المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثغزوات المسلمين - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

‌الفصل الثالث

غزوات المسلمين

في غاليس وشمال إيطاليا وسويسرة

توقف الغزو الإسلامي عقب بلاط الشهداء. استئناف الغزو في عهد هشام. غزو الفرنج لشمالي الأندلس. الغزوات الاسلامية المغامرة. صمت الرواية الإسلامية عن ذكرها. غزو قورسقة وشواطىء فرنسا الجنوبية. غزو مرسيليا وبروفانس. غزو موسى بن موسى لسبتمانيا. غزو جزيرة كاماراج. اضطراب الأحوال في جنوبي فرنسا. غزو المسلمين لشواطىء سان تروبيه. معاقلهم في تلك الأنحاء. تدخلهم بين النصارى. اختراق الغزاة لدوفينه. عبورهم مون سني. احتلالهم لممرات الألب. جوازهم الى سهول بييمون. عودهم إلى غزو بروفانس. غزوهم لمرسيليا وإيكس. غلقهم لممرات الألب. تقدمهم إلى ليجوريا. غزوهم لمنطقة فاليه وسافوا. وصولهم إلى قلب سويسرة وشرقها. غزوهم لثغر فريجوس. اتحاد الأمراء النصارى على مقاومتهم. استنجادهم بقيصر قسطنطينية. مهاجمة المسلمين وتمزيقهم. الصلح بينهم وبين ملك بروفانس. احتلالهم لممر سان برنار. استيلاؤهم على جرينوبل. غاراتهم في بييمون. الحرب بينهم وبين المجر. وصولهم إلى سان جالن. قتالهم وهزيمتهم. صدى الغزوات الإسلامية في جنوبي أوربا. سعي البابوية وإمبراطور ألمانيا لوقفها. محاربة الغزاة في دوفينه وبروفانس. هزيمتهم وارتدادهم إلى الجنوب. سقوط حصن فراكسنيه. سقوط المستعمرات الإسلامية في الألب. غزوات بحرية إسلامية لشواطىء فرنسا. غزو قورسقة وسردانية. ظروف هذه الغزوات الإسلامية. خواصها وبواعثها. آثارها المادية والأدبية. أثر العرب في تقدم الزراعة في الأنحاء المفتوحة. نقلهم لكثير من المحاصيل والغراس. أثرهم في تحسين سلالة الخيل. الآثار الاجتماعية. أقوال النقد الحديث.

- 1 -

تحدثنا فيما تقدم عن غزوات العرب في غاليس (جنوبي فرنسا) منذ الفتح، ورأينا كيف وضع ارتداد العرب في موقعة بلاط الشهداء في سنة 114 هـ (732 م) حداً لغزواتهم في غاليس، وكيف فقدوا تباعاً قواعدهم في لانجدوك وسبتمانيا، حتى انتهت رياستهم فيما وراء البرنيه بسقوط ثغر أربونة، آخر قواعدهم في سبتمانيا، في يد الفرنج في سنة 142 هـ (759 م)(1).

وكانت الأندلس خلال هذه الفترة تضطرم بالفتن الداخلية والحرب الأهلية.

ولما استطاع عبد الرحمن الأموي أن ينتزع الرياسة لنفسه من غمر الفتنة، وأن يعيد

(1) راجع " دولة الإسلام في الأندلس " القسم الأول ص 137.

ص: 464

ملك الدولة الأموية بالأندلس، لبث بقية عهده يعمل على توطيد ملكه الفتى، وحمايته من الثوار والخوارج، ولم تتح له فرصة للتفكير في الغزوات الخارجية. بل لقد اضطر أن يقف موقف المدافع من مملكة الفرنج ومن عاهلها شارلمان، الذي حاول أن يغزو الولايات الإسلامية، بمؤازرة الزعماء الخوارج في الثغر الأعلى، واضطر أن يغضي مدى حين عن غزوات المملكة النصرانية الناشئة، لأراضي الأندلس وقواعدها الشمالية.

فلما تولى ولده هشام الملك، واستطاع أن يقضي على ثورة أخويه سليمان وعبد الله، وجه عنايته إلى مقارعة المملكة الفرنجية، ورد خطرها عن الأندلس، وبعث إلى الشمال في سنة 176 هـ (792 م) بجيش كثيف بقيادة حاجبه عبد الملك ابن عبد الواحد بن مغيث، فعبر جبال البرنيه، ونشبت بين المسلمين والفرنج في بسائط سبتمانيا عدة معارك كانت سجالا، وجدد بذلك عهد الغزو والجهاد فيما وراء البرنيه.

وعاد الفرنج في عهد الحكم بن هشام، فعبروا جبال البرنيه في سنة 185 هـ (801 م) وغزوا الثغر الأعلى وافتتحوا ثغر برشلونة، واقتطعوا بذلك جزءاً من الأندلس الشمالية. ولم تمض بضعة أعوام أخرى، حتى عبر الفرنج البرنيه للمرة الثانية (193 هـ - 809 م) وحاولوا الاستيلاء على مدينة طرطوشة، ولكن المسلمين استطاعوا إنقاذها.

وفي عهد عبد الرحمن بن الحكم سارت حملة بحرية أندلسية لغزو الجزائر الشرقية، وقد رأينا فيما تقدم كيف غدت مياه الأندلس الشرقية مركزاً لحملات البحارة المسلمين، يسيرون منها نحو الشمال والشرق إلى الشواطىء والجزائر القريبة، ينقضون عليها طلباً للغنيمة والسبي، وكيف بدأت من ذلك الحين محاولات المجاهدين المسلمين، لغزو شواطىء فرنسا الجنوبية وأحواز مصب الرون.

وقد فصلنا فيما تقدم من كتابنا أخبار الغزوات الأندلسية الرسمية فيما وراء البرنيه، وأشرنا بإيجاز إلى بداية عهد الحملات البحرية الأندلسية الخاصة (1). سنحاول في هذا الفصل أن نستعرض لمحة من أخبار هذه الحملات والغزوات الإسلامية غير الرسمية البحرية والبرية، إلى شواطىء فرنسا الجنوبية، وما يجاورها

(1) راجع " دولة الإسلام في الأندلس " ص 265 و266.

ص: 465

من سهول ليجوريا وهضاب سويسرة، ومما يجدر ذكره أن الرواية الإسلامية قلما تشير إلى هذه الغزوات بكلمة؛ وربما كان ذلك راجعاً إلى طبيعة هذه الغزوات والمغامرات غير الرسمية، التي كانت تنظمها جماعات خاصة من المجاهدين لا تربطها بحكومة قرطبة صلة رسمية، ولا تعتمد إلا على جهودها ومواردها الخاصة.

بدأت هذه الغزوات الأندلسية للشواطىء والثغور الفرنجية منذ أوائل القرن التاسع. وكان معظمها حملات بحرية، قوامها جماعات من المجاهدين والزعماء المغامرين. ففي سنة 806 م غزت إحدى هذه الجماعات البحرية المجاهدة جزيرة كورسيكا (قورسقة)، وهزمت الأسطول الفرنجي الذي بعثه ببين ابن شارلمان ملك إيطاليا لقتالهم، وعادت بكثير من الغنائم والسبي. وتوالت بعد ذلك غزوات البحارة الأندلسيين لشواطىء كورسيكا وسردانية، وهما يومئذ أغنى جزر البحر المتوسط. وكذلك توالت غارات البحارة المسلمين على شواطىء فرنسا الجنوبية.

وتعني الرواية الكنسية والفرنجية المعاصرة بتدوين هذه الغزوات الإسلامية، وتصف عصفها وعيثها، وما كانت تحدثه من الرعب بين السكان النصارى، وتقول لنا إن البحارة المسلمين، ذهبوا في الجرأة إلى حد التجول في مياه الأطلنطيق، والإغارة على شواطىء فرنسا الغربية، وإن سفينة عربية كبيرة اجتازت في ذلك الحين مياه الأطلنطيق حتى مصب نهر اللوار (1).

وفي سنة 838 م سار أسطول أندلسي من مياه طرّكونة ومياه الجزائر الشرقية إلى مياه بروفانس، وغزا ثغر مرسيليا وما حوله من الأراضي، وأثخن فيها، وحمل الغزاة كثيراً من الغنائم والسبي. ولم يستطع ملك فرنسا الضعيف لويس ابن شارلمان مقاتلة الغزاة. ثم عاد البحارة المسلمون وغزوا شواطىء بروفانس مرة أخرى، ونفذوا إلى مصب نهر الرون، واقتحموا مدينة آرل وخربوا كنائسها.

وتوالت بعد ذلك غزواتهم لهذه المنطقة. وفي سنة 850 م في أواخر عهد عبد الرحمن ابن الحكم، عبر موسى بن موسى بن قسي صاحب سرقسطة وزعيم الثغر الأعلى، جبال البرنيه، وغزا سبتمانيا وأثخن في نواحيها، واضطر شارل الأصلع ملك فرنسا أن يهادنه، وأن يعقد الصلح معه، وأن يسترضيه بالهدايا والتحف. ومن

(1) جمعت أقوال الروايات الكنسية والفرنجية المعاصرة، عن هذه الغزوات الإسلامية، في موسوعة Bouquet التي سبقت الإشارة إليها غير مرة، بنصوصها اللاتينية أو الفرنسية القديمة، وقد اعتمدنا عليها في كثير من حوادث هذا الفصل.

ص: 466

المرجح أن هذه الغزوة لم تكن ذات طابع رسمي، ولم تكن لها صلة بحكومة قرطبة. ذلك أن بني قسيّ زعماء الثغر الأعلى في ذلك الحين، كانوا يتمتعون باستقلال محلي، ولا يدينون بالولاء لحكومة قرطبة، وكانوا بالعكس ينزعون إلى مقاومتها والخروج عليها. وفي سنة 869 م هاجمت جماعة من البحارة والمجاهدين المسلمين شواطىء بروفانس مرة أخرى، واستولت على جزيرة كاماراج الواقعة في مصب الرون، وأسرت أسقف آرل الذي كان يقيم بها، وعادت مثقلة بالغنائم والأسرى.

- 2 -

وأذكى نجاح هذه الغزوات المتوالية، في نفوس المغامرين والمجاهدين من مسلمي الأندلس وإفريقية، حب التوغل في هاتيك الأنحاء، ورغبة في استعمارها والاستقرار فيها. وكانت أحوال غاليس (جنوبي فرنسا) قد اضطربت يومئذ، وغلب سيد من سادة هذه الأنحاء يدعى بوسون على ولايتي دوفينه وبروفانس، وتلقب بملك آرل. وقام يناوئه بعض منافسيه، ونشبت بينه وبينهم حرب أهلية (نحو سنة 890 م). ففي تلك الآونة رست سفينة عربية صغيرة عليها عشرون بحاراً من المسلمين، في خليج جريمو أو خليج سان تروبيه، ونزلوا إلى الشاطىء ولجأوا إلى غابة كثيفة، تظلها الجبال، ثم هاجموا بعض الضياع القريبة وفتكوا بسكانها.

ولما رأوا منعة معقلهم من البر والبحر، عولوا على الاستقرار فيه، ودعوا إخوانهم من الثغور الإسلامية القريبة إلى القدوم، وأرسلوا في طلب العون والتأييد من حكومات الأندلس والمغرب، فوفد عليهم كثير من المغامرين البواسل. ولم تمض أعوام قلائل، حتى استقروا في ذلك المكان، وأنشأوا لهم سلسلة من المعاقل والحصون، أمنعها وأشهرها حصن تطلق عليه الرواية الفرنجية المعاصرة، اسم (فراكسنتم) Fraxinetum. والمظنون أنه هو المكان الذي تقوم عليه اليوم قرية (جارد فرينيه) Garde - Frinet الواقعة في سفح جبال الألب (1). وما زالت ثمة آثار تدل على قيام معاقل قديمة في ذلك المكان، ولما كثر جمعهم، واشتد ساعدهم، اخذوا في الإغارة على الأنحاء المجاورة، وأصبحوا قوة يخشى بأسها. وسعى إليهم بعض الأمراء والسادة المتنافسين يستظهرون بهم، بعضهم على بعض، فلبوا الدعوة،

(1) Reinaud: Invasions des Sarrazins en France. p. 160

ص: 467

وانتزعوا من بعض السادة أراضيهم، وأعلنوا أنفسهم سادة في الأنحاء المغلوبة، وبثوا الذعر والروع في جنوب بروفانس، حتى وصفهم كاتب معاصر " بأن واحداً منهم يهزم ألفاً، واثنين يهزمان ألفين "(1).

وكانت هذه أول خطوة في استعمار المسلمين لجنوبي فرنسا. وفي خاتمة القرن التاسع اتخذ المستعمرون المسلمون خطوة أخرى، فتقدموا نحو جبال الألب غرباً، وشمالا. وكانت مملكة آرل قد ضعفت واضمحلت، وخلف بوسون ولده لويس، ولكنه ذهب إلى إيطاليا ليحارب إلى جانب حلفائه فهزم هنالك وأسر، وتركت مملكته بلا دفاع، وساد الإنحلال والفوضى غاليس كلها. فانتهز المسلمون تلك الفرصة واخترقوا مفاوز دوفينه، وعبروا " مون سني " أهم ممرات الألب الفرنسية، واستولوا على دير نوفاليس الشهير الواقع في وادي " سيس " على حدود بييمون، وفر الأحبار إلى مختلف الأنحاء (سنة 906 م). وأغار المسلمون على القرى والضياع المجاورة ونهبوها، وفتكوا بأهلها، وأسر بعضهم وأخذوا إلى تورينو بإيطاليا وسجنوا في ديرها، ولكنهم استطاعوا أن يحطموا أغلالهم، وأضرموا النار في الدير وفي المدينة، وفروا عائدين إلى زملائهم. واشتد بأس المسلمين في تلك الأنحاء، واحتلوا معظم ممرات الألب، فسيطروا بذلك على طرق المواصلة بين فرنسا وإيطاليا، ثم انحدروا من آكام الألب إلى سهول بييمون، وأغاروا على بعض مناطقها.

وفي سنة 908 م نزلت سرية قوية من البحارة المسلمين في شاطىء بروفانس على مقربة من " إيج مورت " ونهبت دير بالمودي، وكانت الأديار والكنائس يومئذ مطمح أنظار الغزاة، لما كانت تغص به من الذخائر والأموال. وانتشر المسلمون بعد ذلك في جميع الأنحاء المجاورة، واجتاحوا كل ما في طريقهم من البسائط، وهاجموا مرسيليا، وهدموا كنيستها، وغزوا إيكس، وسبوا النساء وتزوجوا بهن ليكثر نسلهم ويقووا به، وانضم إليهم كثير من النصارى المغامرين من أهل هذه الأنحاء، وهجر السادة والأغنياء حصونهم وقصورهم، والتجأوا إلى الداخل خشية القتل والأسر، وأغلق المسلمون طريق الألب إلى إيطاليا، وكان يمر بها كل عام ألوف من الحجاج الذين يقصدون إلى رومة، واقتضوا منهم الضرائب الفادحة ليسمحوا لهم بالمرور.

(1) Reinaud: ibid، p. 161

ص: 468

- 3 -

ثم اتخذ المسلمون خطوة جديدة في سبيل التقدم إلى أواسط أوربا، فدفعوا بغزواتهم إلى بييمون ومونفراتو. وتقول لنا الرواية الكنسية المعاصرة إنهم وصلوا في أوائل القرن العاشر إلى حدود ليجوريا على شاطىء خليج جنوة. ويروي لوتبراند، وهو كاتب معاصر، أن العرب غزوا سنة 906، مدينة " آكي " من أعمال مونفراتو الشهيرة بحماماتها (وهي على مقربة من تورينو)، ثم غزوها ثانية سنة 935 بقيادة زعيم يدعى (ساجيتوس) ولكنهم هزمو ومزقوا. وفي هذا الوقت أيضاً نزلت جماعة قوية من البحارة الإفريقيين بساحل جنوة، وقتلت عدداً كبيراً من أهلها، وأسرت جموعاً كثيرة من النساء والأطفال.

وفي سنة 939 م غزا المسلمون منطقة " فاليه " في جنوب سويسرة، ونهبوا دير " أجون " الشهير، وغزوا في الوقت نفسه منطقة " تارانتيز " من أعمال سافوا الوسطى، ثم اتخذوا منطقة " فاليه " قاعدة للإغارة على الأراضي المجاورة في سويسرة وإيطاليا، ونفذوا منها إلى أواسط سويسرة، ثم إلى " جريزون " في شرق سويسرة، ونهبوا دير ديزنتي أشهر وأغنى الأديار السويسرية، ونهبوا طائفة أخرى من الأديار والكنائس الغنية. وفي بعض الروايات أيضاً أن المسلمين وصلوا في غزواتهم إلى بحيرة جنيف، وجاوزوا إلى مفاوز جورا الواقعة في شمالها، وكانت سويسرة يومئذ من أقاليم بورجونية وملكتها يومئذ الملكة " برت " الوصية على ولدها الطفل كونراد، فارتدت حين اقتراب العرب إلى حصن ناء في جهة نيو شاتل.

وفي سنة 930 م غزا العرب فريجوس وكانت يومئذ من أكبر وأمنع ثغور فرنسا الجنوبية، وغزوا أيضاً ثغر طولون، ففر السكان إلى الجبال، وعاث المسلمون في تلك الأنحاء، وخربوا المدن والحصون، وأحرقوا الأديار والكنائس.

ولما اشتدت وطأة المسلمين في جنوبي فرنسا، وبلغ السخط من غزواتهم وعيثهم ذروته، اعتزم سادة الجنوب، وعلى رأسهم هوج ملك بروفانس أن يبذلوا كل ما في وسعهم لسحق ذلك العدو المزعج. ورأى هوج أن يبدأ بافتتاح حصن فراكسنيه (فراكسنتم) الذي يمتنع به المسلمون، ويتخذونه قاعدة لتأمين مواصلاتهم مع اسبانيا وإفريقية، وقاعدة للإغارة على الداخل، وكتب إلى صهره إمبراطور

ص: 469

قسطنطينية، يطلب منه أسطولا من قاذفات النار اليونانية، حتى يستطيع مهاجمة المسلمين من البر والبحر معاً. فلبى نداءه. وفي سنة 943 م رسا أسطول بيزنطي

في مياه سان تروبيه، وزحف هوج في نفس الوقت بجيشه على فراكسنيه، وهوجم المسلمون من البر والبحر بمنتهى الشدة، وأحرقت سفنهم، ونفذ هوج إلى الحصن بعد قتال رائع، وفر المسلمون إلى الآكام والربى، وكاد يسحق سلطانهم في تلك الأنحاء. ولكن حدث بعد ذلك أن علم هوج أن خصمه ومنافسه بيرانجيه، قد عاد إلى إيطاليا لينازعه في انتزاع عرشها فصرف هوج الأسطول، واضطر أن يعقد الصلح مع المسلمين، بشرط أن يبقوا في رؤوس الألب وممراتها، وأن يغلقوا الطريق إلى إيطاليا في وجه خصمه، وبذلك استعاد المسلمون قلاعهم وسيادتهم في جنوبي بروفانس.

واحتل المسلمون آكام الألب وممراتها، وفرضوا الضرائب الفادحة على المسافرين، واستطاعوا بسيطرتهم على ممر سان برنار الكبير، الموصل بين سويسرة وإيطاليا، وغيره من الممرات والمعاقل الجبلية، أن يجتاحوا الأنحاء المجاورة، وأن يبثوا فيها الذعر والروع، واستقرت منهم جموع في السهول والضياع القريبة من معاقلهم، وتزوجوا النساء الأسيرات، وزرعوا الأرض، واكتفى أمراء هذه النواحي بأن يحصلوا منهم بعض الضرائب. ونفذ المسلمون أيضاً إلى منطقة نيس ذاتها، وما يزال في نيس إلى اليوم حي يعرف بحي العرب Canton des Sarrazins وأخيراً نفذ المسلمون إلى قلب ولاية دوفينه، وغزوا جرينوبل واحتلوها مدى حين، واحتلوا واديها الخصيب " جريزيفودان " الذي يجري فيه نهر الإيزر فرع الرون، وفر أسقف جرينوبل وزملاؤه إلى الشمال حاملين رفات قديسيهم (1).

- 3 -

وهكذا انتشرت المستعمرات والمعاقل الإسلامية خلال القرن العاشر الميلادي في بروفانس وسافوا وبييمون وسويسرة، وبسط المسلمون سيادتهم على ممرات جبال الألب وعلى الحدود بن غاليس وبلاد اللونبارد (شمال إيطاليا) وبينها وبين سويسرة، وبلغوا في تقدمهم في غاليس مدينة جرينوبل، واحتلوا في سويسرة ولاية فاليه ومفاوز جورا المتاخمة لبرجونية، واحتلوا في إيطاليا الشمالية، ولاية

(1) Reinaud: ibid ، p. 180 & 181

ص: 470

ليجوريا. وكانت معاقلهم في بروفانس ولا سيما حصن " فراكسنيه "، قواعد غزواتهم وملاذ قوتهم وسيادتهم. والظاهر أنهم اتبعوا نفس هذه الخطة في سهول بييمون، فأنشأوا بها سلسلة من الحصون والقلاع القوية، لتكون مركز غزواتهم في بلاد اللونبارد وفي سويسرة، فإن الرواية الكنسية التي كتبها حبر معاصر من دير نوفاليس، تذكر لنا اسم حصن إسلامي في تلك الأنحاء وتسميه "فراشنديلوم" Fraschendellum، والمظنون أنه هو المكان الذي تعرفه الجغرافية الحديثة باسم "فراسنيتو"، وهو الواقع في لومبارديا على مقربة من نهر " بو ". وتقص علينا نفس هذه الرواية الكنسية أيضاً أن سيداً نصرانياً من سادة تلك الأنحاء يدعو إيمون دفعه شغف المغامرة والكسب، إلى محالفة المسلمين فانضم إليهم، واشترك في غاراتهم الناهبة؛ وفي ذات يوم وقعت بين السبايا امرأة رائعة الحسن، فاستبقاها إيمون لنفسه، ولكن زعيماً مسلماً استحسنها وانتزعها منه قسراً، فغضب إيمون والتجأ إلى كونت روتبالدرس حاكم بروفانس العليا، وفاوضه سراً في محاربة المسلمين، وإنقاذ البلاد منهم، فرحب الكونت بهذا المشروع، ودعا السادة إلى معاونته، واستطاع أن يحشد قوات كبيرة، وهوجم المسلمون في بييمون من كل صوب ومزقوا، وسقطت قلاعهم في أيدي النصارى، وذهب سلطانهم في تلك الأنحاء. وتقص الرواية الكنسية أيضاً قصة مؤامرة دبرها كونراد ملك برجونية لإهلاك المسلمين النازلين في أملاكه في جورا وعلى حدود برجونية، والمجر الذين كانوا يشاطرونهم يومئذ الإغارة والعيث في تلك الأنحاء. وذلك أنه كتب إلى المسلمين يستحثهم على قتال منافسيهم المجر، وانتزاع ما بيدهم من الأراضي والضياع الخصبة، وكتب مثل ذلك إلى المجر يستحثهم لقتال المسلمين والمعاونة على إجلائهم، وعين مكاناً للقاء الفريقين، فالتقت الجموع المتنافسة من المسلمين والمجر، ونشب بينهما قتال هلك فيه كثير من الفريقين، ثم أشرف كونراد بجموعه، ومزق البقية الباقية من الفريقين قتلا وأسراً، وتضع الرواية تاريخ هذه الموقعة في سنة 952 م، ولكنها لا تعين لنا مكان حدوثها (1).

ومنذ منتصف القرن العاشر يأخذ نجم أولئك المسلمين المستعمرين المغامرين في الأفول، وتضمحل سيادتهم في تلك الأنحاء. بيد أنهم لبثوا مدى حين بعد ذلك

(1) Bouquet: T، IX، p. 6.، Reinaud: ibid ، p. 128

ص: 471

يحتلون كثيراً من مواقع سافوا، ويجوبون أنحاء سويسرة كلها في طلب الغنيمة والسبي، وقد اعتادوا على حرب الجبال وحذقوا أساليبها، وبلغوا في توغلهم في سويسرة مدينة سان جالن على مقربة من بحيرة كونستانس، وأنشأوا ثمة كثيراً من القلاع والأبراج، التي مازالت تقوم منها إلى اليوم بعض الأطلال والبقايا، ولبثوا حيناً في سان جالن حتى حشد رئيس ديرها حوله جمعاً من المقاتلين الأشداء، وفاجأوا المسلمين في جوف الليل، ومزقوهم قتلا وأسراً، وبذلك خفت وطأة الغزوات الإسلامية في شمال سويسرة.

واستمرت المستعمرات والمعاقل الإسلامية في دوفينه وبروفانس، وبعض جهات الألب، وكان قربها من " فراكسنيه " أمنع المعاقل الإسلامية يمدها بأسباب الجرأة والعون، ويمدها قربها من البحر دائماً بأمداد جديدة من المتطوعين والمغامرين من ثغور الأندلس وإفريقية.

وكان لاستقرار هذه المستعمرات الإسلامية في جنوبي أوربا، وعيثها المستمر في الأنحاء والسهول المجاورة، وقع عميق في الحكومات الأوربية، وكان صريخ البابوية يتردد لدى أمراء أوربا، بالسعي إلى مكافحة هذا الخطر الداهم، وكان أوتو الأكبر إمبراطور ألمانيا وأعظم أمراء النصرانية يومئذ، أشد هؤلاء الأمراء اهتماماً بالقضاء على خطر المستعمرات الإسلامية، لأنه يدنو من أملاكه ويصيبها بشره. ولهذا رأى أن يبذل في هذا السبيل سعيه، لدى عبد الرحمن الناصر عاهل الأندلس وزعيم الإسلام الروحي والزمني، وأوفد إليه في سنة 956 م سفارته الشهيرة التي أتينا على ذكرها. وبحث سفيره يوحنا الجورزيني مع الخليفة مسألة اعتداء المستعمرات الإسلامية على الأراضي النصرانية، والتمس إليه أن يعاون بنصحه ونفوذه على قمع هذا العدوان. ولكن هذا المسعى لم يسفر عن أية نتائج عملية، إذ اعتذر الخليفة حسبما فصلنا من قبل، بأن هذه المستعمرات الإسلامية لا تخضع له ولا تأتمر بأوامره، وأنها تعمل مستقلة بعيدة عن حكومة قرطبة. على أن لوتبراند، وهو مؤرخ كنسي معاصر، يؤكد أن الخليفة كان يحمي هذه المستعمرات ويمدها بالتشجيع والعون (1).

- 4 -

ولم يمض قليل على ذلك حتى أخرج المسلمون من معاقلهم في آكام سان برنار

(1) Reinaud: ibid ، p. 193

ص: 472

(في نحو سنة 969 م). ولسنا نعرف تفاصيل ذلك الحادث، ولكن المحقق أن المسلمين أبدوا كعادتهم منتهى البسالة في الدفاع عن مواقعهم، والظاهر أيضاً أن القديس برنار (سان برنار) الذي سميت هذه الآكام باسمه، كان من أبطال الموقعة التي نشبت وانتهت بجلاء المسلمين.

واستمر المسلمون في دوفينه وبروفانس، وكثيراً ما دعوا إلى التدخل بين سادة هذه الأنحاء. ولما غزا الإمبراطور أوتو بلاد اللونبارد، وأخرج منها ملكها بيرانجيه، التجأ ولده أدلبرت إلى عرب "فراكسنيه"، ليعاونوه في استعادة ملكه، وكان هذا التحالف بين السادة والمسلمين، يقوي سيادة الغزاة ويدعمها كلما أذنت بالانهيار. بيد أن هذه السيادة قد أخذت في الاضمحلال، مذ فقد العرب معاقلهم في جبال الألب. وفي سنة 965 م أخرج المسلمون من مدينة جرينوبل ومن واديها الخصب (جريزيفودان) وطوردوا في تلك النواحي، وساءت أحوالهم، وأعلن الإمبراطور أوتو بعد ذلك بعامين أو ثلاثة وهو يومئذ في إيطاليا، أنه سيتولى طرد المسلمين من الأراضي النصرانية، ولكنه توفي دون القيام بمشروعه.

ثم دنت بوادر المعركة الحاسمة. وحدث في ذلك الحين أن حبراً كبيراً ذائع الصيت، وهو سان ماييل أسقف دير كلوني من أعمال برجونية، حج إلى رومة، ولما عاد من طريق دوفينه أسره المسلمون المرابطون في الجبال مع جماعة كبيرة من الحجاج، واشترطوا عليهم فدى فادحة، فدفعت بعد عناء، وأطلق سراح سان مييل وزملاؤه، وأذكى الحادث حماستهم وسخطهم، وذاعت قصة أسرهم، وما يعانيه الحجاج من شر المسلمين وعدوانهم. فنهض سيد من سادة تلك الأنحاء يدعى بوبون، (أو بيفون)، وانتهز فرصة الحماسة العامة وجمع حوله كثيراً من المقاتلة، وبنى حصناً في سترون على مقربة من حصن كان يملكه المسلمون، ولبث يتحين الفرصة لمفاجأة العرب والاستيلاء على حصنهم، حتى استطاع ذات يوم أن يحمل بعض الحراس على فتح الأبواب، فتمت الخيانة، وباغت النصارى المسلمين في حصنهم، وقضوا عليهم قتلا وأسراً (سنة 972 م).

وفي الوقت نفسه التف النصارى في دوفينه حول زعيم يدعى جيوم، وهاجموا المسلمين في جميع مراكزهم وقلاعهم ومزقوهم في كل ناحية، وبذا انهارت سيادتهم في دوفينه، ولم تبق إلا في بروفانس. ولما قوي جيوم وكثر جمعه، بسط نفوذه

ص: 473

على بروفانس وتلقب بألقاب الإمارة، واعتزم أن يخرج المسلمين نهائيا من تلك الأرض. فدعا السادة لمعاونته ومنهم كونت نيس، ورأى المسلمون أن العاصفة تنذر باجتياحهم من كل ناحية، فاستجمعوا كل أهبتهم وقواهم، ونزلوا من الآكام إلى البسيط في صفوف متراصة، ووقعت بينهم وبين النصارى معركة هائلة في " تورتور" فهزم المسلمون وارتدوا إلى قلاعهم، ولاسيما " فراكسنيه " التي غدت ملاذهم الأخير، فطاردهم النصارى أشد مطاردة، وضيقوا الحصار عليهم، فحاولوا الفرار تحت جنح الليل إلى الغابات المجاورة، ولكن النصارى لحقوا بهم وأمعنوا فيهم قتلا وأسراً، وأبقى على من استسلم وعلى المسالمين الذين كانوا يحترفون الزرع في الضياع المجاورة، وفر كثيرون من طريق البحر، وتنصر كثير منهم، وبقي نسلهم في تلك الأرض زمناً طويلا.

وهكذا سقط حصن فراكسنتم أو فراكسنيه سنة 975 م، بعد أن لبث زهاء ثمانين سنة مركزاً قوياً للغزوات العربية غاليس، وقسمت أسلاب العرب وأراضيهم بين السادة والجند، الذين اشتركوا في هذه الحرب الصليبية، وانهارت سلطة العرب في تلك الأنحاء.

أما المستعمرات الإسلامية التي كانت مبعثرة في آكام الألب، فيقال إنها طوردت ومزقت في نفس الوقت، واعتنق الذين أسروا النصرانية. ولكن توجد رواية أخرى خلاصتها أن هذه المستعمرات لبثت في معاقلها نحو جيل آخر حتى تولى مطاردتها زعيم يدعى جيرولدوس. وعلى أي حال فلم تأت أواخر القرن العاشر حتى ذهبت سيادة المسلمين في غاليس وسويسرة، ولم يجب أحد في إفريقية والأندلس صريخ الغوث، الذي وجهه أولئك المستعمرون البواسل إلى إخوانهم، لأن الحوادث الداخلية لم تكن تسمح يومئذ ببذل هذا العون.

على أن ذلك لم يكن خاتمة الغزوات الإسلامية في تلك المياه. ففي سنة 1003 م سارت حملة بحرية من مسلمي الأندلس، ونزلت بجوار أنتيب في جنوب فرنسا، واجتاحت الأراضي المجاورة. وفي سنة 1019 م نزلت حملة مسلمة أخرى في ظاهر أربونة وحاولت أن تستولي عليها، ولكنها هزمت ومزقت. وفي سنة 1047 م هاجمت حملة أخرى جزيرة ليران الواقعة إلى الغرب من مرسييليا وأسرت عدداً من الرهبان. وظهر في ذلك الحين زعيم أندلسي جرىء هو مجاهد العامري

ص: 474

أحد أمراء الطوائف، وصاحب ثغر دانية والجزائر الشرقية (جزائر البليار)، واهتم بأمر الغزوات البحرية، فسار في أسطوله إلى مياه قورسقة وسردانية، وغزا سردانية واحتل بعض أنحائها (سنة 406 هـ 1015 م)، ولكن النصارى استردوها بعد قليل (1). ولبث مجاهد العامري الذي تسميه الرواية النصرانية " موسيتو " أو " موجيتوس " مدى حين سيد هذه المياه، يبث فيها بحملاته الرعب والروع.

تلك هي قصة الغزوات الإسلامية في غاليس وبلاد اللونبارد وسويسرة؛ وهي قصة تغفل الرواية الإسلامية كثيراً من أدوارها ووقائعها، ولكنها تشغل فراغاً كبيراً في الروايات الكنسية والفرنجية المعاصرة. وهذه الروايات هي عمدتنا فيما ننقل من سير هذه الغزوات الشهيرة. ومن المحقق أنها مشبعة بروح التحامل والخصومة في كثير من المواطن، ولكنا نستطيع مع ذلك أن نتبين منها، أهمية الدور الذي قام به أولئك المجاهدون والمغامرون المسلمون، في تلك الوهاد والآكام النائية، وما كان لهم بين هاتيك الأمم من السيادة والنفوذ مدى عصور.

- 5 -

والآن فلنحاول أن نستعرض طرفا من العوامل والظروف التي أحاطت بتلك الغزوات الإسلامية النائية، وطرفاً من الآثار التي خلفتها في البلاد والأمم التي كانت ميداناً لها.

ينكر بعض مؤرخي الغرب على تلك الفتوحات والغزوات العربية والإسلامية بوجه عام، خاصة الاستقرار والإنشاء، ويقولون إنها كانت في الغالب حملات ناهبة، تقوم على رغبة الكسب وتحصيل الغنائم. ولاريب أن ظمأ المغنم وشغف المغامرة، وما إليها من لذة الاستكشاف والسيادة، كانت من أهم العوامل التي قامت عليها هذه الغزوات، وتلك هي العوامل الخالدة التي تقوم عليها فتوحات الأمم منذ أقدم العصور. ولكن من الحق أيضاً أن نقول إن نزعة الجهاد لم تكن بعيدة عن تلك الغزوات، وإن كثيراً من أولئك المغامرين البواسل، كانت تحفزهم الحماسة الدينية، وفكرة الجهاد في سبيل الله. وقد كانت هذه العصابات الغازية المستعمرة تعمل في الغالب لحساب نفسها، ولكنها كانت تعمل ملحوظة بعطف

(1) ابن خلدون؛ المقدمة ص 212.

ص: 475

الحكومات والأمم الإسلامية التي تنتمي إليها. وكانت تؤدي إلى تلك الحكومات خدمات جليلة، بما كانت تقوم به من إزعاج الحكومات والأمم النصرانية، وإضعاف جيوشها ومواردها. ومن المحقق أيضاً أن نزعة الاستقرار والإنشاء لم تكن بعيدة عن أذهان الغزاة، بل كان يحفزهم مثل ذلك الروح الاستعماري القوي الذي دفع الأمم الغربية في العصر الحديث إلى افتتاح الأمم المتأخرة واستعمارها (1). وقد استقروا بالفعل واستعمروا، حيث مهدت لهم الكثرة والقوة سبيل البقاء، كما فعلوا في إقريطش (كريت)، حيث استقروا بها بعد افتتاحها زهاء قرن وثلث قرن (827 - 961 م)، ونشروا بها الإسلام والحضارة الإسلامية. وكذلك استقروا مدى حين في باري وفي تارنت من ثغور إيطاليا الجنوبية وفي راجوزا (رغوس) من ثغور الأدرياتيك الشرقية؛ وكان لهم على شواطىء قلورية (جنوبي إيطاليا) مستعمرة زاهرة لبثت تسطع في هذه المياه عصراً.

ويبالغ المؤرخون الغربيون أيضاً، في تصوير الآثار المخربة لتلك الغزوات الإسلامية، وما كانت تقترن به من ضروب العنف والسفك. ولكن العنف والقسوة والسفك والتخريب، لم تكن خاصة بالغزوات الإسلامية، وإنما كانت من خواص العصر ذاته، ولم تكن الغزوات النصرانية للأراضي الإسلامية أقل عنفاً وسفكاً. ويكفي أن نشير هنا إلى الحملات الصليبية التي لبثت مدى عصور تحمل إلى الأمم الإسلامية أروع صنوف الدمار والسفك، بل يكفي أن نشير إلى ما كانت ترتكبه البعوث الإستعمارية الحديثة، الإسبانية والإنجليزية والفرنسية، في الدنيا الجديدة من صنوف القسوة والسفك، وما ترتكبه اليوم بعض الأمم الأوربية " المتمدنة " من الجرائم المروعة في إفريقية وآسيا باسم المدنية والاستعمار.

* * *

والآن لنر ماذا خلفته الغزوات الإسلامية في هذه الأنحاء من الآثار المادية والاجتماعية. ومن المحقق أن هذه الآثار لا تكاد ترى اليوم، ولا يشعر بها إلا الباحث المنقب. ويلاحظ أولا أن الفتوحات العربية الأولى في غاليس وأكوتين لم يطل أمدها أكثر من نصف قرن، ولم تكن الحضارة الإسلامية في اسبانيا قد تكونت وتفتحت بعد. ثم كانت الغزوات اللاحقة التي فصلنا أخبارها، والتي كانت

(1) Finley: Byzantine Empire، Ch.III - I

ص: 476

أقرب إلى المغامرة المؤقتة، منها إلى الفتوح المستقرة، فلم تتح للغزاة فرص الإستقرار والعمل السلمي، لأنهم كانوا في مراكزهم النائية متفرقين، يشتغلون قبل كل شىء بالدفاع عن مراكزهم وأنفسهم. بيد أن هذه الغزوات المحلية المتقطعة وهذه المستعمرات الإسلامية النائية، خلفت وراءها في الأراضي المفتوحة بعض الآثار المادية والمعنوية. ومن ذلك ما كشفته المباحث الأثرية منذ القرن الماضي على شواطىء خليج سان تروبيه من أطلال الحصون العربية القديمة التي كانت قائمة في تلك الأرض، والتي ما تزال قائمة في بعض آكام الألب الفرنسية والسويسرية، وهي تدل على ما كان للغزاة من الحذق والبراعة في فن التحصينات والمنشآت الحربية. وهناك في جنوب فرنسا وفي بعض أنحاء إيطاليا الشمالية والجنوبية، عدد كبير من الأبراج القائمة فوق الآكام والربى، يدل ظاهرها على أنها كانت تستعمل لأغراض حربية. ويرى البعض أن هذه الأبراج هي آثار عربية من مخلفات الغزاة كانت تبنى لعقد حلقات الاتصال، وتسهيل حركات الدفاع فيما بينهم. ومن المعروف أن العرب منذ فتوحاتهم الأولى في سبتمانيا أعني منذ أوائل القرن الثامن، كانوا ينشئون في الأراضي المفتوحة حصوناً وأبراجاً تسمى "بالرباط". بيد أن فريقاً آخر من الباحثين يرى بالعكس أن هذه الأبراج إنما كانت من إنشاء أبناء الأرض المفتوحة، أقاموها أيام اشتداد خطر الغزوات العربية، ليستعينوا بها على رد الغزاة.

وقد ظفرت المباحث الأثرية أيضاً بالعثور على كثير من القطع الذهبية والفضية (المداليات) في أنحاء كثيرة من لانجدوك وبروفانس، وثبت أنها من مخلفات العرب والمسلمين، وأنها كانت تستعمل للتعامل مكان النقود، ولكنها لا تحمل اسماً ولا تاريخاً ولا يمكن تعيين عهد سكها، وإن كانت بذلك تدل على أنها ترجع إلى عصر الغزوات الأولى. ووجدت أيضاً في العهد الأخير في منطقة تور سيوف ودروع قيل إنها عربية، من مخلفات الموقعة الشهيرة التي نشبت في تلك السهول بين العرب والفرنج في سنة 732 م (موقعة بلاط الشهداء).

ومن الحقائق التي لا شك فيها أثر المسلمين في الزراعة؛ فقد رأينا أن كثيراً من الغزاة تخلفوا عن إخوانهم، واستقروا في تلك الأرض وزرعوها، ومن المعروف أن العرب حولوا وديان اسبانيا المجدبة، إلى حدائق ورياض زاهرة، ونقلوا

ص: 477

إليها مختلف الغراس من المشرق، وأنشأوا بها القناطر العظيمة. وقد حمل هؤلاء الغزاة المغامرون إلى جنوب فرنسا كثيراً من خبرتهم الزراعية، ولقنوها لسكان تلك الأنحاء. ويقال إن " القمح الأسمر" الذي هو الآن من أهم محاصيل فرنسا إنما هو من مخلفات العرب، وهم الذين حملوا بذوره، وكانوا أول من زرعه بفرنسا، والمرجح أيضاً أنهم هم الذين حملوا فسائل النخيل من اسبانيا وإفريقية إلى شواطىء الريفييرا. ومن آثارهم الصناعية، استخراج "القطران" الذي تطلى به قاع السفن ويحميها من العطب، فهم الذين علموه لأهل بروفانس، وما زال عندهم من الصناعات الذائعة، وما زال اسمه الفرنسي Quitran ينم عن أصله العربي.

ومن الحقائق الثابتة أيضاً، فضل العرب في تحسين نسل الخيول في تلك الأنحاء، وما يزال في جنوب فرنسا جهات تشتهر بجمال خيولها ونبل أرومتها، ولا سيما في " كاماراج " في مقاطعة " لاند " من أعمال غسقونية، ومن المحقق أن هذه الخيول الأصيلة الجميلة، إنما هي من سلالة الخيول العربية، التي أحضرها الفرسان المسلمون معهم إلى تلك الأنحاء.

ولا ننسى ما للدم العربي من أثر في بعض أنحاء جنوب فرنسا. فقد رأينا أن المسلمين أنشأوا بعض المستعمرات الزراعية، وتزوجوا من نساء تلك الأراضي وتناسلوا فيها. ولما تغلب عليهم النصارى وأخرجوا نهائيا من تلك الأراضي تنصر كثير منهم ممن أسروا، وأرغموا على افتداء حياتهم وأسرهم بالتنصر، وقد لبث أبناء أولئك المسلمين المتنصرين عصوراً في تلك البلاد، يشتغلون بالزراعة والتجارة حتى جرفهم تيار التطور واندمجوا في المجتمع النصراني، واختفت كل آثارهم وخواصهم العربية والإسلامية.

هذا، وأما عن الآثار الاجتماعية، فانه يلاحظ في بعض جهات بروفانس التي استقر فيها المسلمون مدى حين، أن لسكانها بعض التقاليد الخاصة، ومن ذلك أنواع من الرقص يظن أنها ترجع إلى أصل عربي. على أن أعظم آثار العرب الاجتماعية في جنوب فرنسا، يبدو في تطور الحركة الفكرية في العصور الوسطى، فقد كان للعرب أثر عظيم في تكوين النزعة الشعرية في الجنوب، وظهر أثر هذه النزعة واضحاً في الحركة الأدبية التي تعرف بحركة "التروبادور" Troubadour التي ظهرت في جنوبي فرنسا، وفي شمال إسبانيا وشمال إيطاليا، منذ القرن الحادي عشر

ص: 478

الميلادي، وقوامها القريض الحربي والغنائي، وزعماؤها فرسان شعراء وفنانون. أضف إلى ذلك أن تأثير الحضارة الإسلامية في سير الحضارة الأوربية، لم يقف عند هذا العصر ولا عند هذه الحدود، فقد استمرت العلائق بعد ذلك طويلا بين مسلمي الأندلس والأمم النصرانية المجاورة، وكان للحضارة الأندلسية في تطورها العقلي والاجتماعي أعظم الآثار.

وقد لبثت ذكرى العرب وذكرى الغزوات العربية في فرنسا، تثير مدى القرن الثامن في نفوس النصارى أعظم ضروب السخط والروع، وتقدمها الرواية الكنسية المعاصرة في أشنع الصور؛ فلما ظهرت عصابات النورمان والمجر وغزت فرنسا من الشرق والغرب، رأى النصارى من عيثهم وسفكهم أهوالا لا تذكر بجانب أهوال الغزوات الإسلامية، وارتفعت ذكرى العرب وأضحت تقترن بكل ما هو عظيم ضخم (1)، وفي ذلك يقول المستشرق رينو:" إن ذكرى الغزوات النورمانية والمجرية لا توجد إلا في الكتب. ولكن ما السر في أن ذكرى العرب ما زالت ماثلة في جميع الأذهان. لقد ظهر العرب في فرنسا قبل النورمان والمجر، واستطالت إقامتهم بعد الغزوات النورمانية والمجرية، وإن غزوات العرب الأولى ليطبعها طابع من العظمة، حتى أننا لا نستطيع أن نتلو أخبارها دون تأثر. ذلك لأن العرب (2) دون النورمانيين والمجر، ساروا مدى آماد في طليعة الحضارة، ثم إنهم لبثوا بعد أن غادروا أرضنا موضع الروع في شواطئنا، وأخيراً لأن المعارك التي اضطلعوا بها أيام الصليبيين في اسبانيا وإفريقية وآسيا، أسبغت على اسمهم بهاء جديداً، بيد أن هذه العوامل كلها قد لا تكفي لتعليل المكانة العظيمة التي يتبوأها الاسم العربي في أوربا وفي أذهان المجتمع الأوربي. أما السبب الحقيقي لهذه الظاهرة المدهشة، فهو الأثر الذي بثه قصص الفروسية في العصور الوسطى، وهو أثر لا يزال ملموساً إلى يومنا "(3).

(1) Reinaud: ibid ، p. 310

(2)

يلاحظ أن كلمة " العرب " هنا يجب أن تفهم بأوسع معانيها، فالمقصود بها هنا " الغزاة المسلمون ". ومنذ أواخر القرن الثامن الميلادي تغيض الصبغة العربية عن هذه الفتوحات، وتغدو فتوحات إسلامية، ينضوي تحت لوائها العرب وغيرهم من أبناء المجتمعات الإسلامية، التي قامت في إفريقية واسبانيا.

(3)

Reinaud: ibid; p. 311-312. وقد اعتمدنا على مؤلف هذا العلامة في كثير من هذه الملاحظات الخاصة بآثار العرب (المسلمين) في جنوب فرنسا.

ص: 479