الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
ولاية عبد الرحمن الداخل
- 2 -
عبد الرحمن وحوادث الشمال. ظهور الصقلبي في شرقي الأندلس. استئنافه للدعوة العباسية. تحالفه مع ابن يقظان ثم خلافه معه. مسير عبد الرحمن إلى قتال الصقلبي. التجاؤه إلى بلنسية. مصرعه وانهيار دعوته. ثورات محلية مختلفة. حوادث الشمال. مصرع ابن يقظان. مسير عبد الرحمن إلى سرقسطة وحصارها. خضوع الحسين الأنصاري. عبد الرحمن يغزو نافار وشرطانية. قتله لعيشون ابن سليمان. عود الحسين إلى الثورة. إرسال عبد الرحمن حملة لقتاله. حصار سرقسطة وثبات الحسين. مسير عبد الرحمن إلى قتاله. هزيمته ومصرعه. تفاهم عبد الرحمن مع شارلمان وسعيه إلى مصاهرته. ائتمار الوافدين من الأموية بعبد الرحمن. صرامته في إخماد هذه المؤامرات. حديث ينسب إليه عنها. فرار محمد بن يوسف الفهري وثورته في طليطلة. مسير عبد الرحمن لقتاله. موقعة قسطلونة. هزيمة محمد وفراره. استئنافه للثورة في قورية. هزيمته ووفاته. أخوه أبو القاسم. خروجه ثم خضوعه. انتهاء الثورة. خاتمة الكفاح الرائع.
بينما كانت هذه الحوادث الخطيرة تجري في الشمال، كان عبد الرحمن الأموي في الجنوب يكافح الثورة في مختلف الأنحاء. وكانت ثورة البربر قد شغلته واستنفدت معظم قواه أعواماً متوالية. بيد أنه ما كاد يفرغ من سحقها حتى ظهر في شرقي الأندلس خطر جديد قوامه الدعوة العباسية. ذلك أن عبد الرحمن بن حبيب الفهري أحد زعماء الفهرية، وهو المعروف بالصقلبي نظرا لطوله وشقرته وزرقة عينيه، عبر البحر من إفريقية إلى الأندلس في قوة كبيرة، ونزل بساحل تدمير (مرسية) في شرق الأندلس، ودعا للخليفة العباسي (سنة 161 هـ). ويجب أن نذكر أن عبد الرحمن بن حبيب هذا هو غير سميه عبد الرحمن بن حبيب المتغلب على إفريقية الذي فصلنا أخباره من قبل، فقد قتل هذا المتغلب على إفريقية منذ سنة 140هـ، بعد أن خرج على طاعة بني العباس (1). ولا نعرف علاقة الصقلبي
(1) ابن خلدون ج 6 ص 111.
بيوسف بن عبد الرحمن الفهري، وربما كان من أبناء عمومته (1). بيد أنه كان من زعماء الفهرية وزعماء الثورة على بني أمية. وكانت حركة الصقلبي في تدمير، كحركة العلاء بن مغيث من قبل في باجة، ولكنها كانت أشد خطراً، لأن الصقلبي سعى إلى التفاهم مع زعيم الثورة في الشمال سليمان بن يقظان وتحالف معه (2). والظاهر أن هذا التحالف كان بعد عبور الفرنج إلى إسبانيا وموقعة باب شيزروا. ولكن ابن يقظان لم يف بوعده في إمداده لقتال عبد الرحمن الأموي، فغضب منه وسار لقتاله، فهزمه ابن يقظان في ظاهر برشلونة. فعاد إلى تدمير ولبث مدى أشهر ينظم قواته وأهبته، ولكن عبد الرحمن لم ينتظر حتى يهاجمه، بل سار بنفسه، وهاجمه بشدة، وأحرق سفنه الراسية بالساحل، حتى لا يجد سبيلا إلى الفرار، فارتد الصقلبي بفلوله إلى جبال بلنسية واستعصم بها، وهنا لجأ عبد الرحمن إلى سلاح الاغتيال مرة أخرى، فدس على الصقلبي بعض أصدقائه فاغتاله وحمل رأسه إليه، وانهارت بذلك دعوته وثورته (سنة 162 و163 هـ: 778 - 779 م).
ووقعت بعد ذلك عدة ثورات محلية عني عبد الرحمن بقمعها قبل أن يسير إلى الشمال، فقد ثار دحية الغساني ببعض حصون إلبيرة (غرناطة)، وكان دحية من أصدقاء عبد الرحمن ومن قادته، ولكنه نكث بعهده ولحق بالفاطمي، فلما هلك الفاطمي، فر إلى إلبيرة وأعلن بها الثورة، فأرسل عبد الرحمن إليه جيشا ضيق عليه الحصار حتى أخذ وقتل. وثار إبراهيم بن شجرة بحصن مورور،
(1) يقول دوزي إنه كان صهرا ليوسف الفهري متزوجا بإحدى بناته (ج 1 ص 242) ولكنه لم يبين مصدرا لقوله، ولم نجد في المراجع العربية ما يؤيده.
(2)
يقدم إلينا دوزي ثورة ابن يقظان وحلفائه وعلاقة الصقلبي به في صورة أخرى، فيقول لنا، إن هذا التحالف كان يضم ابن يقظان والحسين بن يحيى والصقلبي ومحمد بن يوسف الفهري، وانهم اتفقوا جميعا على استدعاء الفرنج إلى اسبانيا، وساروا جميعا إلى لقاء شارلمان في بادربورن، واتفق على أن يقوم ابن يقظان بمعاونة شارلمان في غزوته بينما يقوم الصقلبي بحشد البربر في إفريقية ثم يعبر بهم إلى تدمير ليشغل عبد الرحمن بحركته (دوزي ج 1 ص 240 - 241). ولكنا لا نوافق دوزي على هذا التصوير أولا لأن المصادر العربية تشير إلى مثل هذا التحالف الرباعي، وتتفق جميعا في اعتبار حركة الصقلبي حركة مستقلة لا علاقة لها بغزوة الفرنج، ومن جهة أخرى فإنه لا يوجد في الروايات اللاتينية المتعلقة بغزوة شارلمان لإسبانيا ما يشير إلى هذا التحالف، وثانيا لأن محمد بن يوسف الفهري أحد أركان هذا التحالف لم يفر من سجنه كما سنرى إلا بعد ذلك ببضعة أعوام. راجع: ابن الأبار في الحلة السيراء ص 57، والبيان المغرب ج 2 ص 58، وابن الأثير ج 6 ص 26.
فبعث إليه عبد الرحمن مولاه بدراً، فهاجمه وقتله. وثار في طليطلة القائد السلمي، وكان من خاصة عبد الرحمن، ثم فر من قرطبة خشية بطشه به لأمور نقمها منه، والتفت حوله العناصر الخارجة في تلك الأنحاء، فسير إليه عبد الرحمن جيشا قويا بقيادة حبيب بن عبد الملك، فحاصره حيناً ثم قتل. وثار في الجزيرة الخضراء واليها الرماحس بن عبد العزيز الكناني، فسار إليه عبد الرحمن بنفسه، وداهمه قبل أن يستكمل أهبته، ففر الرماحس وعبر البحر إلى المشرق (سنة 163 - 164)(1).
وفي العام التالي تأهب عبد الرحمن لقمع الثورة في الشمال. وكان الخلاف قد وقع بين زعيمى الثورة بعد تفاهمهما على أثر نكبة الجيش الفرنجي في موقعة باب الشزري، وتربص الحسين بن يحيى الأنصاري بزميله سليمان بن يقظان، ودس عليه ذات يوم من قتله بالمسجد الجامع، وانفرد بالأمر في سرقسطة وما حولها (2). فسار عبد الرحمن إلى سرقسطة في جيش ضخم وضيق الحصار عليها (سنة 165 هـ - 781 م). ووفد عليه عندئذ عيشون بن سليمان، وكان قد فر عقب مقتل أبيه إلى أربونة، وانضم إليه بمن معه في مقاتلة الحسين، فلما اشتد الحصار بالحسين طلب الصلح، وقدم ابنه سعيداً رهينة، فأجابه عبد الرحمن إلى ملتمسه، وأقره واليا على سرقسطة. ثم تحول عن سرقسطة إلى الشمال الشرقي، واخترق بلاد البشكنس (نافار) ليعاقب أهلها على عيثهم وعدوانهم، وغزا عاصمتها بنبلونة، وأثخن فيها وخرب قلاعها، وغزا قلهرّة وبقيرة (فكيرا)، واجتاح ولاية شرطانية (3)، وأرغم أميرها على تقديم الطاعة وأداء الجزية (4). ثم عاد إلى قرطبة ظافراً بعد أن وطد هيبة الحكومة المركزية في الشمال نوعاً، وألقى على النصارى درسا يذكرهم بأن الإسلام قد استرد منعته وسلطانه في اسبانيا. وكان سعيد بن الحسين قد فر من معسكر الأمير أثناء الطريق، ولما حل عبد الرحمن بقرطبة توجس شرا من عيشون بن سليمان، وكان قد عاد في ركابه، فأمر به
(1) أخبار مجموعة ص 112، وابن الأثير ج 6 ص 20، والبيان المغرب ج 2 ص 58.
(2)
يقول لنا العذري نقلا عن الرازي أن قتل الحسين لسليمان كان بتحريض من حكومة قرطبة، وذلك على أن يولى سرقسطة (في كتابه ترصيع الأخبار الذي سبقت الإشارة إليه ص 26).
(3)
شرطانية بالإفرنجية Cerdagne وبالإسبانية Cerdana، وهي ولاية كبيرة في شمال شرق إسبانيا.
(4)
أخبار مجموعة ص 114، وابن الأثير ج 6 ص 22.
فقتل. ولما رأى الحسين بن يحيى أن عبد الرحمن قد ارتد عنه، وعاد إليه ولده سالما، نكث بعهده وعاد إلى الثورة، وعاث فسادا في سرقسطة وأعمالها، فاعتزم عبد الرحمن أن يعود إلى قتاله، وأن ينكل به وبأنصاره في تلك المرة. فبعث إلى الشمال جيشاً كثيفاً بقيادة غالب بن تمام بن علقمة، فخرج الحسين إلى لقائه، ووقعت بينهما معارك شديدة هزم فيها الحسين، وأسر ولده يحيى وعدة من صحبه، فأرسلوا إلى قرطبة حيث أمر عبد الرحمن بإعدامهم، وامتنع الحسين بالمدينة واستمر غالب في حصاره. وفي العام التالي (سنة 167هـ - 783 م) سار عبد الرحمن بنفسه إلى سرقسطة وحاصرها بشدة، وضربها بالمجانيق ضرباً عنيفاً حتى هدم أسوارها، واقتحمها عنوة، وقبض على الحسين وجماعة من صحبه، وقتلهم جميعاً، وشرد كثيراً من أهلها، وفر سعيد ولد الحسين، وعين عبد الرحمن قائده ثعلبة بن عبيد واليا لسرقسطة، وكان قد افتداه من أسر الفرنج حسبما تقدم. وركدت بذلك ريح الثورة في الشمال مدى حين (1).
وشغل عاهل الفرنج شارلمان مدى حين عن شئون إسبانيا، لأن القبائل السكسونية عادت فنكثت طاعته، وعاد لقتاله خصمه القوى فيدوكنت، واستمرت الحرب بينهما زهاء سبعة أعوام وانتهت بهزيمة السكسونيين، وخضوع زعيمهم وإرغامه على التنصير (سنة 785 م). بيد أن عبد الرحمن رأى أن يتفاهم مع زعيم الفرنجة، وأن يؤثر صداقته ومداراته على خصومته، فبعث إليه يطلب عقد الصداقة معه، ويكاشفه برغبته في مصاهرته، فأجابه شارلمان إلى السلم ولم تتم المصاهرة (2). وفي بعض الروايات أن شارلمان هو الذي عرض على عبد الرحمن أن يزوجه ابنته فاعتذر عبد الرحمن باعتلال صحته (3). واستمر السلام معقودا بين الزعيمين حتى وفاة عبد الرحمن.
(1) ابن الأثير ج 6 ص 22، والبيان المغرب ج 2 ص 59.
(2)
المقري عن ابن حيان (ج 1 ص 155). ولا تقدم الرواية لنا تفصيلا عن مشروع المصاهرة هذا، ولكن الظاهر أن عبد الرحمن طلب الاقتران بإحدى بنات شارلمان، والمرجح أنها " هروترود " كبرى بناته، وكانت وحدها تصلح للزواج في ذلك الحين. ويرى رينو أن المقصود بهذه الإشارة إنما هو عبد الرحمن الثاني أو عبد الرحمن الأوسط حفيد عبد الرحمن الداخل، فقد كانت علائقه بملك الفرنج (شارل الأصلع) على ما يرام، وكان هذا الاتصال بين الأمراء الفرنج والمسلمين ذائعا ( Reinaud: ibid ، p. 98)
(3)
راجع: Scott: Moorish Empire، V.I.p. 40
ولما عاد عبد الرحمن إلى قرطبة نمى إليه خبر مؤامرة خطيرة دبرت لسحقه، بزعامة ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية، وهذيل ولد الصميل بن حاتم. ولم تكن هذه أول مؤامرة من نوعها، فقد دبرت قبل ذلك ببضعة أعوام سنة 163هـ مؤامرة أخرى، وعلى رأسها أيضا اثنان من أقطاب بني أمية، الذين وفدوا على الأندلس حينما تألق طالع عبد الرحمن، هما عبد السلام بن يزيد بن هشام المعروف باليزيدي، وهو ابن عم عبد الرحمن، وعبيد الله بن أبان بن معاوية وهو ابن أخيه، وذلك بمعاونة أبى عثمان كبير الدولة. وكان عبد الرحمن مذ تم له الأمر، يسعى إلى استقدام فل بني أمية من المنفي، ويدعوهم إليه ليكونوا له عوناً وعصبة، ويظلهم برعايته، ويغدق عليهم من نعمه، ويختارهم لمختلف المناصب. ولكن روحاً سيئاً من الحقد والحسد، كان يحفز أولئك الأقارب لمناوأة ذلك الذي هيأت له الأقدار أن يفوز دونهم، بتراث بني أمية في الأندلس. فائتمروا به غير مرة، وشجعهم على ذلك بعض الخوارج الناقمين والمنافسين الطامعين، ولكن عبد الرحمن كان يكتشف الخطر قبل وقوعه، ويسحقه بكل ما أوتي من شدة وصرامة، فلم يحجم حينما وقف على المؤامرة الأولى، عن قتل ابن عمه عبد السلام اليزيدي وعبيد الله ابن أخيه أبان، وعفا عن أبى عثمان لمكانته وسابق صنيعه. ولم يحجم حينما وقف على المؤامرة الثانية، عن قتل المغيرة ابن أخيه الوليد، وزميله هذيل بن الصميل ومن معهما، ونفي أخاه الوليد وأسرته إلى المغرب. وقد نقل إلينا مؤرخ أندلسي عن بعض موالي عبد الرحمن، أنه دخل عليه أثناء قتله المغيرة ابن أخيه، وهو مطرق شديد الغم فرفع رأسه وقال:" ما عجبي إلا من هؤلاء القوم. سعينا فيما يضجعهم في مهاد الأمن والنعمة وخاطرنا بحياتنا، حتى إذا بلغنا منه إلى مطلوبنا ويسر الله تعالى أسبابه، أقبلو علينا بالسيوف. ولما آويناهم وشاركناهم فيما أفردنا الله تعالى به، حتى أمنوا وردت عليهم أخلاف النعم، هزوا أعطافهم، وشمخوا بآنافهم، وسموا إلى العظمى، فنازعونا فيما منحه الله تعالى، فخذلهم الله بكفرهم النعم، إذ أطلعنا على عوراتهم، فعاجلناهم قبل أن يعاجلونا، وأدى ذلك إلى أن ساء ظننا في البرىء منهم، وساء أيضاً ظنه فينا، وصار يتوقع من تغيرنا عليه ما نتوقع نحن منه "(1).
(1) الحجاري في كتابه " المسهب "؛ ونقله المقري في نفح الطيب (ج 2 ص 72 و73).
وفي ذلك الحين فر أبو الأسود محمد بن يوسف الفهري من سجنه، ورفع لواء الثورة في طليطلة. وكان محمد سجيناً في قرطبة منذ مقتل أبيه، ثم فراره وأسره ثانية في حوادث طليطلة سنة 142 هـ كما قدمنا. وتظاهر محمد عندئذ بالعمى، وأتقن حيلته حتى جازت على جميع الموكلين بسجنه، وأشفق عبد الرحمن عليه فأبقاه ولم يقتله كأخيه، وأنفق محمد في أسره أعواماً طويلة حتى أهمل شأنه، ولم يعد يكترث أحد به، وعرف بالأعمى. ثم سنحت له فرصة الفرار على يد بعض مواليه المتصلين به، ففر من سجنه الواقع على النهر الكبير، وجاز النهر سباحة، ولحق بطليطلة سنة 168 هـ وأعلن الثورة. والتفت حوله جموع كبيرة من الفهرية والقيسية، ومن إليهم من عناصر الخروج والثورة، وسار في قواته صوب جيان، فخرج عبد الرحمن إلى قتاله، ووقعت بينهما معارك عديدة، كان النصر فيها لعبد الرحمن. ولكن أبا الأسود لبث حيناً محتفظاً بمراكزه وقواته. ثم نشبت بينهما على مقربة من قسطلونة في الوادي الأحمر، بمكان يعرف بمخاضة الفتح، معركة شديدة حاسمة، ولجأ عبد الرحمن إلى الخديعة، فاتفق مع بعض قادة أبي الأسود على التقاعد والغدر، فهزم أبو الأسود هزيمة شديدة، وقتل من جنده عدة آلاف، وغرق عدد كبير في النهر، وطارده عبد الرحمن حتى قلعة رباح، ومزق جيشه كل ممزق (ربيع الأول سنة 168هـ - 784 م)(1). ولكن محمداً لم يخضع ولم يهن عزمه، فارتد إلى جهة الغرب ونزل بقورية، وعاد يحشد قواته لاستئناف القتال، وقوى أمره وبسط سلطانه على تلك الأنحاء، فسار عبد الرحمن لقتاله ثانية، وهاجم قورية ومزق شمل قواته (سنة 169 هـ - 785 م)، ففر في نفر من صحبه إلى بعض قرى طليطلة، وهنالك توفي لأشهر قلائل (سنة 170 هـ). فقام مكانه أخوه أبو القاسم بن يوسف، واقترن بزوجته، وعاد ينظم الثورة في طليطلة. فسار عبد الرحمن لقتاله قبل أن يستفحل أمره، ولم ير أبو القاسم بدا من الخضوع والتماس الصلح والعفو، فأجابه الأمير إلى ملتمسه، وصحبه معه إلى قرطبة، ورد إليه بعض أموال أسرته (2)، وطويت بذلك آخر مرحلة في ثورة
(1) يضع الرازي تاريخ هذه الموقعة في أول ربيع الأول سنة 168 (ابن الأبار في الحلة السيراء ص 57) ويتبعه في ذلك ابن الأثير فيضع تاريخها سنة 168هـ. ولكن صاحب البيان المغرب يجعل تاريخها في سنة 169هـ (ج 2 ص 59).
(2)
ابن الأبار ص 56 و57؛ والبيان المغرب ج 2 ص 52 و59 و60، ويروي ابن الأثير أن عبد الرحمن لم يبق على أبي القاسم بل قتله (ج 6 ص 26).
الفهرية، بل كانت آخر ثورة قام بقمعها عبد الرحمن، ولم يعش بعدها سوى عدة أشهر. وهكذا أنفق عبد الرحمن جميع حكمه - ثلاثة وثلاثين عاما - في كفاح مستمر. وكانت مهمة عظيمة دونها خطوب فادحة. أن يطمح فتى شريد، يعمل القتل الذريع في أسرته وعصبته، وحيد ليس له أنصار ولا صحب، إلى افتتاح قطر عظيم زاخر بالقادة والجند، وأن يخضع ذلك القطر في حروب لا يخمد أوارها، وسيول من الدماء لا تنقطع، وأن يقيم ملكاً على بركان يضطرم من الثورة والمؤامرة والخصومة: تلك هي قصة عبد الرحمن الأموي، وهي قصة عجيبة ليست من حوادث التاريخ العادية، ولايقدم إلينا التاريخ كثيرا من أمثالها. ولكن عبد الرحمن كان رجل الموقف، وكانت حوادث الجزيرة (إسبانيا) وظروفها، وتمزق شملها، وتطلعها إلى زعامة قوية توحد كلمتها وقواها، وتسير بها نحو السلام والأمن، تفسح مجال الطموح والعمل لذهن جرىء مغامر كذهن عبد الرحمن. وكان عبد الرحمن يجمع إلى فيض جرأته، كثيراً من الذكاء والدهاء والعزم، ولم يكن عليه أن يخاطر بأكثر من تلك الحياة التي كادت تزهق غير مرة، وكان يحملها في كفه أمام مطارديه خلال القفر الشاسع. ولكن الغنم كان عظيما: كان ملكا بأسره، وكان بعث أسرة هَوَت ومجد عريض دثر. وسنعرض في الفصل القادم طرفا من خلال تلك الشخصية الباهرة، التي تتبوأ مكانها بين أسطع شخصيات التاريخ الإسلامي.