الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
ولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن
2 -
ذروة الفتنة الكبرى
عود إلى ثورة المولدين. ابن حفصون يعود إلى الميدان. عود الصوائف إلى غزوه. إستيلاؤه عل إستجة. مسير أبان بن عبد الله لقتاله. المعارك في الجزيرة الخضراء. تحالف ابن حفصون ومحمد ابن لب. ابن حفصون يعلن اعتناقه النصرانية. تفرق أنصاره. التحالف بين ابن حجاج وابن حفصون. الحرب بين جند الأندلس وابن حفصون. هزيمة الثوار وانتهاء حلفه مع ابن حجاج. توالي الحملات والصوائف لقتال ابن حفصون. استقلال ابن مروان ببطليوس. ثورة ابن تاكيت في الثغر الأدنى. محاصرة جند قرطبة لماردة. الخلاف بين ابن مروان وابن تاكيت. وفاة ابن مروان واستمرار بنيه في حكم بطليوس. بنو ذو النون في طليطلة. استيلاء بني قسي عليها وحكمهم لها. سقوطها في يد ابن الطربيشة. بنو ذو النون في شرقي طليطلة. استيلاء ابن يحيى الأنقر على سرقسطة. بنو قسي في تطيلة وطرسونة. غزوات لب في ليون ونافار. وفاة لب وولاية أخيه عبد الله. ظهور محمد بن عبد الله الطويل في الثغر الأعلى. القتال بينه وبين بني قسي. أفول نجم بني قسي. غزوات الطويل في أراضي النصارى. مصرعه وذهاب دولته. الأمير عبد الله ومقارعته للثورة. انتهاز ملك ليون لمشاغل حكومة قرطبة. استيلاؤه على سمورة. ظهور ابن القط في أحواز طليطلة. زعمه بأن هو المهدي. القتال بينه وبين ملك ليون. مصرع ابن القط وتفرق شمله. تفاهم ملك ليون مع الثوار. افتتاح الجزائر الشرقية. وفاة الأمير عبد الله. خلاله وصفاته. صرامته وعدله وتقشفه. حجابه وقواده. اصطفاؤه للموالي. أولاده. مأساة ولديه محمد والمطرف. اغتيال المطرف لأخيه محمد. حكم عبد الله بإعدام المطرف. بطشه بأخوته. أقوال ابن حزم في صرامته وسفكه للدماء. صفة الأمير عبد الله وخلاله. أدبه وشاعريته. اصطفاؤه للعلماء والشعراء. شعراء العصر وأدباؤه وفقهاؤه.
لم تشغل ثورة القبائل العربية في إشبيلية وباجة وإلبيرة وتدمير وغيرها، حكومة قرطبة عن متابعة الجهاد لإخماد ثورة المولدين. وقد كانت ثورة المولدين في الواقع أخطر وأشد رسوخاً، وأبعد أثراً. وقد استطاع زعيم ثورة المولدين في الجنوب عمر بن حفصون، أن يستغرق معظم جهود حكومة قرطبة منذ أواخر عهد الأمير محمد، ولكن هزيمة الزعيم الثائر في موقعة بلاي (بولي) سنة 278 هـ (891 م) وما ترتب عليها من تضعضع قواته، فلت من عزيمته ووضعت حداً مؤقتاً لطغيانه.
بيد أن حكومة قرطبة لم تركن إلى هذه الهدنة المؤقتة، فقد كانت تعرف
ابن حفصون وتعرف مبلغ خطره، ومقدرته على العدوان والبغي، وكان ابن حفصون من جانبه، يعمل جاهداً لتنظيم قواه واستكمال أهبته، لاستئناف صراعه المرير مرة أخرى.
ومن ثم فإنه لم يمض عامان على موقعة بلاي، حتى عادت الصوائف تتردد ْلغزو ابن حفصون ومطاردته. ففي سنة 281 هـ (894 م) سار المطرف بن الأمير عبد الله في جند الأندلس إلى كورة ريه، وحاصر ابن حفصون في ببشتر معقله، وعاث في بسائطه. وآثر ابن حفصون في البداية أن يستعصم بمعقله، ثم خرج إلى لقاء المطرف فهزم، وقتل في هذه الموقعة حفص بن المرة أشجع قواد ابن حفصون وأشدهم مراساً (1). فلما عادت جند الأمير إلى قرطبة، عاد ابن حفصون يدبر خطط العدوان، ثم جمع جموعه وزحف على إستجة، واستولى عليها للمرة الثانية، وذلك في سنة 284 هـ (897 م)(2). وإستجة تقع جنوب غربي العاصمة على مسافة غير بعيدة عنها، فبادر الأمير عبد الله باستقدام الجند من النواحي، وفي العام التالي (285 هـ) سير ولده أبان لقتال ابن حفصون ومعه القائد أحمد بن أبى عبدة. واخترقت الحملة الجزيرة الخضراء، وعكفت على مهاجمة الحصون الخارجية حتى وصلت إلى طريف، ثم ارتدت إلى ببشتر ثم إلى أرشدونة ثم إلى إلبيرة وحصن شلوبانية؛ ونشبت بينها وبين قوات ابن حفصون عدة معارك محلية، ثم عادت إلى قرطبة عن طريق وادي آش (3). ولكن هذه المعارك لم تسفر عن أية نتيجة حاسمة، واقتنعت حكومة قرطبة بأنه لا بد من مضاعفة الأهبة لكي تستطيع أن تضع حداً لعدوان الزعيم الثائر.
وفي سنة 285 هـ (898 م) عقد ابن حفصون ومحمد بن لب زعيم بني قسي حلفاً متبادلا، وأرسل محمد ولده لباً في بعض قواته إلى ابن حفصون ليوثق هذا التحالف؛ ولكن لباً لم يلبث أن تلقى نبأ موت أبيه أمام أسوار طليطلة، فغادر ابن حفصون دون أن يبرم أمراً، وهكذا فشل هذا التحالف قبل نضجه (4)، وفي سنة 286 هـ (899 م) أعلن عمر بن حفصون اعتناقه للنصرانية هو وسائر
(1) البيان المغرب ج 2 ص 142. وراجع Dozy: Hist.V،II، p. 84.
(2)
المقتبس ص 108.
(3)
المقتبس ص 122.
(4)
المقتبس ص 127.
أفراد أسرته، واتخذ له إسماً نصرانياً هو صمويل، وكان أبوه قد فعل ذلك منذ أعوام، ولم يخلص عمر بن حفصون للإسلام قط، وكان يسرُّ النصرانية دائماً، ولم يمنعه من إعلانها سوى خوفه من تفرق أنصاره، وقد تحقق ماكان يخشاه إذ هجره كثير من أنصاره، وتبرأوا من فعلته، وخرج عليه بعض قواده المسلمين، وامتنعوا بحصونهم، وبعثوا بطاعتهم إلى الأمير، واشتد السخط عليه في شائر جنبات الأندلس، ورأى المسلمون في قتاله نوعاً من الجهاد (1). وحاول ابن حفصون من جانبه، أن يقوي مركزه بعقد محالفات جديدة، ففاوض ألفونسو الثالث ملك ليون وبني قسيّ، كما فاوض بعض أمراء المغرب، ولكن العون الحقيقي جاء من ناحية أخرى. ذلك أن إبراهيم بن حجاج سيد إشبيلية وقرمونة، لما ساءت العلائق بينه وبين الأمير عبد الله بسبب رفضه إطلاق سراح ولده، قطع الجزية، وأعلن استقلاله، وتحالف مع ابن حفصون (288 هـ - 900 م)، وغدا الإثنان قوة يحسب حسابها (2).
وتوجست حكومة قرطبة شراً من هذا التحالف، فبعث الأمير إلى ابن حفصون يعرض عليه شروطاً مغرية للصلح، فقبل الثائر هذا العرض، وبعث إلى قرطبة أربع رهائن من أصحابه، منهم خازنه وحليفه سعيد بن مستنة الثائر من قبل في باغة Priego (3) . بيد أنه لم يمض قليل على ذلك، حتى حدث خلاف في تنفيذ الشروط بين الفريقين، وعاد ابن حفصون فأعلن الخلاف وتأهب للحرب، وعاونه حليفه ابن حجاج بقوة من الفرسان، وسارت جند الأندلس بقيادة أحمد ابن أبي عبدة، وخرج ابن حفصون من إستجة التي اتخذها قاعدة لملاقاته. واشتبك الفريقان في "إستبة" الواقعة جنوبي إستجة، على مقربة من نهر شنيل، فهزم جند الأندلس في البداية، وقتل منهم بضع مئات، ولكنهم عادوا فكروا على قوات ابن حفصون بعنف، وأوقعوا بها هزيمة شديدة (289 هـ - 902 م)، وعلى أثر ذلك أمر الأمير عبد الله بقتل رهائن ابن حفصون، ما عدا ابن مستنة، إذ افتدى حياته بالخضوع والطاعة. وخشي إبراهيم بن حجاج على
(1) راجع البيان المغرب ج 2 ص 143، والمقتبس ص 128. وراجع دوزي: Hist; V.II.p. 84&85. وكان ابن حفصون أيضاً يتكلم " الأعجمية "، وهي الإسبانية القديمة أو الرومانش.
(2)
المقتبس ص 129.
(3)
الييان المغرب ج 2 ص 144، ودوزي: Hist.،V.II.p. 86.
ولده، ففاوض الأمير في الصلح، فأجابه إلى طلبه، وأطلق سراح ولده عبد الرحمن وعاد إلى سابق ولائه (1).
وتوالت حملات الأمير بعد ذلك على ابن حفصون. ففي سنة 291 هـ (904 م) سار أبان بن الأمير عبد الله، ومعه القائد أحمد بن أبي عبدة إلى ريُّه، فعاث في تلك الناحية وهزم ابن حفصون في عدة مواقع. وفي العام التالي (905 م) خرجت الصائفة لقتال ابن حفصون فاستولت على بعض حصونه، وأوقعت بقواته هزيمة شديدة في وادي بلون على مقربة من جيان، وقتل كثير من جنده (2). وفي سنة 295 هـ (908 م) سارت جند الأندلس إلى ببشتر معقل الثائر، وعاثت في تلك المنطقة. وفي سنة 297 هـ (910 م) سارت حملة قوية بقيادة أحمد بن أبي عبدة إلى كورة ريه، واشتبكت مع قوات ابن حفصون في عدة معارك شديدة، ثم سارت شمالا إلى حصون إلبيرة وجيان وحاصرت منتلون حيناً، وحاول ابن حفصون من جانبه أن يهاجم حصن جيان، فردته جند الأندلس وطاردته.
وفي العام التالي غزت جند الأندلس منطقة ببشتر مرة أخرى. ورد ابن حفصون بأن أغار وحليفه ابن مستنة، الذي خلع الطاعة مرة أخرى، على بسائط قبرة وبعض قرى قرطبة، فلقيته جند الأندلس وهزمته. وسارت في العام التالي (سنة 299 هـ) حملة أخرى إلى ببشتر فعاثت في بسائطها (3)، وهكذا استمرت حملات الأندلس متوالية متلاحقة على ابن حفصون زهاء ثلاثين عاماً. وبالرغم من أن حكومة قرطبة استطاعت أن تعمل باستمرار على مناهضته وإحباط خططه وإنهاك قواه، فإنها لم تفلح في القضاء عليه، وإخماد الحركة الثورية المضطرمة، التي استطاع أن يحمل لواءها بقوة وجلد وعزم لا مثيل لها.
- 2 -
وقد أشرنا من قبل، إلى خروج عبد الرحمن بن مروان الجليقي بمدينة بطليوس منذ أيام الأمير محمد، وكيف أن حكومة قرطبة فشلت في إخضاعه، وانتهى الأمر باستقلاله ببطليوس وما جاورها. ولما تولى الأمير عبد الله، لم ير مناصاً من
(1) راجع دوزي: Hist،V.II.p. 86-88
(2)
البيان المغرب ج 2 ص 154.
(3)
راجع البيان المغرب ج 2 ص 148 - 153.
إقراره على استقلاله بتلك القاعدة المنيعة؛ وهكذا لبث ابن مروان سيد بطليوس بلا منازع. فحصنها وجملها؛ وبسط حكمه على الأنحاء المجاورة، وكان من حلفائه في تلك المنطقة حسبما قدمنا يحيى بن يحيى بن بكر الثائر بمدينة شنتمرية الغرب (1) بولاية أكشونبة، وعبد الملك بن أبي الجواد الثائر بمدينة باجة Beja. وكان يحيى زعيماً مقداماً، فحصن شنتمرية، وأقام بها حكومة منظمة، وضبط الأمور وقمع أهل الشر (2). وفي سنة 276 هـ (889 م) نكث ابن مروان بعهده، وعاون كريب بن خلدون الثائر باشبيلية، على مهاجمة المدينة ونهب أحوازها. ولم يمض قليل على ذلك حتى ثار البربر في الثغر الأدنى (3) بزعامة محمد بن تاكيت المصمودي وزحف على ماردة في شرقي بطليوس، واستولى عليها، فسارت إليه الجند من قرطبة، فتقدم لإنجاده ابن مروان، ولبث الحصار مدة ارتحلت بعدها جند الأمير خائبة. وكان بماردة جموع من العرب والبربر من قبائل كتامة ومصمودة، فسعى ابن تاكيت في إخراج العرب وكتامة منها، واستقل بها مع شيعته. ولم يلبث أن ثار الخلاف بينه وبين جاره ابن مروان، ونشبت بينهما الحرب، فهزمه ابن مروان وظهر عليه. ثم توفي عبد الرحمن بن مروان بعد قليل، فخلفه في حكم بطليوس ابنه مروان، واشتد في مطاردة البربر، ولكن ولايته لم تدم سوى شهرين، فخلفه على بطليوس حفيد لابن مروان يدعى عبد الله، واستمر بنو مروان سادة بطليوس حتى انتزعها منهم عبد الرحمن الناصر سنة 317 هـ (929 م)، وقضى على دولتهم (4).
وكانت طليطلة قاعدة الثغر الأوسط، قد سقطت في يد بني ذى النون أيام المنذر. وكان بنو ذى النون من أكابر زعماء البربر في تلك المنطقة، وينتمون إلى قبيلة هوارة، وكان زعيمهم موسى بن ذى النون قد ظهر في عهد الأمير محمد،
(1) Santa Maria de Algarve، وهذا بخلاف شنتمرية الشرق أو شنتمرية ابن رزين التي اشتهرت أيام الطوانف وتعرف في الإسبانية باسم Albarracin.
(2)
البيان المغرب ج 2 ص 141.
(3)
هو في جغرافية الأندلس عبارة عن المنطقة الغربية الواقعة، بين نهر دويرة ونهر التاجه ومن مدنها قورية وقلمرية وشنترين وغيرها، وأما الثغر الأعلى فهو عبارة عن سرقسطة وأعمالها من المدن الشمالية المتاخمة لحدود نافار وليون وقطلونية. ويشمل الثغر الأوسط طليطلة وأعمالها.
(4)
البيان المغرب ج 2 ص 140، وابن خلدون ج 4 ص 133 و134.
واستقل بشنت برية حسبما ذكرنا من قبل. ثم زحف على طليطلة في قوة كبيرة من البربر، واستطاع بممالأة بعض زعمائها أن يستولي عليها، وذلك في سنة 274 هـ (888 م).
وحكم بنو ذى النون طليطلة بضعة أعوام، ثم غلبهم عليها محمد بن لب بن موسى كبير بني قسي وزعيم الثغر الأعلى، وكان بنو قسي قد فقدوا زعامتهم يومئذ في الثغر الأعلى بخروج سرقسطة من أيديهم ووقوعها في يد أبي يحيى التجيبي حسبما نذكر بعد، فتحولوا إلى الثغر الأوسط واستولوا على طليطلة سنة 283 هـ (897 م).
وبعث محمد بن لب ولده لبّا إلى أحواز جيان، فهاجم حصن قسطلونة واستولى عليه. والظاهر أن كانت ثمة لتلك الحملة علاقة بمشروع التحالف بين بني قسي وابن حفصون حسبما قدمنا، ولكن محمداً بن لب لم يلبث أن قتل بعد ذلك بعامين تحت أسوار سرقسطة، وهو يحاول انتزاعها من التجيبيين (1)، ولم يستطع ولده لب أن يستمر في حكم طليطلة فأبعد عنها حيناً. ولكن أهل طليطلة عادوا فدعوه إلى حكمها، فبعث إليهم أخاه المطرف فتولى حكمها. ثم خرج عليه محمد بن إسماعيل بن موسى من أبناء عمومته، فحكمها حتى مصرعه في سنة 293 هـ (906 م) قتيلا بيد أهلها. وعندئذ تولى حكم طليطلة زعيم من البربر المحليين هو ابن الطربيشة، وهو حليف ابن ذى النون، واستمر في حكمها حتى انتزعها منه عبد الرحمن الناصر في أوائل حكمه. واستمر بنو ذى النون أبناء موسى وهم الفتح ويحيى ومطرف بعد وفاة أبيهم، في حكم المناطق الواقعة في شرقي طليطلة، مثل إقليش ووبذة ثم قلعة رباح (2) وغيرها، إلى نهاية عهد الأمير عبد الله وأوائل عهد الناصر. وكان مطرِّف أشهرهم وأنجبهم، وقد استمر معتصماً بوبذة حتى استنزله الناصر منها، ثم ولاه عليها واستقام بها شأنه، وحضر مع الناصر واقعة الخندق (3). وكان لبني ذى النون هؤلاء فيما بعد شأن، وكانت لهم أيام الطوائف في طليطلة دولة سطعت مدى حين.
أما لُبُّ بن محمد فاستقر في تطيلة، وكان النزاع يضطرم في الثغر الأعلى منذ أعوام طويلة بين التجيبيين وبني قسي.
(1) البيان المغرب ج 2 ص 143.
(2)
وهي بالإسبانية على التوالي: Uclés، Huete، Calatrava.
(3)
ابن حيان في المقتبس ص 19.
وتذكر لنا الرواية في أصل نباهة بني تجيب، أنه لما ثار بنو قسي في الثغر الأعلى، واحتلوا قواعده، نُوه للأمير محمد بن عبد الرحمن، بأولاد عبد العزيز ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن المهاجر التجيبي، فاستدعاهم، وبنى لهم قلعة أيوب على مقربة من سرقسطة، وعين لضبطها عبد الرحمن بن عبد العزيز التجيبي، وبنى لهم قلاعا حصينة في شميط ودَرَوْقه، وفُرتش، ونصبهم لمحاربة بني قسي، وعقد لهم على قومهم، وأجرى عليهم أرزاق الغزو.
ولما انتزع الأمير المنذر سرقسطة من محمد بن لب بن موسى في سنة 270 هـ، توالى عليها عمال الأمير؛ وكان عليها في بداية عهد الأمير عبد الله واليها أحمد ابن البراء، فتظاهر محمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز (وهو المعروف بأبي يحيى وبالأنقر) بمهاجمة والده عبد الرحمن والخروج عليه، والتجأ إلى سرقسطة تحت كنف ابن البراء وحمايته، وفي ذات يوم وثب بحاميه ابن البراء وقتله غيلة، واستولى على سرقسطة، وكان ذلك في رمضان سنة 276 هـ (889 م) وفقاً لرواية العذري، أو في سنة 282 هـ (895 م) وفقاً لرواية ابن حيان.
وكان وثوب أبي يحيى الأنقر بابن البراء على هذا النحو، فيما يبدو بتفاهم مع الأمير عبد الله، إذ كان يشك في ولاء حاكمه. ومن ثم فقد أقره الأمير عبد الله على حكم سرقسطة وأعمالها (1).
وحاول محمد بن لُبّ أن ينتزع سرقسطة من أبي يحيى، فهاجمها وحاصرها غير مرة، حتى قتل تحت أسوارها سنة 285 هـ (898 م) حسبما أسلفنا.
قال ابن حيان: " وهوى نجم القسويين (بني قسي) بعد مهلك محمد واعتورهم الإدبار، وغشيتهم دولة الجماعة، وجمع الثغر كله لأبى يحيى "(2). ولبث أبو يحيى على استقلاله بسرقسطة، حتى وفاته في عهد الناصر سنة 312 هـ (924 م).
ولما توفي محمد بن لُبّ، خلفه ولده لب في تطيلة وما جاورها. والظاهر أنه آثر يومئذ مهادنة الأمير والانضواء تحت لوائه، وأقره عبد الله على حكم تطيلة وطرسونة وما جاورها. وشغل لُب في الأعوام التالية بغزو أراضي النصارى
(1)" نصوص عن الأندلس ". من كتاب ترصيع الأخبار وتنويع الآثار للعذري ص 41. وابن حيان في المقتبس ص 85 و86.
(2)
المقتبس ص 87.
المجاورة، فغزا في سنة 290 هـ (903 م) أرض ليون واستولى على بعض حصونها، وهزم ألفونسو الثالث في معركة نشبت بينهما، ثم غزا ناحية بليارش Pallars، واستولى على حصون إيلاس وموله وقشتيل، وقتل بها كثيراً من النصارى. وفي العام التالي خرج لب لمحاصرة سرقسطة، وخرب ما حولها من القرى ولكنه لم ينل منها مأرباً. وفي سنة 294 هـ (906 م)، غزا لب نافار وزحف على طريق بنبلونة، فحشد سانشو (شانجه) ملك نافار كل قواته، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، هزم فيها لب وقتل كثير من جنده. وكان لب زعيماً مقداماً وافر الجرأة والشجاعة، وتوفي شاباً في الثانية والثلاثين من عمره، فكانت وفاته ضربة شديدة لسلطان بني قسيّ. وخلفه في تُطيلة أخوه عبد الله بن محمد بن لب (1)، وسار على أثره من الانضواء تحت لواء الأمير، ومتابعة الإغارة على أرض النصارى. وهنا ظهر على مسرح الحوادث في الثغر الأعلى زعيم جديد هو محمد بن عبد الملك بن شبريط المعروف بالطويل، وسمي بذلك لطوله الفائق. وكان بنو شبريط أو بنو شبراط من أكبر أسر المولدين بالثغر.
وكان منزلهم بوشقة وبربشتر (2) وكان عميدهم شبريط قد ظهر في أواخر المائة الثانية في عصر الحكم بن هشام، وتغلب حيناً على وشقة. ولكن بني قسي غلبوا على تلك الأنحاء دهراً، وحجبوا بني شبريط وغيرهم من أعيان المولدين عن الظهور. فلما اضمحل شأن بني قسي، عاد بنو شبريط إلى الظهور، واستطاع الطويل أن يستقر في وشقة تراث أسرته، وذلك منذ بداية عهد الأمير عبد الله، ثم حاول أن يتوسع بالإغارة على بعض أملاك جيرانه بني قسي، فاستولى على لاردة، ولكنه اضطر إلى إعادتها إلى محمد بن لب باشارة الأمير عبد الله، ثم وقع الخلاف بينه وبين لب بن محمد على بعض الحصون المجاورة، ونشب بينهما قتال هزم فيه الطويل.
ومضت بعد ذلك عدة أعوام، شغل فيها الطويل على ما يظهر بمحاربة جيرانه النصارى في منطقة البرنيه، في أحواز نافار وجاقة، وسوبرابي وبليارش وغيرها.
ولما توفي لب بن محمد، رأى الطويل الفرصة سانحة لتنفيذ خطته ومشاريعه، فزحف على أراضي بني قسي مرة أخرى، واستولى على لاردة وبربشتر وحصن منتشون (3).
(1) البيان المغرب ج 2 ص 143 و145؛ وراجع دوزي Hist.; V.II.،p.93.
(2)
ابن حزم في جمهرة أنساب العرب ص 464.
(3)
راجع ابن حيان في المقتبس ص 87، والبيان المغرب ج 2 ص 148 و149.
(295 هـ - 907 م) وركد أمر بني قسي في الثغر من ذلك الحين. بيد أنهم استمروا في بعض القواعد والحصون حتى قضى الناصر على دولتهم في سنة 312 هـ (924 م). أما الطويل فقد قوى أمره واشتد بأسه، وكان قد تزوج من دونيا سانشا الحسناء ابنة الكونت أسنار أحد سادة أراجون، وحفيدة غرسية إنيجيز ملك نافار. وتعرف الروايات النصرانية، من جراء هذه المصاهرة، محمداً الطويل معرفة حسنة، وتذكره بإفاضة وتسميه " الملك الطويل "(1). وعكف الطويل بعد ذلك على الإغارة على الأراضي النصرانية المجاورة، فخرج في سنة 296 هـ (908 م) إلى منطقة بليارش، وعاث فيها وقتل كثيراً من النصارى، واستولى على حصن روطة وهدمه، ثم استولى على حصن منت بطروش. وفي العام التالي خرج الطويل إلى منطقة بليارش مرة أخرى، وعاد مثقلا بالغنائم والسبي (2).
ولما رأى عبد الله بن لب قوة الطويل واشتداد بأسه، آثر مهادنته، وفي أواخر سنة 298 هـ (911 م) تحالف الإثنان على غزو نافار والزحف إلى عاصمتها بنبلونة، وسار كل منهما في طريق مستقل، وأغار الطويل على بعض الحصون، وهدم الكنائس، ولكنه ارتد حينما علم بأن سانشو ملك نافار يسير لقتاله. وغزا عبد الله في طريقه حصوناً أخرى، وقتل وسبى كثيراً من النصارى. وفي العام التالي (912 م) غزا الطويل أراضي برشلونة ونشبت بينه وبين صاحبها الكونت سنير Sunier معركة هزم فيها الكونت وقتل كثير من أصحابه (3)، ولكن الطويل لم يلبث أن قتل في العام التالي (301 هـ - 913 م). والظاهر أنه قتل خلال غزوة أخرى قام بها في قطلونية (4)، فخلفه أولاده في حكم أراضيه (5).
(1) نشر العلامة المستشرق ف. كوديرا بحثاً ضمنه سيرة الطويل حسبما تعرضها المصادر اللاتينية والعربية، وذكر فيه تفاصيل شائقة. راجع البحث المذكور في مجلة أكاديمية التاريخ بمدريد:(1900) T.XXXVI (B.R.A.H.) P.316-24 Mohamed Atauil، rey moro de Huesca
(2)
البيان المغرب ج 2 ص 149 و150.
(3)
البيان المغرب ج 2 ص 152 و153 و154.
(4)
يذكر لنا ابن عذارى تاريخ وفاة الطويل في حوادث سنة 301 هـ. ولكنه لا يقول لنا أين قتل ومن الذي قتله (ج 2 ص 170).
(5)
يذكر لنا الأستاذ كوديرا في بحثه السالف الذكر أسماء أبناء الطويل وهم أربعة من الذكور هم عبد الملك، وعمروس، وفورتونيو، وموسى، وابنة تسمى دونيا بلاسكيتا.
- 3 -
وكان عهد الأمير عبد الله يدنو عندئذ من نهايته، ولم تشهد الأندلس منذ عهد عبد الرحمن الداخل فترة كهذه، عمت فيها الفتنة وسرى ضرامها إلى كل ولاية وقاعدة، ولم ينكمش سلطان الدولة الأموية بالأندلس قدر انكماشه في تلك الفترة.
وكان على الأمير عبد الله أن يكافح دون هوادة لإنقاذ الدولة والعرش من خطر الانهيار، فقضى حكمه الذي استطال خمسة وعشرين عاماً في سلسلة لا نهاية لها من الفتن والغزوات والمعارك المستمرة، مزقت خلالها أوصال المملكة، واهتزت أسس الدولة إلى الأعماق، ونضبت قواها ومواردها. وبالرغم من أن الأمير عبد الله لم يوفق إلى القضاء على الثورة في سائر النواحي، فإنه استطاع أن يقضي على الخطر الداهم، وأن يمزق شمل الثوار، وأن يستميل نفراً من أخطر زعمائهم، وأن يبسط سلطان العرش من الناحية الإسمية على الأقل، على بعض القواعد الهامة مثل إشبيلية وسرقسطة. وكان لهذه النتائج الأولى أثرها فيما بعد في عهد خلفه عبد الرحمن الناصر، في التمهيد للقضاء على عناصر الثورة، وتوطيد سلطان الدولة والعرش.
ويحاول الوزير المؤرخ ابن الخطيب أن يلقي ضوءاً على أسباب ذيوع الثورة في الأندلس في هذا العصر في قوله: " والسبب في كثرة الثوار بالأندلس يومئذ ثلاثة وجوه: الأول، منعة البلاد وحصانة المعاقل، وبأس أهلها بمقاربتهم عدو الدين، فهم شوكة وحدٌّ بخلاف سواهم. والثاني، علو الهمم، وشموخ الأنوف، وقلة الاحتمال لثقل الطاعة، إذ كان من يحصل بالأندلس من العرب والبرابرة، أشرافاً يأنف بعضهم من الإذعان لبعض. والثالث، الاستناد عند الضيقة والاضطرار إلى الجبل الأشم، والمعقل الأعظم من مَلِك النصارى، الحريص على ضرب المسلمين بعضهم ببعض. فكان الأمراء من بني أمية يرون أن اللجاج في أمورهم، يؤدي إلى الأضلولة، وفيها فساد الأموال، وتعذر الجباية، وتعريض الجيوش إلى الانتكاب، وأولياء الدولة إلى القتل. ولا يقوم السرور بغلبة الثائر، بما يوازنه من ترحة هذه الأمور "(1).
ولم تترك مقارعة الثورة لعبد الله فرصة للقيام بغزوات في أراضي النصارى.
(1) أعمال الأعلام (طبع بيروت) ص 36.
وشغلت البعوث والصوائف كلها أعواماً متوالية، بمحاربة الخوارج والثوار في مختلف الأنحاء. ولم يقم النصارى من جانبهم بغزوات ذات شأن في الأراضي الإسلامية. وشغل ألفونسو الثالث ملك ليون (جليقية) الذي خلف أباه أردونيو على العرش في سنة 866 م بتنظيم مملكته وتوطيد حدودها، منتهزاً فرصة الاضطراب الذي ساد المملكة الإسلامية. وكان من أعظم أعماله استيلاؤه على مدينة سمُّورة وهي من أمنع مدن الحدود الشمالية الغربية، وذلك في سنة 280 هـ (893 م)(1). وحصن ألفونسو سمورة وأسكنها النصارى، واتخذها قاعدة للإغارة على الأراضي الإسلامية المجاورة ومعظم سكانها من البربر (2). ولما اشتدت الفتنة وعمت سائر النواحي، ظهر في أحواز طليطلة وطلبيرة، أحمد بن معاوية المعروف بابن القط، وهو من ولد هشام بن عبد الرحمن، ودعا لنفسه بين البربر في تلك الأنحاء، وزعم أنه المهدي، وكان عالماً ومشعوذاً وافر الذكاء والعزم، فالتفت حوله جموع غفيرة من البربر، وأعلن الجهاد وقصد إلى سمورة لافتتاحها، وكتب إلى ألفونسو رسالة عنيفة يدعوه فيها إلى الإسلام وينذره بالويل إذا أبى. وكان ألفونسو يومئذ في قواته على مقربة من سمورة، فسار إلى لقاء المهدي وقواته، ودارت الموقعة في مخائض نهر دويرة أمام سمورة، فهزم النصارى أولا وارتدوا، وحاصر المهدي سمورة. ولكن حدث عندئذ أن انسحب زعماء البربر في قواتهم خشية من تفوقه عليهم وغدره بهم. وصمد ابن القط فيمن بقى معه، ثم نشبت بينه وبين النصارى موقعة ثانية قاتل فيها ببسالة حتى قتل ومزقت قواته، واحتز رأسه وسمر فوق أحد أبواب سمورة. وكان ذلك في شهر رجب سنة 288 هـ (يوليه سنة 901 م) وبذا انهارت حركته ووطد ألفونسو سيادته في تلك الأنحاء (3).
وكان ألفونسو الثالث يعمل على انتهاز كل فرصة لإذكاء الفتنة والاضطراب في المملكة الإسلامية، وكان يقصده الثوار وفي مقدمتهم عميدهم ابن حفصون، للتحالف معه ضد حكومة قرطبة؛ واستدعاه أهل طليطلة في أواخر عهد الأمير
(1) البيان المغرب ج 2 ص 127.
(2)
المقتبس ص 109.
(3)
راجع تفاصيل حركة ابن القط وموقعة سمورة، في المقتبس ص 133 - 139،
وكذلك في ابن الأبار، الحلة السيراء ص 91 - 92؛ والبيان المغرب ج 2 ص 144، ودوزي: Hist.; V.II.p. 132-134.
عبد الله ودفعوا إليه الجزية، واستولى في عودته على بعض الحصون. وكانت هذه أول غزوة للنصارى على ضفاف نهر التاجُه، بيد أنها كانت غزوة عابرة ولم تخلف أثراً ثابتاً. وأما الثغر الأعلى فقد كان بنو قسيّ، وفي مقدمتهم لب بن محمد بن لب، يحاربون ألفونسو ويحاربهم من وقت إلى آخر.
وكان من الحوادث البارزة في عهد الأمير عبد الله افتتاح الجزائر الشرقية (جزائر البليار). وقد رأينا فيما تقدم كيف أرسل عبد الرحمن بن الحكم في سنة 234 هـ (848 م) حملة بحرية إلى ميورقة لغزوها، ومعاقبة أهلها على تعرضهم لسفن المسلمين وكيف تعهد أهلها بالجزية والولاء. وفي أواخر عهد الأمير عبد الله في سنة 190 هـ (903 م) سار عصام الخولاني إلى ميورقة في قوة بحرية من المجاهدين، فحاصرها تباعاً، وكان عصام قد حملته الرياح قبل ذلك وهو في طريقه إلى الحج إلى ميورقة فعرفها، واختبر أحوال هذه الجزائر الغنية، وأدرك سهولة فتحها وعرض مشروعه على الأمير عبد الله، فأقره وأمده بالسفن والقطائع. ولما وفق إلى فتحها أقره الأمير على ولايتها. ومن ذلك الحين تدخل الجزائر الشرقية في حظيرة المملكة الإسلامية (1).
وكان أيضاً من الحوادث البارزة في هذا العهد الحافل بالخطوب والمحن، المجاعة الشديدة التي وقعت في سنة 285 هـ (898 م) والتي قاست الأندلس منها الشدائد والأهوال.
- 4 -
وتوفي الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن في مستهل ربيع الأول سنة 300 هـ (أكتوبر سنة 912 م) في الثانية والسبعين من عمره، بعد أن حكم خمسة وعشرين عاماً ملؤها الاضطراب والفتن. وكان أميراً ورعاً جم التقشف والتواضع، جواداً محباً للخير، كثير البر بالفقراء وذوي الحاجات، يفرز لهم سهماً من مال الجبايات (2)، عالماً أديباً فصيحاً رفيع البيان، ينظم الجيد من الشعر. وكان بالرغم مما شغله، طوال حكمه من الفتن والخطوب، شديد العناية بشئون الحكم وتوطيد أركانه، وتعرف أحوال الشعب ورغباته، وكان من أشد الناس حرصا على
(1) ابن خلدون ج 4 ص 164.
(2)
المقتبس ص 33 و34.
إقامة العدل، وقمع الظلم والبغي، وسحق الظلمة. وكان يجلس للفقراء يوماً في كل أسبوع بباب أنشأه عند ركن القصر خصيصاً لذلك وسماه باب العدل، ليقضي في مظالم الناس بنفسه، وليستمع إلى كل ذي حاجة ومظلمة، وأنشا باباً حديدياً يتمكن الناس بواسطته من تقديم شكاويهم وظلاماتهم حتى لا يحرم بذلك ضعيف من مخاطبته (1). وكان لصرامته وشدة وطأته على الطغاة وأهل السلطان، أثر كبير في شيوع العدل في عهده، والحد من بغي ذوي الجور والظلم، كما كان لبالغ تقواه وتواضعه، واحتشامه وتقشفه في حياته الخاصة، وفي مظاهره وحياته الملوكية، أثر كبير في تقويم الأخلاق ودعم الفضيلة، والاقتصاد في اللهو والملاذ، في عصر كثرت فيه الخطوب والمحن.
وتولى الحجابة في بداية عهد عبد الله، عبد الرحمن بن أمية بن شهيد حاجب أخيه المنذر، ثم تولاها من بعده سعيد بن محمد بن السليم حيناً، ثم عزله عبد الله في أواخر عهده، ولم يول أحداً من بعده لحجابته، واقتصر في تدبير شئون الدولة على الوزراء والكتاب، وبالأخص على بدر الخصي الصقلبي وكان يؤثره ويوليه ثقته (2).
وكان من حسن الطالع أن استطاع الأمير عبد الله، أن يعتمد في مواجهة الفتنة
الغامرة التي أحاقت بعرشه وملك أسرته، على عون نفر من أكابر رجال الحرب
والسياسة، الذين أبدوا في معالجة الخطوب مقدرة فائقة. وكان في مقدمة أولئك
الرجال بنو عَبْدة وهم من صميم موالي بني أمية. وقد تولى عدة منهم الوزارة
والقيادة للأمير عبد الله، ومنهم عبيد الله محمد بن أبي عبدة، الظافر في موقعة
بلاي، وأحمد بن محمد بن عيسى بن أبي عبدة، وسلمة بن علي بن أبي عبدة،
وقد اضطلع كلاهما بقيادة كثير من الصوائف. وينسب أعظم الفضل إلى هؤلاء
القادة في مقارعة الفتنة، وإنقاذ العرش والدولة (3). وتولي القيادة والوزارة منهم
أيضاً عبد الرحمن بن حمدون بن أبي عبدة، وعبد الله بن محمد بن أبي عبدة ولد
القائد الشهير (4). وكان من وزراء الأمير عبد الله أيضاً، عبد الملك بن عبد الله
(1) راجع المقتبس ص 34، والبيان المغرب ج 2 ص 158. وقد استعملت هذه الوسيلة في كثير من العصور لإيقاف الأمير على مظالم رعاياه بطريقة مباشرة.
(2)
ابن حيان في المقتبس ص 4.
(3)
المقتبس ص 29.
(4)
راجع البيان المغرب ج 2 ص 156، و157، وأخبار مجموعة ص 151. وكذلك المقتبس ص 6.
ابن أمية، وقد قتله ولده المطرف أثناء حملة إشبيلية حسبما أسلفنا. والزعيم البربري سليمان بن وانسوس وزير أبيه من قبل، وكان من أقدر وزرائه وأعقلهم، عزله عن الوزارة ثم اضطر لإعادته للإستعانة بخبرته ونصحه (1).
وكان الأمير عبد الله، إلى جانب هؤلاء الوزراء والقادة، الذين يمثلون العصبية العربية أو البربرية، يعتمد على ولاء الموالي والفتيان، ويقدم الموالي الشاميين على البلديين، أسوة بما رتبه أبوه الأمير محمد، وكان من زعماء الفتيان في بلاطه ريّان صاحب الطراز، وبدر الوصيف وزميله أفلح. وسنرى فيما بعد كيف نما نفوذ أولئك الفتيان في بلاط قرطبة، واستفحل في عهد الناصر حتى غلب على كل نفوذ آخر (2).
ورزق الأمير عبد الله من الولد إثنا عشر إبناً وثلاثة عشر بنتاً (3). ووقعت داخل الأسرة الملكية في عهده عدة حوادث محزنة أسبغت على اسمه وخلاله سحباً قاتمة. من ذلك مصرع ولديه محمد والمطرّف. وكان محمد أكبر أبنائه وولى عهده، وكان أخوه الأصغر مطرف يحقد عليه، ويرى أنه أحق بولاية العهد لما كان والده يحبوه به من ثقته، ويعهد إليه به من جلائل الأمور والغزوات، فما زال يدس في حق أخيه ويغري أباه عليه ويتهمه بممالأة الثوار، والاتصال بابن حفصون، حتى توجس منه أبوه الأمير شراً، وأمر باعتقاله في جناح من القصر. ولما تواترت الأدلة بعد ذلك على براءته، واعتزم عبد الله إطلاق سراحه، بادر مطرف إليه في معتقله، وأثخنه طعاناً حتى أجهز عليه. وهنا تختلف الرواية فيقال إن الأمير عبد الله حزن أشد الحزن لمصرع ولده الأكبر، وهم بقتل أخيه وقاتله مطرف، لولا أن ثناه عن ذلك رجال دولته، ويقال من جهة أخرى إن مطرِّفاً لم يرتكب جريمته إلا بوحي أبيه وموافقته (4). وكان مصرع محمد في شوال سنة 277 هـ
(1) راجع ابن الأبار في الحلة السيراء ص 66 و67.
(2)
راجع الحلة السيراء ص 65، والبيان المغرب ج 2 ص 153.
(3)
يذكر لنا صاحب البيان المغرب أسماء أبناء الأمير عبد الله وبناته (ج 2 ص 156).
(4)
راجع ابن خلدون ج 4 ص 137، والبيان المغرب ج 2 ص 156 و157 و160 و161. ويقول صاحب البيان إن محمداً خرج بالفعل على أبيه، وفر إلى ابن حفصون، ثم عفا عنه أبوه وعاد إليه، حى انتهت وشاية أخيه باعتقاله (ص 154 و155). وذكر ابن الأثير أن الأمير عبد الله قتل ولده محمداً في حد من الحدود (ج 8 ص 24).
(891 م) وهو في السابعة والعشرين من عمره، فتولى أبوه عبد الله كفالة ولده الرضيع عبد الرحمن، وكان قد مضى على مولده ثلاثة أسابيع فقط، وأسكنه معه في قصره، ولما بلغ أشده وظهرت نجابته، عنى بتعليمه وتربيته، وقربه إليه وأولاه ثقته ثم جعله كاتب سره (1). وقد شاء القدر أن يخلف الطفل اليتيم فيما بعد جده على العرش، وأن يغدو أعظم خلفاء الأندلس.
ولم تذهب جريمة المطرف دون عقاب. ذلك أنه لم تمض بضعة أعوام حتى ساءت العلائق بين مطرف وبين أبيه، ولما سار المطرف على رأس الصائفة إلى إشبيلية في سنة 282 هـ (895 م)، ومعه الوزير عبد الملك بن أمية، وثب المطرف بالوزير لعداوة بينهما وقتله، وأثمر سعي خصوم المطرف هذه المرة، وصُور لأبيه كما صور أخوه من قبل، في صورة الخارج عليه المتربص به، فقضى بإعدامه، وقطع رأسه وبذا كفر عن دم أخيه ودم الوزير (2).
واستراب عبد الله أيضاً بإخوته، وقد أشرنا فيما تقدم إلى ما قيل من أن أخاه المنذر توفي قتيلا، وأنه هو الذي أوحى إلى طبيبه بتدبير قتله. وبطش عبد الله بأخوين آخرين له هما هشام والقاسم ابنا محمد بن عبد الرحمن. فأما هشام فاتهم بالتآمر على أخيه، فقبض عليه وقضى بإعدامه (284 هـ). وأما القاسم فقبض عليه وزج إلى السجن، ثم دس عليه عبد الله من قتله بالسم. واعتقل كذلك عدة من أمراء بني أمية وأكابر رجال الدولة، وقتل بعضهم. وقد أسبغت هذه الوقائع الدموية سحابة قاتمة على خلال الأمير عبد الله وسيرته، ولم ينجح في محوها ورعه وزهده وحبه للخير. وقد نعى عليه الفيلسوف ابن حزم هذا الإسراف في البطش في أقوال استشهد بها ابن حيان وغيره من مؤرخي الأندلس، وجاء فيها أن الأمير عبد الله " كان قتالا تهون عليه الدماء، مع الذي كان يظهره من عفته، فإنه احتال على أخيه المنذر على إيثاره إياه، وأوطأ عليه حجامه بأن سم له المبضع الذي فصده به وهو نازل بعسكره على ابن حفصون، فكانت فيه منيته وتطوق دمه.
ثم قتل ولديه معاً بالسيف واحداً بعد آخر، محمداً والد الخليفة الناصر لدين الله،
(1) المقتبس ص 40.
(2)
ابن خلدون ج 4 ص 137.
وأخاه عدوه المطرف؛ ثم قتل أخوين له معاً أيضاً، قتل هشاماً بالسيف، والقاسم أخاه بالسم، إلى من قتله غيرهم " (1).
وتجمل الرواية خلال الأمير عبد الله وصفاته في العبارات الآتية: " وكانوا يعدونه من أصلح خلفاء بني أمية بالأندلس، وأمثلهم طريقة، وأتمهم معرفة، وأمتنهم ديانة، لكنه كان منغص الحال بدوام الفتنة، وتضييق نطاق الخطة، ونقصان مقدار التزكية، حتى كان يتخلله الرياء تحت قناع تقواه، والبخل يطوقه طبيعة ليست له تحط من قدره "(2) ويزيد ابن حيان على ذلك قوله: " وغمصوا دينه بما كان من هون الدماء عليه، وإسراعه إلى سفكها، حتى من ولديه وإخوته ومن خلفهما من صحابته ورعيته، أخذاً لأكثرهم بالظنة، مقوياً في إيثامهم بالشبهة "(3).
وكان للأمير عبد الله بالرغم من هذا الجانب المظلم، خلال مشرقة، منها أدبه
وفصاحته وشاعريته. وتنوه الرواية بهذه الموهبة فيقول لنا صاحب أخبار مجموعة،
إن الأمير عبد الله كانت له توقيعات بليغة، وأشعار بديعة في الغزل والزهد،
لا يكاد أن يقع مثلها أو تنسب إلى من تقدْمه نظيرها (4). ويقول ابن حيان " كان
متصرفاً في فنون، متحققاً منها بلسان العرب، بصيراً بلغاتها وأيامها، حافظاً
للغريب من الأخبار، آخذاً من الشعر بحظ وافر " (5). ويقول صاحب البيان المغرب
إنه كان شاعراً مطبوعاً له أشعار حسان (6)، ومن شعره في الغزل قوله:
يا مهجة المشتاق ما أوجعك
…
ويا أسير الحب ما أخشعك
ويا رسول العين من لحظها
…
بالرد والتبليغ ما أسرعك
تذهب بالسر فتأتي به
…
في مجلس يخفى على من معك
(1) راجع نقط العروس لابن حزم ص 87 و79، والمقتبس ص 41، وكذلك ص 122، وابن الأبار في الحلة السيراء ص 69، والبيان المغرب ج 2 ص 160 و161.
(2)
ابن حيان، نقلا عن عيسى بن أحمد الرازي، في المقتبس ص 33، والبيان المغرب ج 2 ص 160.
(3)
المقتبس ص 39.
(4)
أخبار مجموعة ص 152.
(5)
المقتبس ص 34.
(6)
البيان المغرب ج 2 ص 159.
كم حاجة أنجزت إبرازها
…
تبارك الرحمن ما أطوعك
وقوله:
ويحى على شادن كحيل
…
في مثله يخلع العذار
كأنما وجنتاه ورد
…
خالصة النور والبهار
قضيب بان إذا تثنى
…
يدير طرفاً به أحوار
فصفو ودى عليه وقف
…
ما اطّرد لليل والنهار
ومن قوله في الزهد:
يا من يراوغه الأجل
…
حتى م يلهيك الأمل
حتى م لا تخشى الردى
…
وكأنه بك قد نزل
أغفلت عن طلب النجاة
…
ولا نجاة لمن غفل
هيهات يشغلك المنى
…
ولا يدوم لك الشغل
فكأن يومك لم يكن
…
وكأن نعيك قد نزل
وكان يؤثر مجالس العلماء والشعراء، ويعظمهم ويقربهم ويستدعيهم، ويرتاح لمديحهم. قال ابن حيان:" وكان مجلس الأمير عبد الله قبل الخلافة وبعدها، أعمر مجالس للفضائل، وأنزهها من الرذائل، وأجمعها لطبقات أهل الآداب والتعالم ". وكان في مقدمة أصدقائه وجلاسه زعيم شعراء العصر، أبو عمر أحمد ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد؛ وكان شاعر الدولة الأموية، ومادح أمرائها منذ الأمير محمد حتى الناصر؛ وموسى بن محمد بن حُدير المعروف بالزهد؛ وسعيد بن عمرو العكي؛ وعبيد الله بن يحيى بن إدريس الخالدي، وسعيد ابن عبد ربه ابن أخي صاحب العقد؛ وكلهم من أكابر الشعراء والكتاب.
وكان من أخص وزرائه في تلك المجالس العلمية، الوزيران العالمان الأديبان عبد الملك بن جَهور، وعبد الملك بن شُهيد. وكان من عادته أن يلجأ إلى العلماء وأهل الرأي في المشورة، ويستعين بآرائهم وأحكامهم فيما يواجه من أحداث وخطوب، وكان بقيّ بن مخلد فقيه العصر وأعظم علمائه أكثرهم حظوة لديه، وكان يبجله ويزوره في داره، ويقتبس منه، ويستمع لنصحه (1).
(1) المقتبس ص 34 و38 و41 و42.
ولم يتسع عهد الأمير عبد الله الفياض بالثورات والفتن للأعمال الإنشائية، بيد أنه يمكن أن نذكر من منشآته القليلة " الساباط " الموصل بين القصر والمسجد الجامع، وهو عبارة عن ممر مسقوف مبني فوق عقد كبير يفضي من القصر إلى الجامع، ويتصل به على مقربة من المحراب.
وكان الأمير عبد الله بن محمد، أبيض، أصهب، مشرباً بحمرة، أزرق العينين، أقنى الأنف، يخضب بالسواد، إلى الطول أميل (1). ووصفه ابن حيان بقوله:" كان جميل الطلعة، ضخماً، مهيباً، نبيلاً "(2).
(1) ابن الأثير ج 8 ص 34، والبيان المغرب ج 2 ص 155.
(2)
المقتبس ص 36.