الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
بلاط الشهداء
معركة الاسلام والنصرانية. تحول هذه المعركة إلى سهول فرنسا. العرب والفرنج على أطلال الدولة الرومانية. حلول الفرنج في فرنسا. خواص المجتمع الفرنجي. انحلال عصبيته بالاستقرار. تفككه وتنافره. خطر القبائل الجرمانية الوثنية. الدولة الإسلامية. انتظامها وتماسكها. تفرق الفرنج. سيل الفتح الإسلامي. عبد الرحمن الغافقي وجيشه. كيف يصوره الشاعر سوذي. اختراق عبد الرحمن لفرنسا. موقف الدوق أودو. كارل مارتل محافظ القصر. تمهله في لقاء العرب. ما تقوله الرواية في ذلك. اتجاه أودو إلى كارل. مسير كارل للقاء العرب. اجتياح العرب لأكوتين. أين التقى العرب والفرنج. هجوم المسلمين على مدينة تور. وصول الفرنج إلى اللوار. ارتداد عبد الرحمن الى ما وراء النهر. حالة الجيش الإسلامي. وفرة غنائمه وخطرها على نظامه. بدء القتال. المعارك المحلية. المعركة العامة. مهاجمة الفرنج لمعسكر الغنائم. ارتداد الفرسان المسلمين لحمايته. اختلال نظام المسلمين. مقتل عبد الرحمن الغافقي. الذعر في الجيش الإسلامي. رجحان كفة الفرنج. افتراق الجيشين. الخلاف في القيادة الإسلامية. تقرير الانسحاب. ارتداد المسلمين إلى الجنوب. توجس كارل مارتل. أقوال الرواية الكنسية. مبالغتها في التقدير والتصوير. وصفها لحوادث اللقاء الحاسم. صمت الرواية الأندلسية. وصفها لحوادث الغزوة الإسلامية. وصفها للجيش الإسلامي. حديثها عن الموقعة الحاسمة. أقوال المستشرق كاردون. تحفظ الرواية الإسلامية ومغزى هذا التحفظ. بلاط الشهداء. لون الموقعة الديني. أقوال المؤرخين المسلمين عنها. موقف الرواية النصرانية. مبالغتها في تصوير هزيمة المسلمين وتقدير خسائرهم. ما يدحض هذا الإغراق. إحجام الفرنج عن مطاردة العرب. خسارة المسلمين بمقتل عبد الرحمن. النقد الحديث وبلاط الشهداء. كيف ينوه بأهميتها في خلاص النصرانية من سلطان الإسلام. تأملات.
أجل، كان اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية، وبين الشرق والغرب على وشك الوقوع. وكان اجتياح الإسلام للعالم القديم سريعاً مدهشاً، فإنه لم يمض على وفاة النبي العربي نصف قرن، حتى سحق العرب دولة الفرس الشامخة، واستولوا على معظم أقطار الدولة الرومانية الشرقية، من الشام إلى أقاصي المغرب، وقامت دولة الخلافة قوية راسخة الدعائم فيما بين السند شرقاً والمحيط غرباً، وامتدت شمالا حتى أواسط آسيا الصغرى. وكانت سياسة الفتح الإسلامي مذ توطدت دولة الإسلام، ترمي إلى غاية أبعد من امتلاك الأقطار، وبسطة السلطان والملك. فقد كان الإسلام يواجه في الأقطار التي افتتحها من العالم القديم أنظمة
راسخة مدنية واجتماعية، تقوم على أصول وثنية أو نصرانية. وكانت النصرانية قد سادت أقطار الدولة الرومانية منذ القرن الرابع. فكان على الخلافة أن تهدم هذا الصرح القديم، وأن تقيم فوق أنقاضه في الأمم المفتوحة، نظماً جديدة تستمد روحها من الإسلام، وأن تذلل النصرانية لصولة الإسلام، سواء بنشر الإسلام بين الشعوب المفتوحة، أو بإخضاعها من الوجهتين المدنية والاجتماعية لنفوذ الإسلام وسلطانه. وكان هذا الصراع بين الإسلام والنصرانية قصير الأمد في الشام ومصر وإفريقية، فلم يمض نصف قرن حتى غمر الإسلام هذه الأمم بسيادته ونفوذه، وقامت فيها مجتمعات إسلامية قوية شاملة، وغاضت الأنظمة والأديان القديمة. ثم دفعت الخلافة فتوحها إلى أقاصى الأناضول من المشرق، وجازت إلى اسبانيا من المغرب. فأما في المشرق فقد حاول الإسلام أن يعبر إلى الغرب عن طريق قسطنطينية، وبعثت الخلافة جيوشها وأساطيلها الزاخرة إلى عاصمة الدولة الشرقية مرتين، الأولى في عهد معاوية بن أبي سفيان في سنة 49هـ (669 م) والثانية في عهد سليمان بن عبد الملك سنة 98 هـ (717 م)، وكانت قوى الخلافة في كل مرة تبدي في محاصرة قسطنطينية، غاية الإصرار والعزم والجلد، ولكنها فشلت في المرتين، وارتدت عن أسوار قسطنطينية منهوكة خائرة، وأخفق مشروع الخلافة في افتتاح الغرب من تلك الناحية، ولقي الإسلام هزيمته الحاسمة في المشرق أمام أسوار بيزنطية، وقامت الدولة الشرقية في وجه الإسلام حصناً منيعا يحمى النصرانية من غزوه وسلطانه. ولكن جيوش الإسلام جازت إلى الغرب عن طريق اسبانيا، وأشرفت من هضاب البرنيه على باقي أمم أوربا النصرانية، ولولا تردد الخلافة وخلاف الزعماء، لاستطاع موسى بن نصير أن ينفذ مشروعه في اختراق أوربا من الغرب إلى المشرق، والوصول إلى دار الخلافة بطريق قسطنطينية، ولكان من المرجح أن تلقى النصرانية يومئذ ضربتها القاضية، وأن يسود الإسلام أمم الشمال كما ساد أمم الجنوب، ولكن الفكرة غاضت في مهدها لتوجس الخلافة وترددها.
على أن الفتوح التي قام بها ولاة الأندلس بعد ذلك في جنوب فرنسا، كانت طورا آخر من أطوار ذلك الصراع بين الإسلام والنصرانية. فقد كانت مملكة الفرنج أعظم ممالك الغرب والشمال يومئذ، وكانت تقوم في الغرب بحماية النصرانية،
على نحو ما كانت الدولة الرومانية في الشرق، بل كانت مهمتها في هذه الحماية أشق وأصعب، إذ بينما كان الإسلام يهدد النصرانية من الجنوب، كانت القبائل الوثنية الجرمانية تهددها من الشمال والشرق. وكانت الغزوات الإسلامية تقف في المبدأ عند سبتمانيا ومدنها، ولكنها امتدت بعدئذ إلى أكوتين وضفاف الجارون، ثم امتدت إلى شمال الرون وولاية برجونية، وشملت نصف فرنسا الجنوبي كله، وهكذا بدا الخطر الإسلامي على مصير الفرنج والنصرانية قوياً ساطعاً، وبدت طوالع ذلك الصراع الحاسم، الذي يجب أن تتأهب لخوضه أمم الفرنج والنصرانية كلها.
كانت المعركة في سهول فرنسا إذاً بين الإسلام والنصرانية، بيد أنها كانت من الجانب الآخر بين غزاة الدولة الرومانية، والمتنافسين في اجتناء تراثها. كانت بين العرب الذين اجتاحوا أملاك الدولة الرومانية في المشرق والجنوب. وبين الفرنج الذين حلوا في ألمانيا وغاليس (فرنسا). والفرنج هم شعبة من القبائل البربرية التي غزت رومة وتقاسمت تراثها، من وندال وقوط وآلان وشوابيين. فكان ذلك اللقاء بين العرب والفرنج في سهول فرنسا، أكثر من نزاع محلي على غزو مدينة أو ولاية بعينها: كان هذا النزاع في الواقع أبعد ما يكون مدى وأثرا، إذ كان محوره تراث الدولة الرومانية العريض الشاسع، الذي فاز العرب منه بأكبر غنم، ثم أرادوا أن ينتزعوا ما بقي منه بأيدي منافسيهم غزاة الدولة الرومانية من الشمال.
وكانت هذه السهول الشمالية، التي قدر أن تشهد موقعة الفصل بين غزاة الدولة الرومانية، تضم مجتمعاً متنافراً، لم تستقر بعد قواعده ونظمه على أسس متينة. ذلك أن القبائل الجرمانية التي عبرت نهر الرين وقضت على سلطان رومة في الأراضي المفتوحة، كانت مزيجاً مضطرماً من الغزاة الظمأى إلى تراث رومة من الثروة والنعماء. وكان القوط قد اجتاحوا شمالي إيطاليا منذ القرن الخامس، وحلوا في جنوبي غاليس واسبانيا. ولكن هذه الممالك البربرية لم تكن تحمل عناصر البقاء والاستقرار، فلم يمض زهاء قرن آخر حتى غزا الفرنج فرنسا، وانتزعوا نصفها الشمالي من يد حاكمه الروماني المستقل بأمره، وانتزعوا نصفها الجنوبي عن القوط، وحلت في غاليس سلطة جديدة ومجتمع جديد. وكان الغزاة في كل
مرة يقيمون ملكهم على القوة وحدها، ويقتسمون السلطة في نوع من الإقطاع، فلا يمضي وقت طويل حتى تقوم في القطر المفتوح عدة إمارات محلية، ولم يعن الغزاة بإقامة مجتمع متماسك ذي نظم سياسية واجتماعية ثابتة، ولم يعنوا بالأخص بأن يندمجوا برعاياهم الجدد. فكان سكان البلاد المفتوحة من الرومان والغاليين، الذين لبثوا قرونا يخضعون لسلطان رومة، ما تزال تسود فيهم لغة رومة وحضارتها، ولكن القبائل الجرمانية الغازية كانت تستأثر بالحكم والرياسة، وتكون وحدها مجتمعا منعزلا، لبثت تسوده الخشونة والبداوة أحقاباً، قبل أن يتأثر بمدنية رومة وتراثها الفكري والاجتماعي. وكان اعتناق الفرنج للنصرانية منذ عهد كلوفيس، أكبر عامل في تطور هذه القبائل وتهذيب عقليتها الوثنية وتقاليدها الوحشية. ثم كان استقرارها بعد حين في الأرض المفتوحة، وتوطد سلطانها وتمتعها بالنعماء والثراء، بعد طول المغامرة والتجوال، وشظف العيش، وحرصها على حياة الدعة والرخاء، عوامل قوية في انحلال عصبيتها الحربية وفتور شغفها بالغزو، وإذكاء رغبتها في الاستعمار والبقاء. وهكذا كانت القبائل الجرمانية التي عبرت الرّين تحت لواء الفرنج واستقرت في غاليس، قد تطورت في أوائل القرن الثامن، إلى مجتمع مستقر متماسك نوعا. ولم تكن غاليس قد استحالت عندئذ إلى فرنسا، ولكن جذور فرنسا المستقبلة كانت قد وضعت، وهيئت الأسباب والعوامل لنشوء الأمة الفرنسية. بيد أن هذا المجتمع رغم تمتعه بنوع من الاستقرار والتماسك، كان وقت أن نفذ العرب إلى فرنسا، فريسة الانحلال والتفكك، وكان الخلاف يمزقه كما قدمنا. وكانت أكوتين وباقي فرنسا الجنوبية، في يد جماعة من الأمراء والزعماء المحليين، الذين انتهزوا ضعف السلطة المركزية، فاستقلوا بما في أيديهم من الأقاليم والمدن. ثم كانت القبائل الجرمانية الوثنية، فيما وراء الرين من جهة أخرى، تحاول اقتحام النهر من آن لآخر، وتهدد بالقضاء على مملكة الفرنج. فكان الفرنج يشغلون برد هذه المحاولات ويقتحمون النهر بين آونة وأخرى لدرء هذا الخطر، ولإرغام القبائل الوثنية على اعتناق النصرانية. فكانت المسألة الدينية أيضاً عاملا قويا في هذا النضال الذي يضطرم بين قبائل وعشائر تجمعها صلة الجنس والنسب. ولم ينقذ مملكة الفرنج من ذلك الخطر، سوى خلاف القبائل الوثنية وتنافسها وتفرق كلمتها (1).
(1) راجع Creasy: Decisive Battles of the World، Ch. VII ( الفصل السابع) =
هكذا كانت مملكة الفرنج والمجتمع الفرنجي في أوائل القرن الثامن، أعني حينما انساب تيار الفتح الإسلامي من اسبانيا إلى جنوبي فرنسا. وكان قد مضى منذ وفاة النبى العربي، إلى عهد هذا اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية (سنة 732 م)، مائة عام فقط. ولكن العرب كانوا خلال هذا القرن، قد افتتحوا جميع الأمم الواقعة بين السند شرقاً والمحيط غرباً، واكتسحوا العالم القديم، في فيض مدهش من الظفر الباهر، واستولوا على جميع أقطار الدولة الرومانية الجنوبية، من الشأم إلى أقاصي المغرب واسبانيا، وعبروا البرنيه إلى أواسط فرنسا، هذا بينما أنفقت القبائل الجرمانية الشمالية، أكثر من ثلاثة قرون في افتتاح أقطار الدولة الشمالية، ومحاولة الاستقرار فيها. وبينما قامت الدولة الإسلامية ثابتة وطيدة الدعائم، وقامت في جميع أقطار الخلافة حكومات محلية قوية، ومجتمعات إسلامية مستنيرة، وجيوش غازية منظمة، إذا بمعظم القبائل الجرمانية غزاة رومة من الشمال، ما يزال إذا استثنينا مملكة الفرنج، على حاله كل من البداوة والتجوال والتفرق. وكان الفرنج هم قادة القبائل الجرمانية في هذا الصراع، الذي نشب في سهول فرنسا، وآذن طوره الحاسم بعبور المسلمين إلى فرنسا في ربيع سنة 732 م. وكان سيل الفتح الإسلامي، ينذر باجتياح فرنسا منذ عشرين عاماً، أعني مذ عبر المسلمون جبال البرنيه بقيادة موسى بن نصير لأول مرة واستولوا على سبتمانيا، ثم اقتحموا بعد ذلك وادي الرون وأكوتين غير مرة. ولكن مملكة الفرنج كانت يومئذ تشغل بالمعارك الداخلية، وتقتتل حول السلطان والرياسة، حتى ظفر كارل مارتل بمنصب محافظ القصر، وأنفق أعواماً أخرى في توطيد سلطانه، بينما كان خصمه ومنافسه أودو أمير أكوتين، يتلقي وحده ضربات العرب. فلما استفحل خطر الفتح الإسلامي، وانساب نحو الشمال حتى برجونية، فزع الفرنج وهبت القبائل الجرمانية في أوستراسيا ونوستريا لتذود عن سلطانها وكيانها.
وكان الخطر داهماً حقيقياً في تلك المرة، لأن المسلمين عبروا البرنيه عندئذ في أكبر جيش حشد، وأتم أهبة اتخذت منذ الفتح. وكان على رأس الجيش الإسلامي قائد وافر الهمة والشجاعة والمقدرة هو عبد الرحمن الغافقي، وهو أعظم
= ففيه استعراض حسن لأحوال المجتمع الجرماني في هذا العصر، وعرض شائق لحوادث موقعة تور. وراجع أيضا Zeller: Hist.de l'Allemagne، p. 67.
جندى مسلم عبر البرنيه. وكان قد ظهر ببراعته في القيادة منذ موقعة تولوشة، حيث استطاع إنقاذ الجيش الإسلامي من المطاردة عقب هزيمته ومقتل قائده السمح، والارتداد إلى سبتمانيا. وتبالغ الرواية الفرنجية في تقدير جيش عبد الرحمن وأهبته، فتقدره بأربعمائة ألف مقاتل، هذا غير جموع حاشدة أخرى صحبها لاستعمار الأرض المفتوحة. وهو قول ظاهر المبالغة. وتقدره بعض الروايات العربية بسبعين أو ثمانين ألف مقاتل، وهو أقرب إلى الحقيقة والمعقول. وقد أثارت هذه الغزوة الإسلامية الشهيرة، وهذا الجيش الضخم، خيال الشاعر، الأوربي الحديث، فنرى الشاعر الإنجليزي سوذي يقول في منظومته عن ردريك آخر ملوك القوط.
" جمع لا يحصى.
" من شأم وبربر وعرب، وروم خوارج.
" وفرس وقبط وتتر عصبة واحدة.
" يجمعها إيمان، هائم راسخ الفتوة.
" وحمية مضطرمة، وأخوة مروعة.
" ولم يك الزعماء،
" أقل ثقة بالنصر، وقد شمخوا بطول ظفر
" يتيهون بتلك القوة الجارفة،
" التي أيقنوا أنها كما اندفعت،
" حيثما كانوا بلا منازع، ستندفع ظافرة إلى الأمام،
" حتى يصبح الغرب المغلوب كالشرق،
" يطأطىء الرأس إجلالا لاسم محمد،
" وينهض الحاج من أقاصي المنجمد،
" ليطأ بأقدام الإيمان، الرمال المحرقة،
" المنتثرة فوق صحراء العرب وأراضي مكة الصلدة "(1).
ونفذ عبد الرحمن في جيشه الزاخر إلى فرنسا، في ربيع سنة 732 م (أوائل سنة 114 هـ)، واقتحم وادي الرون وولاية أكوتين، وشتت قوى الدوق أودو، وأشرف بعد هذا السير الباهر على ضفاف نهر اللوار. وتقول بعض الروايات
(1) Southy: Roderic the last of the Goths
الكنسية، إن أودو هو الذي استدعى عبد الرحمن إلى فرنسا، ليعاونه على محاربة خصمه كارل مارتل (1). ولكن هذه الرواية مردودة غير معقولة، لما قدمنا من أن أودو هو الذي بادر إلى مقاومة عبد الرحمن ورده، وكانت مملكته وعاصمته أول غنم للمسلمين. وكان ملك الفرنج يومئذ تيودوريك الرابع، ولكن ملوك الفرنج كانوا في ذلك العصر أشباحاً قائمة فقط. وكان محافظ القصر كارل مارتل هو الملك الحقيقي، يستأثر بكل سلطة حقيقية، وعليه يقع عبء الدفاع عن ملكه وأمته. وكان منذ استفحل خطر الفتح الإسلامي يتخذ أهبته ويحشد قواه. ولكن عبد الرحمن سار إلى قلب فرنسا قبل أن يتحرك للقائه. وترد الرواية الإسلامية هذا التمهل إلى خطة مرسومة مقصودة. فتقول في هذا الموطن:" فاجتمعت الفرنج إلى ملكها الأعظم قارلة وهذه سمة لملوكهم، فقالت له ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب. كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتوا من مغربها، واستولوا على بلاد الأندلس، وعظيم ما فيها من العدة والعدد، بجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم. فقال لهم ما معناه: الرأي عندى أن لا نعترضهم في خرجتهم هذه، فانهم كالسيل يحمل من يصادره، وهم في إقبال أمرهم، ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلىء أيديهم من الغنائم، ويتخذوا المساكن، ويتنافسوا في الرياسة، ويستعين بعضهم ببعض، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر "(2). ونستطيع أيضاً أن نفسر تمهل كارل مارتل بأنه كان يقصد إلى ترك خصمه ومنافسه أودو دون إغاثة، حتى يقضي المسلمون على ملكه وسلطانه، فيتخلص بذلك من منافسته ومناوأته. وعلى أى حال فإن عبد الرحمن كان قد اقتحم أكوتين وجنوبي فرنسا كله، حينما تأهب كارل مارتل للسير إلى لقائه. وجاء الدوق أودو بعد ضياع ملكه، تمزيق
(1) موسوعة Bouquet: Recueil des Historiens de la Gaule et de la France رواية القديس دني Vol.III.p. 310. وراجع أيضا موسوعة: Bayle: Dictionnaire Historique et Critique تحت كلمة Abderame
(2)
المقري عن الحجاري في المسهب (نفح الطيب ج 1 ص 129). ويورد الحجارى هذه الرواية بمناسبة عبور موسى بن نصير إلى فرنسا. ولكن ظاهر من اسم قارلة (كارل) أن الأمر يتعلق بالغزوة الكبيرة التي نتحدث عنها؛ وإليها ترجعها الرواية الكنسية اللاتينية. راجع: Gibbon: ibid، Ch.LII حيث يورد نفس هذه الفقرة في كلامه عن موقعة تور.
قواته يطلب العون والنجدة من خصمه القديم أعني كارل مارتل (1). وكان كارل قد حشد جيشا ضخماً من الفرنج ومختلف العشائر الجرمانية المتوحشة، والعصابات المرتزقة فيما وراء الرين، يمتزج فيه المقاتلة من أمم الشمال كلها، وجله جند غير نظاميين، نصف عراة يتشحون بجلود الذئاب، وتنسدل شعورهم الجعدة، فوق أكتافهم العارية. وسار زعيم الفرنجة في هذا الجيش الجرار نحو الجنوب لملاقاة العرب في حمى الهضاب والربى، حتى يفاجىء العدو في مراكزه قبل أن يستكمل الأهبة لرده. وكان الجيش الإسلامي قد اجتاح عندئذ جميع أراضي أكوتين، التي تقابل اليوم من مقاطعات فرنسا الحديثة جويان وبريجور وسانتونج وبواتو، وأشرف بعد سيره المظفر على مروج نهر اللوار الجنوبية، حيثما يلتقي بثلاثة من فروعه هي " الكريز " و" الفيين " و" الكلين ".
ومن الصعب أن نعين بالتحقيق، مكان ذلك اللقاء الحاسم في تاريخ الشرق والغرب، والإسلام والنصرانية. ولكن المتفق عليه أنه السهل الواقع بين مدينتي بواتييه وتور، حول نهري كلين وفيين فرعي اللوار، على مقربة من مدينة تور. والرواية الإسلامية مقلة موجزة في الكلام عن تلك الموقعة العظيمة، وليس فيما لدينا من المصادر العربية عنها أي تفصيل شامل، وإنما وردت تفاصيل للرواية الإسلامية عن الموقعة، نقلها إلينا المؤرخ الإسباني كوندي سنعود إليها بعد. وتفيض الرواية الفرنجية والكنسية بالعكس في حوادث الموقعة، وتقدم إلينا عنها تفاصيل شائقة، ولكن يحفها الريب وتنقصها الدقة التاريخية. وقد رأينا أن نحاول وصف الموقعة أولا مما لدينا من أقوال الروايتين، ثم نعود بعد ذلك إلى ذكر كل منهما. انتهي الجيش الإسلامي في زحفه إلى السهل الممتد بن مدينتي بواتييه وتور كما قدمنا، واستولى المسلمون على بواتييه، ونهبوها وأحرقوا كنيستها الشهيرة. ثم هجموا على مدينة تور الواقعة على ضفة اللوار اليسرى، واستولو عليها وخربوا كنيستها أيضا. وفي ذلك الحين كان جيش الفرنج قد انتهي إلى اللوار، دون أن يشعر المسلمون بمقدمه بادئ بدء، وأخطأت الطلائع الإسلامية تقدير عدده وعدته. فلما أراد عبد الرحمن أن يقتحم اللوار، لملاقاة العدو على ضفته اليمنى فاجأه كارل مارتل بجموعه الجرارة. وألفى عبد الرحمن جيش الفرنج يفوقه في
(1) Dom Vissette، ibid، V.I. p. 795
الكثرة، فارتد من ضفاف النهر ثانية إلى السهل الواقع بين تور وبواتييه. وعبر كارل اللوار غربي تور، وعسكر بجيشه إلى يسار الجيش الإسلامي بأميال قليلة، يين نهري كلين وفيين فرعي اللوار.
وكان الجيش الإسلامي في حال تدعو إلى القلق والتوجس، فإن الشقاق كان يضطرم بين قبائل البربر التي يتألف منها معظم الجيش، وكانت تتوق إلى الانسحاب ناجية بغنائمها الكبيرة. وكان المسلمون في الواقع قد استصفوا ثروات فرنسا ْالجنوبية أثناء سيرهم المظفر، ونهبوا جميع كنائسها وأديارها الغنية، وأثقلوا بما لا يقدر ولا يحصى، من الذخائر والغنائم والسبي، فكانت هذه الأثقال النفيسة تحدث الخلل في صفوفهم، وتثير بينهم ضروب الخلاف والنزاع. وقدر عبد الرحمن خطر هذه الغنائم على نظام الجيش وأهبته، وخشي مما تثيره في نفوس الجند من الحرص والانشغال، وحاول عبثا أن يحملهم على ترك شىء منها. ولكنه لم يشدد في ذلك خيفة التمرد. وكان المسلمون من جهة أخرى، قد أنهكتهم غزوات أشهر متواصلة، مذ دخلوا فرنسا، ونقص عددهم بسبب تخلف حاميات عديدة منهم، في كثير من القواعد والمدن المفتوحة. ولكن عبد الرحمن تأهب لقتال العدو وخوض المعركة الحاسمة بعزم وثقة.
وبدأ القتال في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر من أكتوبر سنة 732 م (أواخر شعبان سنة 114 هـ) فنشبت بين الجيشين معارك محلية مدى سبعة أيام أو ثمانية، احتفظ فيها كل بمراكزه. وفي اليوم التاسع نشبت بينهما معركة عامة، فاقتتلا بشدة وتعادل، حتى دخول الليل. واستأنفا القتال في اليوم التالى، وأبدى كلاهما منتهي الشجاعة والجلد، حتى بدا الإعياء على الفرنج، ولاح النصر في جانب المسلمين. ولكن حدث عندئذ أن افتتح الفرنج ثغرة إلى معسكر الغنائم الإسلامي، وخشي عليه من السقوط في أيديهم، أو حدث كما تقول الرواية أن ارتفعت صيحة مجهول في المراكز الإسلامية، بأن معسكر الغنائم سوف يقع في يد العدو. فارتدت قوة كبيرة من الفرسان من قلب المعركة إلى ما وراء الصفوف لحماية الغنائم، وتواثب كثير من الجند للدفاع عن غنائمهم، فدب الخلل إلى صفوف المسلمين. وعبثا حاول عبد الرحمن أن يعيد النظام وأن يهدئ روع الجند، وبينما هو يتنقل أمام الصفوف يقودها ويجمع شتاتها، إذ أصابه من جانب الأعداء سهم أودى
بحياته، فسقط قتيلا من فوق جواده، وعم الذعر والاضطراب في الجيش الإسلامي، واشتدت وطأة الفرنج على المسلمين، وكثر القتل في صفوفهم. ولكنهم صمدوا للعدو حتى جن الليل، وافترق الجيشان دون فصل. وكان ذلك في اليوم الحادي والعشرين من أكتوبر سنة 732 م (أوائل رمضان سنة 114 هـ)(1).
وهنا اضطرم الجدل والنزاع بين قادة الجيش الإسلامي، واختلف الرأي وهاجت الخواطر، وسرى التوجس والفزع. ورأى الزعماء أن كل أمل في النصر قد غاض، فقرروا الانسحاب على الأثر. وفي الحال غادر المسلمون مراكزهم، وارتدوا في جوف الليل وتحت جنح الظلام، جنوبا صوب قواعدهم في سبتمانيا، تاركين أثقالهم ومعظم أسلابهم غنماً للعدو. وفي فجر الغد، لاحظ كارل وحليفه أودو سكون المعسكرات العربية، فتقدما منها بحذر وإحجام، فألفياها خاوية خالية إلا من بعض الجرحى الذين لم يستطيعوا مرافقة الجيش المنسحب، فذبحوا على الأثر وخشي كارل الخديعة والكمين فاكتفى بانسحاب العدو، ولم يجرؤ على مطاردته، وآثر العود بجيشه إلى الشمال.
هذه هي أصدق صورة لحوادث تلك الموقعة الشهيرة، طبقا لمختلف الروايات.
والآن نورد ما تقوله الرواية الفرنجية الكنسية ثم الرواية الإسلامية.
أما الرواية الفرنجية الكنسية فيشوبها كثير من المبالغة والتحامل والتعصب، وهي تصف مصائب فرنسا والنصرانية من جراء غزوة العرب، في صور مثيرة محزنة، وتفصل حوادث هذه الغزوة فتقول إحداها: " لما رأى الدوق أودو أن الأمير شارل (كارل) قد هزمه وأذله، وأنه لا يستطيع الانتقام، إذا لم يتلق النجدة من إحدى النواحي، تحالف مع عرب اسبانيا، ودعاهم إلى معاونته ضد الأمير شارل وضد النصرانية، وعندئذ خرج العرب وملكهم عبد الرحمن، من
(1) تجمع معظم الروايات الفرنجية والكنسية على أن الموقعة كانت في أكتوبر سنة 732 م. وهذا التاريخ يوافق بالهجرية شعبان سنة 114. بيد أن الرواية الاسلامية تختلف في تحديد هذا التاريخ؛ فالبعض يقول إنها كانت سنة 115 هـ (ابن عبد الحكم ص 317، والضبي في بغية الملتمس رقم 1021، وابن عذارى في البيان المغرب ج 1 ص 37؛ ولكنه يعود فيذكر أن الموقعة كانت سنة 114هـ (ج 2 ص 28). ولكن ابن الأثير (ج 5 ص 74)، وابن خلدون (ج 4 ص 119) والمقري عن ابن حيان (ج 1 ص 109 وج 2 ص 56) متفقون عل أنها كانت سنة 114هـ؛ ويقول الأخيران إنها كانت في رمضان سنة 114 هـ، وهو أصح تعيين يتفق مع الرواية الغربية.
اسبانيا، مع جميع نسائهم وأولادهم وعددهم وأقواتهم، في جموع لا تحصى ولا تقدر، وحملوا كل ما استطاعوا من الأسلحة والذخائر، كأنما عولوا على البقاء في أرض فرنسا، ثم اخترقوا مقاطعة جيروند، واقتحموا بوردو، وقتلوا الناس، ونهبوا الكنائس، وخربوا كل البسائط، وساروا حتى بواتيو
…
" (1).
وتقول أخرى: " ولما رأى عبد الرحمن أن السهول قد غصت بجموعه، اقتحم الجبال، ووطيء السهول بسيطها ووعرها، وتوغل مثخنا في بلاد الفرنج، وسحق بسيفه كل شىء، حتى أن أودو حينما تقدم لقتاله على نهر الجارون وفر منهزما أمامه، لم يكن يعرف عدد القتلى سوى الله وحده، ثم طارد عبد الرحمن الكونت أودو، وحينما حاول أن ينهب كنيسة تور المقدسة ويحرقها، التقى بكارل أمير فرنج أوستراسيا، وهو رجل حرب منذ فتوته، وكان أودو قد بادر بإخطاره. وهناك قضى الفريقان أسبوعاً في التأهب، واصطفا أخيراً للقتال، ثم وقفت أمم الشمال كسور منيع، أو منطقة من الثلج لا تخترق، وأثخنت في العرب بحد السيف ".
" ولما أن استطاع أهل أوستراسيا (الفرنج)، بقوة أطرافهم الضخمة، وبأيديهم الحديدية، التي ترسل من الصدر تواً ضرباتها القوية، أن يجهزوا على جموع كبيرة من العدو، التقوا أخيراً بالمك (عبد الرحمن) وقضوا على حياته. ثم دخل الليل ففصل بين الجيشين، والفرنج يلوحون بسيوفهم عالية احتقارا للعدو. فلما استيقظوا في فجر الغد، ورأوا خيام العرب الكثيرة كلها مصفوفة أمامهم، تأهبوا للقتال معتقدين أن جموع العدو. جاثمة فيها. ولكنهم حينما أرسلوا طلائعهم، ألفوا جموع المسلمين، قد فرت صامتة تحت جنح الليل، مولية شطر يلادها. على أنهم خشوا أن يكون هذا الفرار خديعة يعقبها كمين من جهات أخرى، فأحاطوا بالمعسكر حذرين دهشين. ولكن الغزاة كانوا قد فروا، وبعد أن اقتسم الفرنج الغنائم والأسرى فيما بينهم بنظام، عادوا مغتبطين إلى ديارهم "(2).
(1) هذه هي رواية القديس دني Saint Denis - وردت في موسوعة Bouquet. ووردت في هذه الموسوعة أيضا أقوال آخرين من الرواة الأحبار.
(2)
هذه هي رواية إيزيدور الباجي وهو معاصر للموقعة. راجع Creasy: ibid ، Ch.VII و Hodgkin،Charles the Great;Ch.III، وكذلك Gibbon: ibid ،Ch.LII ففيها تنقل هذه التفاصيل أو تلخص.
وأما الرواية الإسلامية فهي ضنينة في هذا الموطن كل الضن كما أسلفنا. ويمر معظم المؤرخين المسلمين على تلك الحوادث العظيمة، بالصمت أو الإشارة الموجزة كما سنرى. غير أن المؤرخ الإسباني كوندي يقدم إلينا خلاصة من أقوال ينسبها الى الرواية الأندلسية المسلمة (1)، عن غزو فرنسا وعن موقعة تور؛ ونحن ننقلها مترجمة فيما يلى:
" لما علم الفرنج وسكان بلاد الحدود الإسبانية بمقتل عثمان بن أبي نسعة، وسمعوا بضخامة الجيش الإسلامي الذي سير إليهم، استعدوا للدفاع جهدهم، وكتبوا إلى جيرانهم يلتمسون الغوث. وجمع الكونت وسيد هذه الأنحاء (يريد أودو) قواته وسار للقاء العرب، ووقعت بينهم معارك سجال. ولكن النصر كان إلى جانب عبد الرحمن بوجه عام، فاستولى تباعاً على كل مدن الكونت. وكان جنده قد نفخ فيهم حسن طالعهم المستمر، فلم يكونوا يرغبون إلا في خوض المعارك، واثقين كل الثقة في شجاعة قائدهم وبراعته.
" وعبر المسلمون نهر الجارون، وأحرقوا كل المدن الواقعة على ضفافه، وخربوا جميع الضياع، وسبوا جموعاً لا تحصى، وانقض هذا الجيش على البلاد كالعاصفة المخربة فاجتاحها، وأذكى اضطرام الجند، نجاح غزواتهم، واستمرار ظفرهم وما أصابوا من الغنائم.
" ولما عبر عبد الرحمن نهر الجارون اعترضه أمير هذه الأنحاء، ولكنه هزمه ففر أمامه وامتنع بمدينته. فحاصرها المسلمون ولم يلبثوا أن اقتحموها، وسحقوا بسيوفهم الماحقة كل شىء. ومات الكونت مدافعاً عن مدينته، واحتز الغزاة رأسه (2). ثم ساروا مثقلين بالغنائم في طلب انتصارات أخرى، وارتجت بلاد
(1) لم نقف في أي المصادر العربية التي بين أيدينا، على أصل هذه التفاصيل التي يقول كوندي إنه اقتبسها من الرواية العربية، ولم يذكر هو مصدر اقتباسه. ولعله نقلها عن بعض مخطوطات الإسكوريال أو المجموعات الخاصة وقد فقدت آثارها اليوم، كما فقدت مخطوطات كثيرة من المجموعة الأندلسية بالإسكوريال. ولعله أيضا نقل شيئا منها من شذور لابن حيان وابن بشكوال كانت موجودة في عصره ولم تصل الينا. ويلوح لنا أن الحجاري في كتابه " المسهب " قد تناول هذه الحوادث بالتفصيل حيث نقل المقري عنه شذرة تفيد ذلك. (نفح ج 1 ص 139)، ولعل كوندي وقف على شىء منها. على أننا لم نعثر خلال بحوثنا في مجموعة الإسكوريال على أثر لمثل هذه المخطوطات أو الأوراق. راجع حديث كوندي عن مصادره: Conde: ibid، V.I Prologo، p. 20 & 21.
(2)
هذا خلط بين، لأن الكونت أودو لم يقتل عندئذ، بل فر إلى الشمال، وعاد لقتال عبد الرحمن في تور كما قدمنا.
الفرنج كلها رعباً لاقتراب جموع المسلمين، وهرع الفرنج إلى ملكهم قلدوس في طلب الغوث، وأخبروه بما يأتيه الفرسان المسلمون من العيث والسفك، وكأنهم في كل مكان، وكيف أنهم أحتلوا واجتاحوا كل أقاليم أربونة وتولوشة وبردال (1) وقتلوا الكونت. فهدأ الملك روعهم ووعدهم بالغوث العاجل. وفي سنة 114هـ سار على رأس جموع لاتحصى للقاء المسلمين. وكان المسلمون قد اقتربوا عندئذ من مدينة تور، وهنالك علم عبد الرحمن بأمر الجيش العظيم الذي سيلقى. وكان جيشه قد دب إليه الخلل، لأنه كان مثقلا بالغنائم من كل ضرب. ورأى عبد الرحمن وأولوا الحزم من زملائه، أن يحملوا الجند على ترك هذه الأثقال، والاقتصار على أسلحتهم وخيولهم، ولكن خشوا التمرد أو أن يثبطوا عزائم الجند، واستسلموا لرأي الواثقين المستهترين. واعتمد عبد الرحمن على شجاعة جنده، وحسن طالعه المستمر. ولكن الأضطراب خطر خالد على سلامة الجيوش. نعم إن الجند يحملهم ظمأ الغنم، قد أتوا جهوداً لم يسمع بها، فطوقوا مدينة تور، وقاتلوا حصونها بشدة رائعة، حتى سقطت في أيديهم أمام أعين الجيش القادم لإنقاذها، وانقض المسلمون على أهلها كالضواري المفترسة، وأمعنوا القتل فيهم. قالوا، ولعل الله أراد أن يعاقب المسلمين على تلك الآثام، وكان طالعهم قد ولى.
" وعلى ضفاف نهر " الأوار " (اللوار) اصطف رجال اللغتين، والتقى المسلمون والنصارى، وكلاهما جزع من الآخر، وكان عبد الرحمن ثقة منه بظفره المستمر، هو البادئ بالهجوم، فانقض بفرسانه على الفرنج بشدة، وقابله الفرنج بالمثل. ودامت المعركة ذريعة مروعة طوال اليوم حتى جن الليل. وفرق بين الجيشين. وفي اليوم التالي استؤنف القتال منذ الفجر بشدة، وشق بعض مقدمي المسلمين طريقهم إلى صفوف العدو وتوغلوا فيها. ولكن عبد الرحمن لاحظ والمعركة في أوج اضطرامها، أن جماعة كبيرة من فرسانه، غادرت الميدان بسرعة لحماية الغنائم المكدسة في المعسكر العربي، لأن العدو أخذ يهددها. فأحدثت هذه الحركة خللا في صفوف المسلمين، وخشي عبد الرحمن عاقبة هذا الاضطراب، فأخذ يثب من صف إلى صف يحث جنوده على القتال، ولكنه ما لبث أن أدرك أنه يستحيل عليه ضبطهم، فارتد يحارب مع أشجع جنده حيثما استقرت المعركة،
(1) مدينة بوردو.
حتى سقط قتيلا مع جواده وقد أثخن طعانا. وهنا ساد الخلل في الجيش الإسلامي وارتد المسلمون في كل ناحية، ولم يعاونهم على الانسحاب من تلك المعركة الهائلة سوى دخول الليل.
" وانتهز النصارى هذه الفرصة فطاردوا الجنود المنهزمة أياماً عديدة، واضطر المسلمون أثناء انسحابهم أن يحتملوا عدة هجمات، واستمر الصراع بين مناظر مروعة حتى أربونة.
" وقد وقعت هذه الهزيمة الفادحة بالمسلمين، وقتل قائدهم الشهير عبد الرحمن سنة 115 هـ. ثم أن ملك فرنسا حاصر مدينة أربونة، ولكن المسلمين دافعوا عنها بشجاعة فائقة، حتى أرغم على رفع الحصار، وارتد إلى داخل بلاده وقد أصابته خسائر كبيرة "(1).
وأورد المؤرخ كاردون من جهة أخرى في كلامه عن الموقعة، فقرة ذكر أنه نقلها عن ابن خلكان جاء فيها:"لما استولى العرب على قرقشونة خشي قارله (كارل) أن يتوغلوا في الفتح، فسار لقتالهم في الأرض الكبيرة (فرنسا) في جيش ضخم، وعلم العرب بقدومه وهم في لوذون (ليون) وأن جيشه يفوقهم بكثرة، فعولوا على الارتداد. وسار قارله حتى سهل أنيسون دون أن يلقى أحداً إذ احتجب العرب وراء الجبال وامتنعوا بها، فطوق هذه الجبال دون أن يدري العرب، ثم قاتلهم حتى هلك عدد عظيم منهم، وفر الباقون إلى أربونة. فحاصر قارلة أربونة مدة، ولم يستطيع فتحها فارتد إلى أراضيه، وأنشأ قلعة وادي رذونة (الرون)، ووضع فيها حامية قوية لتكون حداً بينه وبين العرب "(2).
ونعود بعد ذلك إلى الرواية الإسلامية فنقول إن المؤرخين المسلمين يمرون على حوادث هذه الموقعة الشهيرة إما بالصمت أو الإشارة الموجزة. ويجب أن نذكر بادىء بدء أن موقعة تور، تعرف في التاريخ الإسلامي بواقعة البلاط أو بلاط
(1) Conde: ibid ، Vol،I، p. 86-88
(2)
راجع: Cardonne: ibid، V.I.P.129-131 وقد بحثنا طويلا في كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان في مظان وجود هذه التفاصيل فلم نعثر بها. ولعل كاردون وقد كتب في أواسط القرن الثامن عشر، واستعان بمخطوطات عربية في المكتبة الملكية في باريس، قد نقل عن نسخة لابن خلكان فيها زيادات عن النسخة التي بين أيدينا. ولسنا نعلم من جهة أخرى أن لابن خلكان مؤلفا تاريخيا آخر يمكن أن يحتوي مثل هذه التفاصيل.
الشهداء، لكثرة من استشهد فيها من أكابر المسلمين والتابعين. وفي هذه التسمية ذاتها، وفي تحفظ الرواية الإسلامية، وفي لهجة العبارات القليلة التي ذكرت بها الموقعة، ما يدل على أن المؤرخين المسلمين، يقدرون خطورة هذا اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية، ويقدرون فداحة الخطب الذي نزل بالإسلام في سهول تور. ويدل على لون الموقعة الديني ما تردده الأسطورة الإسلامية، من أن الأذان لبث عصوراً طويلة يسمع في بلاط الشهداء (1). ونستطيع أن نحمل تحفظ المؤرخين المسلمين في هذا المقام، على أنهم لم يروا أن يبسطوا القول في مصاب جلل نزل بالإسلام، ولا أن يفيضوا في تفاصيله المؤلمة، فاكتفوا بالإشارة الموجزة، ولم يكن ثمة مجال للتعليق أيضا، ولا التحدث عن نتائج خطب، لاريب أنه كان ضربة للإسلام ولمطامع الخلافة ومشاريعها. وإذا استثنينا بعض الروايات الأندلسية التي كتبت عن الموقعة في عصر متأخر، والتي نقلناها فيما تقدم، فإن المؤرخين المسلمين يتفقون جميعا في هذا الصمت والتحفظ. وهذه طائفة من أقوالهم وإشاراتهم الموجزة:
قال ابن عبد الحكم، وهو من أقدم رواة الفتوح الإسلامية وأقرب من كتب عن فتوح الأندلس ما يأتي: " وكان عبيدة (يريد والي إفريقية) قد ولى عبد الرحمن بن عبد الله العكي على الأندلس، وكان رجلا صالحا فغزا عبد الرحمن إفرنجة، وهم أقاصي عدو الأندلس، فغنم غنائم كثيرة وظفر بهم
…
ثم خرج إليهم غازيا فاستشهد وعامة أصحابه، وكان قتله فيما حدثنا يحي عن الليث في سنة خمسة عشر ومائة " (2). ولم يذكر الواقدي والبلاذري والطبري وهم أيضا من أقدم رواة الفتوح شيئاً عن الموقعة. وقال ابن الأثير في حوادث سنة ثلاث عشرة ومائة مرددا الرواية ابن عبد الحكم. " ثم إن عبيدة استعمل على الأندلس عبد الرحمن ابن عبد الله، فغزا إفرنجة وتوغل في أرضهم وغنم غنائم كثيرة. ثم خرج غازيا ببلاد الفرنج في هذه السنة (أعني 113 هـ)، وقيل سنة أربع عشرة ومائة وهو الصحيح، فقتل هو ومن معه شهداء " (3). وينسب ابن خلدون الموقعة خطأ لابن الحبحاب والى مصر وإفريقية فيقول: " وقدم بعده (أي بعد الهيثم) محمد
(1) المقري عن ابن حيان (نفح الطيب ج 2 ص 56).
(2)
فتوح مصر وأخبارها ص 216 217.
(3)
ابن الأثير ج 5 ص 64.
ابن عبد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية فدخلها (أي الأندلس) سنة ثلاث عشرة، وغزا إفرنجة وكانت له فيهم وقائع، وأصيب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة فولى سنتين " (1). ولدينا من الرواية الأندلسية ما قاله صاحب " أخبار مجموعة " عند ذكر ولاة الأندلس وهو:" ثم (أي وليها) عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، وعلى يده استشهد أهل البلاط الشهداء، واستشهد معهم واليهم عبد الرحمن "(2). ونقل الضبي في ترجمة عبد الرحمن ما ذكر ابن عبد الحكم عن الموقعة (3). وقال الحميدي وهو من مؤرخي الأندلس في حديثه عن عبد الرحمن: " وعبد الرحمن الغافقي هذا من التابعين
…
استشهد في قتال الروم بالأندلس سنة خمس عشرة ومائة " (4). وقال ابن عذارى المراكشي: " ثم ولي الأندلس عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، فغزا الروم واستشهد مع جماعة من عسكره سنة 115، بموضع يعرف ببلاط الشهداء " (5) وقال في موضع آخر " ثم ولي الأندلس عبد الرحمن هذا (أى الغافقي) ثانية وكان جلوسه لها في صفر سنة 112 فاقام والياً سنتين وسبعة أشهر وقيل وثمانية أشهر، واستشهد في أرض العدو في رمضان سنة 114 " (6). وقال المقري فيما نقل:" قدم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية، فدخلها (أى الأندلس) سنة ثلاث عشرة، وغزا الإفرنجة وكانت له فيهم وقائع، وأصيب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة في موضع يعرف ببلاط الشهداء وبه عرفت الغزوة "(7).
ونقل في موضع آخر: " وذكر أنه قتل (والإشارة هنا خطأ إلى السمح بن مالك) في الواقعة المشهورة عند أهل الأندلس بوقعة البلاط، وكانت جنود الإفرنجة قد تكاثرت عليه، فأحاطت بالمسلمين فلم ينج من المسلمين أحد. قال ابن حيان،
(1) ابن خلدون ج 4 ص 119، وفي نسبته الموقعة لمحمد بن الحبحاب خطأ بين لأن ابن الحبحاب كان عامل مصر، ولم يندب لولاية إفريقية سوى سنة عشرة ومائة. ولم يل هو أو ولده الأندلس قط (راجع ابن عبد الحكم ص 217).
(2)
أخبار مجموعة في فتح الأندلس ص 25.
(3)
بغية الملتمس رقم 1021.
(4)
جذوة المقتبس (طبع القاهرة) ص 256.
(5)
البيان المغرب ج 2 ص 27.
(6)
البيان المغرب ج 2 ص 28.
(7)
نفح الطيب ج 1 ص 109.
فيقال إن الأذان يسمع بذلك الموضع إلى الآن ". ونقل عن ابن حيان: " قال دخل الأندلس (أي عبد الرحمن) حين وليها ولايته الثانية من قبل ابن الحبحاب في صفر سنة ثلاث عشرة ومائة، وغزا الإفرنج فكانت له فيهم وقائع جمة إلى أن استشهد، وأصيب عسكره في موضع يعرف ببلاط الشهداء. قال ابن بشكوال وتعرف غزوته هذه بغزوة البلاط " (1).
هذه الفقرات والإشارات الموجزة، التي تكاد تتفق جميعا في اللفظ والمعنى، هي ما ارتضت الرواية الإسلامية أن تقدمه إلينا في هذا المقام، وإن كان في تحفظها ذاته ما ينم عن تقديرها لرهبة الحادث وخطورته وبعد آثاره. وإذا كان صمت الرواية الإسلامية تمليه فداحة الخطب الذي أصاب الإسلام في سهول تور، فإن الرواية النصرانية تفيض بالعكس في تفاصيل الموقعة إفاضة واضحة، وتشيد بظفر النصرانية ونجاتها من الخطر الإسلامي، وترفع بطولة كارل مارتل إلى السماكين. وتذهب الرواية النصرانية، ومعظم كتابها من الأحبار المعاصرين، في تصوير نكبة المسلمين إلى حد الإغراق، فتزعم أن القتلى من المسلمين في الموقعة بلغوا ثلاثمائة وخمسة وسبعين ألفاً، في حين أنه لم يقتل من الفرنج سوى ألف وخمسمائة. ومنشأ هذه الرواية رسالة أرسلها الدوق أودو إلى البابا جريجورى الثاني، يصف فيها حوادث الموقعة وينسب النصر لنفسه، فنقلتها التواريخ النصرانية المعاصرة واللاحقة، كأنها حقيقة يستطيع العقل أن يسيغها. بيد أنها ليست سوى محض خرافة، فإن الجيش الإسلامي كله، لم يبلغ حين دخوله فرنسا على أقصى تقدير، أكثر من مائة ألف (2). والجيش الإسلامي لم يهزم في تور ولم يسحق، بالمعنى الذي تفهم به الهزيمة الساحقة، ولكنه ارتد من تلقاء نفسه بعد أن لبث طوال المعركة الفاصلة، يقاتل حتى المساء محتفظا بمراكزه أمام العدو، ولم يرتد أثناء القتال ولم يهزم. ومن المستحيل أن يصل القتل الذريع في جيش يحافظ على ثباته ومواقعه، إلى هذه النسبة الخيالية. ومن المعقول أن تكون خسائر المسلمين فادحة في مثل هذه المعارك الهائلة، وهذا ما تسلم به الرواية الإسلامية. ولكن مثل هذه
(1) نفح الطيب ج 2 ص 56.
(2)
وهذا التقدير يأخذ به بعض الؤرخين الغربيين أيضا، مثال ذلك المؤرخ الفرنسي Mezeral. راجع التعليقات في موسوعة Bayle، تحت كلمة Abderame.
الخسائر لا يمكن أن تعدو بضع عشرات الألوف في جيش لم يزد على مائة ألف.
وأسطع دليل على ذلك هو حذر الفرنج وإحجامهم عن مطاردة العرب عقب الموقعة، وتوجسهم أن يكون انسحاب العرب خديعة حربية، فلو أن الجيش الإسلامي انتهي إلى أنقاض ممزقة، لبادر الفرنج بمطاردته والإجهاز عليه. ولكنه كان مايزال من القوة والكثرة إلى حد يخيف العدو ويرده (1). على أن خسارة المسلمين كانت بالأخص فادحة في نوعها، تتمثل في مقتل عبد الرحمن وجمع كبير من زعماء الجيش وقادته. بل كان مقتل عبد الرحمن أفدح ما في هذه الخسارة، فقد كان خير ولاة الأندلس، وكان أعظم قائد عرفه الإسلام في الغرب، وكان الرجل الوحيد الذي استطاع بهيبته وقوة خلاله، أن يجمع كلمة الإسلام في اسبانيا، فكان لمقتله في هذا المأزق العصيب، ضربة شديدة لمثل الإسلام ومشاريع الخلافة في افتتاح الغرب (2).
ويعلق النقد الحديث على هذا اللقاء بين الإسلام والنصرانية أهمية كبرى، وينوه بخطورة آثاره وبعد مداها في تغيير مصاير النصرانية وأمم الغرب، ومن ثم في تغير تاريخ العالم كله. وإليك طائفة مما يقوله أكبر مؤرخي الغرب ومفكريه في هذا المقام:
قال إدوارد جيبون، إن حوادث هذه الموقعة " أنقذت آباءنا البريطانيين وجيراننا الغاليين (الفرنسيين) من نير القرآن المدني والديني، وحفظت جلال رومة، وأخرت استعباد قسطنطينية، وشدت بأزر النصرانية، وأوقعت بأعدائها بذور التفرق والفشل "(3). ويعتبر المؤرخ أرنولد الموقعة " إحدى هاته المواقف
(1) قال ادوارد جيبون تعليقا على مزاعم الرواية الفرنجية " ولكن تلك القصة الخرافية يمكن ردها بحذر القائد الفرنسي (كارل مارتل) إذ توجس من شراك المطاردة ومفاجآتها ورد حلفاءه الألمان إلى أوطانهم. ان سكون الفاتح ينم عن فقد الدماء والقوة، وأن أشنع تمزيق للعدو لا يقع حين التحام الصفوف، وإنما حين الانسحاب وتولية الأدبار ".
(2)
راجع موسوعة Bayle تحت كلمة Abderame، ففيها أيضا إنكار للرواية الفرنجية عن خسائر العرب. وفي هذه الموسوعة تعليقات وملاحظات مفيدة لطائفة من المؤرخين الفرنسيين تجمع كلها على التنديد بمبالغة الرواية الفرنجية. وراجع أيضا Dom Vissette: ibid ، V.I.p. 797 حيث يدحض مزاعم الروايات النصرانية.
(3)
Romann Empiree - Ch.LII..
الرهيبة لنجاة الإنسانية وضمان سعادتها مدى قرون " (1). ويقول السير إدوار كريزي: " إن النصر العظيم الذي ناله كارل مارتل على العرب سنة 732 وضع حدا حاسما لفتوح العرب في غرب أوربا، وأنقذ النصرانية من الإسلام، وحفظ بقايا الحضارة القديمة، وبذور الحضارة الحديثة، ورد التفوق القديم للأمم الهندية الأوربية على الأمم السامية " (2). ويقول فون شليجل في كلامه عن الإسلام والإمبراطورية العربية:" ما كاد العرب يتمون فتح إسبانيا حتى تطلعوا إلى فتح غاليا وبرجونية. ولكن النصر الساحق الذي غنمه بطل الفرنج كارل مارتل بين تور وبواتييه وضع لتقدمهم حداً، وسقط قائدهم عبد الرحمن في الميدان مع زهرة جنده. وبذا أنقذ كارل مارتل بسيفه أمم الغرب النصرانية من قبضة الإسلام الفتاكة، الهدامة إلى الذروة "(3)، ويقول رانكه:" إن فاتحة القرن الثامن من أهم عصور التاريخ، ففيها كان دين محمد ينذر بامتلاك إيطاليا وغاليا، وقد وثبت الوثنية كرة أخرى إلى ما وراء الرّين فنهض إزاء ذلك الخطر فتى من عشيرة جرمانية هو كارل مارتل، وأيد هيبة النظم النصرانية المشرفة على الفناء، بكل ما تقتضيه غريزة البقاء من عزم، ودفعها إلى بلاد جديدة "(4). ويقول زيلر: " كان هذا الانتصار بالأخص انتصار الفرنج والنصرانية. وقد عاون هذا النصر زعيم الفرنج على توطيد سلطانه، لا في غاليا وحدها ولكن في جرمانيا التي أشركها في نصره "(5). على أن هناك فريقاً من مؤرخي الغرب لا يذهب إلى هذا الحد في تقدير نتائج الموقعة وآثارها. ومن هذا الفريق المؤرخان الكبيران سسموندي وميشليه، فهما لايعلقان كبير أهمية على ظفر كارل مارتل. ويقول جورج فنلي: " إن أثرة الكتاب الغاليين قد عظمت من شأن تغلب كارل مارتل على حملة ناهبة من عرب اسبانيا، وصورته كانتصار باهر، ونسبت خلاص أوربا من نير العرب إلى شجاعة الفرنج، في حين أن حجاباً ألقى على عبقرية ليون الثالث (إمبراطور قسطنطينية) وعزمه، مع أنه نشأ جنديا يبحث وراء طالعه، ولم يكد يجلس على
(1) History of the Roman Commonwealth
(2)
Decisive Battles of the World
(3)
Philosophie der Geschichte
(4)
History of the Reformation
(5)
Histoire de l'Allemagne.
.
العرش حتى أحبط خطط الفتح، التي أنفق الوليد وسليمان طويلا في تدبيرها " (1) ونحن مع الفريق الأول نكبر شأن بلاط الشهداء أيما إكبار، ونرى أنها كانت أعظم لقاء بين الإسلام والنصرانية، وبين الشرق والغرب، ففي سهول تور وبواتييه فقد العرب سيادة العالم بأسره، وتغيرت مصائر العالم القديم كله، وارتد تيار الفتح الإسلامي أمام الأمم الشمالية، كما ارتد قبل ذلك بأعوام أمام أسوار قسطنطينية، وأخفقت بذلك آخر محاولة بذلتها الخلافة لافتتاح أمم الغرب، واخضاع النصرانية لصولة الإسلام. ولم تتح للإسلام المتحد فرصة أخرى، لينفد الى قلب أوربا في مثل كثرته وعزمه واعتزازه، يوم مسيره إلى بلاط الشهداء. ولكنه أصيب غير بعيد بتفرق الكلمة، وبينما شغلت إسبانيا المسلمة بمنازعاتها الداخلية، إذ قامت فيما وراء البرنيه إمبراطورية فرنجية عظيمة موحدة الكلمة، تهدد الإسلام في الغرب وتنازعه السيادة والنفوذ.
(1) Byzantine Empire