المعاهدون Mozarabes وهم النصارى الذين آثروا الاحتفاظ بدينهم القديم، ولبثوا يعيشون في المدن والأراضي المفتوحة تحت الحكم الإسلامي، وقد كانت منهم ثمة أقليات كبيرة في بعض المدن مثل طليطلة وقرطبة، واليهود، وقد رأينا كيف ساعدوا الفاتحين المسلمين وقت الفتح، وتعاونوا معهم في حفظ المدن المفتوحة وإدارتها، وقد كانت منهم أقليات في معظم المدن الأندلسية، تتمتع بحماية الحكومات الإسلامية ورعايتها. وقد ازدهرت هذه الأقليات اليهودية فيما بعد، وظهرت منها شخصيات بارزة تولت مناصب كبيرة في الدولة، وغلب نفوذها في بعض المناطق، كما حدث في مملكة غرناطة البربرية، وظهرت كذلك في ميدان العلوم والآداب، ونبغ منها علماء نابهون مثل ابن ميمون وغيره.
تلك هي العناصر المختلفة التي كانت تتألف منها الأمة الأندلسية. وسوف نعود من آن لآخر إلى التحدث عن هذه العناصر في مختلف المواطن والمناسبات.
(1) يحدثنا ابن حزم تفصيلا عن منازل البربر في الأندلس. راجع جمهرة أنساب العرب (القاهرة) ص 463 - 467.